يبدو أن خوف الجزائر مما ينتظرها من كوارث، خصوصا بعد أن أصبح المغرب قاب قوسين أو أدنى من حسم مغربية صحرائه في المنتظم الدولي، بالإضافة إلى ما حصل لحلفائها في الشرق الأوسط، الأمر الذي جعلها تبحث عن مخرج لأزمتها من خلال الهروب إلى الأمام عبر تصعيد جديد ضد المغرب، يستهدف هذه المرة مكونه الأمازيغي بالتحديد. فبعد ان فشلت محاولتها إحياء ما يسمّى بجمهورية الريف، ها هي اليوم تحاول استغلال أمازيغ ليبيا ضد المغرب، لما يربط هذا المكون مع أمازيغ المغرب من أواصر تاريخيّة، لغويّة وثقافية .../...
فوفق ما نشره موقع "مغرب أنتلجس" المقرب من المخابرات الفرنسية مطلع هذا الشهر، نقلا عن العضو في البرلمان الليبي عبد المنعم العرفي، أنه قال: "إن الجزائر تريد استخدام المدن الليبية الأمازيغية كأدوات لتصفية خلافاتها مع المملكة المغربية". وجاء تصريح العرفي غداة زيارة السفير الجزائري المدعو سليمان شنين، التي قام بها إلى مناطق الأمازيغ في الجبل الغربي بليبيا، الأمر الذي اعتبره البرلماني المذكور “تدخلا سافرا في ملف داخلي"، مؤكدا رفض ليبيا لمثل هذا التدخل في شؤونها الداخلية ومحاولة فرض السيادة عليها. داعيا بالمناسبة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الليبي، بإعلام الجزائر رسميّا بأن سفيرها قام بفعل غير مقبول ديبلوماسيا في ليبيا.
كما اعتبر النائب في مجلس النواب جبريل أوحيدة، أن التصرفات الجزائرية تُعدّ تدخلاً سافرا في الشأن الليبي، وتسهم بشكل مباشر في استمرار الأزمة الليبية. مصرّحا بالقول: “نرفض بشدة مثل هذه التصرفات سواء صدرت عن الجزائر أو غيرها، مشيرا إلى أن الجزائر قد تكون تهدف إلى استدامة الأزمة الليبية لتحقيق مصالح خاصة بها”.
ويزعم النظام الجزائري أن أمازيغ ليبيا يرتبطون بعلاقات وثيقة مع المغرب، فيما يرد المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا أن علاقاته مع أمازيغ المغرب هي “علاقات أخويّة ترمي إلى تبادل الخبرات في مجال اللغة والثقافة”، مشددا على أن “المشاركة في المهرجانات الثقافية ومناسبات أمازيغية مشتركة معيّنة، لا تؤثر في سياسات تلك الدول، هو أمر مشروع، وأن المشاكل السياسية للحكومة الجزائرية مع المغرب ليست من اهتمامات المجلس".
والحقيقة أن أمازيغ شمال إفريقيا عموما، ينحدرون من أصول مختلفة، فبعضهم جاء من أوروبا، والبعض الآخر أتى من المشرق، بدليل أنهم يختلفون من ناحية الشكل، فهناك ذوي الرؤوس المستطيلة، وذوو الرؤوس العريضة. وعموما، فهم لا يشكلون وحدة إثنية أو سياسية، أو ما يصطلح على تسميته في علم الاجتماع السياسي بالقومية. بل حتى على مستوى اللغة، هناك لهجات أمازيغية مختلفة تتشابه فيما بينها، لكن لا توجد لغة واحدة تجمعهم. من هنا يفهم توجه الجزائر إلى ليبيا، لأنها المعقل التاريخي للأمازيغ ما قبل الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا، حيث تنحدر اللغة الأمازيغية الأم التي تفرعت منها مختلف اللهجات، وكانت حينها تمثل الرابطة الأساسية بين مختلف القبائل الأمازيغية التي استقرت في منطقة شمال إفريقيا.
لذلك، يبدو من الناحية التكتيكية، أن الجزائر تسعى للّعب بعامل اللغة والثقافة الأمازيغية من خلال إيهام الفئات المستهدفة بوجود ما تعتبره قومية أمازيغية ما قبل الفتوحات الإسلامية. هذا علما أن تاريخ الاجتماع السياسي للمنطقة لا يعترف بمثل هذه القومية المزعومة، ويتحدث عن قبائل ضعيفة ومشتتة، بحكم عوامل الجغرافيا والديموغرافيا، اللذان جعلا من القبائل الأمازغية فريسة سهلة للغزو والاستغلال الأجنبي زمن الإمبراطوريات القديمة، وهو ما يفسر اعتناق الأمازيغ حينها للديانة اليهودية، وبعدها المسيحية، ثم اعتناقهم للإسلام زمن الفتوحات التي تمت في عهد الخليفة الثاني عمر ابن الخطاب.
***
إن موضوع العلاقات بين المغرب والجزائر، وخاصة ما يتعلق بقضية الصحراء ومحاولة الجزائر المستميتة زعزعة استقرار المغرب من خلال دعم حركات انفصالية وهمية لم تأتي بالنتيجة المرجوة، خصوصا بعد أن فشلت مساعيها السابقة في تقسيم المغرب لعزله عن صحرائه وعن عمقه الإفريقي التاريخي، والذي كان آخر ما تفتق عن ذهنية العسكر المريضة محاولة الضغط على موريتانيا لرفع التسعيرة الجمركية أربعة أضعاف، بهدف التأثير السلبي على التجارة بين المغرب وعمقه الإفريقي من جهة، وتهديد نواكشوط بتسلل عناصر البوليساريو الإرهابية إلى الأراضي الموريتانيا لاعتراض الشاحنات المغربية المتوجهة إلى الساحل الإفريقي والاعتداء على سائقيها من جهة ثانية، وهو ما اضطر المغرب إلى استبدال الطريق البري بالطريق البحري، من خلال التعاقد مع شركة دولية بريطانية، لضمان نقل آمن وسريع للبضائع، وبتكلفة أقل من النقل البري. وبذلك انقلب السحر على الساحر، وأصبحت موريتانيا والجزائر هما المعزولتان عن العمق الإفريقي لا المغرب، والقادم أعظم، في انتظار انتهاء ميناء الداخلة العملاق، وما قد يقدم عليه المغرب من توسعة لمدينة الكويرة ومينائها، الأمر الذي سيؤثر بشكل كبير على الاقتصاد الموريتاني الهشّ.
ولعل السبب فيما أقدم عليه نظام العسكر يعود بالأساس لتخوفه مما ينتظره من الإدارة الأمريكية الجديد بعد تنصيب الرئيس ترامب، والذي أعلن عن نيّته إنهاء قضية الصحراء المغربية في مجلس الأمن. نظرا للرهانات الكبيرة القائمة اليوم على إفريقيا كفضاء غنيّ بالموارد الطبيعية وفرص واعدة للاستثمار، مما يجعل المنافسة تشتد بين القوى الدولية والإقليمية على الساحة الإفريقية. ناهيك عمّا تحيكه المخابرات الفرنسية في الخفاء، للإجهاز على نظام العسكر في الجزائر بعد سوريا، من خلال ثورة شعبية تعمل على إشعال فتيلها، خصوصا وأن الظروف أصبحت اليوم مواتية لذلك. ولا نستبعد أن يكون تسريب خبر استغلال الجزائر لأمازيغ ليبيا بهدف زعزعة استقرار المغرب، قد جاء من باب توريط المغرب في حرب استخباراتية وأمنية ضد الجزائر، تنتهي بزعزعة استقرارها، خصوصا وأن المغرب كان دائما ينتهج سياسة حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للجزائر حتى في أوج الأزمة التي عصفت بالبلد الجار إبان العشرية السوداء، حيث رفض الحسن الثاني رحمه الله دعم الحركة الإسلامية ضد نظام العسكر آنذاك.
ونظرا لموقع المغرب الاستراتيجي، ونهجه السياسي المتوازن والعقلاني الذي يقوم على مراعاة مصالح الشركاء وفق معادلة "رابح – رابح" التي أرسى أسسها المتينة صاحب الجلالة محمد السادس بفضل بعد ريته الصائبة للتحولات الاستراتيجية المستقبلية، مغتنما فرصة إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد من رماد الحروب المشتعلة في أوكرانيا ومنطقة الشرق الأوسط، ليعيد للدول والشعوب الإفريقية الأمل في غد أفضل، تنعم فيه بالأمن والسلم والازدهار، كما هو حاصل في المغرب الذي أصبح نموذجا يحتذى به، بل ويضرب به المثل اليوم في الحملات الانتخابية الإفريقية.
لهذا السبب، نرى الجزائر اليوم تعاني مما يمكن تسميته سياسيا بمتلازمة المغرب، أو نفسيا بعقدة المغرب إن صح التعبير، وهي العقدة التي غدّاها فشل الكابرانات في نقل الجزائر من عصر التخلف والانحطاط إلى عصر التقدم والازدهار كما هو حاصل في المغرب. الأمر الذي ولّد لديهم شحنة كبيرة من الحقد والحسد، لأنهم يعتبرون تقدم المغرب خطر عليهم، من شأنه إيقاظ الشعب الجزائري المظلوم من سباته الشتوي الطويل ليطالب بحقه في الثروة، والحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية. لذلك تراهم يحاولون باستماتة زعزعة استقرار المغرب من خلال كل الوسائل الممكنة والمتخيّلة، من باب تعليق شماعة فشلهم على الخارج، فكان آخرها قضية النعرات الطائفية، للتفريق بين العرب والأمازيغ، سواء في منطقة الريف، أو في مناطق أخرى يعتقدون أنها، بفضل التحريض وشراء الذمم بالمال الحرام، ستهب للمطالبة بالانفصال عن الوطن الأم. وهذا لعمري قمّة الغباء.
ذلك، أن ما يجهله نظام العسكر في الحضيرة المجاورة، هو أن المغاربة ليسوا قبائل متفرقة كما كان الحال قبل الفتح الإسلامي، أو كما هو الحال في الجزائر اليوم، والتي لا جذور ولا تاريخ ولا ثقافة ولا حضارة لها. أقول أن ما يجهله نظام العسكر الخبيث، هو أن المغرب أمّة عريقة ومتماسكة بكل ما تحمله الكلمة من معنى سياسي وديني، عاشت لأزيد من 12 قرنا في سلام ووئام تحت راية الإسلام وظل الوطن الذي كانت تحكمه عبر التاريخ أسر عربية وأمازيغية. فاختلط دم العربي بالأمازيغي بالتزاوج، وبالشهادة دفاعا عن الوطن، في معارك تاريخية كثيرة لا يسمح المقام بذكرها بتفصيل هنا. وتكفي الإشارة إلى أن سلالات كثيرة مثل المرابطين والموحدين والمرينيين والوطاسيين التي حكمت المغرب في فترات سابقة من تاريخه، كانت كلها أمازيغية، وحتى الأدارسة فإنهم أمازيغ لجهة الأم. ولا أدل على ذلك من العاهل المغربي محمد السادس نصره الله الذي ينحدر من أم أمازيغية.
***
والسؤال هو: متى كانت السلالات الحاكمة في المغرب تضطهد الأمازيغ وتقمعهم بدافع عنصري، حتى يطالبون بتحرير المغرب من حكم العرب كما يروج لذلك نظام السّوء في المقاطعة الفرنسية المجاورة؟ هذا علما ان ملوك المغرب وقواد الجيش الأمازيغ، وعلى امتداد التاريخ، كانوا يشكلون ضمانة لوحدة وأمن واستقرار المغاربة عربا وأمازيغ، بل حتى الأندلس لم يحكمها عرب المشرق، بل عرب وأمازيغ المغرب بشهادة التاريخ.
ولا ننكر أنه في بعض محطات التاريخ القديم، نشبت خصومات ونزاعات بين القبائل، ليس العربية - الأمازيغية فحسب، بل والأمازيغية - الأمازيغية أيضا، حيث تحوّلت في بعض الأحيان إلى صراعات دامية، إلا أن المجتمع المغربي في ظل السلالات الحاكمة، بكل مكوناته، كان يضع جانبا خلافاته الداخلية ويتحول إلى جبهة واحدة متراصة لصد أي تهديد لوحدته، أو عدوان خارجي يستهدف أراضيه. ونتيجة لذلك حافظ المغرب، عبر تاريخه على وحدته، وتماسكه، وتضامنه لصد الهجمات التي كانت تأتيه من أوروبا خاصة، بحكم موقعه الجغرافي القريب جدا منها وأطماعها التوسعية في أراضيه، ومعركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة لا زالت شاهدة على ذلك من بين وقائع وحادثات تاريخية أخرى كثيرة.
وفيما يتعلق بالاتهامات الموجهة للجزائر بمحاولة "تقسيم المغرب من خلال النعرات الأمازيغية"، بعد فشلها في ذلك من خلال جبهة البوليساريو الإرهابية، فهي اتهامات لم تـأتي من فراغ، بل مؤسسة على معطيات موضوعية ومعلومات موثقة، تشير إلى وجود دعم جزائري محموم هذه المرة لمجموعة أمازيغية من تجار المخدرات المقيمة في المهجر، والتي لا قيمة ولا وزن ولا تاريخ نضالي لها، حيث خرجت بين عشيّة وضحاها للمطالبة بالانفصال أو الحكم الذاتي في مناطق معينة من المغرب، مثل منطقة الريف، في محاولة لإحياء جمهورية الريف الوهمية التي أجهضها الاستعمار الفرنسي والإسباني في عشرينيات القرن الماضي، فعاد الريف إلى وطنه الأم، وأصبح يشهد اليوم تنمية غير مسبوقة في تاريخ شمال إفريقيا.
إنّ ما يجهله النظام الجزائري الغبي، هو أنّ المغرب ليس سوريا، يمكن زعزعة استقراره عبر بوابة النعرات الطائفية والهويات الهجينة. لأن الأمة المغربية الشريفة لحمة واحدة متجانسة، تجمعها الهوية الإسلامية والوطنية تحت ظل إمارة المؤمنين. وقد سبق للعاهل المغربي أن تفطن لقضية اللغة والثقافة الأمازيغية في وقت مبكر إبان أحداث الربيع العربي، فاعتمد دستوريّا اللّغة الأمازيغية كلغة رسمية للبلاد، وشجع التظاهرات الثقافية الأمازيغية التي تعبّر عن خصوصية هذه الفئة الكريمة من المواطنين المغاربة الأحرار، ليقطع بذلك الطريق على كل من يحاول الاصطياد في الماء العكر من مدخل النعرات الطائفيّة.
وللتذكير، فقد حاولت الإمبراطوريّة الفرنسيّة في أوج عظمتها وقوتها الاستعمارية التفريق بين العرب والأمازيغ في المغرب من خلال ما اصطلح على تسميته في حينه بالظهير البربري إبان استعمارها للمنطقة، لكنها فشلت فشلا ذريعا، فسقط مشروعها العنصري التقسيمي بالضربة القاضية، بفضل تماسك وتكتل وتضامن المغاربة، عربا وأمازيغ، ضد هذه المحاولة الخبيثة المرفوضة، والتي لا تستسيغها قيم الأخوة في الذين والوطن.
وإذا كان نظام العسكر في الجزائر يحاول استدعاء هذه المقاربة من تاريخ المنطقة القديم، سواء ما قبل الإسلام أو خلال الاستعمار الفرنسي البغيض، الذي كان يقوم على مبدأ فرّق تسد المكيافيلي،، فقد أخطأ القراءة والتقدير، وظل الطريق، وراهن على مقاربة خاسرة ستكون نتيجتها عكسية تصيب الجزائر في مقتل، لأن الجزائر لم تكن قبل سنة 1962 دولة، ولا أمة، وليس لها تاريخ ولا حضارة ولا ثقافة، بل كل تاريخها وثقافتها مرتبطة بالتاريخ والعثماني والثقافة الفرنسية، الأمر الذي يؤهلها أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة للتفكك والتشرذم والتقسيم.
لذلك نقول لنظام الكابرانات في الجزائر: إذا كان سقف بيتكم من زجاج، فلا ترموا بيت جاركم بالحجر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق