1. تمهيـــد
في معرض هذا البحث، سنتطرق لمجمل أوجه الجدل الذي رافق مختلف مراحل جمع القرآن الكريم، وهو الجمع الذي يُعدُّ من أبرز الموضوعات التي شكّلت محطات محوريّة في التاريخ الإسلامي لما أثارته من جدل ديني وسياسي، حيث تشير هذه العملية المعقدة إلى مسار الكتابة وتوثيق النص القرآني ونسخه النهائي منذ اللحظات الأولى لظهور الإسلام، باعتباره عملا يعكس الحاجة إلى الحفاظ على الرسالة الإلهية في وجه التحديات الاجتماعية والسياسية التي واجهها المسلمون الأوائل. وقد مثلت هذه المرحلة التأسيسية بدايةً لفهم طريقة تفاعل المسلمين الأوائل مع النصوص الدينية، خصوصاً في سياق المتغيرات التي عرفتها الثقافة الإسلامية ما بعد زمن الخلافة، وذلك بفعل تعدد الشرعية ومصادر التشريع.../...
2. مقدمـــة
تضمّن العمل على جمع القرآن عدة مراحل تعكس تفاعلات متعددة، منها الشفهي والكتابي. في البداية، كان القرآن يُحفظ في صدور الحفظة من الصحابة، لكنّ موت الصحابة بسبب الحروب، بالإضافة إلى زيادة أعداد المسلمين في الأمصار ورغبتهم في تلاوة النصوص بشكل موحّد، أدّت إلى الحاجة لإنتاج نسخة موحّدة مكتوبة.
تطورت عملية هذا الجمع لتشمل التحقق من النصوص المكتوبة بقدرٍ عالٍ من الدقة من خلال الشهادات الشفهية والمراجعات الجماعية، وهذا جعل العملية تجسد دراسةً منهجية للنص القرآني. الأدوات المستخدمة في تلك الفترة، تسهم في رسم هوية النص القرآني، حيث كانت الكتابة تعبر عن أكثر من مجرد توثيق، بل صارت رمزًا لنقل الرسالة الإلهية المقدّسة بكثير من الحرص والاحترام.
تمتاز النسخة النهائية للقرآن بجودة عالية ومعايير صارمة، فقد ارتكزت على مبدأ الإيجاز والدقة، مع مراعاة الفروق في القراءات المتعددة. الإضافات لاحقًا، كالتشكيل وعلامات التنقيط، أصبحت أجزاء لا تتجزأ من النص، مما ساهم في توحيد قراءات القرآن على مستوى واسع.
يشار بالمناسبة إلى إنّ القضايا المعقدة المتعلقة بجمع القرآن تشمل العمليات الاجتماعية والسياسية التي لعبت دورًا في تشكيل النصوص، مما يجعل دراستها ضرورة لفهم الجذور التاريخية والنظرية للإسلام.
3. من حيث المعنى اللغوي والاصطلاحي للجمع
يعرف الجمع في اللغة بأنه جمع الشيء عن تفرّقه: (جمع، يجمع، جمعا، وجمعه، وأجمعه)، واستجمع ماء النهر: أي اجتمع فيه الماء من كل موضع. وفي لسان العرب مادة: (جمع) (1/498)، فُسِّر قول النبي عليه السلام: (أوتيت جوامع الكلم) الذي رواه مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة تحت رقم: (533) - 1/371، بأنه كان يتكلم بجوامع الكلم، بمعني أنه كان قليل الألفاظ كثير المعاني.
أما في الاصطلاح، فكلمة جمع القرآن يراد بها جمع آياته في السور التي تنتسب إليها، وجمع السور كلها في إمام جامع لحفظ كلام الله من التحريف أو الضياع والنسيان، كما حصل مع الكتب السماوية السابقة. وما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) سورة القيامة: 17 - 18. وحول تفسير هذه الآيات، ذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن، أن ٱبن عباس شرح: (وقرآنه) أي وقراءته عليك. وقال ابن كثير في تفسيره: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ) أي في صدرك، (وقرآنه) أي أن تقرأه، (فَإِذَا قَرَأْنَـٰهُ) أي إذا تلاه عليك جبريل عن الله تعالى (فَٱتَّبِعْ قُرْءَانَهُ) أي فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك إياه. وهو ما يفيد صراحة أن الله سبحانه هو الذي تكفل بتلقين رسوله الكريم عليه السلام طريقة قراءة القرآن وفق الترتيب الذي وضعه بتوفيق منه تعالى، إن على مستوي الآيات أو السور.
أما ما ذكره ابن كثير حول معنى الجمع الذي يفيد وفق رأيه (جمعه في صدرك)، فهو معنى لا يستقيم تماما مع سياق الآيات التي تفيد الجمع في السور والقراءة على الترتيب الذي أراده الله وبلغه لرسوله عن طريق جبريل، وإن كان ذلك لا ينفي الحفظ. ولقد أوضح القاضي أبو بكر الباقلاني في (الإتقان: 1/155)، المراد من الآية بقوله: "يراد جمعه، أي جمع القرآن الكريم على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بها، (...) ويراد به: تلقيه من رسول الله (ص) بلا واسطة، ويراد به كتابته". وهذا الكلام يعبر عن رأي البقلاني ولا يمثل المراد الحقيقي من كلام الله.
لكن المثير للإهتمام أن كلمة قرآن من جذر (ق ر ء)، والقرء في لغة العرب القديمة يعني الجمع كأن تقول قرأت الماء في الحوض، أي جمعت الماء في مكان واحد. وهو ما جعل بعض اللغويين يُفسّيرون مصطلح "قرآن" بـ "الجمع"، نافين أن تكون الكلمة مجرد اسم علم مثل التوراة والأنجيل، مُستدلّين على ذلك بطبيعة القرآن نفسه، الذي يَضمّ كل الشرائع، وحثائق الخلق، وقصص الأنبياء والأمم السابقة، والوعد والوعيد، والأخلاق، والحياة بعد الموت، وخلاف... أي أنه جامع لكل ما يتعلق بالدين في الدنيا والآخرة. وهو ما مهد في الأساس لفكرة جمع القرآن في إمام واحد.
4. ما أُثير من جدل حول جمع القرآن
بالبحث في طرق جمع القرآن وأسباب ترتيب آياته وسوره قديما وحديثا، نجد اختلافا كبيرا بين الفقهاء والباحثين على حد سواء. فمنهم من يعتبر الترتيب العثماني للمصحف ترتيبا توفيقيا من اختيار أصحاب رسول الله زمن الخليفة عثمان، وآخرون يقولون أنه من ترتيب الرسول والملك جبريل عليهما السلام، ومنهم من يدعي أن المسلمون يقرؤون القرآن بالمقلوب لعدم اعتماد ترتيب السور وفق ترتيب النزول (محمد عابد الجابري – مدخل الي القرآن الكريم ج 1) برغم استحالة ذلك عمليّا، ومنهم من ذهب إلى أن ترتيب المصحف الذي بين أيدينا اليوم، وضع خصّيصا لخدمة مصلحة شرفاء قريش من "أهل السنة و الجماعة" على حساب "أهل البيت"، بسبب الصراع الخفي الذي نشأ بين وجهاء مكة على السلطة بعد وفاة الرسول عليه السلام (عبد الله العروي – الإصلاح والسنة).
ويلاحظ أن معظم الباحثين في هذا الشأن ينطلقون مما يعتبرونه سؤال النشأة والتكوين، الذي يشمل كيفية إعداد المصحف العثماني الذي بين أيدينا اليوم، بعد أن كان القرآن يتنزّل على الرسول مُنجّما (مُفرّقا) حسب مقتضى الأحوال لمدة تزيد عن العقدين (23 سنة). وطبيعي أن تتناسل عن هذا التساؤل العام أسئلة فرعية عديدة تتضمن على سبيل المثال: طريقة نقل القرآن من حالة الوحي القلبية إلى حالة القراءة اللسانية، ومسألة ترتيب الأجزاء بالنسبة لسابقاتها في النزول، ومسألة توزيع الآيات على السور، ومسألة التدوين، وكيف تم نقل ما نزل بمكة إلى المدينة بعد الهجرة؟ ومتى بدأ جمعه أول مرّة؟ وكيف تم ترتيبه في مصحف عمان؟ وما قيل عن الزيادة والنقصان فيه من قبل فقهاء السنة والشيعة على حد سواء.
والحقيقة أن مثل هذه الأسئلة تعتبر بالنسبة للمؤمن أسئلة عبثية تُطرح من باب الجدل الفكري الذي لا يغني عن الحق شيئا. ومرد ذلك أن أصحاب هذا الطرح، ينطلقون من أسئلة خاطئة يترتب عليها خطأ كل ما يتناسل عنها من نتائج. فالقول بأن القرآن كان يتنزّل على الرسول عليه السلام مُفرّقا حسب مقتضى الأحوال، هو مغالطة كبيرة، الغاية منها محاولة ربط نشأة وتكوين القرآن بمسار حياة النبي محمد في زمانه، ومن ثم القول بتاريخانية النص المقدس، كما ذهب إلى ذلك محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهما. وهو ما لم يستطع أحد أن يثبته بالدليل التاريخي القاطع أو الاستدلال العقلي الموضوعي.
كمؤمنين، لا يمكننا إلا التسليم بأن التنظيم الحالي للمصحف العثماني كما وصلنا، هو من وضع وحفظ رب العالمين لدلالة الآيات على ذلك. فقوله تعالي في الاية 9 من سورة الحِجر: (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)، تفيد بما لا يدع مجالا للشك، أن الله تعالى الذي أنزل الذكر، هو من تكفّل بحفظه من التحريف والتزوير والتغيير بالزيادة أو النقصان، وكل قول يخالف هذه الحقيقة لا يعدو أن يكون ضربا من الهراء، ناهيك عن أنه تكذيب صريح لما ورد في الآية السالفة الذكر من شهادة إلهية.
وتكفي مراجعة ما ورد في الأثر من ادعاءات حول سقوط بعض الآيات من مصحف عثمان، ليتبين لكل باحث موضوعي هشاشة هذا الطرح إن على مستوي ركاكة الأسلوب أو تضارب المعني، كقضية الآية المزعومة التي تقول "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما" والتي زعم بعض الشيعة المتطرفين أنها سقطت من المصحف، في حين أن حكم الزانية غير المحصنة هو الجلد، على أن تُطلّق المحصنة أو يُفوّض أمرها إلى ربها ليتولى شأنها بمعرفته وحكمته تعالى، ولا وجود للرجم في القرآن بالمطلق، بل هو حكم مُستمّد من شريعة اليهود التي تحوّلت إلى عُرف زمن الجاهلية الأولى. لأنه لا يعقل بتاتا أن يفرق الله العادل في حكمه بين عباده وفق أعمار المكلفين من جهة، أو أن يشرع الرسول الكريم خلاف ما أقره الله في كتابه من جهة ثانية.
علاوة على ما روّجه بعض فقهاء الشيعية، حول مسالة أحقية ولاية الإمام عليّ في تولي الخلافة بعد الرسول عليه السلام، بالرغم من أن المسألة سياسية لا دينية. فقد ذهب الشيخ محمد تقي نوري الطبرسي (1320 هجرية) في كتاب له أسماه "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب": أن القرآن كما هو في مصحف عثمان، قد زيد فيه ونقص منه"، والملاحظ، أنه لم يجادل في مسألة ترتيب السور كما هي في مصحف عثمان المعتمد من قبل كل المسلمين. وحين أنكر عليه بعض العلماء قوله، رد بكتاب آخر بعنوان "رد بعض الشبهات عن فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب". فأورد نصوصا غريبة زعم أنها من القرآن الكريم، ومنها سورة تحمل اسم "سورة الولاية" تقرر أن عليّ ابن أبي طالب هو الولي بعد النبي، وأنه خليفة المسلمين من بعده. وقد ورد في السورة وفق زعمه:
"يا أيها الذين آمنوا بالنبي والولي اللذين بعثناهما يهديانكم إلى الصراط المستقيم، نبي وولي بعضهما من بعض وأنا العليم الخبير. إن الذين يوفون بعهد الله لهم جنات النعيم، والذين إذا تليت عليهم آياتنا كانوا بآياتنا مكذبون إن لهم في جهنم مقاما عظيما، إذا نودي لهم يوم القيامة أين الظالمون المكذبون للمرسلين ما خلفتهم المرسلين إلا عني، ما كان الله ليظهرهم إلى أجل قريب وسبح بحمد ربك وعليّ من الشاهدين".
وواضح الفرق بين أسلوب القرآن وهذا النوع من الكتابة التي يشتم منها رائحة التكلف والركاكة من فرط الصناعة. ناهيك عن بعض الإضافات تحت ذريعة أنها حذفت من القرآن، كقول الإمام الباقر وفق ما ورد في "أصول الكافي" للكيلاني، من أن اسم عليّ بن أبي طالب حذف من الآية 23 من سورة البقرة، ونصها:
"وان كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا (في علي) فاتوا بسورة من مثله".
زاعما أن المحذوف هو: (في علي). لكن وكما أشار إلى ذلك الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "مدخل الي القرآن الكريم – ج:1 – ص: 206"، فان مراجع أخرى شيعية معتبرة تنفي أن يكون المقصود بالذكر في مثل هذه الروايات هو عليّ، وبالتالي، فما ذكر من أن اسم عليّ محذوف لا يعدو عن كونه قرآن على مستوي التأويل وليس على مستوي التنزيل، مستدلاّ بمقولة الفقيه الخوئي التي تثبت أن بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن وليس من القرآن نفسه.
ومهما يكن من أمر، فقضية الزيادة والنقصان في القرآن الكريم ومسألة ذكر الإمام عليّ قد أخذتا من الجدل بين السنة والشيعة حظّا وافرًا، وهو جدل طغى عليه الطابع السياسي والإديولوجي على حساب الموضوعية، وانتهي إلى الاتفاق بين الأفرقاء على أن القرآن كما هو في مصحف عثمان، يعتبر نصا كاملا، لم يأتيه الباطل من أية جهة كانت، وأن كل ما قيل خلاف ذلك هو من باب الشرح والتأويل للتنزيل ليس إلا.
لكن ما يهمنا هنا بالدرجة الأولي، هو ما صاحب قضية جمع وترتيب القرآن الكريم بعد وفاة الرسول عليه السلام من أخد ورد، واختلاف الفقهاء حول ترتيب السور في المصحف العثماني مقارنة بترتيب النزول، باعتبار من قال أن ترتيبها كان توفيقيا من الصحابة، لكن دون الاختلاف حول مسالة ترتيب الآيات الواردة في إطارها، والتي حظيت بإجماع مطلق، نظرا إلى أن ترتيبها كان توقيفيا من الرسول بوحي من الله تعالى عن طريق الملك جبريل كما هو ثابت في الأثر.
وفي هذا الصدد، يقول الإمام عليّ ما مفاده: "إن الطريقة التي تم بها جمع القرآن الكريم في المصحف الشريف (يقصد مصحف عثمان)، لا تمس الأهداف السامية للنص المقدس، ما دام تفسير أو تأويل أية آية من الآيات، يتطلب الأخذ بعين الاعتبار جملة الآيات التي تشترك معها في نفس المعني". ويعتبر هذا الكلام بامتياز، المصداق العملي لمنهجية الرسول الكريم التي تقوم على أساس تفسير القرآن بالقرآن من داخل القرآن لا من خارجه.
5. كتابة القرآن زمن الرسول
قبل التطرق إلى طريقة جمع القرآن في المصحف العثماني وما طرحته مسألة إتلاف مصاحف الصحابة من لغط للتشكيك في ترتيب القرآن الكريم كما هو بين أيدينا اليوم، لا بد من التطرق لموضوع النسخ أو التدوين زمن الرسول عليه السلام، والذي اعتمد كأساس لوضع مصحف عثمان إلى جانب مسألة الحفظ.
والجذير بالذكر، أن العرب سبق وأن عرفوا وسائل الكتابة قبل الإسلام، خصوصا على الجلد والرق والورق وغيرهما من المواد الأولية، بحكم أن مكة كانت مركزا تجاريا مهما، تقوم فيه التجارة على توثيق العقود وتدوين الحسابات، بدليل قوله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمي فاكتبوه) البقرة: 282. وورد في التراث أن صحيفة قريش، وصلح الحديبية، ورسائل النبي إلى الملوك والأمراء كتبت في مقاطعة بني هاشم، ما يدل على أن النبي كان قد عيّن كتبة ملازمين له يكتبون عنه كل ما يأمر به. هذا بالإضافة إلى أن العرب قبل الإسلام اشتهروا بكتابة المعلقات ووضعها على جدران الكعبة، كما أنهم جاوروا طويلا أهل الكتاب وكانت بأيديهم كتب يتدارسونها. وقد تكررت إشارات الوحي إلى هذه الكتب في أكثر من سورة وآية. كما خاطب القرآن الكريم العرب بأسماء المواد اللينة التي كانت تستعمل في حينه في الكتابة، كالصحف والقراطيس لقوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى) سورة الأعلى – آيات: 18/19، ما يؤكد أن الكتابة كانت قائمة منذ عرف الناس صناعة التدوين. وفي الأثر ورد عن إسلام عمر، أن أوائل سورة (طه) كانت مكتوبة في رقعة في بيت فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، ولم تكن هذه الصحيفة إلا واحدة من صحف كثيرة متداولة بين المسلمين زمن نزول الوحي في مكة يقرؤون فيها القرآن. (السيرة النبوية لابن هشام: 1/367 – 368).
وتذكر كتب السيرة، أن الرسول عليه السلام عيّن مجموعة من الكتبة مختصون في كتابة الوحي عنه حال نزوله، فقد ورد عن الصحابي الشهير زيد ابن ثابت أنه قال: "كنت أكتب الوحي عند رسول الله (ص) وهو يملي عليّ، فإذا فرغت قال: اقرأه، فأفعل، فان كان فيه سقط أقامه، ثم أخرجُ به إلى الناس" (المعجم الأوسط للطبراني – حديث رقم: 1943: 2/257).
وقد اختلف الرواة في عدد كُتّاب الوحي ومسألة استمراريتهم ومواظبتهم على تدوينه كاملا دون انقطاع. فذكر البلاذري في (فتوح البلدان: 66) أسماء أحد عشر كاتبا هم: "أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن سعيد بن أبي سرح، وعثمان بن عفان، وشرحبيل بن حسنة، وجهيم بن الصلت، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرمي، ومعاوية بن أبي سفيان، وحنظلة بن الربيع "، لكنه لم يذكر الإمام علي رضي الله عنه، وهو أمر غريب. وذكر الطبري أسماء عشرة من كتاب الرسول، مضيفا إلى قائمة البلاذري الإمام عليّ ومختزلا شرحبيل بن حسنة، وجهيم بن الصلت. أما المسعودي، فقد ذكر ستة عشر إسما مضيفا إلى القائمتين السالفتين أسماء كل من المغيرة بن شعبة، والحصين بن نصيرة، وعبد الله بن الأرقم، والعلاء بن عقبة، والزبير بن العوام، وحذيفة بن اليمان، ومعيقب الدوسي. وأوضح المؤرخ المسعودي في كتاب (التنبيه والإشراف: 246) رأيه بقوله: "وإنما ذكرنا من أسماء كُتّابه (ص) من ثبت على كتابته، واتصلت أيامه فيها وطالت مدته، وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب أو الكتابين والثلاثة، اذ كان لا يستحق بذلك أن يسمي كاتبا ويضاف إلى جملة كتّابه" (جمع القرآن: 40/41 – د. أكرم عبد خليفة الدليمي –– المكتبة العلمية - بيروت: 1971).
يفهم من كلام المسعودي أن الذين ذَكروا أن النبي عليه السلام كان له أزيد من 40 كاتبا (أوصلهم العراقي إلى 42 كاتبا في التراتيب الإدارية: 1/115)، إنما خلطوا بين كتبة الوحي وكتبة الرسائل والمغانم والمعاملات والمداينات والإحصائيات وغيرها.
وفي هذا الصدد ورد في نفس المرجع السابق عن الإمام الدميري أنه قال: "كان الزبير بن العوام وجهم بن الصلت يكتبان أموال الصدقات، وحذيفة بن اليمان حوض النخل، والمغيرة بن شعبة والحصين بن نمير يكتبان المداينات والمعاملات، وشرحبيل بن حسنة يكتب التوقيعات إلى الملوك" (هدي أهل الايمان إلى جمع الفقهاء الراشدين القرآن - ص: 23).
أما عبد البر، فقد سمّى في (الاستيعاب: 1/29 – 30) ثلاثة وعشرون كاتبا، وإذا استبعدنا من قائمته الذين ذكرهم كبار المؤرخين لتلك الفترة كالبلاذري والطبري والمسعودي، نجد أنها تزيد عليهم بالأسماء التالية: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي، وابن سلول، وعمرو بن العاص.
وذكر الديار بكري أسماء أربعة وثلاثين كاتبا استوعبت كل القوائم المشار إليها آنفا مع زيادة الأسماء التالية: طلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والأرقم بن أبي الأرقم، وعبد الله بن زيد بن عبد ربه، وسعيد بن العاص، وحويطب بن عبد العزي العامري، وأبي سلمة بن عبد الأسد، وحاطب بن عمرو بن حنظلة، وقال: " قيل: إن كتابه نيف وأربعون، وأكثرهم ملازمة له زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان بعد الفتح " (تاريخ الخميس: 22/181) وفق ما ذكره د. أكرم عبد خليفة الدليمي في (جمع القرآن: 41 – 42 دار الكتب العلمية – بيروت 1971).
وبذلك يمكن القول، أنه وباستثناء أسماء الخلفاء الذين يشهد لهم التراث بالحرص على حفظ وتدوين القرآن الكريم، وبعض من الصحابة الكرام الذين يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، والذين كانت لهم مصاحف خاصة كتبوها باجتهاد منهم بعد وفاة الرسول الأعظم عليه السلام، فإننا نصطدم بخلط كبير واختلاف كثير في المرويات التي يزخر بها التراث حد التخمة في هذا الباب، وبشكل يكاد يكون مجترّا ومكرورا من مؤلف لآخر. ولقد قدمنا ما سلف من أقوال للدلالة على هذه الحقيقة المؤسفة، ألا وهي عدم وجود اتفاق بين المراجع الإسلامية حول العديد من القضايا الدينية التي تهم الأمة، ومنها هذه المسالة التي يفترض أن تكون مضبوطة ومتفق عليها بحكم ممارسة العرب لصناعة التدوين قبل وأثناء وبعد زمن الرسالة. هذه هي الإشكالية الحقيقية التي تواجه الباحث عند لجوئه للتراث.
ومهما يكن من أمر، فإن الثابت من السيرة النبوية وما ورد من مرويات في هذا الشأن، أنه في آخر أيام الرسول عليه السلام، كانت كل آيات القرآن منسوخة (مكتوبة) ومرتبة في سورها، والسور مكتملة بفواصلها (البسملة) كوحدات مستقلة قائمة بذاتها، لكنها مفرقة في أكثر من مكان بحكم أن الكتابة كانت تتم على الأدوات البدائية لا الورق. ومعلوم أن جبريل عليه السلام كان يُقرئ الرسول في رمضان القرآن كاملا، وأنه في رمضان الأخير من عمره الشريف أقرأه القرآن مرتين، غير أن السيرة لا تذكر شيء يفيد ترتيب السور الذي اعتمده الرسول أثناء هذه القراءة، والسبب في ذلك يعود وفق الرأي الراجح، إلى قناعة المسلمين عامة بأن الأمر يتعلق بنفس القراءة المتواترة التي انتظمت فيما بعد في المصحف العثماني، ودليلهم على ذلك، أن تنظيم القرآن وفق الترتيب الذي اعتمده الخليفة عثمان وأقره الصحابة الكرام من أنصار ومهاجرين، لم يلقى معارضة تذكر من أحد، بمن فيهم الإمام علي – وهو أقرب إلى تجربة الوحي من غيره – والذي أقر صحة الترتيب الذي اعتمد في مصحف عثمان كما سبق القول، بالرغم ممّن قالوا أنه كتب مصحفه الخاص وفق ترتيب النزول وضمّنه التأويل على حواشي التنزيل لتبسيط الفهم للمسلمين، وهو قول فيه نظر ولا يستقيم من الناحية المنهجية والموضوعية على حد سواء، وسيأتي تبيان ذلك عند الحديث عن مصحف الإمام عليّ.
إن الثابت من المرويات التي بين أيدينا اليوم، أن كتابة القرآن قد تمت في عهد الرسول عليه السلام. يقول الحارث المحاسبي في هذا الشأن في كتابه (فهم السنن) ما مفاده: "إن كتابة القرآن ليست بمحدثة، فانه (ص) كان يأمر بكتابته، ولكنه – أي القرآن - كان مفرقا في الرقاع والأكتاف، والعسب، والقرطاس" (الإتقان في علوم القرآن للسيوطي: 1/129). وقد ذكر ابن حجر: "أن القرآن كان كله قد كتب في عهد النبي (ص) في الصحف والألواح والعسب، لكنه لم يكن مجموعا في موضع واحد، ولا مُرتّب": (فتح الباري: 9/15). وجاء في الإتقان: "وإنما لم يجمع في مصحف منظم في حياة الرسول (ص) لأن القرآن كان ينزل مُفرّقا، ولأن السورة ربما نزل بعضها ثم تأخر نزول تتمتها، فكان القرآن يكتب على القطع حتى إذا توفي رسول الله (ص) ألهم الله الخلفاء الراشدين جمع القرآن على نسق ما كان يُقرأ في زمن النبي من القطع التي كتبت بين يديه" (الإتقان: 1/136).
ويستفاد من هذه الشهادات التاريخية، أن الذي تمّ بعد وفاة الرسول عليه السلام، لا الكتابة، بل عملية جمع كل آيات القرآن المفرقة والمكتوبة على المواد والأدوات التي كانت تستعمل للكتابة في عصر الرسالة في مكان واحد على شاكلة "صحف" (قطع مُجمّعة). وتذكر السيرة النبوية كذلك، أن الرسول عليه السلام، كان له فريق من الكتبة كما سبقت الإشارة، مكلفون بتدوين آي القرآن مباشرة بعد نزوله. يقول السيوطي في هذا الصدد: "كل آي القرآن كان مكتوبا في عهد الرسول (ص)، لكنه لم يكن منظما ولا مجموعا في مكان واحد". لكن مثل هذا الكلام، لا يعني أن القراءة لم تكن منظمة وفق ترتيب معين للسور بتوقيف من الملك جبريل للرسول الكريم كما سبق القول، وحسب الترتيب الذي أراده صاحب التنزيل، بدليل ما هو ثابت بنص كلامه سبحانه وتعالى في سورة القيامة: الآيات من 18 إلى 19، والتي تفصل القول في هذا الأمر بشكل قطعي لا يدع مجالا للشك.
في المحصلة، نخلص إلى أن جمع القرآن زمن الرسول يشير إلى الفترة الحاسمة التي سبقت التدوين الرسمي والنهائي للقرآن، حيث كانت النصوص القرآنية تُجمع بشكل غير مركّز لكن بصورة فعلية كما سبق القول. تلك المرحلة شهدت بوادر التنظيم في أشكال الكتابة، حيث كان النبي محمد عليه السلام يشدد على أهمية حفظ القرآن وتدوينه على أيدي كتبة معروفين. وقد كان يُكتب القرآن حينها في مواد مثل الرقاع والجلد والعساف والأكتاف (العظم)، وهو ما يعبّر عن التنوع في الوسائل المستخدمة لحفظ تلك النصوص في ذلك الزمان. هذا الأسلوب في الجمع لم يكن عشوائيًا، بل كان يتأطر في سياق الحاجة لدقة النقل والقدرة على الوصول إلى النصوص الموثوقة بسهولة.
إن الجمع زمن الرسول لم تكن مُقتصرا على التدوين فحسب، بل تضمن أيضًا حفظ القرآن عن طريق الذاكرة. كان النبي يشجع صحابته على الحفظ، مما ساهم في وجود عدد كبير من الحُفّاظ ممّن تفاعلوا مع الآيات القرآنية بشكل يومي. وتظهر أهمية هذا الحفظ في الكتابات التاريخية التي تؤكد أن الرسول كان قد أسس نظاماً واعيًا يُعنى بتدوين الآيات عند نزولها، مع إحاطته بالأفراد الأكثر قدرة على ذلك، مما ساعد على تشكيل هوية القرآن ووضوح مفاهيمه الأساسية.
هذا الجمع الأولي للقرآن كان يُعتبر حلاً لمشكلة الذاكرة البشرية التي تعتمد على الأفراد، لذا تم وضع أسس أولية للتدوين، تعكس التحول من الطريقة الشفوية إلى الكتابية. تلك المرحلة تبرز دور التدوين كعنصر حاسم في تكامل النص القرآني الذي أدرك المسلمون لاحقًا أهميته في الحفاظ على الرسالة. من خلال هذه المحافظة المقصودة على القرآن، استطاع المجتمع أن يواجه تحديات الفهم والتفسير، مما ساعد في إرساء مبدأ الشمولية والتنوع في تفسير وتأويل النص المقدس. في نهاية عصر النشأة والتكوين، اتضحت المعالم الأولية لجمع القرآن، والتي شكلت الأساس للخطوات اللاحقة في تدوين النص القرآني.
5.1. كيف تولّدت الحاجة إلى جمع القرآن بعد وفاة الرسول؟
في زمن الرسول محمد عليه السلام، لم يكن القرآن الكريم مدوناً بصورة مكتملة كما هو الحال اليوم. ومع ذلك، كانت الكتابة تُعد من وسائل توثيق النصوص القرآنية، حيث لعبت دوراً حيوياً في تشكيل الفهم الأول للقرآن. فعلى الرغم من أن الكثير من الصحابة كانوا يعتمدون في حفظهم على السمع والتلقي المباشر من الرسول، إلا أن الكتابة كانت ظاهرة تتطور بشكل متزايد، خاصة مع انتشار الإسلام واتساع دعوته.
لقد تم استخدام جلودوعظام الحيوانات، ورقع من اللحاء، والأحجار للنقش والتدوين. وكانت هناك مجموعة من الصحابة المعروفين الذين كانوا يكتبون الوحي فور نزوله، مثل عبد الله بن سعيد، وزيد بن ثابت الذي عُرف بمكانته المرموقة في هذا المجال. ونتيجةً لذلك، تشكلت مكتبة مبكرة من النصوص التي ساهمت في الحفاظ على الوحي. وكانت الكتابة خلال هذه الفترة مرتبطة بشكل وثيق بالحاجة إلى الاحتفاظ بالنصوص لأغراض مختلفة، منها تعليم المسلمين الجدد، وتسوية النزاعات الفقهية، وتأكيد الرسالة الإلهية.
علاوة على ذلك، تطلّب الوضع السياسي والاجتماعي المعقد، الناجم عن الفتوحات الإسلامية والنزاعات القبلية، توثيق النصوص القرآنية بشكل يمكن الاعتماد عليه خوفا من الضياع. وقد لعبت كتابة القرآن خلال حياة الرسول دوراً في توحيد الأمة وتوجيهها نحو معاني الرسالة الإسلامية. ومع ذلك، لم يكن ذلك دون تحديات، حيث جابه كتبة الوحي قضايا تتعلق بالتفسير الدقيق وأهمية التوثيق الشفهي إلى جانب النصوص المدوّنة. بذلك، فإن الكتابة في زمن الرسول لم تكن فقط مجرد آلية توثيق، بل جسّدت صراعاً فكرياً وثقافياً للتأكيد على أصالة الرسالة الإسلامية، مما مهّد لعملية الجمع النهائي التي ستظهر لاحقاً.
5.2. أهمية التدوين في تلك الفترة
اكتسب التدوين في الفترة الزمنية التي شهدت جمع القرآن أهمية استثنائية، إذ كان بمثابة الأداة الفعالة لضمان استمرارية النصوص القرآنية وتوثيقها بصورة دقيقة. خلال السنوات الأولى من ظهور الإسلام، كان الدين يعتمد بشكل رئيسي على الرواية الشفوية لنقل التعاليم، وهو ما أدى إلى مخاوف تتمثل في انزلاق النصوص وتغيرها نتيجة عوامل مثل التفسير الفردي أو النسيان. من هنا، جاءت ضرورة التدوين كوسيلة لتعزيز الأصالة والموثوقية في المحتوى القرآني، مستفيدةً من الكتابة كوسيلة فعالة لإزالة أي شكل من أشكال اللّبس أو الغموض الذي قد يحدث من خلال ما قد يثار من مناقشات لاحقة.
تجسد دور التدوين أيضًا في رفع مستوى الوعي والمعرفة في المجتمع. فلقد قاد التدوين إلى إنشاء مكتبات خاصة تضمنت مجموعات من النصوص المعتمدة، مما ساهم في نشر المعرفة الدينية بين المسلمين. هذا الأمر لم يكن مجرد جمع للنصوص، بل خلق شبكة من الفهم المتبادل والمرجعية التي ساعدت في ترسيخ التعاليم الإسلامية في العقول والقلوب. بالاستناد إلى النسخ المكتوبة، أصبح من الممكن للأفراد استنباط المعاني وتفسيرها بطرق مستقلة، مما أسفر عن تنوع في القراءات والتفاسير، وأضفى غنى على ميراث الأمة الإسلامية.
من هنا ضرورة التفريق بين الدين والفهم الديني، نظرا للاختلافات القائمة بين التفسير والتأويل، والدال والمدلول، أو المعنى والمصداق بلغة المناطقة، لأنه إذا كان النص القرآني يمثل الحقيقة الإلهية المطلقة، فإن التفسير والتأويل يعبران عما وصل إليه الفهم البشري من حقائق نسبيّة حسب الأزمنة، وبالتالي يكون فهما بشريا لا يكتسي طابع القداسة. وهذا هو سر الإعجاز الذي جعل القرآن نصا صالحا لكل مكان وزمان، ويستحيل أن تتم الإحاطة بمعانيه الظاهرة والباطنة بشكل نهائي ومغلق.
علاوة على ذلك، كان التدوين بمثابة عنصر رئيسي في الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للمسلمين. فقد ساهم هذا التوثيق في تخفيف مخاطر الانقسامات والتباين في الآراء، لا سيما في زمن الفتنة والنزاعات التي شهدها المجتمع الإسلامي بعد وفاة الرسول. من خلال تقديم نسخ موثوقة من النصوص، تمكن المجتمع من الاحتفاظ بالوحدة الفكرية والروحانية التي أتى بها الإسلام، مما أسهم في تعزيز الرابط الاجتماعي بين أفراده وفي استدامة هذا الرابط رغم التحديات المختلفة. هكذا، يمكن القول إن التدوين لم يكن مجرد خطوة عابرة، بل كان له الأثر العميق في تشكيل مسارات الفكر الديني والسياسي والثقافي داخل الأمة الإسلامية.
6. الجمع الأول للقرآن
يعتبر مصحف الإمام عليّ أول مجهود جمع فردي تمّ للقرآن الكريم في مصحف واحد بعد وفاة الرسول عليه السلام. ونظرا إلى أن هذا العمل لم يكن بطلب رسمي من السلطة التي تولت الحكم في حينه، بل تمّ بقرار أحادي ومجهود فردي من الإمام تنفيذا لوصية الرسول الكريم وفق ما تذكر المراجع الشيعية، فإن طائفة من فقهاء السنة تصنف عمل الإمام علي من نفس صنف المصاحف الفردية التي عرفت وقتئذ، كمصحف ابن مسعود، ومصحف أبيّ ابن كعب، ومصحف أبو موسى الأشعري، ومصحف ابن العباس الذي كتب في وقت متأخرا جدا نظرا لأن ابن عباس كان عمره 12 سنة وقت وفاة النبي عليه السلام.
لكن الملاحظ أنه وباستثناء مصحف الإمام علي الذي كان منظما وفق ترتيب النزول، فان مصاحف الصحابة الأربعة المذكورين أعلاه، كانت على عكس ذلك، منظمة وفق ترتيب القراءة المعهودة زمن الرسول عليه السلام، وهو نفس الترتيب الذي اتبع في مصحف عثمان الذي نقرأه اليوم باستثناء بعض الاختلافات البسيطة التي سنأتي على ذكرها لاحقا.
وتعتبر نفس المصادر، أن جمع الخليفة أبي بكر الصديق، هو أول جمع للآيات في السور عرفه التاريخ الإسلامي، لكن من دون ترتيب للسور في مصحف جامع كما حدث زمن الخليفة الثالث، الأمر الذي اعتبره المؤرخون عملا جماعيا قامت به جهة رسمية تتمتع بشرعية تمثيل المسلمين. لكن أغلبية المهتمين بعلوم القرآن، يعتبرون مصحف علي أول عملية جمع كامل للقرآن الكريم في مصحف واحد منظم، وتأتي بعدها عملية الجمع الثانية التي تمت زمن الخليفة الأول، أما الجمع الثالث والأخير، والذي عرف بعملية (توحيد المصاحف)، فهو الجمع الرسمي المعروف بمصحف عثمان والمتفق عليه من قبل كافة المسلمين بمختلف تياراتهم ومدارسهم ومذاهبهم وفرقهم.
ومعلوم أن الرسول عليه السلام، بعد هجرته إلى المدينة المنورة، كلف جمعا هاما من أصحابه، بالاهتمام بالقرآن الكريم، وذلك لجهة تلاوته وحفظه وتدوينه، وعرفت هذه الفئة في حينه بـ "جمّاع القرآن"، بمعني أنهم كانوا يجمعون آي القرآن في قلوبهم ويدوّنونها (ينسخونها) في الرقاع وغيرها من المواد التي كانت تستخدم للكتابة في ذلك الزمان، لكن من دون ترتيب يذكر للسور، وهو أمر طبيعي ما دام الوحي لم يكن قد اكتمل بعد.
ويذكر ابن النديم تحت عنوان: "جمّاع القرآن على عهد الرسول (ص)" مجموعة من المشتغلين على القرآن الكريم وعلى رأسهم الإمام علي ابن أبي طالب. كما وتأكد العديد من المصادر، أن الآيات القرآنية حال نزولها على الرسول الكريم، كانت تحفظ عن ظهر قلب، وتسجل في المواد الأولية من قبل الكتبة المكلفين بذلك، مع مراعاة موضع كل آية في السورة المناسبة لها بعد اكتمالها وفق ما جاءت به تعليمات الرسول بتوفيق من الله عبر الملك جبريل، ولم يكن لأحد من الصحابة حرية الاجتهاد في مثل هذا الأمر الإلهي الجليل. ومن أشهر الأحاديث النبوية التي تأكد الأمر بكتابة القرآن والنهي عن كتابة غيره، الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (كتاب الزهد والرقائق – باب حكم كتابة العلم: 4/2298 – حديث رقم: 3004) ونصه: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه). وهو الحديث الذي اعتبره أهل السنة والجماعة خاص بمرحلة التنزيل، وأنه لا يعني عدم كتابة الحديث ما دام الرسول وفق حديث آخر غريب قد سمح بذلك، في تناقض صارخ بين النهي والإباحة.
7. الجمع الثاني للقرآن
رفضت السلطة الشرعية التي قامت بعد وفاة الرسول عليه السلام اعتماد مصحف الإمام علي كمرجع للمسلمين كافة، لاعتبارات منهجية وفق وجهة النظر الرسمية، وهي اعتبارات لا علاقة لها بالسياسة كما ذهب إلى ذلك د. محمد العروي في كتابه "الإصلاح والسنة" بزعمه أن جمع القرآن بعد وفاة الرسول تم لخدمة أهداف نبلاء قريش، ولا علاقة لها أيضا بالصراع السني الشيعي الذي لم يكن قد ظهر بعد في تلك الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي، كما لا علاقة لها بشخص الإمام علي الذي كان محل تقدير واحترام من صحابة رسول الله كافة.
وبالرغم من أن الفئة المناصرة للإمام عليّ، اعتبرت رفض اعتماد مصحفه من قبل السلطة القائمة بمثابة تفريط لا مبرر له في مصحف جامع أعده الإمام تنفيذا لوصية رسول الله قبل وفاته، إلا أن الآثار تذكر في هذا الصدد، أن الصحابة الكرام كانوا على بّينة من رغبة الرسول في تجميع آي القرآن الكريم وسوره في مكان واحد، بدل تركه مفرقا متناثرا في أكثر من مكان، ووضعه بالتالي في إمام جامع يكون بمثابة المرجع الأساس لجميع المسلمين، الشيء الذي يسهّل حفظه من جهة، ويساعد على قراءته بنفس الترتيب المتواتر من جهة ثانية.
كما أن مثل هذا العمل الشاق والضخم، كان يقتضي من الناحية المنهجية، إشراك أكبر عدد من الحفاظ والمدونين المسلمين في عملية الجمع، للتأكد من أنه لم تطرأ على نصوص القرآن الكريم زيادات أو نقصان، ولم تصب آياته بتغيير أو تحريف، مثل ما وقع مع الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل عندما خضعت لعبث الأحبار وأهواء الرهبان، فجاءت حُبلي بالاختلافات والتناقضات. وعلى هذا الأساس، يعتبر جمع الخليفة أبو بكر الصديق، أول جمع رسمي للصحف من القراطيس التي كتبت عليها آيات القرآن منظمة في سورها، لكن من دون ترتيب للسور نفسها، لا على أساس ترتيب النزول ولا على أساس معيار الطول والقصر أو ترتيب التلاوة.
وبغض النظر عن قيمة مصحف الإمام عليّ لجهة أنه تضمن التأويل بالإضافة إلى التنزيل، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال لجهة القول بأن القرآن يعتبر نصا مفتوحا لا يقبل تقييد آياته بمعاني محددة تجعل منه نصا مغلقا غير صالح لكل زمان ومكان، فلا يمكن بالتالي تقييد معناه بأسباب النزول أو غيرها من الاعتبارات التي تكتسي طابعا زمنيا ظرفيا. غير أن خاصية ترتيب القرآن وفق مسار التكوين وأسباب النزول بغرض المساعدة على الفهم، تجعل من مصحف الإمام علي عملا متفردا غريبا وأوّلا من نوعه، إلاّ أن ضياعه في ظروف غامضة ولأسباب مجهولة، لم يمكّن الباحثين من الاستفادة من محتوياته.
أما ما يقال من أن قرار جمع القرآن في أصله، أملته اكراهات الواقع المتمثلة في موت حفاظه أثناء الحروب اللاحقة كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين، حيث ذكرت بعض المراجع أنه مات حوالي سبعين حافظا في معركة اليمامة، في حين ادّعت مراجع أخرى أن عدد القتلى من الحفاظ بلغ في نفس المعركة أزيد من أربعة مائة حافظ، وهي أرقام جد متباعدة يستحيل التثبت منها، ناهيك عن القبول بحجة أن موت الحفاظ في المعارك من شأنه أن يترتب عنه ضياع القرآن الكريم كما زعم بعض فقهاء السنة والجماعة في مروياتهم، خاصة وأن الثابت من السيرة، أن الرسول عليه السلام في حياته، كلّف نفرا من الكتاب بتدوين الوحي أوّلا بأول، فكيف يمكن أن تضيع إذن بعض من آياته بموت حفاظه؟
إن مثل هذا الزعم الذي يتكرر في العديد من كتب التراث، لا يمكن القبول به من الناحية المنطقية، بالرغم من تسليمنا بأن البيئة العربية العامة زمن الرسالة، كان يغلب عليها، والي حدّ ما، طابع الأمّيّة الكتابية، وتتميّز أساسا بخاصية الثقافة الشفهية النقلية. ومرد ذلك، أن مهمة جمع القرآن في حد ذاتها، ليست عملية يسيرة يمكن أن توكل للعامة من المسلمين اعتمادا فقط على ما تختزله الذاكرة الحافظة من آيات متفرقة وسور غير مكتملة، بل تعتبر مهمة عسيرة ليست باليسيرة، بدليل أن من قام بها في الواقع، هم ثلة قليلة من خاصة الصحابة الذين بلغوا مستويات راقية في حفظ وجمع القرآن، والذين تم اختيارهم لهذا العمل الملحمي من قبل الرسول وفق مواصفات صارمة.
وبالرغم مما يمكن أن يقال من نقد حول ظروف تولية أبو بكر الصديق الخلافة، وما أثير حولها من جدل بشأن الشرعية الدينية والسياسية المتعلقة بهذا التعيين الذي جاء ليصب في مصلحة نبلاء قريش على حساب مبدأ الشورى القرآني الملزم لكل المسلمين في السياسة، علما بأن مسألة اختيار الرسول مسألة دينية من اختصاص السماء ولا دخل لأهل الأرض بها، وبالتالي، فلا يصح تعيين خليفة في منصب سياسي يقوم مقام رسول الله الديني بعد اكتمال الرسالة بنص القرآن، وهي الإشكالية التي تمت معالجتها زمن الخليفة عمر، حيث استبدلت التسمية من "خليفة رسول الله" إلى "أمير المؤمنين" التي تجمع بين الدين والدنيا. وأهمية هذا الطرح تكمن في السؤال الديني والسياسي الذي فرض نفسه حينها، بسبب الفراغ الذي خلفه انتقال الرسول الأعظم إلى جوار ربه على مستوى القيادة. ومرد ذلك، أن أحدا لم يناقش مسألة الحكم في حياته، كما أنه عليه السلام لم يوجّه أصحابه إلى طبيعة النظام السياسي الذي يجب اعتماده من بعده، لإدراكه أن القرآن الكريم قد حدد الأسس والمبادئ والآليات التي يجب العودة إليها سواء فيما يتعلق بالمسألة الدينية أو السياسية، ما دامت مسألة الحكم تخضع لظروف المكان والزمان وشورى المسلمين، ولا يمكن أن يتصور عاقل أن إقامة الدين تتطلب بالضرورة إقامة دولة دينية، وهو أمر مستحيل نظرا لاختلاف الأمم والشعوب والقبائل وتفرقها على امتداد جغرافية العالم، خصوصا وأن الدين إيمان خاص يقوم على اعتبارات قيميّة والتزامات أخلاقية ذاتية، في حين أن الدولة كيان سياسي معنوي ووعاء مدني يضم الجميع.
في هذه الفترة المبكرة ما بعد الرسالة، كان السؤال المركزي الذي يتمحور حوله الشأن الديني والسياسي هو مبدأ الشورى بالمفهوم القرآني، وضرورة أن تشمل كل المسلمين الذين يعتبرون معنيين مباشرة بالأمر الإلهي، باعتباره فرض عين لا فرض كفاية، وبالتالي، مُكلّفين شرعا باختيار من ينوب عنهم ويقوم مقامهم في تنظيم شؤون دينهم ودنياهم. لكن تجاهل الجواب عن هذا السؤال بطريقة عملية في حينه، مع التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي، هو الذي أدى لما عرفه تاريخ المسلمين من صراعات ومذابح.
ومهما قيل حول هذا الأمر، فلا ينكر جمهور أهل السنة والجماعة أن الخليفة الأول كان صادقا تقيّا، وفي مستوى حمل أمانة المسؤولية التي أنيطت به، تشفع له في ذلك صداقته الطويلة مع الرسول عليه السلام، وثقة هذا الأخير به ومصاحبته له لزمن ليس باليسير. كما أنه كان شديد الفطنة مُتّقد الذكاء، الشيء الذي ساعده على اكتساب خبرة رجل الدولة القوي بسرعة كبيرة، رغم قصر مدة حكمه. ويشهد له التاريخ إجمالا، أنه كان في مستوى القرارات الصعبة التي اتخذها أثناء فترة حكمه. إلا أن بعضا من تلك القرارات لم تكن ذات شعبية أو حتى شرعية دينية واضحة، وان كانت تكتسي المشروعية السياسية، كقضية محاربة الممتنعين عن دفع الزكاة مثلا، بمبرر غريب يفيد أن الأصل الذي اعتمده في حربه تلك، يقوم علي حديث رواه أبو هريرة ونصه: "لما توفي رسول الله (ص)، واستخلف أبو بكر من بعده، وكفر من كفر من العرب، وأنكر بعضهم الزكاة، عزم أبو بكر على قتالهم، فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول الله (ص): (أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا اله إلا الله، فمن قال لا اله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله لاقتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فان الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق" (صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، رقم: 1335- 2/507 ). وفي رواية أخري من حديث ابن عمر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل".
ومعلوم أنه حديث مختلق كاذب، لأنه يتعارض جملة وتفصيلا مع نصوص صريحة من القرآن الكريم تقر بحرّية الاعتقاد والتدين، ولم يأتي القرآن على ذكر عقوبة تارك الصلاة أو الممتنع عن الزكاة بالمطلق. بمعنى، أن العصيان هنا يتعلق بأمر تكليفي يخضع لحرية الإنسان واختياره، ما يؤكد أنه حديث مدسوس، لأن الرسول الكريم عليه السلام يستحيل أن يشرّع ما لم ينزل الله به من سلطان، خصوصا ما يتعلق باستباحة دم مسلم لا لشيء سوى لأنه رفض الامتثال لدفع الزكاة.
والمفارقة أن هناك الكثير من الأحاديث التي تناقض هذا التوجّه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن طارق ابن أشيم الأشجعي عن رسول الله أنه قال: "من وحّد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل). وغيره كثير مما يفيد حرمة دم من شهد ألا إله إلا الله حتى ولو لم يلتزم بطقوس العبادات واعتبر مسلما عاصيا، فإنه لا يُكفّر ولا يُحارب، وهذا ما يقول به من يرفضون من أهل السنة والجماعة – بما في ذلك فقهاء الأزهر – تكفير القاعدة وداعش والجماعات الإرهابية التي عثت قتلا في العباد وفسادا في الأرض، بحجة أنهم مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
إن مثل هذا القرار الخطير الذي اتخذه الخليفة الأول لقتال من رفضوا دفع الزكاة بدعوى أنهم ارتدوا عن الإسلام، دفعت فقهاء السنة والجماعة والمؤرّخين المسلمين الذي ينتمون إلى مذهبهم، وصم أحداث ذلك الزمان بـ"حروب الردة"، وذلك لإضفاء الشرعية الدينية على قرار سياسي مناقض لصريح نصوص القرآن ولما يعتقدون به من أصول مذهبهم، وبغض النظر عن صحة السند المعتمد كشرط لقبول حديث من عدمه، من دون مراعاة للمتن (المضمون) لجهة تطابقه مع النص القرآني من حيث الحكم أو المدلول، فإن حديث أبو هريرة السالف الذكر يتعارض نصا ومضمونا مع أصول الإسلام ومبادئه السمحة، التي ترفض الإكراه الديني بالذات تحت أية ذريعة من الذرائع، وذلك بنصوص صريحة من الكتاب تفيد أنه لا إكراه في الدين، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إن الله غني عن العالمين.
وبالتالي، لا يوجد في الدين ما يبرر اللجوء إلى القوة والقهر والقتل لإجبار الناس على الايمان، فأحرى إجبارهم على الصلاة أو الزكاة أو غيرهما من التكاليف الشرعية، وكل قول بخلاف ذلك، يتعارض مع أهم أصل في هذا الدين، ألا وهو مبدأ "الحرية" الذي كرم الله به الإنسان وجعله مبدأ مقدسا، وعاتب رسوله الكريم بشأنه لقوله تعلى: (أأنت تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين). إن مثل هذه الأحاديث المشبوهة هي التي تضفي المصداقية على طروحات من يتهمون الإسلام بأنه دين عنف وإكراه.
والحقيقة أن التراث الإسلامي بما حواه من سلبيات تسيئ إلى الدين وتنفّر منه، لا يزال إلى اليوم تراثا محجوبا، لا يهتم به إلا القلة من الباحثين الشجعان، كما أنه ولأسباب سياسية وإيديولوجية واضحة لا علاقة لها بالدين، لم يُعطى هذا التراث حقه من القراءة النقدية الموضوعية إلا في العقود الأخيرة، حيث تصدى له ثلة من الباحثين الشجعان بالتفكيك والتحليل، لتنقية الدين من سيل الترهات والتناقضات الغريبة التي تزخر بها المرويات مقارنة مع كلام الله الذي يعلو ولا يُعلي عليه.
إن القبول بشرعية القرار الذي اتخذه الخليفة أبو بكر في محاربته للممتنعين عن دفع الزكاة، يطعن في الصميم المبدأ القائل بأن "الإسلام شريعة سمحاء"، وقس على ذلك ما يقال عن شرعية الإرهاب من قبل السلفية التكفيرية اليوم. من هنا، لا يسعنا إلا الاستنتاج بأن قرار الخليفة الأول كان قرارا سياسيا لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد، وذلك مصداقا لقول القائل: "ما سُلّ سيف للقتال على مر العصور إلا كان بسبب السلطة". هذه هي الحقيقة العارية التي نتجنب النظر إليها بالعين المجردة، لأنه لو لم يكن هذا صحيحا، فلماذا إذن لم يحارب أبو بكر من ارتدوا عن الدين بإعلانهم الكفر جهارا نهارا، وهو نقض لميثاق الله أخطر بكثير من عصيان أمر من أوامر التكليف؟ ولماذا لم يحارب من تركوا الصلاة أيضا، ما دام أنه أكد في حديثه لعمر المذكور أعلاه، عدم التفريق بين تارك الصلاة والممتنع عن دفع الزكاة؟
إن عدم طرح الخليفة الأول هذا القرار الخطير للاستفتاء على القراء والكتاب والصحابة الذين عايشوا تجربة التنزيل، عطّل مبدأ الشورى الذي أوصى به النبي عليه السلام حين حث أصحابه على عرض الأمر للعالمين كلما استجد بهم طارئ في الدين، وفتح بالتالي الباب واسعا لاستئثار الحاكم بالقرار، تمثل ذلك في قضية القضايا المسكوت عنها، والمتعلقة بتعيين عمر ابن الخطاب خليفة من بعده، الأمر الذي اعتبر من الناحية الشرعية خرقا واضحا لقاعدة الشورى الملزمة للمسلمين بنص القرآن، والتي استبدلها عمر بقاعدة "أهل الحل والعقد" لشرعنة الخلافة في نبلاء قريش دون غيرهم من المسلمين. نقول هذا بغض النظر عن شخصية الفاروق عمر وما قيل عنه من مديح من قبل التراثيين. لأن المسألة بالنهاية، لها علاقة بإقرار مبدأ عام في الحكم، كانت من نتيجته أن اكتوي المسلمون بناره عبر العصور وذاقوا من ألوان الظلم وأصناف الاستبداد ما يخجل المرء من تصنيفه في خانة "الحكم الاسلامي". ومرد ذلك تغييب مؤسسة الشورى واستبدالها بمؤسسة الحاكم بأمر الله لا بتفويض من الناس. وهذا هو خط الانحراف الأول الذي نتج عنه ظهور الخوارج والفرق المنشقة على الشرعية السياسية القائمة بنفس سلاح الدين كالشيعة وغيرهم عبر العصور والدهور بشهادة من التاريخ.
وفي هذه المرحلة المبكرة جدا من تاريخ المسلمين تداخل الديني في السياسي، بحكم أن الدولة الفتية وما تلاها بعد ذلك من أنظمة حكم سلالات إقطاعية، حافظت بالضرورة على تطبيق قسم من الشريعة لضمان نوع من الشرعية الدينية برغم كل مظاهر الاستبداد، وبذلك أصبح تطبيق الشريعة ملازما للسياسة، وحوّل الدولة المستبدة إلى دولة إسلامية، بالرغم من اعتمادها أساسا على العصبية والقوة والقهر لتدوم وتستمر، إلا أنها كانت دائما تضفي الشرعية الدينية على تصرفاتها القمعية تجاه المعارضين والمخالفين على حد سواء.
بعد هذا القوس الذي فتحناه بالمناسبة لارتباط الأحداث التاريخية ببعضها، نعود فنقول: أما قرار الخليفة الأول القاضي بجمع القرآن الكريم، فقد جاء نتيجة لوعيه بما يستلزمه وضعه الديني ومسؤوليته السياسية الجديدة، باعتباره إماما وحاكما وقائدا حاملا لراية الإسلام ومؤتمنا على شؤون المسلمين، وبذلك يكون هو المكلف شرعا بحراسة مقدسات الأمة والسهر على جمع المسلمين حول حبل الله المتين المتمثل في قرآنه الكريم. وهذا هو سبب رفض اعتماد مصحف علي كإمام مرجعي جامع للمسلمين، باعتبار أن الإمام هو شخص من الرعية، لا يتحمل أية مسؤولية رسمية من جهة، وباعتبار أن ما قام به من جمع للقرآن، لا يعدو أن يكون عملا فرديا اختلط فيه التنزيل بالتأويل كما سبقت الإشارة.
لذلك، كلّف الخليفة أبو بكر الصديق، الصحابي الكبير زيد ابن ثابت بمهمة جمع القرآن الكريم، فقام هذا الأخير بمباشرة عمله على رأس لجنة ضمت خمسة وعشرون نفرا من الصحابة الأنصار دون المهاجرين لأسباب مجهولة، بالرغم من أن الخليفة الأول كان من المهاجرين. ويقال إن هذه اللجنة كانت تجتمع في المسجد كل يوم، وتبحث ما يتقدم به كل شخص من مواد كتبت عليها آيات وسور القرآن، ولم تكن تقبل أي صحيفة من أي شخص ادعي أنها تتضمن الوحي إلا بعد أن يأتي بشاهدين يؤكدان أمامها أن ما يدعيه هو فعلا من القرآن. ومثل هذه الواقعة، تشكك في مصداقية الادعاء القائل بأن القرآن كان محفوظا كله في صدور المؤمنين زمن الرسول عليه السلام، لأنه لو كان الأمر كذلك لما وضع معيار الشاهدين، خاصة وأن المسلمين كانوا حديثي العهد بالتنزيل. ويقال كذلك، أن اللجنة استثنت من هذه القاعدة الصارمة الصحابي خزيمة ابن جابر، عندما قدم أمامها آخر الآيتين من سورة براءة، وذلك من دون أن يضطر لتقديم الشاهدين، نظرا لمعرفة أعضاء اللجنة بصدقه، والثقة التي كان يحظى بها من قبل الرسول الكريم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: - إذا كان أعضاء هذه اللجنة من القراء الذين يحفظون القرآن وكانوا مكلفين بكتابته من قبل الرسول، فلمذا تم اعتماد معيار الشاهدين في قضية تهم المسلمين كافة؟
ومهما يكن من أمر، فبهذه الطريقة، استطاع زيد ابن ثابت أن يجمع آيات وسور القرآن في صحف معدودة، رتبت على شكل مجموعات مكتملة، وتم وضعها في صندوق لحفظها من الضياع. ولهذا السبب بالذات، لا يعتبر العمل الذي قام به الخليفة الأول مصحفا، بل تجميعا لصحف نسخت فيها آيات القرآن وسوره. يقول المحاسبي في هذا الصدد ما مفاده، إن القرآن كان مفرقا في قطع من خشب وجلد وعظام، وأمر أبو بكر الصديق بجمع كل هذه المواد المتفرقة، ثم قام بربطها بحبل لكيلا تضيع أية قطعة منها. ويقول ابن حجر، أن الفرق بين الصحف التي جمعها زيد ابن ثابت والمصحف، هو أن الصحف هي فقط المواد التي كانت مدونة عليها الآيات، والتي أمر الخليفة الأول بجمعها كل حسب السورة التي تنتمي إليها، وبذلك تمت لأول مرة عملية تجميع الآيات مرتبة في السور، لكن لم تكن السور تخضع لأي ترتيب يذكر كما هو الأمر بالنسبة للترتيب الذي اعتمد في عهد عثمان لاحقا، والذي أصبح يعرف بمصحف عثمان.
وقد ظلت الصحف التي جمعها زيد ابن ثابت في حوزة الخليفة أبو بكر إلى أن أودعها هذا الأخير في عهدة حفصة، على أساس أن تقوم بتسليمها للخليفة عمر ابن الخطاب بعد توليته رسميا خليفة للمسلمين وفق ما تذكر بعض الروايات، ما يؤشر إلى أن أمر توارث الخلافة بين نبلاء قريش كان أمرا محسوما ومخطط له من دون شورى ولا من يحزنون. ويحكى أيضا أنه في الوقت الذي تم فيه إيداع هذه الصحف لدى حفصة، قام الخليفة الثالث باستعارتها مؤقتا لمقارنتها مع نسخة المصحف التي كانت في حوزته، ثم أعادها لصاحبتها. وبعد وفاة حفصة، قام مروان الذي عينه معاوية ابن سفيان واليا على المدينة، بطلب هذه الصحف من بيت حفصة، ثم دمرها بالكامل.
ويلاحظ في مثل هذه الروايات المختلفة، اعتماد أصحابها لمنهج السرد والتبرير، بدل النقد وتوخي الدقة في تقصي الحقائق، نظرا لتعارضها في جوانب كثيرة منها مع سياق الأحداث التاريخية. فمثلا، لا يعرف السبب الحقيقي الذي دفع الخليفة الأول إلى انتقاء أعضاء اللجنة الخمسة والعشرون كلهم من الأنصار حصريا دون المهاجرين بالرغم من أن أبو بكر نفسه كان من المهاجرين كما سبق القول، علما أن قرآن مكة الذي يشكل ثلثي المصحف من حيث عدد الآيات لم يشهد نزوله الأنصار. ومعلوم أيضا أن فئة المهاجرين هي التي عاشت تفاعلات الرسالة بين السماء والأرض في مكة لفترة دامت ثلاثة عشر سنة كاملة. كما أن حفصة بنت الخليفة الأول، لم تُسلّم الصحف التي أودعها لديها والدها إلى الخليفة عمر كما ذكرت الروايات في تبريراتها لهذه الواقعة في حينه، والتي تبيّن بوضوح، أن مصحف أبو بكر تحوّل إلى ملكية خاصة بدل أن يوضع في خزانة المسلمين باعتباره من الممتلكات العامة.
8. مصاحف الصحابة
خلال المرحلة التي أعقبت وفاة الرسول عليه السلام وحتى بداية خلافة عثمان ابن عفان، قام بعض الصحابة بنسخ القرآن لحسابهم الخاص، بحكم احتكاكهم ومعرفتهم بالوحي، من منطلق المرتبة العالية التي وصلوا إليها في اهتمامهم بالقرآن، والتقدير الكبير الذي كانوا يتمتعون به بين المسلمين، وفق ما تذكر السّير، وهو ما انعكس إيجابا على أعمالهم، حيث نالت مصاحفهم الكثير من الاهتمام من قبل الأمة على امتداد جغرافية البلاد الإسلامية آنذاك.
ووفق ما رواه ابن عزيز، فإلى غاية العام 30 من الهجرة، كانت هناك أربع مصاحف تتداول في مختلف الأرجاء: مصحف أبي بن كعب في دمشق، مصحف ابن مسعود في الكوفة، مصحف أبو موسي في البصرة، ومصحف المقداد في حمص. وكانت كل جهة تقرأ القرآن وفق المصحف الذي لديها وتعتبره المرجع الإمام في الفصل عند كل اختلاف.
وبالرغم من أن كل مصحف من المصاحف الأربعة كان يتميز عن غيره ببعض الخصوصيات البسيطة، إلا أن السور كان تخضع لنفس الترتيب التالي:
• السبع الطوال: البقرة – آل عمران – النساء – الأعراف – الأنعام – المائدة – يونس.
• المئون: وهي السور التي يصل عدد آياتها الي مائة أو أكثر قليلا، وعددها 12 سورة.
• المزاني: وهي السور التي يقل عدد آياتها عن مائة، وتبلغ في مجملها عشرون سورة.
• الحواميم: وهي السور التي تبدأ بالأحرف المتقطعة (حم)، وعددها سبعة سور.
• الممتحنات: وهي الفتح – الحديد – الحشر – السجدة – ق – الطلاق – القلم – الحجرات – الملك – التغابن – المنافقون – الجمعة – الصف – الجن – نوح – المجادلة – الممتحنة – التحريم.
• المفصلات: وتبدأ من سورة الرحمن الي نهاية القرآن.
هذه هي جملة ما ورد في الأثر بالنسبة لمصاحف الصحابة، وتجدر الإشارة إلى أن مصحف ابن مسعود هو الأكثر قربا للتصنيف المفصل أعلاه. أما بالنسبة لبقية المصاحف، فيلاحظ بعض الاختلافات التنظيمية لجهة ترتيب بعض السور بالنسبة للبعض الآخر. وفيما يلي، نورد بعضا من هذه الخصائص التي تميز مصحف عبد الله ابن مسعود ومصحف أبي ابن كعب على سبيل المثال:
8.1. خصائص مصحف عبد الله ابن مسعود
لم يكن مصحف ابن مسعود يتضمن سورة الفاتحة، ووفق ما يقال، فان هذا الصحابي أنجز مصحفه حتى لا يضيع القرآن، وعدم تضمينه لسورة الفاتحة مرده أنها سورة تتردد على كل لسان أكثر من مرة في اليوم، فلا تجوز صلاة بدونها، وبالتالي، لا داعي لنسخها في المصحف خوفا من الضياع أو النسيان كما قيل. هذا بالإضافة إلى أن ابن مسعود كان يؤمن بأن سورة الحمد توازي القرآن كله استنادا إلى قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقران العظيم) الحجر: 87. وهو تفسير لا يستقيم مع المفهوم القرآني للسبع المثاني التي لا علاقة لها بالفاتحة.
كما أن مصحفه لم يكن يتضمن المعوذتان (الناس والفلق)، لاعتقاده بأن هاتين السورتين ليستا في الحقيقة سوي دعاءين للحفظ من السحر والعين.
ويختلف مصحف ابن مسعود في الكثير من الآيات مع المصحف الذي نعرفه اليوم (مصحف عثمان) وذلك بسب أن هذا الصحابي، قام بتغيير الكثير من الكلمات القرآنية الأصلية بكلمات مرادفة ومفسرة لها، اعتقادا منه أنه بذلك العمل سيسهل على المسلمين فهم القرآن. لكن مؤلف كتاب "التمهيد" الفقيه المالكي أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري، يرى أن مثل هذه التغييرات في الكلمات، كانت تلاحظ فقط عند تلاوة مصحف ابن مسعود، في حين أن ما تضمنه هذا المصحف من نسخ (تدوين) للسور والآيات لم يكن يختلف عن القرآن كما أوحي للرسول عليه السلام في شيء. غير أنه في حالات كثيرة، كان ابن مسعود يضيف إلى بعض الآيات شروحا على الحواشي في محاولة منه لتبسيط بعض المعاني الشائكة والمستعصية على فهم العامة.
8.2. خصائص مصحف أبي ابن كعب
يحتوي مصحف أُبي ابن كعب على 115 سورة بدل 114 التي يتضمنها المصحف الحالي (مصحف عثمان)، ذلك أن هذا الصحابي كان يعتقد أن سورة الفيل وسورة قريش إنما هما في الأصل سورة واحدة فحذف البسملة التي تشكل الفاصلة بينهما. ويلاحظ أن أئمة أهل البيت هم بدورهم يؤكدون ما ذهب إليه أبي ابن كعب من أن الأمر في الحقيقة يتعلق بسورة واحدة. وقالوا كذلك، أن نفس الشيء ينطبق على سورة الضحى وسورة الانشراح، اللتين يُتليان كسورة واحدة يضاف إليها دعاء القنوت.
يبدأ مصحف أبي ابن كعب بسورة الفاتحة أو (الحمد) وينتهي بالمعوذتين (سورة الفلق وسورة الناس)، وبذلك، فهو لا يختلف عن المصحف الحالي (مصحف عثمان) كثيرا. لكنه في ترتيب السور الطوال، نجد سورة يونس مقدمة على سورة الأنفال بخلاف مصحف عثمان.
وكما هو الأمر بالنسبة لمصحف ابن مسعود، يختلف مصحف أبي بن كعب عن مصحف عثمان في بعض الكلمات التي كان يستعملها كإضافات من باب الشرح والتوضيح، ولا تنتمي إلى التنزيل، كقوله مثلا: (صيام ثلاثة أيام - متتابعات - بعد الحج). فجاءت الإضافة بقوله: "متتابعات" للشرح مميّزة عن نص القرآن.
وأهم ما يمكن أن نخرج به كملاحظة أساسية مشتركة من قراءتنا الخطية لمصاحف الصحابة الأربعة، هي أنهم جميعا لم يعتمدوا ترتيب النزول كما فعل الإمام علي، بل يكاد ترتيبهم يطابق ترتيب مصحف عثمان لولا بعض الاختلافات البسيطة التي مست بعض السور لجهة الدمج أو التقديم والتأخير والحذف، لكن مع احترام وحدة واستقلالية كل سورة على حدة، وتوزيعها إلى مجموعات متجانسة وفق معيار الطول والقصر الذي اعتمد لاحقا في مصحف عثمان. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الصحابة الكرام الذين عايشوا تجربة الوحي عن قرب، ما كانوا ليخالفوا قراءة النبي عليه السلام للكتاب أو يرتبون سوره بخلاف ترتيبه.
ومعلوم أن نزول الوحي مُنجّما في شكل آيات بعضها مكي والآخر مدني في فترات متفاوتة قد يتداخلان أحيانا في نفس السورة، الأمر الذي لا يساعد بحال من الأحوال على ترتيب القرآن وفق أسباب النزل لاستحالة ذلك عمليا، لأن الذي كان ينزل على الرسول عليه السلام هي الآيات المفرقات وليست السور باستثناء القصيرة منها، وهو استثناء لا يمكن الأخذ به قياسا مع بقية سور القرآن وخاصة السور الطوال. وعلى الرغم من أن القرآن المنسوخ في الصحف لم يُجمع في مكان واحد، إلا أن ترتيبه في التلاوة والحفظ لم يتغير منذ عهد الرسالة إلى اليوم، لأن ترتيبه كان توفيقيا من الله تعالى عن طريق الملك جبريل الذي كان يشير على الرسول بمواضيع الآيات من السور، وكان يُقرِأه ما تنزل من القرآن في رمضان، وفي رمضان الأخير من عمره الشريف، أقرأه جبريل القرآن كاملا مرّتين، ما يؤكد أن ترتيب السور لم يكن توفيقيا من نبلاء قريش كما زعن عبد الله العروي في كتابه "السنّة والإصلاح"، بل من السماء مباشرة، الأمر الذي تأكده الآيات التي استشهدنا بها سابقا في هذا المضمار. وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد أن الرسول وصحابته وجماعة القراء والكتاب، كانوا يقرؤون القرآن على نفس الترتيب الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس. ولعل حفظ القرآن في صدور المسلمين في الزمن الذي كان فيه مفرّقا في الصحف على أكثر من موقع، هو الذي ساعد على حفظ ترتيب التلاوة وفق نفس قراءة الرسول الكريم دون تغيير أو تبديل.
ومن أشهر الحفاظ المهاجرين: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة، وسالم مولي أبي حذيفة، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وابن الزبير، وعبد الله بن السائب، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة. ومن الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ ابن جبل، وزيد ابن ثابت، وأبو الدرداء، ومجمع بن حارثة، وأنس بن مالك، وأبو زيد وهو أحد عمومة أنس بن مالك.
8.3. مصحف علي ابن أبي طالب
يحكي عن الإمام علي، بحكم قرابته وملازمته للرسول الأعظم عليه السلام منذ طفولته وإلى أن وافته المنية، أنه اشتهر بحضوره الدائم إلى جانبه الشريف في كل الأحداث العامة والخاصة، كبيرها وصغيرها، فلم يكن ليفوته شيء بأهمية الوحي على الإطلاق، وهو الوحيد الذي آثر البقاء إلى جانب جثمانه الطاهر بعد موته، لتحضيره للدفن، على أن يحضر اجتماع ما اصطلح على تسميته في حينه بمجلس الشورى الذي انتظم في سقيفة بني ساعدة بهدف اختيار خليفة يقوم على شؤون المسلمين. وتذكر المرويات أن الإمام علي كان يأخذ على عاتقه أمانة كتابة الوحي زمن نزوله من دون انقطاع سواء في مكة أو المدينة. وقبل وفاة الرسول، أوصاه عليه السلام بتدوين القرآن في إمام جامع وفق ما تذكر بعض مراجع الشيعة.، لكن هذا القول لا يستقيم مع واقع ذلك الزمان الذي لم يكن فيه الورق موجودا لكتابة القرآن كاملا وجمعه في إمام واحد.
ومهما يكن من أمر، تذكر السِّيَرُ أنه مباشرة بعد انتقال صاحب الرسالة إلى جوار ربه، انكبّ الإمام عليّ على جمع القرآن تنفيذا لوصيته الشريفة، معتبرا هذا العمل من أولويات واجباته. يقول الإمام الطباطبائي في كتابه: (قرآن دار الإسلام)، ما مفاده: "إن الإمام عليّ عليه السلام بحكم احتكاكه المباشر مع الوحي، وتنفيذا لوصية الرسول الكريم (ص)، قام بجمع القرآن في إمام وفق ترتيب النزول، وفي مدة لم تتجاوز الستة أشهر، وأنه بعد انتهائه من عمله، حمل القرآن على ظهر جمل، وراح يشهره على الناس". ويذكر ابن عباس في تأويله للآية 16 من سورة القيامة: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، أنه ولهذا السبب بالذات، انتظر الإمام علي حتى اكتمل نزول الوحي قبل أن يقوم بجمعه في إمام. والملاحظ أن الحديث هنا هو عن جمع المواد القديمة التي كتب عليها من قبل الإمام علي، وهو ما لا يعد جمعا في كتاب على الورق كما ذهب إلى ذلك بعض فقهاء الشيعة.
وتؤكد بعض المصادر، ومنها ما ذكره أبو رافع، أنه بسبب وصية الرسول عليه السلام، قام الإمام عليّ بأخذ كل المواد التي كتبت عليها الآيات إلى بيته، وبعد وفات النبي، اعتكف على كتابة القرآن في مدة ستة أشهر، إلى أن انتهي من جمع آياته وتنظيم سوره وفق ترتيب النزول، وكان الإمام مُلمّا بمهمته، مدركا لما يجب عليه القيام به.
ويشرح السيوطي في كتابه (الإتقان في علوم القرآن)، أن أول سورة افتتح بها الإمام علي عمله هي "اقرأ"، وبعدها وضع سورة "المدثر" ثم سورة "ن"، فسورة "المزمل"... وهكذا تباعا... لكن لا أحد ممن تحدثوا عن مصحف الإمام علي تكلم عن استحالة تنظيم آيات وسور القرآن وفق ترتيب النزول من الناحية العملية، نظرا لتداخل الكثير من الآيات المكية والمدنية في نفس السور وبترتيب لا يتساوق مع مسار تكوين الوحي، ومرد ذلك، أن القرآن يتجاهل فكرة الكرونولوجيا الزمنية في تناوله للأحداث، كما وأن الحكمة من ذلك وفق ما يتبيّن من كلام الله، هو عدم ربط الآيات بخصوص السبب بل بعموم اللفظ، حتى لا تفهم على أنها آيات خاصة بزمانها وفق ما ذهب إليه أصحاب نظرية تاريخية وتاريخانية النص المقدس. وعليه، يكون أي عمل يسعي الي تنظيم القرآن وفق ترتيب النزول هو ضرب من العبث الذي لا يؤدي إلى نتيجة تذكر، إن على مستوي المبني أو المعني، وفق ما يرى العديد من المفسرين والباحثين المعاصرين ومنهم محمد عابد الجابري في كتابه "مدخل إلى دراسة القرآن الكريم".
ومن الغريب أن يقال من قبل بعض المراجع الشيعية أن قراءة الإمام علي كانت مطابقة لقراءة الرسول، ذلك أننا لا نفهم بالضبط ما المقصود بمثل هذا القول، ما دمنا قد أشرنا إلى استحالة توافق ترتيب النزول مع ترتيب القراءة كما كانت متواترة زمن الرسول، سواء من الناحية النقلية وفق ما لدينا من معطيات تؤكد عكس ذلك، أو من الناحية العقلية التي تتعارض جملة وتفصيلا مع مثل هذا الادعاء. ويقال كذلك، أن مصحف عليّ كان يشمل بالإضافة إلى نصوص القرآن، العديد من الحواشي المفسرة لأسباب نزول آياته وأمكنتها وزمانها بالإضافة إلى أسماء الأشخاص والوقائع التي تناولتها. كما وتم فيه توضيح كل الظواهر العامة المتعلقة بالآيات، بشكل أضفى عليها طابع الشمولية لجهة المعنى، وحررها بالتالي من حدود المكان والزمان وقيود الوقائع والأشخاص، بشكل جرد الآيات من طابع الخصوصية، تلافيا لسوء الفهم.
ويفسر الإمام عليّ الهدف من عمله هذا بقوله: "لقد أتيتكم بالكتاب الذي يتضمن التنزيل والتأويل". وبذلك، يكون الإمام وفق ما أكده هو نفسه ونقلته عنه عديد الروايات الشيعية، قد حرص حرصا فائقا على تنفيذ وصية الرسول الكريم عليه السلام، حيث اجتهد في وضع مصحفه الجامع طبقا لما تعلمه مباشرة من الرسول الأعظم في حياته، من دون أن ينسى أو يغير شيئا مهما بلغ صغره. لكن المؤسسة القرشيّة الرسمية في ذلك الزمان لم تقبل بعمله، ورفضت اعتماد مصحفه كمرجع للنص النهائي لأسباب منهجية لا علاقة لها بالخلاف السني الشيعي الذي ظهر بشكل جليّ زمن معاوية. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن مصير هذا المصحف الذي لا أحد البتة يعلم أين انتهي مآله. فبعض المراجع الشيعية، تدّعي أن مصحف عليّ تم توارثه من قبل الأئمة الكبار، وهو ما لا يوجد تأكيد له. أما ما يقال عن أن نسخا منه توجد في بعض المكتبات والمتاحف، فلم يستطع أيّ باحث أن يُؤكّد صحّة هذا الادعاء.
ويشار في هذا الصدد أن لا أحد من المؤمنين اعترض على الترتيب الحالي لآيات وسور القرآن الكريم كما وردتنا في مصحف عثمان، والتي تُجمع الروايات على أن الرسول عليه السلام كان يقرأ بها. لكن السؤال يبقى مشروعا إلى غاية معرفة حكمة الله من هذا الترتيب، وهو ما لم ينجح أحد حتى الآن في معرفة سرّه .
لكن ذلك لا يمنعنا من الاستنتاج، أن ترتيب النزول الذي اعتمده الامام عليّ له فائدته لا محالة، ذلك أن مصحفه كما قال عنه كان يضم "التنزيل والتأويل"، بمعنى أنه وبجانب كل آية كان الإمام يضع على الحواشي أسباب نزولها، الأمر الذي قد يساعد على فهم المراد من خطاب الله من خلال الاستئناس بمثل هذا التأويل الذي يوضح وإلى حد ما، بعض أسباب النزول، ما دام معظم آي القرآن الكريم لم ينزل لأسباب ظرفية (مكانية وزمانية)، لمعالجة وقائع وحادثات معيّنة لم تقع زمن الرسالة، ما يجعلنا نخلص إلى القول باستحالة أن يكون الإمام عليّ قد ضمّن مصحفه أسباب نزول كل الآيات.. هذا مستحيل.
كما أن من سلبيات مثل هذا التأويل، أنه يُركّز على تفاصيل مناسباتية خاصة على حساب المعنى المطلق العام. وقد ظهر في التاريخ الاسلامي علم جديد سمي بـ "علم المناسبة بين الآيات والسور"، وهو علم له أهميته، وكان من الممكن أن يساعد على فهم الترابط القائم بين الآيات والسور، وبالتالي، اكتشاف العلاقة القائمة بينها وفق هذا الترتيب. غير أن الكتب التي وضعت في هذا العلم قد ضاعت وتم إحراقها. ويقال أيضا، أن هناك مخطوطات ثم العثور عليها، وأن هناك من يقوم اليوم بدراستها. وأهمية هذا العلم أنه عندما يدرس العلاقة بين سورة الفاتحة وما بعدها مثلا، يخلص إلى أن سورة الفاتحة هي بمثابة المفتاح الذي يساعد القارئ على ولوج عالم القرآن الباطن، لما تمثله هذه العلاقة من مضامين جامعة تشير إلى الانسان الذي يخاطب ربه راجيا منه المغفرة والرحمة والهداية، وإلى طبيعة الذات الالهية، والصفات التي تتمتع بها، واليوم الآخر، والتشريعات، وأهل الكتاب والمعتقدات القديمة. وسميت بفاتحة الكتاب لأن كل حرف، وكل كلمة في السورة، تفتح للقارئ المتبصّر بابا من العلم والمعرفة المفصلة في الآيات اللاحقة. فإذا أخذت مثلا كلمتي "المغضوب عليهم" و"الضالين" الواردتان في نهاية السورة، فستكتشف أن نفس السورة لم توضح من هم. لكن في سورة "البقرة" التالية يكتشف القارء أنها مخصصة في معظمها لـ "المغضوب عليهم" الذين عرفهم الله بصفاتهم وأفعالهم وهم ليسوا من اليهود فحسب كما ذهب إلى ذلك التراثيون. وفي السورة الثالثة التي تحمل اسم "آل عمران" وفق ترتيب مصحف عثمان، ستكتشف أن الحديث فيها جاء مخصصا لموضوع النصارى الذين ضلوا وقالوا إن المسيح ابن الله، ولذلك وصفهم الله في الفاتحة بـ "الضالين"، لكن هذا الوصف لم يقتصر عليهم فحسب، بل ذكر الله في آيات مختلفة صفات الضالين وأفعالهم. وهذا نموذج بسيط مما يتناوله منهج هذا العلم.
والذين يتهمون المسلمين اليوم بكراهية الآخر المختلف ويطالبونهم بإعادة قراءة الفاتحة بفهم إنساني متسامح جديد، إنما يركزون على التفاسير التي تعتبر اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالين، وهو ما لم يقل به الله تعالى في قرآنه، ما دام الأمر لا علاقة له بأهل الكتاب عموما، بل فقط بمن ضل منهم ومن الذين ادعوا أنهم مسلمين وأفعالهم وتصرفاتهم تناقض تعاليم الإسلام بغض النظر عن كرونولوجيا التنزيل بالنسبة للرسالات وتعاقب الرسل باختلاف الأمم والأزمنة التي عاشوا فيها.
9. الجمع الثالث والنهائي للقرآن
وهو الجمع المسمى بـ "الجمع العثماني"، وقصته معروفة، وسببه ما راعه بعد أن أبلغه الصحابي حذيفة بن اليمان من التباين القائم بين المسلمين في قراءة القرآن، بين أهل العراق وأهل الشام وأهل مصر وغيرهم بسبب مصاحف الصحابة التي وصل عددهم إلى سبعة وفق ما تذكر المراجع التاريخية، وما نتج عن ذلك من تباين في معسكرات القتال خلال فتوحات آسيا (أرمينية وأذربيجان). وخوفا ممّا قد يؤدي له هذا التباين من اختلاف فخلاف وصراع بين المسلمين، فقرر الخليفة الثالث إنهاء هذا الوضع الشاذ بتجميع آيات وسور القرآن الكريم في مصحف إمام يكون مرجعا لكل المسلمين.
شكل الخليفة عثمان لجنة رباعية ترأسها الصحابي الشهير والمختص في المجال زيد بن ثابت الأنصاري الذي عرف بأنه كان أكتب الناس للقرآن زمن الرسول، وضم إليها عبد الله بن الزبير الأسدي، وسعيد بن العاص الأموي، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. فجمعوا المصاحف والرقاع من كل بيت بما في ذلك مصحف حفصة ومصاحف الصحابة الأربعة التي كانت متداولة حينها في الأمصار، وقامت اللجنة بمقارنتها بعضها ببعض ومراجعتها على ضوء ما استقر في صدور الحفاظ، فجاء العمل كاملا مكتملا وبتوافق أهل الاختصاص الثقات في حينه.
وكان هذا العمل بحق وفق ما يجمع على ذلك المؤرخون الموضوعيون، أول إمام جامع للقرآن بين دفتين في تاريخ الإسلام، وضع في دار الخلافة وسمّي لأول مرة بـ "المصحف العثماني" تيمّنا باسم الخليفة عثمان بن عفّان الذي أمر بإنجاز هذا العمل الملحمي العظيم، ونسخت منه 7 نسخ وزعت على مصر والبصرة والكوفة ومكة والمدينة واليمن والشام، وفق ما ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية)، ولم يذكر العراق.
وميزة مصحف عثمان أن الرجل وضع حدا لما ظهر من خلاف حول قراءة القرآن كل جهة بلهجتها المحلية فيما يتعلّق باختلاف النطق ببعض الحروف، ومثال ذلك كلمة "التابوه" التي صححتها لجنة عثمان بـ "التابوت"، و"الصراط" بالصاد بدل السين، وفق ما درجت عليه لهجة قريش، و"حتى" التي كانت تنطق "عتى" فصححها عثمان. وحروف أخرى من هذا القبيل. وكان ذلك بناء على رسالة سبق لعمر ابن الخطاب أن كتبها لابن مسعود بمناسبة خلاف نشب حول قراءة الأحرف جاء فيها: "أما بعد فإن الله أنزل القرآن بلسان قريش فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام". وبذلك اعتمد الخليفة الثالث توجيه الخليفة الثاني لابن مسعود بشأن قراءة القرآن بلغة قريش التي نزل بها.
9.1. الأسس التي قام عليها الجمع النهائي للقرآن
تجسد الأسس التي قام عليها الجمع النهائي للقرآن خلال فترة الخليفة عثمان بن عفان رؤية تاريخية ودينية تمتزج فيها الكفاءة الإدارية مع الحاجة الروحية لجمع الكتاب المبين. اعتمد هذا الجمع على مجموعة من العوامل الأساسية، كان من أبرزها الاختيارات الدقيقة للمقرئين والكتاب الذين قاموا بتدوين القرآن في نسخته النهائية. تم تكليف مجموعة من الصحابة المحافظين على النصوص، وتم اختيار زيد بن ثابت لإدارة هذه العملية، لضمان دقة النسخ وسلامته من التحريف أو التحوير أو الحشو أو الإسقاط في غير محل.
تأسس الجمع النهائي للقرآن على مبدأ مُوحّد، ينص على ضرورة ضم النصوص المتعددة وعدم الاكتفاء بما تحمله ذاكرة الأفراد، إذ أدرك القائمون على هذا المشروع الضخم خطر تفكك الأمة الإسلامية بسبب تباين قراءات القرآن واختلافها بين المناطق. وبالتالي، تم تقليص النصوص المتعددة إلى نصٍ واحد يعتمد عليه الجميع، مما ساهم في الحفاظ على وحدة الأمة والتقليل من الفتن التي قد تنشأ عن الاختلافات في النصوص القرآنية. هذا القرار، الذي يُعتَبَر محوريًا، يشير بوضوح إلى مدى أهمية النصوص المقدسة في تشكيل الهوية الإسلامية وتوحيد الصفوف.
إلى جانب الظروف التاريخية والسياسية التي سبقت الجمع، كانت هناك أيضًا معايير صارمة في مراجعة المرويات النقلية والشهادات المعاصرة لدقة التوثيق. لقد تم تقييم النصوص من خلال الشهادات والذكريات الخاصة بالصحابة الذين عايشوا الرسول في مرحلة التّنزيل المسمّاة بمرحلة النشأة والتكوين، مما لعب دورًا حاسمًا في تحديد النظرية الأولى للجمع. إن هذه العملية الدؤوبة لم تقتصر على جمع النصوص فقط، بل تطورت إلى مشروع ثقافي وعلمي، يمتد تأثيره إلى كافة مجالات الحياة الإسلامية، مما يدل على أهمية الجمع النهائي كأداة لتثبيت العقيدة وتدوين التاريخ، وقد أسهمت تلك الأسس في تشكيل معالم المنهجية القرآنية التي عُرفت بها الأمة الإسلامية عبر العصور.
9.2. النسخ المعتمدة وما تم حرقه
فيما يتعلق بالنسخ المعتمدة من المصحف الشريف، كان الاهتمام ينصب بشكل أساسي على اختيار النصوص القرآنية الصحيحة التي حصل عليها إجماع الحفاظ ووجد لها أثر في الكتابات المتفرقة، وروعي في تدوين النسخة النهائية للقرآن مسألة توحيد القراءات بلغة قريش التي تتمتع بالقبول بين مختلف المجتمعات الإسلامية. يشير هذا الانتقال من التعدد إلى الوحدة إلى ضرورة إنشاء نسخة موثوقة، تمثل النص القرآني كما أُنزل على النبي محمد عليه السلام، وذلك لضمان عدم الاختلاف في النصوص بين المسلمين. خلال فترة الخليفة عثمان بن عفان، تم توحيد النصوص الموزعة على عدة نسخ متباينة، وهو عمل يتطلب دقة عالية للتأكد من أن كل كلمة، بل وكل حرف قد حُفظا بشكل صحيح لا لبس فيه.
ومع السعي نحو توحيد النص، كان لابد من اتخاذ إجراءات صارمة تجاه النُّسخ التي اُعتبرت غير صحيحة أو قد تحتوي على أخطاء. المصادر التاريخية توثق أن العديد من هذه النسخ، التي كانت تحمل اختلافات في النصوص أو أي نوع من النصوص المشابهة لقراءات غير موثوقة، اُحرقت. هذا الإجراء القاسي كان له دلالة رمزية، فإحراق هذه النسخ لم يكن مجرد وسيلة للتخلص من المواد المكتوبة، وإنما كان تعبيرًا عن ضرورة حماية أصل النص القرآني من أي تحريف أو تأويل خاطئ قد يؤثر على العقيدة الإسلامية لاحقا.
إلى جانب ذلك، يُظهر إحراق النسخ غير المعتمدة طبيعة فترة التحول التي مر بها المجتمع الإسلامي، حيث كان التركيز على الحفاظ على الهوية الإسلامية ورسوخها في مواجهة التحديات. هذا التحول لم يكن متجسدًا فقط في النصوص، بل أيضًا في كيفية فهم القراءات وتفسيرها، مما أوجد أساسًا للعلم القرآني الذي ساهم بدوره في تطوير علوم التفسير والتأويل وفق مختلف القراءات. إن النسخ المعتمدة وما تم حرقه ليست مجرد وقائع تاريخية، بل تعكس رؤية شاملة تجاه كيفية إدارة التراث الفكري والديني في ذلك الزمان، وانعكاسًا لقيم الوحدة والتماسك التي سعى إليها المجتمع الإسلامي المبكر في مرحلة حرجة من تطوره.
9.3. ما أثارته قضية حرق النسخ الأخرى من جدل
تُعتبر قضية حرق النسخ الأخرى من المسائل الحساسة والمثيرة للجدل في تاريخ القرآن وتفسيره، حيث ترافق ذلك مع جهود جمع النص القرآني تحت إشراف الخليفة الأول أبي بكر الصديق، الذي عُهد إليه بحفظ القرآن بعد وفاة النبي محمد، وعقب ذلك استمر الجدل حول مدى مشروعية وحكمة حرق تلك النسخ.
تتعدد الأسباب التي تم تقديمها لتبرير حرق النسخ الأخرى، ومن أبرزها الخوف من اختلاف النصوص واختلاطها، وهو ما كان سيؤدي بالتأكيد إلى تشويش المعنى الحقيقي للقرآن. خصوصا وأن عديد النسخ لم تكن تتضمن القرآن فحسب بل والتفسير والتأويل وأسباب النزل، أي تداخل النص الإلهي مع النص البشري. لذلك، تم اعتبار الاحتفاظ بالنسخ المتنوعة بمثابة تهديد لوحدة النص ونقاء وصفاء الرسالة الإلهية. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر أن هناك رغبة في الحفاظ على النص الفريد الذي جمع في مصحف واحد، كأداة لتوحيد الأمة الإسلامية، مما يفتح النقاش حول كيفية تحقيق التوازن بين التراث المكتوب والحفاظ على نقاء الرسالة الدينية بتخليصها من التفسير والتأويل المدون على الحواشي.
ومع ذلك، أثيرت الكثير من القضايا حول هذه العملية، حيث اعتُقد أن حرق النسخ قد يمس بالأصالة التاريخية للنصوص القرآنية. العديد من العلماء يرون أن هذه الخطوة لم تكن فقط تعبيرًا عن الإيمان بالمصحف الذي جمعه زيد بن ثابت، بل كانت أيضًا تأكيدًا لسلطة الدولة الإسلامية الجديدة في فرض توحيد الرسالة. خلافًا لذلك، يظل الجدل قائمًا حول الحقوق التي تمت مصادرتها من النسخ المحروقة، وما إذا كانت تعبر عن ممارسات عادية في سياق تاريخي محدد أم تعبر عن عمليات قمع للمعارف والتفسيرات المختلفة. من خلال هذا التحليل، يمكن إدراك تعقيد هذه القضية وأثرها الدائم على الفكر الإسلامي، والذي يختزل أبعاد مهمة تتعلق بالهوية الدينية، الفهم العميق للنصوص، وكيفية تطورها وانتقالها عبر الزمن.
9.4. الأسباب وراء حرق النسخ الأخرى
تعتبر حادثة حرق النسخ الأخرى من النصوص القرآنية واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في تاريخ جمع القرآن الكريم. يرتبط هذا الأمر بعدد من الأسباب التي تعكس التحولات السياسية والدينية في الفترة المبكرة من الإسلام.
أولًا، نشأت الحاجة إلى توحيد النص القرآني في سياق ظهور مجموعة من القراءات المختلفة التي قد تؤدي إلى التباين في التفسير والفهم بين المسلمين. كان هذا التباين بمثابة تهديد لوحدة الأمة الإسلامية، مما دفع بعض الخلفاء، مثل أبو بكر وعثمان، إلى اتخاذ تدابير قاسية لتقليص هذه الفروقات المتزايدة.
ثانيًا، كان يشوب تلك الفترة انقسامات عرقية ومنازعات سياسية، وهو ما أضاف أبعاداً إضافية إلى أهمية توحيد نص القرآن. فقد اعتبر بعض القادة أن وجود نسخ متعددة ومختلفة من القرآن يمكن أن يساهم في تكريس الفتن والاختلافات بين المسلمين، خصوصاً في ظل الظروف السياسية المتوترة. لذا، تم اتخاذ قرار حرق النسخ غير المعتمدة، كوسيلة لضمان عدم استخدام أي نص غير موحد كأداة للخلاف. وقد كانت هذه العملية بمثابة استجابة للأزمة التي كانت تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي للمجتمع الإسلامي.
علاوة على ذلك، فإن فكرة الحرق تمت أيضا بالتزامن مع التوجه لتعزيز سلطة الهيئة الحاكمة من خلال تأكيد وجود نص قرآني موحد. كان ذلك بمثابة رسالة رمزية إلى المجتمع الإسلامي بأن النص الذي تم الاحتفاظ به هو النص الصحيح والمعتمد، مما يسهم في تغليب قراءة معينة على أخرى. بصفة مجملة، تسلط هذه الأسباب الضوء على العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة في تلك الفترة، مما يجعل الحديث عن حرق النسخ يتجاوز الفعل الجسدي إلى انعكاسات ثقافية ودينية أعمق تظل مؤثرة في فهمنا للتراث الإسلامي.
9.5. الجدل الذي أثير حول هذه القضية
أثارت قضية حرق النسخ الأخرى من القرآن الكريم جدلاً واسعاً بين العلماء والمؤرخين، حيث تتباين الآراء حول المبررات والأبعاد المترتبة على هذه الفعلة. يرى بعض الباحثين أن عملية الحرق كانت ضرورة تفرضها حماية النص القرآني من التشويه والتضارب الذي قد يتسبب في إرباك الأمة الإسلامية. من هذه الزاوية، يُعتبر الحد من تواجد النسخ المختلفة وسيلة لتحصيل قراءة موحدة تعزز من تماسك المجتمع، إذ يُعتقد أن تعدد النسخ قد يسهل الدخول إلى انحرافات فكرية أو تفسيرية.
مع ذلك، يرى آخرون أن عملية حرق هذه النسخ كانت لها تداعيات سلبية على تنوع التراث الإسلامي. فبدلاً من تعزيز الوحدة، قد تُسهم في دفع بعض الفئات إلى اعتبار وجود تأويلات بديلة أو ممارسات دينية خارج نطاق النصوص الموحدة مشروعة. يمكن الاستدلال على ذلك من خلال المداولات الفقهية، حيث كان النقاش حول المشروعية والشرعية للنسخ التي تم حرقها يتناول قضايا تلامس مفاهيم مثل النقل، الدقة، والأمانة في حفظ التراث. تتطرق هذه الحوارات إلى مسألة هل كانت القراءات المتعددة تعبر عن اختلافات جوهرية في التأويل أو أنها تعكس فقط توجهاً تاريخياً وثقافياً محلياً؟
من زاوية أخرى، تعكس هذه القضية الصراعات السياسية والدينية التي مرت بها الأمة الإسلامية في عصورها المبكرة. فقد كانت السلطة في تلك الفترات تشعر بالقلق من أي انقسام قد يستغله الخصوم؛ لذلك، يرى بعض المعارضين لهذه العملية إمكانية أن يكون حرق نصوص مخالفة للرواية الرسمية بمثابة تعبير عن الرغبة في السيطرة وليس فقط ضمان صحة النص. كما شغل هذا الجدل العلماء لكثير من النقاشات حول التأصيل التاريخي والتطور الفقهي الذي أعقب هذه العملية في العقود والقرون التالية، والتي ساهمت في تشكيل الفكر الإسلامي الحديث. إن تحليل هذا الجدل يعطي لمحة واضحة عن العلاقات المعقدة بين النص، السلطة، والتفسير الديني، مما يجعل هذه القضية محورية لفهم تطور الفكر الإسلامي وتركيباته الثقافية والدينية، وهو مجال يظل مفتوحا للبحوث الأكاديمية المعمقة في مجال علوم القرآن.
10. التحديات التي واجهت جمع القرآن
شكل جمع القرآن الكريم تحديًا معقدًا يتجاوز مجرد كتابة النص وتوحيده. خلال الفترة التي شهدت تجميع القرآن، واجه الصحابة مجموعة من الخلافات التي كانت تؤثر على العملية بشكل كبير. كان أحد أبرز التحديات هي الخلافات بين الصحابة، حيث نشأت انقسامات حول كيفية تسجيل آيات معينة وأحكامها. هذه الخلافات لم تكن مجرد مسائل شخصية، بل تطرقت إلى مفاهيم مختلفة للنصوص، سواء من ناحية المعنى الذي يعطيه التفسير أو التأويل. على سبيل المثال، كان لكل صحابي طريقة مختلفة في حفظ النصوص، مما أدى إلى تباين في العرض والتفسير. لذا، أدت هذه الاختلافات إلى الحاجة إلى الوصول إلى صيغة موحدة تلبي احتياجات الأمة، مما استلزم توحيد الآراء حول النصوص.
علاوة على ذلك، فإن الاختلافات في القراءات كانت إحدى التحديات الرئيسة لجمع القرآن. ظهرت قراءات متعددة للنصوص نفسها، حيث اتسمت العديد من الآيات بالثغرات اللفظية والنحوية، والتي أفضت إلى مجموعة من القراءات المختلفة. كانت هذه الاختلافات ناشئة جزئيًا من تنوع اللهجات العربية في مختلف البيئات الثقافية التي عاش فيها المسلمون في ذلك الوقت. من هنا، تبلورت الحاجة إلى لجنةٍ تضم كبار الصحابة للإشراف على عملية الجمع، حيث تم أخذ هذه القراءات بعين الاعتبار والعمل على إيجاد توافق حولها. وبالرغم من أن هذه اللجنة قد استطاعت تجاوز بعض التحديات، فإن صعوبة الحفاظ على وحدة الرسالة القرآنية وسط تباين الآراء كانت قضية معقدة لم يسهل حلها، وتطلبت الكثير من الجهد والوقت.
في نهاية المطاف، يعد البحث عن تجميع القرآن في صيغته النهائية تجربة استثنائية تجسد الجهود الجماعية والتحديات التي واجهها الصحابة. ورغم الاختلافات والانقسامات، أظهرت هذه المرحلة قدرة المجتمع الإسلامي على التغلب على الصراعات من خلال الحوار والاحترام المتبادل في ظل الحرض على نقاء وصفاء الرسالة المحمدية، مما أسهم في تشكيل النص القرآني النهائي كما نعرفه اليوم.
10.1. الخلافات بين الصحابة
تعد الخلافات بين الصحابة حول جمع القرآن من أبرز التحديات التي واجهت عملية تدوين النص القرآني، حيث لم تكن هذه القضية مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل تجسيد لصراعات سياسية ونفسية عميقة ساهمت في تشكيل الفهم والوعي القرآني على مر العصور. إن تنوع الخلفيات الثقافية والقبلية للصحابة، فضلاً عن اختلاف التجارب الشخصية والمناطق الجغرافية، أضفى على الجدل حول كيفية جمع القرآن طابعاً معقداً، مما أدى إلى ظهور مواقف متباينة.
تباينت آراء الصحابة في مسألة جمع القرآن ما بين مؤيد ومعارض. فعلى سبيل المثال، كان زيد بن ثابت، الذي تولى مسؤولية تجميع القرآن في عهد الخليفة أبو بكر وعمر وعثمان، يؤكد على ضرورة توفير نص موحد لحفظ الدين. في مقابل ذلك، عارض بعض الصحابة هذا الرأي، مشيرين إلى أن النصوص المكتوبة قد تحمل أخطاءً بشرية أو تفسيرات قد تؤدي إلى إضعاف الفهم الصحيح للقرآن. ومن المعروف أن أبرز الخلافات كانت قد دارت حول مسألة إضافة أو حذف بعض الآيات، وهو ما أظهر أن الرغبة في الحفاظ على النص الأصلي كانت محاطة بالضغوط السياسية والاجتماعية.
أثر النزاع بين الصحابة في التحولات التاريخية لجمع القرآن، إذ أدى إلى تكوين لجان متخصصة وصياغة معايير صارمة لجمع النصوص. على الرغم من أن الجهود المبذولة قد نجحت في إنتاج نص موحد، إلا أن تلك الخلافات أسفرت عن اختلافات لاحقة في التفسير وفي بعض القراءات، مما يعكس الصراعات التي كانت مرآة للواقع الاجتماعي والسياسي في ذلك الزمان. بالتالي، تجسد هذه الخلافات أبعاداً غير متعلقة بمحتوى النصوص فقط، بل تمثل صراعات على الهوية والسلطة والتقاليد المجتمعية والإسلامية الناشئة، ووضعت أسساً أيديولوجية تؤثر في التفكير الديني والسياسي للأجيال اللاحقة.
10.2. الاختلافات في القراءات
تُعَدّ الاختلافات في القراءات القرآنية أحد الجوانب المحورية لفهم النص القرآني وتاريخه، إذ تُظهر كيف أن النصوص المقدسة ليست محصورة في صيغة واحدة، بل تتوزع بين أشكال متعددة تعكس التنوع والتطور في الممارسة الإسلامية. تتجلى هذه الاختلافات في الألفاظ، النطق، أو حتى التركيب، وقد وُثّقت في القراءات العشر المشهورة، التي تشمل اختيارات معينة من القراء المختلفين مثل نافع، وحفص، وورش، وغيرهم. تساهم هذه القراءات في توضيح المعاني وإثرائها، مما يتيح للباحثين والمتدبرين إمكانية فهم النصوص من زوايا متعددة.
تمتد جذور هذه الاختلافات إلى العوامل الثقافية، اللغوية، والتاريخية التي طورتها بيئات القراء المختلفة. على سبيل المثال، تطرقت مجتمعات مثل الكوفة والبصرة ومكة إلى تفسير القرآن بطرق مختلفة، مما أسهم في إغناء النص من خلال تعددية التعبير. وفي بعض الحالات، نجد أن هذه الاختلافات لم تُحسَب سلبًا، بل فُهِمت كجزء من غنى المحتوى القرآني. يعدّ هذا الانفتاح على الاختلافات دلالة على مرونة اللغة العربية وقدرتها على استيعاب التغيرات، مما يعكس التفاعل بين النص القرآني والواقع الاجتماعي الثقافي واللساني.
إنّ دراسة هذه القراءات ليست مجرد تحليل لغوي، بل تمتد إلى جوانب تتعلق بالمعتقدات والدلالات الروحية. إذ يمكن لكل قراءة أن تحمل دلالات ومفاهيم خاصة قد تُغفل إذا ما اعتُبر النص بصيغة واحدة فقط. وبذلك، يظهر أن هذه الاختلافات تكشف عن عمق النص الديني، مما يسمح للدارسين بالتفاعل مع النصوص بصورة أكثر تنوعًا وشمولية. وباختصار، توفر هذه القراءات بعدًا غنياً لفهم القرآن وتعاليمه، مما يُبرز الأهمية الكبيرة للاختلافات في تشكيل الوعي الديني والثقافي للإسلام.
11. أهمية جمع القرآن في التاريخ الإسلامي
جمع القرآن يمثل حجر الزاوية في تشكيل الهوية الإسلامية وامتدادها عبر العصور. إن هذا الجهد التاريخي تم بفضل الرغبة العميقة في الحفاظ على نص القرآن الكريم وحمايته من التقلبات اللغوية والثقافية التي قد تهدد جوهر الرسالة. بعد وفاة النبي عليه السلام، برزت الحاجة إلى توحيد النص القرآني وذلك لتفادي تباين القراءات وتضارب الروايات، وهو ما تم تحقيقه تحت إشراف الخلفاء، وخاصة الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذي أطلق مشروع جمع وإعادة توحيد النصوص القرآنية في مصحف واحد. كانت هذه الخطوة حاسمة ليس فقط في ضمان الوحدة الدينية، بل أيضا في تعزيز التواصل الثقافي واللغوي بين القبائل والأمم، مما أسهم في بناء التلاحم المجتمعي.
من الملاحظ أن أهمية جمع القرآن تتخطى بعده الديني، بل تشمل أيضا التأثيرات الاجتماعية والسياسية. فقد أسهمت عملية التجميع في تعزيز الهوية الإسلامية وتعميق الانتماء بين المسلمين، مما كان له دور ملحوظ في تشكيل المجتمعات الإسلامية بعد الفتوحات. هذا لم يمنع من استمرار الجدل حول تفاسير النصوص وآليات الجمع، إلا أن الجمع الرسمي للمصحف عزز من استمرارية النص القرآني على مر العصور. إن النص الموحد لم يكن مجرد مجموعة من الكلمات، بل انتقل ليصبح مركزا للسلطة الدينية وثقافة الأمة، ردا على التحديات الفكرية والسياسية التي واجهتها.
بالإضافة إلى ذلك، تظل أهمية جمع القرآن بارزة في استمرار الحياة الثقافية والدينية للمسلمين. فقد أسهمت الصيغ المختلفة للقراءة والتفسير في إثراء التفاعل الفكري والثقافي عبر العصور. إن التقدير المستمر للقيمة الروحية والمعنوية للقرآن كمرجع أساسي للمسلمين يعكس التأثير الذي أحدثه الجمع، وبالتالي فإن فهم هذا المسار التاريخي يعكس تأثيره في تشكيل الفكر الإسلامي وتطويره.
11.1. تأثير الجمع على الأمة الإسلامية
جمع القرآن الكريم، كعملية تاريخية معقدة، ترك أثراً عميقاً على الأمة الإسلامية في مختلف جوانبها، بدءاً من الهوية الثقافية مروراً بالنظام الاجتماعي وانتهاءً بالتوجهات السياسية. لقد أدى تنظيم النصوص القرآنية وتجميعها في مصحف واحد وموحد إلى تعزيز الوحدة بين المسلمين، فالعلاقة بين النص وكُتّابه خلقت نموذجاً مشتركاً يجمع الأمة تحت لواء عقيدة واحدة في زمنٍ كانت فيه الفروق العرقية والقبلية طاغية. من خلال بلورة الشكل النهائي للقرآن، تعززت فكرة الثبات الروحي والأخلاقي، حيث أصبح النص القرآني معياراً يقيس سلوك الأفراد والمجتمعات.
فضلاً عن تأثيراته على الهوية، ساهم جمع القرآن في تشكيل الإطار الفكري للعلم والدين. بوجود نصٍ موحد، تمكّن العلماء والمفسرون من طرح رؤى متنوعة حول الكتاب بطرق أكاديمية ومنهجية. هذه الظاهرة لم تنتج علوم الفقه والتفسير فحسب، بل شملت أيضاً العديد من المعارف. إذ أدى تركيز الجهود الفكرية حول النص القرآني إلى ظهور مدارس فكرية متنوعة، مما أغنى الساحة الثقافية الإسلامية وأباح للعلماء إدخال عناصر جديدة إلى النقاشات التقليدية. وليس من المبالغة القول إن هذا التنوع قد ساهم بشكل خلاق في إنتاج تنمية فكرية أوسع، جعلت من الثقافة الإسلامية واحدة من أكثر الثقافات حيوية في التاريخ الإنساني.
على الصعيد السياسي، فإن وحدة القرآن كانت لها تأثيرات مهمة أيضاً. تعززت سلطة الدولة الإسلامية بفضل النص المقدس، حيث اعتُبِر القرآن مرجعية للسياسات العامة والأخلاقية، مما أدى إلى تطلعات نحو الشمولية والعدالة. فرضت هذه الوحدة المعيارية إمكانية الخلافة الشرعية المستندة إلى تأويل النص، ما جعل الحاكمية بمجملها تستند إلى إرادة الله كما أوضحها القرآن. لذلك، يُعَد جمع القرآن حافزاً للنمو والتماسك الاجتماعي والسياسي، وأسهم بدور جوهري في بناء أمة قادرة على مواجهة التحديات، بل وتقديم رؤى جديدة تتماشى مع متطلبات كل عصر.
11.2. استمرارية القرآن عبر العصور
استمرارية القرآن عبر العصور تعكس عمق تأثيره على مختلف جوانب الحياة الإسلامية، بدءًا من العصور المبكرة إلى العصر الحديث. منذ أن تم جمع القرآن خلال فترة الخلفاء، تم تكريس جهود كبيرة للمحافظة على نصه، مما أتاح له الثبات في مواجهة التحديات السياسية والاجتماعية. أظهرت الحقائق التاريخية أن محاولات التغيير أو التحريف في النص القرآني كانت مستحيلة، بفضل وجود لجان تدقيق وتحقيق في العصور الإسلامية المبكرة التي ضمنت دقة التدوين واستمراريته. تطورت هذه الجهود لتنتهي بإعداد نسخة نهائية موحدة، تمثلت في مصحف عثمان، الذي كان له الفضل في تجنب التباين النصي بين المجتمعات الإسلامية.
تطورت طرق الحِفاظ على القرآن لما يتناسب مع العصور المختلفة، فقد تم التكيّف مع تقنيات جديدة في الطباعة والنشر، مما ساهم في توسيع نطاق قراءة القرآن وتعليم أحكامه. في العصور الوسطى، قاد الشعور بالتديّن الرائج إلى إنشاء مؤسسات تعليمية مثل المدارس الإسلامية والكتاتيب والمدارس القرآنية التي كانت تهدف إلى تعليم النص وتعزيز الحفظ. أما في القرون الحديثة، فإن عمليات تدقيق النسخ والترجمات المختلفة للقرآن أصدرت نسخا لتعاليمه بلغات مختلفة، مما سهّل استيعابه من قبل أعداد متزايدة من غير الناطقين بالعربية عبر العالم.
علاوة على ذلك، فإن الاستمرارية التي يشهدها القرآن عبر العصور تتواصل في الاستخدام اليومي داخل المجتمعات الإسلامية، حيث يمثل جزءًا أساسيا من الطقوس التعبدية اليومية. تتزايد الالتزامات للمحافظة على النص من خلال المؤسسات التعليمية والدراسات الأكاديمية المعمّقة للقرآن، مما يبرز عزم الأمة الإسلامية على تربية الأجيال القادمة على مبادئه وقيمه. في هذا السياق، تلعب التقنيات المعاصرة، مثل البرامج الرقمية والتطبيقات، دورًا محوريًا في تسهيل الوصول إلى النصوص والأحكام، مما يضمن استمرار تأثير القرآن وثباته كمنبع لا يَجفّ للمعرفة الدينية، وكمكوّن ثقافي مركزي في الحياة الإسلامية المعاصرة.
12. استنتاجات حول جمع القرآن
تطرح استنتاجات حول جمع القرآن مجموعة من الأفكار المعقدة التي تساعد على تنوير الفهم حول عملية التأليف والنقل المتبعة في مختلف مراحل جمع النص القرآني. يُظهر التحليل التاريخي والموضوعي لعملية جمع القرآن أن هذا الجهد متجذر في سياق ديني وثقافي واسع النطاق. كانت تلك العملية تتسم بانضباط ودقة، تتطلب التحقق من النصوص التي تختلف أحياناً إما بسبب طرق النقل الشفوي أو اختلافات الكتابة. من هنا، يتضح أن الهدف من جمع القرآن كان تشكيل نص موحد يمكن الاعتماد عليه كمرجعية دينية أساسية للمجتمع الإسلامي.
بالاستناد إلى ما ورد في السير والتراث حول ممارسات الصحابة، يمكن الإفادة بأن جمع القرآن لم يكن مجرد عملية ميكانيكية، بل كانت عملية معقّدة مفعمة بالتفاعل البشري والنقاشات المختلفة حول مصداقية النصوص. تُمثّل الشروط التي وُضعت لاختيار الآيات والسور، مثل استمرارية النقل والخبرة في الكتابة بصفة عامة، جهداً جماعياً جبّارا يعكس الالتزام بالدقة والاهتمام الكبير بالرسالة الإلهية لما لذلك من علاقة بالإيمان. على ضوء ذلك، يتبين أن جمع القرآن يمثل أكثر من مجرد تجميع لنصوص دينية، بل هو تكوين لجهة متوازنة تضمن تفعيل المبادئ الإسلامية وتعزيز وحدة الأمة.
التحليل المعمق لهذه العملية، يُظهر جمع القرآن كعملية تاريخية مركبة يعكس نجاحها تفاعلًا مثيرًا بين النص المقدس، القيم الاجتماعية، والممارسات السياسية والثقافية التي دار حولها الإسلام في تلك المرحلة المبكرة. وعلى الرغم من أن الأبعاد السياسية ربما ترافق بعض جوانب هذا الجهد التنظيمي، إلا أن التوجه السائد كان هو الحفاظ على أصالة الرسالة ووضوحها من منطلق إيماني بحث. ومن ثم، يعكس جمع القرآن حالة من الوضوح والنظام في فهم النصوص الدينية، مما يهيئ للأجيال القادمة أساسًا يمكن من خلاله التفاعل مع جوهر الدعوة الإسلامية بشكل يعكس العمق الروحي والفكري لهذا الدين.
13. خلاصة لا بد منها
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن على ضوء ما سبق ذكره حول الجدل الذي أثير بمناسبة جمع وترتيب القرآن الكريم بعد وفاة الرسول عليه السلام هو:
• إذا كان المسلمون، بمختلف مشاربهم وتياراتهم ومدارسهم ومذاهبهم وفرقهم، قد أجمعوا على أن مصحف عثمان وفق الترتيب المعتمد يعتبر النسخة النهائية للقرآن الكريم كما تلقاه الرسول الأعظم عن ربه كاملا غير منقوص، وأقرأه إياه جبريل عليه السلام مرتين في آخر رمضان من عمره الشريف، وهو ذات الترتيب الذي أقرّه القرّاء والحفّاظ من بعده، وسلّم به المؤمنون عبر العصور والدهور لاعتقادهم الراسخ أن الله تعالى بعد جمعه وترتيبه وتلقين الرسول الكريم طريقة قراءته، تكفّل بحفظه من التحريف والتزوير والتحوير.. فلماذا العودة لإثارة هذا الجدل العقيم من جديد؟
الحقيقة أن من أعاد إحياء هذا الجدل القديم، ليسوا المستشرقين الذين يئسوا من وجود ثغرة ينفذون منها للتشكيك في أن القرآن الكريم ليس كلام الله بل كلام محمد، بل بعض كبار الباحثين المسلمين المحسوبين على التيار الحداثي، الذين أعادوا طرح ما يعتبرونه أسئلة جوهرية ومنهجية لم يجب عنها التاريخ الإسلامي بالشكل المطلوب. ونقصد بذلك، عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، ومحمد أركون على سبيل المثال لا الحصر.
فعبد الله العروي مثلا، لم يشكك في أن القرآن هو كلام الله، لكنه اعتبر أن الطريقة التي تم جمعه بها كان الهدف منها خدمة مصلحة نبلاء قريش، وفق ما ذكره في مؤلفه (السنة والإصلاح). ولأنه لا يمكن فهم الخطاب من دون معرفة صاحبه، فإن العروي، وباعتباره أستاذ جامعي، باحث أكاديمي مرموق، وصاحب باع طويل في مجال التاريخ والإيديولوجيا، يصنفه البعض في مرتبة "العالم"، وله مؤلفات عديدة في هذين المجالين، لا يمكن أن يصدر في أطروحاته إلا عن الهوس الذي يحرّكه النقد التاريخي للحوادث من خلال دراسة الوثيقة الشاهد، والتي قد تكون مخطوطا، أو آثارا، أو نقوشا، أو أمثالا.
ولأنه لا يوجد تعريف محدد مجمع عليه لمفهوم التاريخ، ولا منهجية علمية نهائية متفق عليها في دراسته، فقد صال وجال الرجل بحثا وتمحيصا في مختلف المذاهب التاريخية الإسلامية والغربية على حد سواء، وركّز في نقده على عديد النظريات التي تعنى بفلسفة التاريخ، ومنها نظريات ابن خلدون التي يكثر من الاستشهاد بها في كتاباته، لكنه لم يخرج بنظرية جديدة تساعده على تأصيل مقولته تلك تأصيلا علميا يمكن القبول به، وكل ما حاول الاستناد إليه في خلاصاته هو تأثير العامل السياسي والعامل الاجتماعي بل والجغرافي أيضا في عملية الجمع، فخلط بينهما وبين العامل الديني، ليخلص إلى القول بأن ترتيب القرآن تم بطريقة تخدم مصلحة نبلاء قريش، هذا علما أن المحرك الأساس الذي كان وراء عملية الجمع في تلك المرحلة المبكرة من التاريخ الإسلامي، هو الوازع الديني لا السياسي نظرا لما تركه رحيل الرسول الكريم عليه السلام من فراغ على المستوى الروحي من جهة، ونظرا لطبيعة النص وقداسته ومكانته في قلوب المؤمنين من جهة ثانية، وعدم وجود ما ينافسه من نصوص دينية موازية يمكن التأسيس عليها – كما هو الحال مع تعدد واختلاف الأناجيل - للقول بأن جمع وترتيب القرآن تم بشكل توفيقي من نبلاء قريش لا بشكل توقيفي من الله من جهة ثالثة.
هذا الكلام لا يعني أن الخطاب القرآني حسب المنهج التاريخي، هو عبارة عن نص ثقافي له وطن نشأ وتطور فيه وتأثر بالتالي ببيئته وأحوال أهله والأجيال التي تعاقبت على جغرافيته كما يزعم أصحاب المنهج التاريخي والتاريخاني، ما دام هذا المنهج وُضع أساسا لدراسة النص البشري لا النص الإلهي المتعالي، خصوصا وأن التاريخانية ترفض التعاطي مع كل ما هو غيبي وما ورائي فتصنفه في خانة الخرافي والأسطوري.
كما أنه لا يمكن تطبيق نظرية ابن خلدون القائلة بـ "توطين النص" على القرآن لتصنيفه في خانة المنتج الثقافي، لأن النص الإلهي بما يتضمنه من حقائق مطلقة بالنسبة للمؤمنين به، يعتبر مرجعا منتجا للثقافة التي تتطور من جيل لآخر بحكم ظروف المكان والزمان وأحوال معاش الناس، لقول ابن خلدون: "أعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش". وهو القول الذي استند عليه عبد الله العروي في كتابه (مفهوم التاريخ – الجزء الثاني – ص: 252) للجواب عن سؤال "الإسلام بين السماء والأرض"، ليخلص إلى أن معرفة نشأة الإسلام تستوجب تحديد الوطن الذي ظهر فيه الحدث، وهو بخلاف مفهوم الإسلام عامّة، لإن الإسلام كتراث وحضارة وسلوك وفن...إلخ، انتشر في أماكن جغرافية مختلفة بسبب الفتوحات. وتوطين النص القرآني وفق المنهج التاريخاني يعني تقييده بمرحلة النشأة والتكوين في الحيّز الجغرافي الذي ظهر فيه – أي شبه الجزيرة العربية أو البيئة الصحراوية البدائية - ما يحوّله إلى منتج ثقافي وليد بيئته، وينزع عنه بالتالي الطابع الكوني المتعالي الذي يميّزه.
وإذا كان من المُسَلَّمِ به في علم التاريخ بمختلف مذاهبه، أنه ومنذ عصر التدوين، والإحساس قويّ بأنه لا يمكن فصل الوقائع عن مواطنها، وهذا صحيح نظريا، ما دام الخبر يشير في آن إلى الإنسان وإلى موطنه كما تؤكد ذلك نظرية الحتمية التاريخية التي تقول بسلطة العامل الجغرافي في التاريخ.. فإن المغالطة هنا تكمن في أن النص القرآني ليس نصا بشريا وليد ببيئة معينة، بدليل أن القرآن الكريم لا يقتصر في القصص مثلا، على ذكر وقائع تاريخية حصريّة حدثت في رقعة جغرافية محدّدة هي شبه الجزيرة العربية التي نزل فيها القرآن، لأن القرآن ليس نصا تاريخيا وإن كان يسرد بعض الحادثات الكبرى التي وقعت في مناطق جغرافية عديدة ومختلفة من باب الذكرى والموعظة ليس إلاّ، ما دام أنه لا يعنى بالكرونولجيا التاريخية في ترتيب الحوادث من قريب أو بعيد، ولا يقتصر على التاريخ البشري بمفهوم الزمن الأرضي، بل يتجاوزه إلى التاريخ الكوني، وصولا إلى التاريخ القدساني في عالم الذر قبل الخلق، ويتحدث عن البعد الغائي الذي هو البعث والقيامة بصيغة الماضي وكأنه حدث وانقضى بمفهوم الزمن الدائري النسبي من باب تقريب الأفهام للعقول، وأن ما يعيشه الإنسان هو مجرد ذكرى لهذه الحادثات مجتمعة من خارج عامل الزمكان الوهمي الذي لا وجود له في المدى اللامتناهي. وبذلك يستحيل التعامل مع القرآن بمنهجية التاريخ ومنطق المؤرخ، وهو العمل الذي حاول القيام به عديد المستشرقين لربط النص المقدس بالظروف الزمكانية التي نشأ فيها ففشلوا فشا ذريعا، بخلاف نصوص التوراة والإنجيل التي هي عبارة عن سرد تاريخي لقصة موسى وقصة عيسى عليهما السلام كتبها الأحبار والكهنة، ولا تعتبر بالتالي كلام الله.
وإذا كان ابن خلدون كما خلص إلى ذلك العديد من دارسي نظرياته، يميل فعلا إلى الإيمان بحتمية العامل الجغرافي في دراسة أحوال الناس ومعاشهم، فيقول أن ثقافة الأمم تخضع لتأثير البيئة التي نشأت وتطورت فيها، وهي النظرية التي أخذت بها المدرسة الفرنسية من خلال سيسيولوجيا دوركهيم التي كانت تقول بحتمية الاتجاه التاريخي، ثم طورتها المدرسة الألمانية من خلال ماكس فيبر الذي أسقط نظرية الحتمية بأخرى تقول بسيسيولوجيا نسبانية، ثم ظهرت في فرنسا مدرسة جديدة احتمالية تقول بالتأثير المتبادل بين الإنسان والبيئة، بمعنى أن البيئة تزود الإنسان بعدة ممكنات، والإنسان هو الذي يحقق باختياره واحدة منها.. فإن ابن خلدون من جهته، لم يقل بأن نظريته تنطبق على النص المقدس، بل طرحها في معرض حديثه عن التاريخ الاجتماعي العربي والإسلامي بوجه عام، وفي هذا المجال (أي المجال الاجتماعي)، يفقد العامل الجغرافي حتميته، وتتخذ سنن الله في الخلق أبعادا كونيّة مطلقة تتكرر في كل زمان ومكان وإن بأشكال متفاوتة ومظاهر مختلفة، لكن الأسباب – أو السنن - تظل هي نفسها دون تغيير، كما أن النتائج لا تتبدّل من حيث الجوهر بل فقط من حيث الشكل، ما يجعلها تأخذ طابع الحتمية التاريخية لأنها مقيدة بقوانين إلهية تخضع لإرادة الله ومشيئته. وبهذا المعنى، يكون الله هو صانع التاريخ في النهاية.
وهذا يقودنا لخلاصة غاية في الأهمية قال بها عالم التاريخ غوبينو: "ليس التاريخ من عمل الجماعات أو الأفراد بل من عمل الطبيعة"، وإذا كانت الطبيعة بمفهوم فولتير ونتشه هي الله، فإن غوبينو يتحدث هنا عن الطبيعة كقوة فاعلة في التاريخ. ليحسم الجدل فرانسوا جاكوب الذي كان أكثر دقة في التعبير عن الشاهدة (الواقعة أو الحادثة التاريخية)، باعتبارها ليست شاهدة تاريخية فحسب، بل شاهدة جسيمة حصلت من خارج إرادة البشر، فيقول في هذا الصدد: "إن الرسالة الوراثية، بسبب تركيبها الذاتي، لا تترك أي فرصة لأي تدخل مخطّط من الخارج". وهذا يعني بالمفهوم العلمي تحكم العامل البيولوجي في تصرفات الإنسان، ويعني بالمفهوم الديني خضوع فطرة الإنسان لإرادة الله ومشيئته، لأن كل الأعمال بالنهاية هي من خلق الله تعالى دون سواه لقوله في محكم التنزيل: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات: 96.
أما من الناحية الكرونولوجية المتعلقة بعملية جمع القرآن، فقد سبق معنا القول، أن هذا الجمع قد مر بمراحل ثلاثة زمن الخلافة. وأنه خلال هذه المراحل كلف الخلفاء القراء من الأنصار لجمع القرآن الكريم، وتساءلنا في حينه عن السبب في إقصاء الخلفاء الذين هم أصلا من المهاجرين لإخوانهم الذين هاجروا معهم من مكة إلى المدينة من عمليات الجمع، مع أن المهاجرين شهدوا مرحلة التنزيل بمكة المكرمة لمدة 13 سنة، وبالتالي، فإذا كان "نبلاء قريش" – كما يصفهم العروي – هم من بين من هاجروا مع الرسول عليه السلام إلى المدينة، وهم من استلموا السلطة السياسية بعد وفاته، أقول: إذا كان هؤلاء الخلفاء لم يحتكروا عمليات جمع القرآن الكريم من خلال التدخل فيها، بل كلفوا بها حصريا إخوانهم الأنصار، فكيف يمكن أن يخدم ذلك مصلحة نبلاء قريش السياسة كما زعم عبد الله العروي؟ .. هذا السؤال لا نجد له جوابا عنده.
من جهة أخرى، فإن مثل هذا الادعاء كان من الممكن أن يكون له ما يبرره في حال كانت هناك نصوصا قرآنية مُختلفٌ عليها بين الأطراف، كما حدث مع العهد الجديد، الذي تحوّل إلى 7 أناجيل مختلفة، اعترفت الكنيسة بأربعة منها فقط، بالرغم من الاختلافات الجوهرية القائمة بينها لجهة تعريف طبيعة المسيح عليه السلام، بين من تصفه بأنه الله، ومن تصفه بأنه ابن الله، ومن تعتبره بأنه ابن الإنسان. هذا في حين أن مرحلة ما بعد وفاة الرسول عليه السلام لم يعرف المسلمون مثل هذه الظاهرة، لأن مصاحف الصحابة وإن كانت نتاج مبادرات فردية حرصا على جمع القرآن الكريم بين دفتي إمام واحد، إلا أنه لا يمكن الحديث عن وجود اختلافات على مستوى نصوص الآيات إلا لجهة النطق ببعض الحروف أو التقديم والتأخير للبعض الآخر كما سبق تفصيل ذلك في معرض الحديث عن مصاحف الصحابة. وبالتالي، هذا الإجماع الذي حدث حول ترتيب آيات وسور القرآن الكريم لم يعرف له التاريخ الديني البشري نظيرا.
مما سلف، يتبيّن أن كل ما أثير من نقد حول مصحف عثمان الذي أجمعت عليه الأمة بمختلف تياراتها ومذاهبها وفرقها ومدارسها قديما وحديثا، لا أساس له من الصحة، بقدر ما يهدف إلى التشكيك في كتاب الله. وإذا كان الله يؤكد في قرآنه أنه تكفل شخصيا بجمعه وترتيبه وقرآنه وحفظه، فإن كل من حاولوا تفكيك النص المقدس بمعول النقد التاريخاني، سواء من المستشرقين أو الباحثين الحداثيين، اصطدموا بحائط مسدود ولم يخرجوا بنتيجة تذكر برغم استعانتهم بعديد المناهج المُسمّاة "علميّة".
ونأتي لمقولة محمد عبد الجابري الذي اعتبر في البداية أن المسلمين يقرؤون القرآن بالمقلوب، لأنه وفق رأيه، كان يُفترض أن يتم جمع القرآن الكريم وفق ترتيب النزول من المكي إلى المدني. لكن الرجل عندما حاول البحث في هذه الإشكالية، مستندا إلى القوائم التي وضعها المستشرقون وغيرهم من فقهاء المسلمين، اصطدم بحقيقة تقول، أنه من الاستحالة بمكان إضفاء المصداقية والصحة على اللوائح التي تتضمن جميع سور القرآن الكريم مرتبة حسب أسباب النزول، نظرا للاختلافات الكبيرة القائمة بينها، خصوصا فيما له علاقة بتمييز السور المكية عن المدنية وتداخل الآيات في كل منهما. بالإضافة إلى صعوبة أخرى أثارها ابن عاشور في مؤلفه (تفسير التنوير والتحبير – في شرحه لسورة آل عمران)، حول وجود تداخل بين السور أثناء النزول، وقوله بإمكانية أن تكون عدة سور متزامنة النزول، ناهيك عن تداخل الآيات المكية في المدنية واستحالة الفصل بينها وفق معيار التحقيب الزّمكاني.
وقد لاحظ الجابري في معرض بحثه حول الموضوع، والذي ضمّنه في مؤلفه (مدخل إلى القرآن الكريم – الجزء الأول – ص: 230)، أن ما يطبع الروايات التي يمكن الاستعانة بها في هذا الشأن هو الاختلاف إلى حد التناقض. وهذا راجع وفق قوله: "ليس فقط إلى اختلاف المصدر الذي يعتمده هذا الراوي أو ذاك، بل أيضا إلى كون من خاضوا في هذا الموضوع من الرواة، خصوصا المهتمين منهم بأسباب النزول، قد بالغوا في البحث لكل آية عن سبب لنزولها، إلى الدرجة التي يتولّد معها في ذهن الباحث أن بعضهم كان مهتما ليس فقط بالنازلة التي نزلت فيها هذه الآية أو تلك، بل أيضا بالبحث لكل آية عن نازلة يمكن ربطها بها"، ليخلص إلى القول في النهاية، أن مثل هذه النزعة التجزيئية تمس بعمق مسألة المصداقية، ومن ثم يخلص إلى ضرورة ربط فهمنا للقرآن الكريم بوقائع السيرة النبوية. لكن السؤال الذي يطرح في هذا الصدد هو:
• هل قيّد الله القرآن بسيرة الرسول الخاتم عليه السلام؟.. هذا كلام لا يقول به عاقل.
• ثم هل السيرة النبوية نفسها تم توثيقها بشكل متفق عليه بين الرواة والمخبرين؟.. هذا سؤال معقّد آخر لا يسع المجال للخوض فيه هنا.
لقد كان الجابري مسكونا بهاجس البحث عمّا أسماه "المسار التكويني" للقرآن الكريم، متأثرا بالمنهج الإستشراقي الذي حاول فهرسة القرآن وفق مسار "النشأة والتكوين"، لكن خضوع مصاحف الصحابة الأربعة لنفس الترتيب المعتمد في مصحف عثمان، لم يساعده في الخروج بجديد في هذا الباب، كما أن اختلاف الروايات حو أسباب النزول وتضاربها، جعلته لا يأخذ بها لافتقارها للمصداقية العلمية، الأمر الذي دفعه للبحث فيما وصل إليه المستشرقون في هذا المجال من نتائج.
وقد لاحظ أن المستشرقين اهتموا بهذا الشأن منذ منتصف القرن التاسع عشر، وكان هدفهم بناء تصور موضوعي لتطور الوحي والتعرف على الجانب الروحي من السيرة النبوية. لكنهم اصطدموا بتضارب المراجع وتناقضها فعدلوا عن ذلك. ويعتبر المستشرق الأماني "نولدكه" أشهر من اشتغل على هذا الموضوع، مستفيدا من أعمال سابقيه، وخرج بما اعتبره "معايير موضوعية" لترتيب القرآن الكريم حسب أسباب النزول ولخصها في معيارين أساسين:
- معيار الإشارات التي تحيل في القرآن إلى وقائع تاريخية، مع ملاحظة أن السور المكية لا تقدم نتائج تذكر في هذا الباب إلا ما له علاقة بالحقب التي مر منها التبشير من السر إلى العلن، ومن الخاصة إلى العامة. والمعضلة تبرز هنا بشكل أكثر حدة عند تناول السور المدنية التي تحتوي على كثير من الآيات التي تشير إلى حوادث قديمة وقعت قبل نزولها، وأخرى لاحقة تحدث عنها القرآن قبل وقوعها، الأمر الذي طرح استحالة عملية التحقيب التاريخي.
- معيار خصائص النص القرآني نفسه، خصوصا ما يتعلق بالفرق بين السور المكية والسور المدنية، لجهة الأسلوب أو الموضوعات التي تطرحها.
وعلى أساس هذين المعيارين وضع نولدكه ترتيبا للقرآن حسب أسباب النزول، وهو الترتيب الذي تبناه، على علاّته، المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير في الطبعة الأولى من ترجمة معاني القرآن مع تعديلات طفيفة.
وخلاصة القول، أن مثل هذا الترتيب لم يأتي بجديد يذكر، ما دام قد سبق إليه عديد المؤلفين المسلمين قديما، كما أن كتب السيرة تقدم من الأحداث والاجتهادات ما يغني هذا المجال، مع مراعاة الاختلافات القائمة لجهة تطابق الدال والمدلول أو المعنى والمصداق، ما يجعل مثل هذا العمل يتخذ طابعا عبثيا لا جدوى منه. وهو ما جعل نولدكه في آخر المطاف يعدل عن رأيه في الطبعات اللاحقة لكتابه "ترجمة معاني القرآن"، فعاد إلى الترتيب المعمول به في مصحف عثمان.
هذا ما خلص إليه محمد عابد الجابري في بحثه أيضا، فعدل عن رأيه، واعتمد هو بدوره على نفس ترتيب مصحف عثمان فيما أسماه بـ "التفسير الموضوعي لسور القرآن" في محاولة للوقوف على المعنى العام للسورة بدل المعاني الجزئية للآيات مع الأخذ باختلاف السياقات التي وردت فيها. وهذا بدوره عمل لا يقدم جديدا يختلف عما سبق وأن قيل في هذا المضمار من قبل من اعتمدوا المعيار الموضوعي في التفسير، لأن القرآن لا يمكن تفسير سورة منه بمعزل عن الأخرى، ما دامت بعض الوقائع تتكرر في أكثر من آية وسورة وبسياقات مختلفة، وبالتالي، لا يمكن فهمها إلا في إطار القرآن كله وذلك من خلال التركيز على سياقات الآيات التي وردت فيها الأسماء والوقائع، وهو ما أشار إليه الرسول عليه السلام بقوله: (القرآن يُفسّر بعضه بعضا) لمن أراد أن تكتمل لديه الصورة، لا أن يفسر السورة ويزعم أنه يستطيع الوصول من خلالها إلى المعنى الموضوعي العام الذي تعالجه.
ممّا سبق طرحه في هذا البحث مختصرا، نستطيع القول بكل ثقة، أن فشل الرواة والمؤرخين والباحثين المسلمين والمستشرقين قديما وحديثا في ترتيب القرآن حسب أسباب النزول، يحرر النص المقدس من سلطة التاريخ وعامل التوطين، ويجعله نصا مقدسا ومتعاليا مهيمنا على التاريخ، وذلك لعمري وجه من أوجه الإعجاز الذي لم يدركه من سعو لتقويض مصداقيته من مدخل العامل التاريخي والتاريخاني، جاهلين أن آيات القرآن تشبه النجوم في السماء، ومن لا يفقه قراءة مواقع النجوم التي أقسم بها تعالى، لا يستطيع فهم دلالات الخطاب والمقصود به بلغة الرمز والإشارة بدل صريح العبارة.
ونأتي في الختام إلى ما قاله محمد أركون الذي يفضل تسمية القرآن الكريم بــ "خطاب النبي" أو "خطاب محمد"، ويرفض أن يعتبره نصا مقدسا متعاليا ومهيمنا على التاريخ، لأنه لا يتفق مع الطريقة التي تم بها جمع القرآن زمن عثمان وتدمير النسخ الأربعة الأخرى، وبالتالي، يفضل التعامل مع المصحف كما تعامل نظراؤه في الغرب مع التوراة والأناجيل دون مراعاة للفرق القائم في الحالتين بين كلام الله وكلام البشر، وينصح الباحثين في التراث الإسلامي بتطبيق المنهج الأركيولوجي على فترة نزول القرآن والفترات التي تلتها، لاكتشاف الدور الكبير والخطير الذي لعبه الخيال والتقديس في تشكيل العقل الخرافي العربي والإسلامي، ليخلص إلى أن ما خلصت إليه الباحثة الفرنسية جاكلين شابي، التي طبّقَت منهجًا صارمًا في بحثها يتمثّل في إعادة قراءة المفردات القرآنيّة الأصليّة على ضوء "الأنثروبولوجيا التاريخيّة"، لتخلص إلى أن الإيمان مر من الإيمان بالله في مرحلة النبوة إلى الإيمان بالدولة انطلاقا من العهد الأموي زمن معاوية وما بعده. وهي النظرية التي قال بها ابن خلدون أيضا في مقدمته، حيث خلص من دراسته لتاريخ الشعوب والحضارات، إلى أن: "الناس على دين ملوكها"، في إشارة إلى العامة.
والحقيقة أن ما دعا إليه أركون قد سبقه إلى تطبيقه تيودور نولدكه سنة 1859، والذي انتهت به حفرياته حول القرآن إلى خلاصة ضمنها في كتابه "تاريخ القرآن"، ومفادها، أن الطريقة التاريخانية النقدية لا تجدي نفعا ولا تؤدي إلى نتيجة تذكر مع القرآن، لأنها تتعامل معه كما تتعامل مع المخطوطات البشرية التي تتميز بتعددها وآلياتها وقدمها ودقتها، واستعمال النسخ المختلفة يهدف إلى الوصول إلى نص محقق أقرب إلى النص الأصلي الذي كتبه المؤلف، وهو ما لا ينطبق على القرآن الذي هو في الأساس النص الأصلي الوحيد الذي تناقلته الأجيال الأولى حفظا بالتواتر مع بعض الاختلافات البسيطة لجهة النطق، ولم يعارض أحد من المسلمين، وخصوصا القراء والحفظة الأوائل الذي عايشوا مرحلة التنزيل، ما تم تدوينه في مصحف عثمان لا شكلا ولا مضمونا، بحيث حصل للقرآن إجماع لم تحظى به الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل. ومن ثم اعتبر نولدكه محاولة القراءة التاريخانية النقدية للقرآن مجرد خطل، لأن النص القرآني يعود إلى القرن السابع الميلادي، وهو نص واحد لا ينافسه نص آخر كما حدث مع الكتب السماوية الأخرى، وليس فيه أو له أصول وفروع مثل التوراة مثلا. وقد تخلى كل الباحثين المستشرقين عن عملية الحفر الأركيولوجي هذه بعد أن انتهوا إلى ما انتهى إليه نولدكه، ومنهم: أوتو برتزل، وآرثر جفري، ثم بلاشير، فبارت بعد ذلك، وحذى حذوهما محمد عابد الجابري الذي تراجع في الأخير عن قوله "إن المسلمين يقرؤون القرآن بالمقلوب".
إن استحالة الترتيب حسب أسباب النزول تعود لكون ثمانية أعشار آيات القرآن الكريم (80 في المائة) ليست لها أسباب نزول معلومة، كما أن القسم الأكبر ممّا ذكر عن أسباب النزول في التفاسير مختلق ومشكوك في صحته، وقد وقع عليه اختلاف كبير بين المفسرين، لعدم ملاءمته لمنطوق النص ومقاصد الرسالة، وهذا الاختلاق وفق ما خلص إليه بسام الجمل في دراسته (علم التنزيل – المؤسسة العربية للتحديث الفكري والمركز الثقافي العربي 2005)، كانت وراءه دواع سياسية ومذهبية وبيئية وثقافية زمن بني أمية وبني العبّاس، حتى قد تكون لعقد صلة بين آيات المصحف وما شاع من اخبار سيرة الرسول ومغازيه انطلاقاً من مجالس القصاص والإخباريين. ولا نستبعد أن عبد الله العروي قد يكون استند إلى هذه التناقضات التي يزخر بها التراث حول أسباب النزول، للقول بأن القرآن تم ترتيبه بطريقة تخدم مصلحة نبلاء قريش.
فابن عباس مثلاً، والذي استأثر برواية أكثر من ثلثي المرويات لا يعتبر شاهداً حقيقياً على مرحلة الوحي، وفي هذا الصدد يتساءل بسام الجمل في المرجع السابق فيقول: "كيف لابن عباس - وهو في سن الثانية عشرة عند وفاة الرسول (ص) - أن يكون صحابياً بالمعنى الدقيق للصحبة وشاهداً موثوقاً به على احداث فترة الوحي؟ ثم من يجرؤ في ظل الدولة العباسية على تكذيب جد الخلفاء العباسيين او التشكيك في سلامة رأيه؟". هذا علما ان جل التابعين من رواة الاخبار في زمانه كانوا من الموالي، ومن المعروف ان مناهضة بني أمية للموالي سيدفع بالعديد منهم الى الرغبة في التفوق على العرب في الميادين التي كانوا يترفّعون عنها، ومنها مجال العلوم عموماً كعلوم الدين واللغة وغيرها بما في ذلك الفلسفة والعلوم الطبيعية والكونية. وبالتالي، فكل محاولة لتطبيق نظرية التوطين التاريخي على القرآن الكريم استنادا إلى أسباب النزول لم ولن تأتي بنتيجة تذكر.
ومرد دعوة أركون لتطبيق المنهج الأركيولوجي (الحفريات) على القرآن الذي سبق وأن اعترف مستشرقون كبار بعبثيّته، يعود لرغبته في اكتشاف أوجه الاختلاف بين مصحف عثمان والمصاحف المفقودة، ويقصد بذلك المصاحف الأربعة التي كانت تتداول في مختلف أرجاء البلاد الإسلامية إلى غاية العام 30 من الهجرة، وهي: مصحف أبي بن كعب في دمشق، ومصحف ابن مسعود في الكوفة، ومصحف أبو موسي في البصرة، ومصحف المقداد في حمص، كما سبقت الإشارة. فكانت كل جهة تقرأ القرآن وفق المصحف الذي لديها وتعتبره المرجع الإمام في الفصل عند كل اختلاف.
وقد سبق وأن خلصنا إلى القول، أنه وبالرغم من أن كل مصحف من المصاحف الأربعة كان يتميز عن غيره ببعض الخصوصيات البسيطة التي لا تغير من بنيته لجهة تقديم أو تأخير بعض الآيات وضم بعض السور القصار لبعضها واعتبار المعوذتين من طقوس الدعاء لا الوحي، إلا أن ترتيب السور كان هو نفسه الذي جاء به مصحف عثمان، ولم يعتمد أحد من الصحابة الأربعة ترتيب الآيات وفق أسباب النزول، وما كان له أن يفعل مخالفا بذلك قراءة الرسول وجمهور المسلمين، خصوصا وأن الترتيب الذي لدينا اليوم لم يكن ترتيبا توفيقيا من الصحابة، بل ترتيبا توقيفيا من الله تعالى عن طريق الملك جبريل عليه السلام الذي كان يشير على الرسول بمواضع الآيات من السور، وكان يُقرأه ما تنزّل من القرآن في رمضان، وفي رمضان الأخير من عمره الشريف، أقرأه الروح الأمين القرآن كاملا مرتين كما هو معلوم. كما أن الرسول عليه السلام كان قد قيّد للقرآن عشرات الكتاب في حياته، لا شغل لهم ولا مشغلة سوى تدوين التنزيل، وبعد اكتمال الوحي وجّههم لطريقة ترتيب الآيات ووضعها في السور التي تناسبها. وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد أن الرسول عليه السلام وصحابته وجمهور المسلمين من بعده، كانوا يقرؤون القرآن على نفس الترتيب الذي يبدأ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس. ولعلّ عمل كتّاب القرآن من جهة، وحفظ القرآن في صدور المسلمين قبل الجمع النهائي من جهة ثانية، هو الذي ساعد على حفظ ترتيب التلاوة وفق نفس قراءة الرسول الأمين دون تغيير أو تبديل، باستثناء مصحف الإمام عليّ الذي كتبه وفق أسباب النزول وضمنه حواشي للشرح والتفسير وفق ما تذكر المصادر الشيعية، لكن لا أحد يعلم مصير هذه النسخة التي كتبها الإمام خلال ستة أشهر بعد وفاة الرسول، ما يجعل الحديث عنها كمرجع يعتد به حديث بلا معنى ولا جدوى.
ومهما يكن من أمر، فما طرحه محمد أركون حول المصاحف المفقودة قد يشكل هاجسا بالنسبة للباحث الغربي، أما الباحث المسلم فلا يسعه إلا التسليم بأن جمع وترتيب القرآن كان بتوجيه من الله تعالى لقوله: {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} القيامة: 16 – 17. كما أنه تعالى تعهّد بحفظه من العبث والتحوير والتزوير كما حدث مع التوراة والإنجيل لقوله: {إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون} الحِجْر: 9.
وقد أشرنا في هذا الإطار إلى خاصية لافتة، وهي أن التحقيب الذي عمل عليه المستشرقون طويلا لم يساعد على كشف التناقض بين الخطاب القرآني والنصوص التاريخية المعتمدة كما حصل مع التوراة والأناجيل، وتكمن الصعوبة العملية لذلك في أن القرآن عندما يذكر حادثة من الحوادث فإنه يطمس معالمها وإحداثياتها الزمكانية ولا يهتم بالكرونولجيا التاريخية في السرد، حيث يجد الباحث نفس الحادثة وزعت على شكل أجزاء متفرقة في أكثر من سورة وبسياقات مختلفة، بحيث لا يمكن فهمها إلا إذا جمعت كل الآيات الخاصة بها وأعيد تركيبها لتتضح الصورة الكاملة ويفهم المعنى الموضوعي للقصة من مختلف جوانبها، فيتضح مغزى الموعظة التي تعتبر الهدف الأساس من التذكير بالواقعة، فتخرجها من الإطار التاريخي التي حدثت فيه إلى مجال التدبّر العقلي للذكرى والتأمل الروحي لتغذية الإيمان وتقويته. وفي غياب تحقيب موثوق لآيات القرآن وفق أسباب نزولها، يستحيل على المنهجية التاريخانيّة القيام بمسح القرآن مسحا شاملا، وتحقيقه، والتأكد من تواريخه ووقائعه، ومن ثم دراسة كل ما ليس بواقعة مادية محسوسة من خلال علم النفس التاريخي، لتحديد الخيالات والأوهام والأحلام والطوباويات التي عمرت رؤوس الناس أو حرّكت نفوسهم، كما يقول محمد أركون متحسّرا في مؤلفه (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل – ص: 67).
وأمام هذه الاستحالة، لم يجد أركون من مخرج لمعضلته سوى القول من باب تبرير العجز، بأن هذه الرمزية في السرد التي يعتمدها الخطاب القرآني تصبغ عليه نوع من التعالي (التقديس) والتسامي (التصعيد)، فتصبح الحادثة تروى من خارج التاريخ وكأن لا علاقة لها بأي زمان أو مكان وقعت فيه. وهذا من وجهة نظره طمس لمعالم التاريخية لأنه ينتزع النص من الواقع، الأمر الذي لا يساعد على تحريره من الأسطورة كما يقول. وهو عكس ما ذهب إليه وأسقطه في التناقض، خصوصا حين أكد "أن القرآن نفسه يتضمن الوعي التاريخي الذي يسمح بدراسته دراسة تاريخية"، ما جعله يبحث عن ضالته في التطبيقات اللسانية لاكتشاف العلاقة بين المصطلح القرآني واستعمالاته المختلفة في اللغة القديمة وفق المنهج الذي اعتمدته المستشرقة الفرنسية جاكلين شابي، عسى أن يساعده ذلك في إثبات تاريخية القرآن باعتباره منتجا ثقافيا ينتمي للزمان والمكان اللذان أنتج فيهما كما يقول أيضا الباحث حامد نصر أبو زيد من أن "القرآن منتج ثقافي"، متناسيا أن القرآن وإن استعمل لغة العرب إلا أنه أنتج معانيه الخاصة من داخلها فأعطاها مفاهيم إنسانية وكونية جديدة لا يمكن فهمها إلا من خلال تفسير القرآن بالقرآن، وهذه إحدى أوجه الإعجاز التي تتمثل في ترجمة اللغة من كلمات محلية خاصة بثقافة معينة إلى كلمات كونية مشتركة بين البشر جميعا، من خلال الدلالات التي يُعبّر عنها القرآن بإشارات واضحة وعلامات بيّنة لا يفهم المتشابه منها إلا بالرجوع إلى محكمه، هذا إن استطاع الباحث الاهتداء للمحكم الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ولدينا في علم الكلام زمن المعتزلة والأشاعرة الدليل على هذه الصعوبة، حيث ما كان يعتبره المعتزلة بالتأويل محكما كان يحوّله الأشاعرة بنفس سلاح التأويل إلى متشابه، والعكس صحيح أيضا، فتحوّل الكلام إلى نوع من المجادلة العبثية التي لم تنتج معرفة حقيقية بقدر ما ساهمت في تعميق الخلاف الديني بين المتناظرين، في حين كان الهدف السياسي هو الذي يغذي هذا الخلاف من أساسه. وهو الأمر الذي علّق عليه الفيلسوف هنري كوربان بقوله: "إن الفائدة العميمة في هذه المجادلة تكمن في أن الاختلاف ليس اختلافا مبتذلا بين العقلانية، والفلسفة، والفقه بالمعنى الشائع. إنه اختلاف أكثر عمقا وأصالة بين فكر ديني باطني، تعليمي، وبين إرادة معادية لكل ما يتضمنه هذا الفكر" (تاريخ الفلسفة الإسلامية – ص: 219 – 220).
وبالتالي، فليست القضية بالنهاية قضية خطأ أو انحراف عن الصواب، لأن كل طرف بذل جهده، وبمجرد بذل هذا الجهد فهو يسير في طريق الحقيقة حتى لو لم يدركها، لأن "البحث عن الحقيقة، لهو أثمن من الحقيقة نفسها" كما يقول الفيلسوف الصّيني ليسّنغ.
14. خاتمـــة
تتأسس النهاية اللازمة لهذا البحث حول جدل جمع القرآن، مرسخةً الأسس المتينة للفهم العميق للعملية المعقدة التي أحاطت بالتدوين والمراجعة النهائية للنص القرآني. يعكس التحليل التاريخي للكيفية التي تم بها جمع القرآن جهوداً متنوعة ومتعددة الأطراف، حيث تكشف لنا عن تفاعل بين النص، الأشخاص الذين قاموا بتدوينه، والسياقات الثقافية والسياسية التي جسدت تلك الحقبة. إن عملية الجمع لم تكن مجرد تقنيّة إداريّة بحتة، بل كانت في جوهرها عملية فكرية عميقة تتطلب أطرًا تتوفر فيها معايير عقلية سديدة ومعايير إيمانية عميقة.
تتجلى النتائج المستخلصة من النقاش في أن جمع القرآن قد مثَّل مجهودًا جماعيًا معقدًا استمد قوته من الرغبة في الحفاظ على النص المقدس أمام تحديات زمنية ونقدية متعددة. إذ يظل فهم العلاقة بين النص القرآني والشروحات المحيطة به عنصرًا أساسيًا لفهم التطورات في الفكر الإسلامي عبر التاريخ. كما يُظهر التحليل أن التنوع في القراءات والنسخ لم يكن يشير بالأساس إلى وجود اختلافات لفظية، بل كان يعكس الفروقات في التفسير والاجتهاد، أي الفرق بين الحقيقة المتمثلة في النص المقدس والفهم البشري النسبي.
بالتالي، فإن الخاتمة تبرز كيف ساهمت هذه العناصر المختلفة في تشكيل النص النهائي للقرآن مجردا من كل تفسير أو تأويل يُحوّله إلى نص مغلق غير صالح لكل مكان وزمان، مما عزز من مكانته في قلوب وعقول المجتمعات الإسلامية عبر الدهور والعصور، وسيظل الأمر كذلك إلى نهاية الأزمنة.
علاوة على ذلك، ينبغي أن ندرك أن جدل جمع القرآن لا يقتصر فقط على الماضي، بل له تأثيرات واضحة على الفكر المعاصر أيضا، حيث لا تزال النقاشات حول دقة الروايات وتفسير الاختلافات قائمة. هذا الأمر يشير إلى الأهمية المتواصلة للفهم العميق للتاريخ الإسلامي وتأثيراته في العصر الحديث، مما يستدعي المزيد من الأبحاث والدراسات للوصول إلى فهم أعمق للنص القرآني المقدس وأثره في الفكر والثقافة الإسلامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق