بحث داخل هذه المدونة الإلكترونية

تحليـــل: تعاظم خطر الطابور السادس على النظام في المغرب

 

1. مقدمـــة

تتناول هذه الدراسة موضوع الطابور السادس كظاهرة معقدة تعكس التفاعلات بين جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب، وتستكشف العوامل الفردية والجماعية التي تسهم في تشكيل هاتين الظاهرتين السياسيتين. يرتبط مفهوم "الطابور السادس" بالأبعاد الثقافية والسياسية التي تتداخل وتعبّر عن صورة مشوهة للواقع الاجتماعي والسياسي، حيث نجد مزيجاً من النزاعات الأيديولوجية والممارسات التنظيمية والسياسية المتطرفة. يتمثل التحدي الرئيسي المرتبط بهذا المفهوم في كونه يشير إلى وجود قوة خفية تسعى إلى زعزعة الاستقرار من داخل النظام، مستغلة في ذلك التظاهرات والرسائل والخطابات الإيديولوجية الدينية والسياسية، الأمر الذي يؤدي إلى إرباك المشهد السياسي وزيادة التوترات والمخاطر.../...

في المغرب، يشهد المجتمع تحولاً ديناميكياً، إذ تلعب جماعات الإسلام السياسي دوراً بارزاً كقوى مؤثرة في الساحة السياسية، لما يتسم به الاسلام من جذور عميقة في الثقافة الشعبية والمعتقدات التقليدية. من ناحية أخرى، يعبر اليسار الراديكالي عن طموحات مختلفة، تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، مما يخلق توترات داخلية وخارجية في الآراء والنظريات السياسية. يتفاعل هذان الاتجاهان عبر مجالات متعددة تشمل السياسة، الاقتصاد، التعليم، والثقافة، مما يجعل من الضروري دراسة العلاقات المعقدة بينهما، والبحث عن أوجه التقاطع التي قد تؤدي إلى فهم أعمق للأزمات السياسية التي تمر بها البلاد في أوج نهضتها وانطلاقها نحو آفاق التنمية والازدهار في عهد العاهل المغربي محمد السادس.

تُعتبر السياقات التاريخية والسياسية المدروسة أساسًا لفهم العوامل التي أدت إلى نشوء هذه التفاعلات. فقد ساهمت التغيرات الاجتماعية، نتيجة التحركات الاحتجاجية والنزاعات الثقافية التي شهدها المغرب في إعادة تشكيل التوازنات السياسية. نتيجة لذلك، تبرز التساؤلات حول كيفية تأثير هذا الطابور السادس على مختلف جوانب الحياة السياسية، وكذلك تأثيره في تشكيل السياسات العامة وصياغة المستقبل السياسي للمغرب. يستهدف هذا البحث تقديم تحليل شامل يبرز الآليات والعمليات التي تسهم في إدامة وتطور هذه الديناميكيات، الأمر الذي يمكّن من استكشاف المستقبل السياسي والنماذج الممكنة للتغيير الاجتماعي.


2. تعريف الطابور الخامس

يتعلق مفهوم "الطابور الخامس" بفكرة تحاكي ظاهرة الخيانة الداخلية أو الدعم السري للعدو من داخل الجماعات التابعة لدولة أو حركات سياسية أو اجتماعية أو دينية معينة. يرتبط المصطلح بجماعات أو أفراد ينخرطون في تصرفات تضعف من موقف الدولة أو الكيان المعني، وغالباً ما يكون ذلك في سياقات الحروب أو الأزمات الوطنية. وقد نشأ هذا المصطلح خلال الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، حيث استخدم للإشارة إلى دعم عناصر داخلية لحركة معارضة تهدف إلى تقويض الحكومة الشرعية.

في السياق السياسي المغربي، يُعتبر "الطابور الخامس" تجسيداً للفصائل والجماعات التي تسعى إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي من خلال نشر دعاوى أو رسائل أو خطابات تحريضية تتماشى مع أهدافها الخاصة، مستغلة في ذلك قضايا وطنية أو عربية وإسلامية تحظى بتعاطف شعبي واسع. يشمل ذلك الجماعات الإسلامية السياسية وأحزاب اليسار الراديكالي، التي قد تُبرز طروحات تنظر إلى النظام السياسي القائم بصورة نقدية. يُعد نشاط هذه الجماعات محوريًا في تشكيل الرأي العام ومحاولة تأثيث الفضاء السياسي، ومن ثم تسعى للتّموقع داخل الفعل السياسي من خلال تدشين حوارات تهدف إلى تعديل المعادلات القائمة من خلال تجييش الشارع.

تتعدد التحديات التي يطرحها الطابور الخامس على المستوى الوطني، حيث يمكن أن يؤدي وجوده إلى استقطاب المجتمعات وإحداث شروخات عميقة في وحدة الصف. يعتبر رصد أنشطة الفصائل السياسية ذات التوجهات الراديكالية أمرًا ذا أهمية بالغة، إذ قد تُسهم في تعزيز صورة سلبية للدولة والمجتمع في المحافل الإقليمية والدولية. ومع ذلك، ليس كل ما يُعتبر "طابوراً خامساً" يحمل أجندة خيانية، إذ يمكن التمييز بين النقد البنّاء وبين الأبعاد السلبية المترتبة على الأنشطة الراديكالية، مما يستدعي فهماً عميقًا للتعقيدات السياسية والظروف الاجتماعية المحيطة بالتحولات السياسية في المغرب.


3. من حيث المفهوم

“الطابور السادس” مصطلح أدخله منظر الرئيس بوتين الفيلسوف “ألكسندر دوغين” بغرض تبسيط بغض المفاهيم التي لها علاقة بنشاطات تخريبية مقنعة تستهدف النظام القائم. ويقصد به ألكسندر دوغين الأشخاص العاملين في السلطة وفي الأجهزة القريبة منها، الذين يتصرفون وفق مبادئ ما يسمى “بالطابور الخامس”، لكن بطريقة أكثر سرية متنكرين باستمرار وراء شعارات شعبوية ومستغلين ركوب التحركات الجماهرية لنصرة قضايا محقة من أجل كسب الدعم والتعاطف الشعبي لمشروعهم السري المناهض للدولة. 

العناصر الوظيفية للطابور السادس ليست دوما أشخاص بذاتهم، وإنما تشكيلات مترابطة قد تكون على مستويات عديدة، يتحكم فيها أشخاص ينتفعون من نشاطها، وقد يتمركز البعض منهم في الخارج. “الطابور السادس”، حسب ألكسندر دوغين، لا ينتهج طرق التخريب المباشر، وإنما يكون عادة شريكا في عمل السلطة ومعرقلا لها في تفس الوقت. يتميز بكبحه الذكي والمتميز للإجراءات المتخذة والنتائج المحققة حسب مبدأ: “إذا أنجزت عملا ما فلا تجاوز حده، أما إذا تجاوزت حده، فلا تزد عن ذلك”. 

الطابور السادس في حقيقة الأمر كرة حديدية مشدودة إلى ساق السلطة كما يقول دوغين، لا تعيق سيرها، ولكنها تمنعها من المشي سريعا لمسافات بعيدة ولفترات طويلة. أهم استراتيجيات الطابور السادس “لعبة الدسائس الظرفية” طويلة الأمد. في المحصلة النهائية، ويعتبر الطابور السادس صورة جلية للطابور الخامس الذي تحدثنا عنه أعلاه، بحيث يمثل مرحلة ممهدة لظهوره.


4. تاريخ الطابور السادس في المغرب

تاريخ الطابور السادس في المغرب هو تجسيد معقد لتفاعلات سياسية واجتماعية متعددة، تتداخل فيه العوامل التاريخية مع الديناميكيات العصرية. يشير الطابور السادس بالأساس إلى تنامي الأفكار المؤدلجة التي تروج لأجندات إسلامية أو يسارية في مغرب القرن الحادي والعشرين. يمكن إرجاع نشوء هذه الظاهرة السياسية إلى عدة محطات رئيسية، منها الصراع على السلطة وتاريخ الاستعمار، الذي أفرز صراعات عميقة بين القوى التقليدية والتحديثية.

منذ الاستقلال في عام 1956، اجتازت البلاد مغامرات سياسية متكررة، حيث نشأت جماعات إسلامية راديكالية تركت أثراً واضحاً على الخريطة السياسية في المغرب. بينما بدأ الحزب الإسلامي "العدالة والتنمية" بالتوسع في تسعينيات القرن الماضي بعد أن حظي بالشرعية من الدولة بدعم وزير الداخلية آنذاك إدريس البصري، الذي كان يرى فيه أداة وظيفية لمواجهة خطر الإسلام السياسي المتطرف التي تمثله بعض الجماعات وعلى رأسها جماعة العدل والإحسان، وحركات اليسار الراديكالي المتشبعة بالفكر الشيوعي. لكنه سرعان ما برز كقوة معارضة تحاول تقديم بديل إسلامي عن النظام العلماني الذي كان يزحف بصمت للاستحواذ على كل مفاصل الدولة. في الوقت نفسه، امتلأت الساحة السياسية بأحزاب يسارية كانت تسعى جاهدة لمواجهة التيار الإسلامي من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية والدفاع عن الديمقراطية، تجلى ذلك في الصراعات العنيفة التي شهدتها الجامعات المغربية بين فصائل اليسار وفصائل الإسلام السياسي ممثلة في حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان.

في العقدين الأخيرين، تطورت الأحداث بشكل دراماتيكي، مع تأثير الربيع العربي سنة 2011، الذي ألهم الجماعات السياسية سواء في اليمين أو اليسار. هذا التوتر بين القوى السياسية أدى إلى الاحتدام في الخطاب العام، حيث سعى كل طرف إلى إثبات جدوى مقاربته السياسية. هيئة الطابور السادس، كقوة مركبة، تجسد الفضاء الذي تتفاعل فيه هذه الأيديولوجيات، مزودة بتحديات جديدة، من بينها الاحتياجات المجتمعية المتزايدة وضغوط العولمة. في النهاية، تمثل هذه الديناميكيات بوضوح كيفية تكوين الهويات السياسية وموضوعات الصراع في المغرب، مع تقديم نظرة معمقة حول دور الأيديولوجيات في بناء مستقبل البلاد.


5. جماعات الإسلام السياسي

تُعتبر جماعات الإسلام السياسي ظاهرة معقدة تتجاوز الشمائل الدينية لتتشابك مع الأبعاد الاجتماعية والسياسية. منذ نشأتها في القرن العشرين، تجلّى تطورها في سياقات متعددة. فبينما ظهرت كاستجابة حيوية للأزمات الوطنية والتحديات الاجتماعية، إلا أن تحولات السياسة الداخلية والإقليمية أدت إلى نضجها وتوسع نفوذها. مثلاً، جماعة العدالة والتنمية، التي تأسست في أواخر التسعينيات، تميزت بتبنيها مقاربة سياسية براغماتية، بما ساعدها على تحقيق مكاسب انتخابية ملحوظة منذ عام 2011، استجابة لصعود الموجة الإسلامية عقب الربيع العربي. فيما ظلت جماعة العدل والإحسان على الهامش، بسبب خطابها الإيديولوجي المراوغ، الذي يتغيى التربص بالنظام لإقامة الخلافة، الأمر الذي حرمها من نيل الترخيص للعمل الشرعي في إطار حزب سياسي كما هو الحال بالنسبة للعدالة والتنمية.  

عموما، تهدف جماعات الإسلام السياسي إلى تحقيق مجموعة واسعة من الأهداف، تتراوح بين الإحياء الثقافي والمشاركة السياسية إلى صياغة أنظمة الحكم بما يتماشى مع فهمها المتطرف للإسلام. تسعى هذه الجماعات إلى تعزيز دور الدين في الحياة العامة وضمان أن تكون التشريعات والسياسات مستندة إلى الشريعة. ومع ذلك، فإن هذه الأهداف السياسية لا تخلو من التحديات، إذ تتعرض لضغوط متزايدة من النظام السياسي القائم، الذي يسعى لضبط تفاعلات هذه الجماعات بما يتلاءم مع استقرار السلطة. لذا، تبرز حالة الدينامية المستدامة بين التوافق مع العملية السياسية ونزعات الانسحاب إلى آليات المقاومة.

تتأثر جماعات الإسلام السياسي أيضًا بالعديد من العوامل الخارجية، مثل الضغط من القوى الدولية والإقليمية التي تشكك في شرعيتها. تعكس هذه القوى رغبة الغرب في تعزيز الأنظمة الديمقراطية، مع التركيز على حقوق الإنسان والحريات العامة. في المقابل، تسعى هذه الجماعات إلى تعزيز خطابها حول العدالة الاجتماعية والكرامة وإعادة تشكيل الهوية الثقافية الإسلامية. تجدر الإشارة إلى أن تأثيرات هذه العلاقات لا تقتصر على الأحزاب السياسية فقط، بل تمتد إلى تشكيل الآراء العامة والمواقف الإعلامية في المجتمع، مما يعكس مدى تداخل الدين بالسياسة في البنية المغربية الحديثة.


5.1. تاريخ نشأة جماعات الإسلام السياسي

تعود جذور جماعات الإسلام السياسي في المغرب إلى أوائل القرن العشرين، حيث كان السياق التاريخي يكتنز توترات اجتماعية وسياسية واقتصادية، تخللتها مخاضات الاستعمار والتحرر. في هذه المرحلة، تأسست الحركات الإسلامية كاستجابة للتحديات الثقافية والاجتماعية، مع بروز شخصيات كعلي يعتة الذي أسس "الحزب الشيوعي"، وعبد السلام ياسين الذي أسس جماعة العدل والإحسان، وأحمد الريسوني الذي ساهم في نشر الفكر الإسلامي كمنهج للتغيير السياسي والاجتماعي. وقد اتسمت تلك الحركات بمزيج من الإصلاح الديني والنضال ضد الاحتلال، مما وضع الأساس الأيديولوجي للجماعات الإسلامية اللاحقة.

مع انتقال المغرب إلى الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي، شهدت جماعات الإسلام السياسي تحولات جوهرية، حيث عملت على استغلال مشاعر الهوية الوطنية المتزايدة لتوسيع نطاق نفوذها. وفي هذا السياق، تم تأسيس جماعة العدل والإحسان في أوائل السبعينيات، التي اشتهرت بمناهضتها النظام القائم. كانت فترة الأسلمة في الثمانينيات والتسعينيات، مع صعود تيار الإسلام السياسي، وكبرت معها جماعات مثل حزب العدالة والتنمية ذو التوجهات الإخوانية المشرقية، الذي تمكن من الفوز في الانتخابات البلدية عام 2003. هذه التحولات كانت نتيجة للتفاعل بين الدين والسياسة على الطريقة التركية، ما أدى إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي المغربي.

بالإضافة إلى ذلك، تأثرت نشأة جماعات الإسلام السياسي في المغرب بالتغيرات الإقليمية والدولية، مثل الثورة الإيرانية عام 1979، والصراعات العربية، وأثر الحركات الإسلامية في البلدان المجاورة سواء في لبنان أو غزة أو غيرهما. تلك العوامل شكلت وعيا جماعيا بضرورة تقديم نموذج إسلامي للحكم، مما أضفى مزيداً من التعقيد على العلاقة بين الإسلام والسياسة. في السنوات الأخيرة، عرضت هذه الجماعات تحديات جديدة، متمثلة في كيفية التكيف مع التحولات السياسية السريعة، مثل الربيع العربي، وظهور جماعات متطرفة مثل تنظيم داعش وغيرها. بالتالي، يعكس تاريخ نشأة جماعات الإسلام السياسي في المغرب تفاعلات معقدة بين السياسات المحلية والدولية، مما دعلهم يتطلعون للعب دور مركزي في تشكيل مستقبل النظام السياسي في البلاد.


5.2. الأهداف السياسية لجماعات الإسلام السياسي

تتراوح الأهداف السياسية لجماعات الإسلام السياسي في المغرب بين السعي إلى تحقيق الشريعة الإسلامية في مؤسسات الدولة، والمشاركة في العملية السياسية كخطوة نحو تعزيز الهوية الإسلامية وإعادة تشكيل السياسات العمومية. تسعى هذه الجماعات، مثل حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، إلى تحقيق توازن بين المبادئ الإسلامية والواقع السياسي المعاصر متأثرة بالنموذج التركي الأردوغاني. فهي تؤمن بأن تطبيق الشريعة يتطلب وجود إطار سياسي مستقر، حيث تخدم القوانين والسياسات العامة الأهداف الدينية والاجتماعية، ومن هنا يتعزز دور هذه الجماعات في النظام السياسي المغربي. ذلك أن تطبيق الشريعة هو الخطاب المحوري الذي تتخذه كل حركة إسلامية تتغيى التغيير من خلال استغلال العواطف الدينية للعامة والركوب على احتجاجات الشارع.

تساهم جماعات الإسلام السياسي أيضاً في توسيع قاعدة نفوذها من خلال التحالفات الاستراتيجية، سواء مع أحزاب أخرى أو مع مكونات المجتمع المدني، كما حدث بشكل استثنائي ومثير للتساؤل والاستغراب عندما تحالفت جماعة العدل والإحسان مع اليسار الراديكالي خلال احتجاجات 20 فبراير 2011.

 تتستر هذه الجماعات وراء خطاب مخاتل يستند إلى مفاهيم العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، والتنمية المستدامة، والدولة المدنية، مما يمنحها قدرة على جذب فئات واسعة من المجتمع بما فيها من لا تكون لها خلفيات دينية. ويستند هذا الخطاب إلى استخدام الرموز الثقافية والدينية التي تحظى بقبول شعبي، مما يجعلها قادرة على ربط مشاريعها السياسية بالاحتياجات الحقيقية للناس والترويج لها بخطابات شعبوية. بيد أن هذا التركيز على الأهداف تعالى من خلال النقد المتواصل للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي يعكس حقيقة انغماس تلك الجماعات في فترات من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ويساعدها في تعزيز موقفها كبديل مقبول في الساحة السياسية.

علاوة على ذلك، تهدف جماعات الإسلام السياسي إلى التأثير على التشريعات والسياسات العامة من خلال دمج القيم الإسلامية في نظم التعليم والصحة والعدالة. تسعى تلك الجماعات إلى تغيير معادلات القوة على المستوى الاجتماعي والسياسي، وذلك بإبراز أهمية السياسات الاجتماعية والخارجية التي تتبناها لإعادة النظر في الأولويات الوطنية. وبالرغم من التحديات التي تواجهها، تظل أهداف جماعات الإسلام السياسي متشابكة بعمق مع القضايا الملحة التي تؤثر على المجتمع المغربي، مما يجعل دورها محورياً في النقاشات السياسية المستمرة.


5.3. التأثيرات الخارجية على جماعات الإسلام السياسي

تتسم جماعات الإسلام السياسي في المغرب بتأثرها العميق بالعديد من العوامل الخارجية التي تساهم في تشكيل مساراتها السياسية والاجتماعية. من أبرز هذه العوامل، التغيرات الإقليمية والدولية التي تفرض تحديات وفرصًا جديدة. فعلى سبيل المثال، تأثيرات الثورات العربية عام 2011، لم تكن مقتصرة على السياقات المحلية، بل أمدت جماعات الإسلام السياسي في المغرب بوهم الشعور بالقوة وإمكانية التغيير، مما حفزها على التصعيد من خطابها السياسي وتحريك قواعدها الشعبية. هذه الديناميات ساهمت في تلبية تطلعات الفئات الشعبية المناصرة لها، متزامنة مع مرحلة من الفوضى السياسية في بعض الدول المجاورة.

من جانب آخر، تظل العلاقات الخارجية لجماعات الإسلام السياسي مع القوى الإسلامية العالمية — مثل الإخوان المسلمين في مصر وتركيا — مؤشرًا على كيفية توجيه خطابها واستراتيجياتها. فالتواصل مع هذه الحركات يساعد في تبادل الموارد، والأفكار، والخبرات، مما يعزز من قدراتها التنظيمية. كما أن استقطاب الدعم المالي والإعلامي الخارجي أدى إلى تطوير عملياتها الدعوية والسياسية، مما ساهم في توسيع قاعدة نفوذها. إلى جانب ذلك، تلعب الأبعاد الجيوسياسية أيضًا دورًا محوريًا؛ حيث إن الظروف الاستراتيجية في شمال إفريقيا تجعل من المغرب نقطة محورية في التنافس بين القوى الغربية وتركيا وإيران، كل منها له طموحاته الخاصة في التأثير على الساحة المغربية.

ومع ذلك، فإن اعتماد جماعات الإسلام السياسي بشكل كبير على التأثيرات الخارجية قد يؤدي إلى خلق حالة من الثقة الزائد بالنفس، مما قد يعيق قدرتها على الاستجابة للتحديات الداخلية. يمكن اعتبار التأثيرات الخارجية بمثابة سلاح ذو حدين؛ إذ تنمي قدراتها في بعض الأحيان، بينما تُثقل كاهلها بتحديات تتعلق بالسيادة الوطنية والمصالح المحلية. إن القدرة على موازنة هذه التأثيرات مع الأهداف الوطنية ستكون حاسمة في تشكيل مستقبل هذه الجماعات، وقدرتها على المحافظة على قاعدة جماهيرية واسعة في خضم التغيرات السريعة التي تطرأ على المشهدين الإقليمي والدولي.


6. أحزاب اليسار الراديكالي

تعتبر أحزاب اليسار الراديكالي في المغرب جزءاً مهماً من التكوين السياسي، حيث تجسد تطلعات اجتماعية واقتصادية متقدمة تسعى لتحقيق العدالة والمساواة. نشأت هذه الأحزاب في سياق تاريخي معقد يتسم بالصراعات السياسية والاجتماعية منذ منتصف القرن العشرين، عندما واجه المغرب تحديات الاستعمار والتعسف السياسي. في خضم هذه الأوضاع، ظهرت تنظيمات يسارية تسعى إلى تحقيق التغيير من خلال خطط موحدة تركز على حقوق العمال، ورفع مستوى التعليم، وتحسين أوضاع المعيشة للمجتمعات المهمشة. تعود الجذور الفكرية لهذه الأحزاب إلى الماركسية واللينينية، مما أدى بالضرورة إلى تمكين لغة الصراع الطبقي من الوصول إلى دائرتها الأوسع ضمن الخطاب السياسي المغربي.

فيما يتعلق بالأهداف السياسية، تركز أحزاب اليسار الراديكالي على تحقيق التغيير من خلال تعزيز الديمقراطية الاجتماعية، ومكافحة الفساد، وتحقيق العدالة الاقتصادية. تنادي هذه الأحزاب بنموذج تنموي بديل يهدف إلى توزيع عادل للثروات، وخلق خلية نحل اجتماعي تعمل على تحفيز مختلف الفئات المجتمعية نحو مشاركات أكثر فاعلية في صنع القرار. يعي القائمون على هذه الأحزاب أهمية التفاعل بين السياسة والاقتصاد، بحيث يدعم أحدهما الآخر لتحقيق استقرار اجتماعي وازدهار اقتصادي. وفي إطار هذا السياق، تسعى هذه التنظيمات إلى توسيع قاعدة تأييدها عن طريق الالتقاء مع قضايا الهوية والثقافة التي تهم الشباب المتنور بصفة خاصة، نظرا للطبيعة التقليدية المحافظة للمجتمع المغربي.

أما التأثيرات الخارجية، فقد لعبت دوراً مهماً في صياغة توجهات أحزاب اليسار الراديكالي. على مر العقود، تأثرت هذه الأحزاب بنماذج سياسية عالمية، مثل التجارب اليسارية في أمريكا اللاتينية، والتغيرات الجيوسياسية في العالم العربي بعد الربيع العربي. كذلك، فإن العولمة الاقتصادية والسياسية قد أثرت في استراتيجيات هذه الأحزاب، مما دفعها إلى إعادة التفكير في طرقها التقليدية نحو التغيير. وبالرغم من التحديات التي تواجهها، تظل أحزاب اليسار الراديكالي منارة للأفكار التقدمية، متسلحة برؤية تسعى إلى بناء مجتمع أكثر عدالة وتقدماً. غير أنه ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي سنة 1991، وتحول روسيا إلى دولة وطنية ذات توجهات اقتصادية رأسمالية، لم يعد خطاب هذه الأحزاب يستهوي الشباب ويستقطب الأتباع. 


6.1. تاريخ نشأة أحزاب اليسار الراديكالي

نشأت أحزاب اليسار الراديكالي في المغرب في سياق تاريخي معين، يتميز بتعقيداته السياسية والاجتماعية. يعود تأسيس هذه الأحزاب إلى فترة ما بعد الاستقلال في منتصف القرن العشرين، حيث كانت الأوضاع السياسية تتسم بتوترات متزايدة وصراع بين القوى التقليدية وبين الحركات السياسية الجديدة. كانت الرغبة في تحقيق العدالة الاجتماعية، والحرية السياسية، وتحسين أوضاع الطبقات الكادحة هي المحركات الأساسية لتكوين هذه الأحزاب، مما جعلها آنذاك خيارًا جذابًا للعديد من المغاربة الذين شعروا بإهمال السلطة لمصالحهم.

في السنوات اللاحقة، ومع تصاعد الحركة اليسارية في العالم، شهد المغرب نشأة عدد من الأحزاب اليسارية، أبرزها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي أسس في عام 1959. لقد تمكنت هذه الأحزاب من تقديم نفسها كبديل سياسي للقوى التقليدية كحزب الاستقلال، مشددة على قيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية. ومع ذلك، واجهت تحولات كبيرة، مثل تدخل الدولة في الحياة السياسية وقمعها للحركات الاحتجاجية، مما أثر على قدرتها على التنظيم والنمو.

في السبعينيات والثمانينيات، ومع تفشي الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، برزت حركة اليسار الراديكالي كفصيلٍ ناشط مهم يطالب بالتغيير الشامل. العديد من هذه الأحزاب استخدمت استراتيجيات متنوعة، تشمل التظاهر وإصدار البيانات السياسية، سعياً لتوجيه الرأي العام نحو القضايا الأهم، خاصة تلك المرتبطة بالفساد والظلم الاجتماعي. كانت هذه المرحلة غنية بالتحولات التي جعلت من أحزاب اليسار الراديكالي محورًا مهمًا لرفض السياسات الاقتصادية الليبرالية التي ضيقت الخناق على الفئات الضعيفة، ما أدى إلى تعزيز وجودها وتأثيرها في الحقل السياسي المغربي.

على الرغم من التحديات والعقبات التي واجهتها، فقد ترسخت هذه الأحزاب كشريك في الحوار الوطني، مما يعكس ديناميكية الساحة السياسية المغربية وتفاعل مختلف التيارات السياسية في البلاد. لذا، يمكن اعتبار تاريخ نشأة أحزاب اليسار الراديكالي في المغرب بمثابة مرآة تعكس التحولات الكبرى في المجتمع السياسي، وتوضح العديد من الممارسات الاجتماعية والسياسية التي شكلت هوية المغرب الحديثة.


6.2. الأهداف السياسية لأحزاب اليسار الراديكالي

تسعى أحزاب اليسار الراديكالي في المغرب، مثل حزب التقدم والاشتراكية وحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، وما أصبح يعرف اليوم بالإشتراكي الموحد إلى تحقيق مجموعة من الأهداف السياسية تتسم بالجرأة والوضوح. يتمثل أحد الأهداف الرئيسية في تعزيز العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر والهشاشة الاقتصادية، حيث تُعتبر هذه القضايا محورية في الخطاب السياسي اليساري. يسعى اليساريون الراديكاليون إلى كسر القيود التي تفرضها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، من خلال الدعوة إلى تبني سياسات تنموية شاملة ترتكز على استثمار الموارد الطبيعية لصالح المجتمع بشكل عام. تجسد هذه المقاربة سعيهم نحو إعادة توزيع الثروات بما يُحقق المساواة وينصف الفئات المهمشة.

علاوة على ذلك، تسعى أحزاب اليسار الراديكالي إلى إحداث تغييرات سياسية جذرية، تكفل تعزيز الديمقراطية والمشاركة الشعبية. يُعبر هذا التوجه عن الحاجة المُلحة لمؤسسات سياسية تُعكس إرادة الشعب، وذلك من خلال تعزيز الحريات الفردية وضمان حقوق الإنسان. يُظهر خطاب هذه الأحزاب تأكيدًا على أهمية المشاركة الفعالة للنساء والشباب، حيث يُعتبر ذلك عنصرًا أساسيًا في بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة. في السياق نفسه، يُبرز اليسار الراديكالي مساعيه نحو تجديد المؤسسات السياسية والاجتماعية، عبر تنشيط المجالس المحلية وتفعيل دور المجتمع المدني.

إضافةً إلى ما سبق، يولي اليسار الراديكالي أهمية كبرى لقضايا الهوية الثقافية، مؤمنًا بأن التنوع الثقافي يُشكل ثروة لا ينبغي تجاوزها. تتمثل سياساته في دعم الأمازيغية وكل الثقافات المحلية كأدوات تكاملية، تعزز الوحدة الوطنية. في النهاية، تُظهر الأهداف السياسية لأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب التزامًا عميقًا بالتحولات الاجتماعية والسياسية، التي تهدف إلى صياغة رؤية بديلة للمستقبل، قائمة على المساواة والعدالة الحقوقية، مما يُعزز من قوة هذه الأحزاب في الساحة السياسية الوطنية.


6.3. التأثيرات الخارجية على أحزاب اليسار الراديكالي

تعتبر التأثيرات الخارجية عوامل حاسمة في تشكيل الاستراتيجيات السياسية وتحالفات أحزاب اليسار الراديكالي في المغرب، إذ إن السياقات الإقليمية والدولية تلعب دورًا بارزًا في توجيه مسارات هذه الأحزاب. منذ استقلال المغرب في عام 1956، تشبعت حركة اليسار الراديكالي بتوجهات متباينة، ولكن لم يكن بالإمكان تجاهل الأثر الكبير للعوامل الخارجية التي شكلت رؤاها السياسية. من ضمن هذه العوامل، يمثّل تأثير الحرب الباردة، الذي هيمن على السياسة العالمية خلال القرن العشرين، أحد أبرز العوامل التي عززت من ظهور وتعزيز بعض الأحزاب اليسارية. العلاقات السياسية والاقتصادية بين المغرب ودول كبرى، مثل الاتحاد السوفييتي في السابق، كانت تسهم في تصعيد البرامج والخطاب الداعي إلى العدالة الاجتماعية وتحرير الطبقات المهمشة.

علاوة على ذلك، كان للتغيرات في السياقات العالمية وتأثير العولمة دورٌ في توجيه استجابة اليسار الراديكالي للمشكلات المحلية. يتفاعل اليسار المغربي مع الأفكار والثقافات السياسية القادمة من الخارج، خاصة من أوروبا وأمريكا اللاتينية، التي شهدت حركات ثورية راديكالية في نهايات القرن العشرين. هذه التأثيرات الخارجية لا تقتصر على الأيديولوجيا فحسب، وإنما تتعداها إلى نماذج التنظيم وأساليب العمل السياسي. ففي سياق الربيع العربي، أخذت هذه الأحزاب في إعادة هيكلة نفسها والتفاعل مع الحركات الشعبية من خلال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حيث مثل هذا التحول استجابة مباشرة للإلهامات العالمية ومناهج النضال المدنية.

بالإضافة إلى ذلك، يتجلى تأثير المنظمات غير الحكومية والهيئات الدولية في دعم العديد من البرامج السياسية والتقارير التي تسلط الضوء على قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية. وهذا ما يعزز من الدور الذي تلعبه أحزاب اليسار الراديكالي في صياغة مطالب المجتمع المدني، حيث لم يعد بإمكانها العمل في فقاعة منعزلة، بل إن التأثير الخارجي يشتت اهتمامها ما بين تطوير مبادئها وحاجتها لمواكبة التغيرات السياسية والاجتماعية السريعة. بناءً على ذلك، يظهر أنه مع كل تفاعل مع المؤثرات الخارجية، تبقى أحزاب اليسار الراديكالي في المغرب جزءًا عضوياً من الحركة السياسية المعاصرة والتي تشهد تناقضات وصراعات تعكس واقع التأثيرات المتعددة الأبعاد.


7. الفروق بين الطابور الخامس والطابور السادس

يتمثل الاختلاف الأساسي بين الطابور الخامس والطابور السادس في الأهداف والوسائل والأساليب المستخدمة لتحقيق تلك الأهداف. يعتبر الطابور الخامس، الذي يُشير عادةً إلى العملاء أو المتعاونين مع قوى خارجية تسعى لزعزعة استقرار وطنهم، مسارًا استعملته الحركات السياسية التقليدية للتهجم على القيم الوطنية من خلال ترويج الأفكار الهدامة. في المقابل، يتميز الطابور السادس باندماجه الفريد مع مجموعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب، حيث يسعى هذا الطابور إلى تحدي السرديات التقليدية بأساليب بديلة تحت رايات حقائق اجتماعية واقتصادية جديدة. وبالتالي، فإن الأهداف التي يسعى الطابور السادس لتحقيقها تتمثل في إعادة تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية في البلاد بأسلوب يؤكد على الهوية الوطنية من جهة، ومواجهة قضايا العدالة الاجتماعية من جهة أخرى.

أما فيما يتعلق بالوسائل، فإن الطابور الخامس يعتمد غالبًا على تقنيات التخريب الإعلامي واستخدام المعلومات المضللة لإشاعة الفوضى. بينما الطابور السادس يُعتبر أكثر تنظيماً، حيث يُركز على بناء تحالفات سياسية قوية واستراتيجيات مدروسة لإحداث تغييرات فكرية وسياسية ملموسة. تتضمن هذه الاستراتيجيات تنظيم الحملات الجماهيرية، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لزيادة الوعي بقضايا حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، مما يعكس أساليب تحقق أهدافهم بشكل يتسم بالشرعية والكفاءة.

على صعيد التأثير الاجتماعي، يتمكن الطابور السادس من الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع المغربي، من خلال تسليط الضوء على القضايا الممتدة من الفقر إلى تمثيل المرأة، مما يخلق حالة من التفاعل والحراك المجتمعي الذي يتمخض عن تحولات سياسية. في الوقت نفسه، تواجه أحزاب اليسار الراديكالي وجماعات الإسلام السياسي ردود فعل حكومية متباينة، تتراوح بين المنع والتفاعل الإيجابي، مما يبرز التحديات التي تواجهها هذه القوى في ظل السياسات الحكومية المستمرة. من هنا، يتضح أن الفروق بين الطابور الخامس والسادس تبرز من خلال التوجه العام للتغيير، إضافة إلى الأساليب المستخدمة، مما يخلق نظرة شاملة على الديناميات السياسية في المجتمع المغربي.


7.1. الأهداف والوسائل

تتعدد أهداف جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب، وغالبًا ما تتقاطع هذه الأهداف، مما يعكس تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد. بالنسبة لجماعات الإسلام السياسي، يُعتبر تعزيز الهوية الإسلامية والعمل على أسلمة المجتمع من العوامل الرئيسة في استراتيجيتها. تسعى هذه الجماعات إلى تحقيق نفوذ سياسي من خلال استقطاب قاعدة جماهيرية ترتكز على القيم الدينية، مدعومة بخطاب يركز على مقاومة العولمة والحداثة التي قد تُهدد القيم التقليدية. يتضح هذا التوجه، على سبيل المثال، في استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي كمنصات للترويج لأفكارهم، حيث يتم استغلال هذه الوسائل لنقل رسائل دينية وسياسية تُعزز من موقعهم في الساحة.

أما أحزاب اليسار الراديكالي، فتسعى إلى معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية من منظور يساري يُركز على العدالة الاجتماعية والمساواة. تستهدف هذه الأحزاب تغيير الأنظمة الاقتصادية والسياسية السائدة بغرض تحقيق تنمية مستدامة تخدم مصالح الطبقات المهمشة. تستخدم أحزاب اليسار الراديكالي استراتيجيات تشمل تنظيم الاحتجاجات، وتأطير الفعاليات الثقافية، ونشر الأدبيات التي تروج لبرامجها السياسية. هذه الجماعات تدرك أن الوسائل التقليدية مثل النقاشات العامة والمجموعات التدريبية تلعب دورًا محوريًا في تعميق فهم الأفراد للوضع السياسي والاقتصادي الحالي، مما يسهم في خلق وعي شعبي قادر على دعم مطالبهم.

من الواضح أن التباين بين الأهداف والوسائل بين الإسلاميين واليساريين يبرز رؤى متعارضة للتغيير والتأثير. فعلى الرغم من اختلاف الأسس الإيديولوجية، إلا أن كلا الطرفين يميلان إلى استغلال القضايا الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق مصالحهما. هذه الديناميكيات تعكس تأثيرًا عميقًا على المجتمع المغربي، حيث تصطف هذه الجماعات على طيف واسع من القيم والأفكار، مما يؤدي إلى تشكل تحالفات وصراعات تعكس التحديات السياسية التاريخية للبلاد. يتضح من خلال ذلك أن الأهداف والوسائل لم تعد مجرد أدوات لتحقيق خطط سياسية فحسب، بل أصبحت تعبيرات عن تطلعات الشعب المغربي في ظل ظروف متنوعة ومعقدة.


7.2. التأثير على المجتمع المغربي

يمثل التأثير الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب نسيجًا معقدًا من الدوافع والأثر على المجتمع المحلي. يتجلى هذا التأثير بشكل رئيسي من خلال الوعي السياسي والاجتماعي المتنامي بين فئات مختلفة من المجتمع، حيث قادت هذه الجماعات إلى تفعيل النقاشات حول القضايا الوطنية والديناميكا الاجتماعي. خاصة في ظل السياقات التاريخية والسياسية المعقدة التي واكبت المغرب بعد الاستقلال، أصبح للتحولات في الفكر السياسي تأثير مباشر على السلوك والتوجهات العامة للمواطنين.

على صعيد الإسلام السياسي، يمكن رؤية هذا التأثير في الطريقة التي أعيد بها تشكيل الخطاب العام حول الهوية والتقاليد الإسلامية. تسعى جماعات مثل العدالة والتنمية إلى استغلال مشاعر الجماهير بما يخص الدين، جامعين بين الإرث الاجتماعي والقيم الحديثة. في مقابل ذلك، يبرز اليسار الراديكالي كقوة تتحدى هذه الروايات، مقدماً تصورات بديلة حول العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. من خلال هذه الديناميات، وجد المواطنون أنفسهم في وسط نزاع بين الرؤى التقليدية والحديثة، مما أسهم في إشعال حوارات جادة حول مشاكل مثل الفقر، التعليم، والمساواة.

من حيث أثر هذه الجماعات على الممارسات اليومية، فقد تمكنت من خلق آليات للتعبير والسياسة البديلة التي تتجلى من خلال النشاطات الاجتماعية، المسيرات، والنقاشات العامة. هذا التفاعل لم يؤدي فقط إلى تعزيز المشاركة السياسية، بل أسفر أيضًا عن ظهور ثقافات جديدة من الاحتجاج والتحدي، تساهم في تشكيل هوية المجتمع المغربي. من خلال استثمار المنابر الإعلامية والتواصل الاجتماعي، تمكنت هذه الجماعات من الوصول إلى جماهير واسعة، مما ساعد على تضخيم صوتها وإعادة تشكيل المشهد السياسي، في محاولة لإبراز دورهم كقوى رئيسية في المجتمع المغربي حديثا.


7.3. ردود الفعل الحكومية

تجسدت ردود الفعل الحكومية في المغرب تجاه جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في سياقات متعددة ومعقدة، تعكس التوازن بين الحفاظ على الاستقرار وتعزيز القوى السياسية التقليدية من جهة، والاستجابة للضغط الشعبي والسياسي من جهة أخرى. إذ أن الحكومة المغربية خلال العقدين الماضيين، وخاصة بعد أحداث 2011، اعتمدت استراتيجية تتمحور حول امتلاك زمام الأمور من خلال إعادة تشكيل المشهد السياسي بطريقة تتناسب مع معايير المؤسساتية القوية التي تسعى لتفادي نزاعات عميقة الجذور قد تنشأ عن التنافس الأيديولوجي، خصوصا في مجال السياسة الدينية نظرا لاختلاف الرؤى بين الإسلام السياسي الشعبي الذي تتبناه قوى منظمة مثل العدالة والتنمية والعدل والإحسان من جهة، والإسلام الرسمي الممثل في إمارة المؤمنين المتجذر في النظام السياسي المغرب منذ قرون، ويحظى بشرعية شعبية واسعة.

من ناحية أخرى، اتبعت الحكومة نهجًا مزدوجًا في التعامل مع هذه الحركات، حيث قامت بإقرار بعض الإصلاحات السياسية، لكنها في الوقت نفسه، اتخذت إجراءات صارمة لمراقبة الأنشطة السياسية والإعلامية لهذه الجماعات. على سبيل المثال، تصاعدت وتيرة الضغوط القانونية والأمنية على بعض الفاعلين السياسيين، إضافة إلى محاولات لوضع قيود على حرية التعبير والاجتماعات، تحت ذريعة الحفاظ على الأمن الوطني ضد التحريض المؤدي إلى الإخلال بالأمن وزعزعة استقرار البلاد والعباد. هذه الإجراءات كانت مدفوعة برغبة الحكومة في تجنب الفوضى الاجتماعية التي قد تنجم عن صراعات داخلية قد تؤدي إلى عدم استقرار سياسي.

كما يمكن ملاحظة أن الحكومة نجحت في دعم وجود تشكيلات سياسية معتدلة – إلى حد ما - مثل حزب العدالة والتنمية، مما ساهم في تقديم صورة داخلية وخارجية أكثر استقرارًا للمشهد السياسي المغربي، في حين تم تهميش بعض الأحزاب اليسارية المتطرفة وجماعات الإسلام السياسي التي لم تتمكن من تأسيس قاعدة جماهيرية واسعة مثل جماعة العدل والإحسان المنغلقة على نفسها والتي لا تقبل بين أعضائها سوى المثقفين والأطر الموثوق من ولائها. بخلاف حزب العدالة والتنمية الشعبوي. بالتوازي مع ذلك، عززت الحكومة من استراتيجياتها التواصلية لتقديم نفسها كحامي للوحدة الوطنية، مما أدى إلى إحداث فوارق في قدرة هذه الجماعات على التأثير في الرأي العام. وبذلك، برزت ردود الفعل الحكومية كعنصر محوري في التأثير على تفاعلات القوى السياسية المتنافسة، حيث أصبحت السياسة المغربية تجسد توازنًا دقيقًا بين الاستجابة للتحديات الاجتماعية والسياسية وبين الحفاظ على السيطرة والترتيب الداخلي.


8. التحديات التي تواجه الطابور السادس

يواجه الطابور السادس، المتمثل في جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب، مجموعة من التحديات التي تعكس تعقيدات المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد. واحدة من أبرز هذه التحديات هي الضغوط الأمنية التي تفرضها الدولة، حيث تشعر السلطات بخطر إمكانية تصاعد النفوذ السياسي لهذه الجماعات، والتي تنظر إليها كمنافسين محتملين لهيمنتها. هذه الضغوط تتجلى في مراقبة الأنشطة السياسية، وملاحقة الأفراد المعارضين، وتضييق الخناق على حرية التعبير والاجتماع، مما يعيق قدرة هذه الجماعات على تنظيم فعالياتها وتوسيع قاعدة جماهيرها.

علاوة على ذلك، تعاني جماعات الطابور السادس من انقسامات داخلية عميقة قد تؤثر على استراتيجياتها وآليات عملها. هذه الانقسامات قد تكون أيديولوجية أو تنظيمية، وتمثل تحدياً حقيقياً في توحيد الجهود نحو أهداف مشتركة. فاختلاف الرؤى بين الإسلاميين واليساريين حول العديد من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية يؤدي إلى تباين مواقفهم، مما يزيد من صعوبة تحقيق تفاعل بناء مع الشارع المغربي. فالاختلافات حول الأيديولوجيات والأساليب قد تشكل عقبة أمام التكاتف، مما يضعف من القدرة على التأثير الفعّال في الحقل السياسي.

إضافةً إلى ذلك، فإن ردود الفعل الشعبية على الأنشطة والسياسات التي تتبناها هذه الجماعات تلعب دورًا محورياً في توجيه مسارها. الناخبون والشباب، على وجه الخصوص، باتوا أكثر وعياً وتحليلاً لما تعبر عنه هذه الجماعات، مما يعكس تطلعاتهم ومطالبهم في ظل السياق الحالي. تتعرض هذه الجماعات لاختبار حقيقي من خلال مدى قدرتها على التواصل مع القواعد الشعبية وتحقيق نتائج ملموسة، أو تقديم بدائل مقنعة تثير إقبال المواطنين. 


8.1. جماعة العدل والإحسان والطهر السياسي

فعلى سبيل المثال، تعتبر جماعة العدل والإحسان من أكثر التنظيمات شعبية في المغرب، حيث تذكر بعض المصادر أن عدد أنصارها بلغ 5 مليون داعم خلال أحداث الربيع العربي، وهو الرقم الذي لم يتمكن أحد من التحقق منه، وبما أن الجماعة تختبر شعبيتها بحكم إقصائها من المشاركة السياسية الرسمية، إلا أنها تبقى "قوة سلبية" في العلاقة بعملية التغيير السياسي في المغرب رغم شعبيتها ورغم ما تبديه من "طهورية سياسية" بحكم عدم تلوثها بالواقع السياسي في البلاد.

وتعتبر هذه الجماعة الأكثر إثارة للقلق الداخلي في ظل استقرار قواعد اللعبة السياسية وقبول بقية الأطراف الفاعلة بها، هذا فيما توظف الجماعة أنصارها كقوة للتغيير والحراك السياسي في وضع سلبي يثير الكثير من التساؤلات، حول فاعلية هذه القوة الجماهيرية في المشهد السياسي الداخلي من خارج الشرعية والمشروعية.

ذلك أن التحاق الأتباع بهذا النوع من التنظيمات يتغيى في العادة التطلع إلى التغيير وإحداث التحولات الاجتماعية والسياسية التي ترتقي بأوضاع أولئك الشباب، بمعنى الاستفادة من التغيير. لكن عدم توفر الجماعة على رؤية واضحة للمشاركة في الحياة السياسية المغربية، فقد دفع بالعديد من أتباعها إلى انتقاد خطابها واستراتيجياتها والتحول نحو تنظيمات يرون فيها بريق أمل لتحقيق طموحاتهم كحزب العدالة التنمية وأحزاب اليسار الراديكالي.  

وبالتالي، فبالرغم من مواقف جماعة "العدل والإحسان" المناهضة بقوة للنظام السياسي المغربي، إلا أنها على مستوى ميكانيزمات التغيير تظل قوة سلبية محاصرة وعاجزة، خصوصا بعد أن فعّلت الدولة المغربية أدواتها الأمنية الناعمة ضدها، الأمر الذي حرم هذه الجماعة من تحقيق عديد المكاسب السياسية على غرار نظيرتها في العدالة والتنمية.

كما أن ارتياب السلطة من النوايا الحقيقية لمثل هذه الجماعة الإيديولوجية التي تتخذ من الخطاب الديني وسيلة لتحقيق مآرب سياسية، يقتضي تكتيف المتابعات الاستباقية الاستخباراتية والملاحقات الأمنية للحد من مغامرات أعضائها، الأمر الذي يعد عاقا في طريق نمو الجماعة وتطورها، بما يحدثه من أثر سلبي على قدرتها على التغلغل العمودي في مفاصل الدولة أو التوسع الفقي في النسيج المجتمعي.

ونتيجة ذلك، تواجه جماعة "العدل والإحسان" اليوم تحديات في علاقتها بنفسها من حيث التنظيم المغلق في وجه العموم، والخطاب الدوغمائي الذي لم يعد يجذب الأنصار من جهة، وفي علاقتها بالخارج من جهة أخرى، ما قد يقوض الكثير من مكاسبها التي تحققت في مراحل تاريخية ماضية، كان لمنطقها التنظيمي وخطابها "الصوفي" المتطفل على السياسة بعض المصداقية.


8.2. حزب العدالة والتنمية والخطاب التركي

أما حزب العدالة والتنمية، فيسجل له رغم حداثة تجربته ما حققه من حضور "مدروس ومحسوب ومسموح به" على الساحة المغربية. فقد نجح هذا الحزب في أن يجد له مكانا في النظام السياسي المغربي، الذي كان محسوبا تاريخيا على "المخزن" واليسار، وتمكن الحزب من انتزاع مقاعد في البرلمان، وأخرى في المجالس المحلية على مستوى المحافظات والبلديات.

وبقبول هذا الحزب بقواعد اللعبة السياسية في المغرب بحماس، والموافقة على لعب دور حصان طروادة الذي عمل من خلاله النظام على مواجهة جماعات الإسلام السياسي المتطرفة والتيارات الراديكالية الممانعة، نجح إلى حد ما في التكيّف مع النظام، والذي يعتبر فيه الملك أمير المؤمنين، ورأس الدولة، وصاحب القرار والسلطة، وفق ما ينص عليه دستور البلاد. بمعنى أنه لم يكن يمثل معارضة دينية تشكل خطرا على النظام القائم، بل مجرد أداة. ذلك لأن التاريخ الإسلامي في ظل السلالات الحاكمة، وفي غياب الديموقراطية السياسية، كانت لعبة الصراع على السلطة تدور من خلال الإيديولوجيات الدينية، أي أن حركات الإسلام السياسي المناهضة للأنظمة القائمة، كانت تحرض على التغيير من خلال الخطاب الديني الذي يتخذ من إقامة العدالة عن طريق الشريعة ذريعة.

ولعل وعي حزب العدالة والتنمية بحدود المجال المتاح له التحرك فيه جعله حزبا حذرا غير مغامر، لا يقدم حتى على اكتساح ما هو مسموح به في اللعبة السياسية، عن طريق ممارس "رقابة ذاتية صارمة"، لاسيما وهو محل مراقبة من قبل خصومه خصوصا النخبة اليسارية، التي تحتمي هي نفسها بسبب ضعفها وشيخوختها بـ "المخزن" في مواجهة ما تسميه الزحف الأصولي.

ولعل تأكيد حزب العدالة والتنمية على أن الملك باعتباره أيضا أميرا للمؤمنين هو الضمانة الأساسية للنظام السياسي وأساس الشرعية فيه، قد حول هذا الخطاب مع الوقت إلى عائق أمام فرص تطور المسار السياسي للحزب في البلاد.، حيث اعتبره الكثير من المناوئين للنظام مجرد أداة لا يرجى منها تغييرا يذكر.

والحقيقة، أن انخراط حزب "العدالة والتنمية" في الفضاء السياسي المغربي، جاء كجزء من استراتيجية النظام لتأهيل وإدماج التيار الإسلامي، لما يمثله من تحد جدي للسلطة. وقد وجد النظام في حزب "العدالة والتنمية" الحماسة للاندراج بقوة ضمن هذه الخطوة بوعي وبدون وعي، في حين يعتقد حزب "العدالة والتنمية" أن مضيه ضمن هذه الاستراتيجية سيجعله شبيها بنظيره حزب العدالة والتنمية التركي لذلك حاول تطبيق سياسة "تمسكن حتى تتمكّن ثم بعدها تغوّل".


9. الضغوط الأمنية

تحمل الضغوط الأمنية الفاعلية الغالبة في التدخلات التي تستهدف جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب. تتجلى هذه الضغوط على أشكال متعددة، بدءًا من المراقبة المكثفة وتحديد حرية التعبير، وصولاً إلى التوقيفات والاعتقالات التي تستهدف الناشطين. في سياق هذه الضغوط، تبرز استراتيجية السلطات المغربية في التكيف مع التوجهات العالمية الأمنية، التي تعزز من عملية مكافحة الإرهاب والغلوّ، ما ينعكس على التصورات المحلية حيال الحريات السياسية والاجتماعية.

في السنوات الأخيرة، شهدت البلاد تحولات جذرية في المشهد السياسي، حيث نُفذت حملات تهدف إلى تفكيك الشبكات التي تُعتبر معادية للسياسات الرسمية وتشكل خطرا على أمن واستقرار البلاد. ترافق ذلك مع تكثيف العمليات الأمنية، التي تندرج تحت شعار حماية الأمن القومي. وعلى الرغم من أن هذه التدابير تهدف إلى احتواء التهديدات الأمنية المحتملة، إلا أنها أدت إلى نشوء بيئة توتر شديدة. ينعكس ذلك إما في استجابة الفاعلين السياسيين من تيارات الإسلام السياسي واليسار الراديكالي، الذين غالبًا ما يظهرون بمظهر الضحية التي تتعرض لقمع الدولة، أو في انزلاق بعض الأفراد إلى دائرة التطرف.

علاوةً على ذلك، تساهم الضغوط الأمنية في تعزيز الانقسام داخل هذه الجماعات، ما يؤدي إلى تشظي مواقفها وأفكارها. فالرد على الضغوط الأمنية لا يتمحور حول تكتيكات واحدة، بل يتمظهر في استراتيجيات متنوعة تتراوح بين الامتثال والتكيف وبين المقاومة والمواجهة. هذا التباين في الاستجابة يعد أمرًا حاسمًا لفهم مستقبل العلاقة بين السلطة والجماعات السياسية في المغرب. في المجمل، تجسد الضغوط الأمنية التحدي الأكبر التي يواجهه الطابور السادس، ما يستدعي تحليلًا دقيقًا حول كيفية تأثير هذه الضغوط على الحوار السياسي وقدرة الأحزاب على النفاذ إلى الساحة العامة.


10. الانقسامات الداخلية

تشكل الانقسامات الداخلية بين جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب ظاهرة معقدة تؤثر على الديناميات السياسية والاجتماعية في البلاد. هذه الانقسامات غالبًا ما تكون نتيجة لتباين في الرؤى الأيديولوجية والاستراتيجيات السياسية، حيث يسعى كل طرف إلى تحقيق أهدافه الخاصة التي تتناقض في بعض الأحيان مع مصالح الطرف الآخر. فبينما تركز جماعات الإسلام السياسي على تطبيق قيم الشريعة الإسلامية في السياسة والحياة العامة، يُظهر اليسار الراديكالي اهتمامًا بأسس العدالة الاجتماعية والمساواة الاقتصادية.

تتجلى الانقسامات الداخلية في العديد من أشكال الصراع، بدءًا من الاختلافات في القيادة والشرعية وصولاً إلى التنافس على الموارد والقاعدة الشعبية. جماعات مثل العدالة والتنمية، التي تمثل الإسلام السياسي، تجد نفسها أحيانًا في صراع مع تنظيمات يسارية تتبنى مواقف نقدية بشأن السياسات الحكومية، لا سيما فيما يتعلق بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية. وقد ظهرت جبهات داخلية في هذه الأحزاب نتيجة لأزمات القيادة، حيث يستاء الأعضاء من الاتجاهات المتبعة التي قد تتعارض مع قيمهم.

علاوة على ذلك، يتسبب التنافس على النفوذ السياسي والمواقع في البرلمان والحكومة في تفاقم تلك الانقسامات. عدم تحقيق التوافق داخل هذه الجماعات يعرّضها لمخاطر التحجيم والتفكك، حيث يمكن أن تؤدي التباينات في الأهداف والتوجهات إلى ظهور انشقاقات. تمثل هذه الظواهر تحديًا كبيرًا للفاعلين السياسيين، مما قد يترك تأثيرات عميقة على الاستقرار السياسي للبلاد. من الضروري النظر في كيفية تجاوز هذه الانقسامات، بما أن ذلك يعد شرطًا أساسيًا لتحقيق التواصل الفعّال بين جميع القوى السياسية، مما يسهم في تعزيز الحوار الوطني والاستقرار الاجتماعي في المغرب.


11. الردود الشعبية

الردود الشعبية تمثل تجليات معقدة للتفاعل بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين في المغرب تجاه التحديات التي تطرحها جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي. تتزايد هذه الردود في سياق شعور عام بالاستياء من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، مما يحفز الاستجابة الشعبية التي لا تقتصر على الكيانين السياسيين المذكورين فقط، بل تشمل أيضاً قوى متنوعة تتراوح من الحركات المدنية إلى الجماعات المنتمية إلى مجتمع الميم (ملحدين ومثليين).

تجلى رد الفعل الشعبي في مظاهرات ومنتديات حوارية تشجع على النقاش حول الرؤية المجتمعية والسياسية للمغرب. في السنوات الأخيرة، تحاول فئات عريضة من المجتمع المدني التعبير عن تطلعاتها من خلال الأشكال المختلفة للتظاهر السلمي، الهتافات، والغناء، بينما تبذل الحكومة جهودها للتصدي لهذه التعبيرات. يرتبط ذلك بجزء كبير من ردود الأفعال الاجتماعية التي تعتمد على الخطابات الثقافية والسياسية، إذ غالبًا ما يُعبر المتظاهرون عن عدم رضاهم عن الطرق التي تتبناها الأحزاب السياسية لتقديم حلول حقيقية لمشاكلهم.

فضلاً عن ذلك، تتواجد ردود الفعل عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث يميل الشباب المغربي إلى استخدام هذه الفضاءات للتعبير عن مطالبهم ونقدهم للأحزاب السياسية القائمة. الأعمال الفنية والمحتوى الرقمي غالباً ما تحتوي على رسائل مضادة تنتقد الوضع الراهن أو تطالب بالتغيير، مما يعكس ارتفاع الوعي السياسي بين الأجيال الجديدة. في النهاية، توضح هذه الديناميكيات كيفية تأثر الردود الشعبية بالمزاج العام للمجتمع وآثاره على التحالفات السياسية، مما يجعلها أحد العناصر الرئيسية لفهم المشهد السياسي المغربي الحالي.


12. أثر الطابور السادس على الاستقرار السياسي في المغرب

يُعَدُّ الطابور السادس جزءًا مركزيًا في تحليل الاستقرار السياسي في المغرب، حيث تمكنت جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي من تشكيل مشهد سياسي معقد يطرح تحديات كبيرة أمام الاستقرار. فمع تماسك هذه الجماعات تحت قيادات متنوعة وثقافات سياسية متباينة، استطاعت أن تُعَزز من تأثيرها على الساحة السياسية، مما أوجد حالة من التنافسية الشديدة. وقد تجلى هذا التأثير بصورة واضحة خلال الانتخابات، حيث استغل الطابور السادس السياقات الاجتماعية والاقتصادية والدينية لتعزيز نواياهم السياسية وكسب دعم الناخبين. إن إرباك عملية الانتخابات عادةً ما يُضعف من مصداقية النظام الديمقراطي، مما قد يؤدي إلى تآكل الثقة الشعبية في المؤسسات الانتخابية.

الهياكل السياسية المتعاقبة في المغرب لم تكن محصنة أمام تأثير الطابور السادس. فقد استخدمت تلك الجماعات استراتيجيات سياسية وإيديولوجية دينية مرنة وفعّالة تماشياً مع الاحتياجات المتغيرة للرأي العام، مما أثر على السياسات الحكومية وفرض أجندات جديدة لم يكن من الممكن تصورها قبل ذلك. فعندما تتعالى أصوات تلك الجماعات، تجد الحكومة نفسها مضطرة للتكيف مع المتغيرات، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تبني سياسات غير متسقة أو مستدامة. هذه الديناميكيات السياسية تعكس كيف أن الطابور السادس يعمل كفاعل أساسي يُعيد تشكيل التوجهات السياسية، متسبّبًا في انقسام سياسي يمكن أن يعكس عدم الاستقرار.

بصورة إجمالية، تولد الفعالية المتزايدة للطابور السادس قلقًا مستمرًا بشأن المتانة السياسية في المغرب. حيث أن دعوات التحالف أو التوافق بين الجماعات السياسية المتباينة غالبًا ما تعكس صعوبة تحقيق انسجام داخلي، مما يزيد من الطين بَلَّة ويُعزّز من حالة عدم اليقين السياسي. لذا يُمكن الجزم بأن تأثير الطابور السادس على الاستقرار السياسي يحمل في طياته أبعادًا معقدة تسعى القوى التقليدية والتقدمية للتعامل معها بأسلوب استراتيجي لضمان توازن القدرة في ظل بيئة سياسية مائعة ومتغيرة.


12.1. التأثير على الانتخابات

تُعتبر الانتخابات في المغرب ساحة محورية حيث تتقاطع فيها التأثيرات المعقدة لجماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي. يتجلى تأثير "الطابور السادس" في هذا السياق بشكل واضح من خلال استراتيجيات التوجيه والتعبئة التي تعتمدها هذه الأطراف. فقد عملت جماعات الإسلام السياسي، خاصة تلك الممثلة في حزب العدالة والتنمية، على استغلال الدين كأداة لجذب الناخبين وتعزيز قاعدة دعمها. هذه الاستراتيجية أدت إلى تحويل النقاش الانتخابي نحو قيم الهوية والتقاليد، مما أثر على طبيعة المنافسة الانتخابية بشكل عميق.

من جهة أخرى، استخدم اليسار الراديكالي، عبر تنسيق جهوده مع منظمات المجتمع المدني، في تعزيز مسألة العدالة الاجتماعية والمطالب الاقتصادية كحجر الزاوية في حملاته الانتخابية. وبفضل هذه الديناميات، استطاع اليسار استقطاب شرائح واسعة من الجماهير الفقيرة، مقدماً بدائل سياسية تتعارض مع الخطابات التقليدية للأحزاب الأكثر رسوخًا. لكن هذا التقارب بين الطرفين العالي الحساسية يعكس أيضًا وجود توتر ضمن المعادلة الانتخابية المغربية، حيث تحاول كل مجموعة تقويض الأخرى من خلال استراتيجيات متباينة.

لاحقاً، تتعاظم أهمية "الطابور السادس" في تقويض التوازنات السياسية من خلال الحملات التشويهية التي تطلقها جماعات الإسلام السياسي ضد منافسيها، وخصوصًا أثناء فترات الانتخابات. هذا النوع من التحركات يُعَزِّز من الجبهات المعادية ويؤدي إلى تقليل حرية التعبير داخل الفضاء العام، مما يجعل الناخبين عرضة للتضليل. من هنا، يبدو أن التأثير المباشر لجماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار يشكل ظاهرة معقدة، تتداخل فيها الأبعاد السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، موضحة بشكل خاص كيف يمكن لهذه الديناميكيات التأثير في نتائج الانتخابات.

بينما تعمل هذه القوى على تغيير موازين القوى داخل مجلس النواب، لا بد من الإشارة إلى أن التأثيرات المحتملة على النظام السياسي قد تتجلى في شكل تغيرات في السياسات الحكومية وفي تشكيل الحكومة ذاتها، مما يعزز من ضرورة فهم الآليات المستخدمة من قبل الطابور السادس خلال هذه الأشهر الحاسمة قبل الانتخابات المقبلة.


12.2. التأثير على السياسات الحكومية

تُعَدّ جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب من الفاعلين الرئيسيين الذين أثروا بشكل عميق على صياغة السياسات الحكومية. إذ تتجلّى هذه التأثيرات في مجالات متعددة، فوقفة هذه الجماعات أمام تحديات الموازنة بين تطلعات ناخبيها ومتطلبات إدارة الدولة، أثّر في النهاية على القرارات والسياسات. ترسخت هذه الظاهرة خلال فترات الانتخابات، حين كانت حكومات الائتلافات مضطرة للاستماع إلى مطالب تلك الجماعات، تحت ضغط الحركات الشعبية التي كانت تدعو دومًا للإصلاح. لذلك، نجد أن هذه التأثيرات أسفرت عن سياسات تعكس، إلى حد كبير، الأفكار الأساسية لهذه الجماعات، مثل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والعدالة.

من جهة أخرى، تؤكّد الدراسات على أن جماعات الإسلام السياسي، مثل حزب العدالة والتنمية، قد تمكنت من دمج معطيات إسلامية في أجندتها السياسية، فكان من نتيجة ذلك تطبيق سياسات اجتماعية مثل تحسين الرعاية الاجتماعية وتعزيز دور اللغة العربية في التعليم. أما أحزاب اليسار الراديكالي، فقد ساهمت في الدفع باتجاه سياسات أكثر عدلاً اجتماعيًا، مركّزة على تحطيم الاحتكارات الاقتصادية وتعزيز دور المواطن في تقرير مصير مستقبله. من هنا، يُمكن القول أن هذه الفصائل السياسية أضافت طبقات جديدة لتوجه الحكومة، لكن بالتوازي مع ذلك، أثارت هذه التأثيرات جدلًا حاداً حول قيمة هذه السياسات ومدى تحقيقها للأهداف المعلنة، مثل مطلب العدالة الاجتماعية.

في المحصلة، يظهر التأثير الواضح لجماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي على الأداء الحكومي في المغرب، إذ أن تباين أولويات تلك الجماعات يستدعي دقة في توجيه السياسات، وتحقيق توازن بين المتطلبات الشعبية والتحديات الاقتصادية. وقد أصبحت هذه الديناميات جزءًا لا يتجزأ من عملية صناعة القرار، حيث تسهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي، وتعكس في الوقت نفسه التحديات الهيكلية التي يواجهها المغرب فيما يتعلق بالاستقرار والتنمية.


13. الاستنتاجات

تتسم العلاقة بين جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في المغرب بالتعقيد والاستقطاب، ما يعكس التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة التي شهدتها البلاد على مر العقود. من خلال تحليل هذه الديناميكيات، يتضح أن كلا الطرفين يتشاركان في العديد من السمات، رغم تباين أيديولوجياتهما. فالجماعات الإسلامية، مثل العدالة والتنمية، تسعى إلى تجسيد قيم الإسلام في الحياة السياسية والاجتماعية، بينما يمتاز اليسار الراديكالي، بشموليته الفكرية، بمساعيه لإقامة نماذج تطور اجتماعي واقتصادي بديل. إلا أن التنافس على النفوذ والسيطرة على الفضاء العام، قد أدى إلى انزلاقات في الخطابات السياسية لكلا الطرفين، بحيث ابتدأ يميل كل منهما إلى الاستقطاب المعادي، مما ساهم في تعزيز التوترات السياسية.

علاوة على ذلك، إن التحولات الإقليمية والدولية، مثل موجات الاحتجاجات العربية وتأثيرات الاقتصاد العالمي، قد أسهمت في إعادة تقييم الأدوار والسياسات لكلا الجماعتين. تمثل هذه المسارات بنية معقدة تسهم في تفكيك الهويات، بالإشارة إلى التحالفات غير التقليدية التي تشكلت أحياناً بين هذين القطبين، خصوصاً في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية. يظهر ذلك جلياً في المداميك الاستراتيجية التي تمتاز بالتكيّف والمرونة، حيث تسعى الأحزاب إلى استغلال الفرص السياسية لتعزيز مكانتها في النظام.

بالمحصلة، تكشف هذه الديناميكيات عن نسيج سياسي متشابك يتطلب فهماً عميقاً لعلاقات القوة، والأيديولوجيات المتنافسة، وتأثيراتها المحتملة على مستقبل السياسة المغربية. تواجه البلاد تحديات هائلة تتعلق بالتوازن بين القوى اليسارية والجماعات الإسلامية، مما يعكس ضرورة التفكير في استراتيجيات جماعية تعزز من الاستقرار لفسح المجال أمام تنزيل خطة التنمية المستدامة الماكرو اقتصادية التي يقودها عاهل البلاد. هذه الاستنتاجات لا تعكس فقط المسارات الراهنة، بل تتطلع نحو المستقبل، مقدمة رؤى حول كيفية إمكانية تحقيق حل توافقي يعترف بالتنوع الفكري ويؤمن بالمشاركة الفعّالة لكافة الأطراف المعنية.


14. خاتمـــة

خلال هذه الدراسة تناولنا بالتحليل أوجه التداخل المعقد القائم بين جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي في الفضاء السياسي المغربي، حيث استعرضنا كيف أن هذه الديناميات قد شكلت مشهدًا سياسيًا متنوعًا وذو طابع خاص. لقد أظهرنا كيفية ممارسة هذه القوى السياسية لنفوذها من خلال تكتيكات متنوعة تتراوح بين التوافقات الظرفية، والتحالفات المستدامة، والمنافسات الشديدة، ما ينعكس على سياسات الدولة والمؤسسات الاجتماعية. يشير ذلك إلى تحول عميق في الممارسات السياسية، إذ انتقلت المكونات السياسية من النضال ضد الاستعمار إلى صراعات داخلية تهدف إلى السيطرة على السرد الوطني.

علاوة على ذلك، لقد استعرضنا دور الفعل الاجتماعي والثقافي كعناصر مؤثرة في استقطاب الجماهير وتوجيه الآراء. تجلى ذلك في كيفية استجابة الأحزاب السياسية المختلفة لاحتياجات الشباب والمشاكل الاجتماعية، مثل البطالة والفقر، والتفاوتات الاقتصادية. إن الخطاب الذي تتبناه هذه الجماعات عادة ما يستند إلى الأيديولوجيات المتباينة، وهذا ما يجعل الحوار بينهما معقدًا وأحيانًا متوترًا. هذه الحالة من عدم الثقة والفهم المحدود بين الطرفين تعكس تحولات أعمق في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمع المغربي، مما يؤدي إلى تعزيز الشعور بالانقسام.

ختامًا، يمكن القول إن العلاقة بين جماعات الإسلام السياسي وأحزاب اليسار الراديكالي ليست مجرد صراع من أجل السلطة، بل هي أيضًا تعبير عن التوترات الأيديولوجية والتحديات الاجتماعية التي تواجهها البلاد. إن فهم هذه الديناميات يتطلب رؤية شموليّة يمكنها أن تجمع بين الأبعاد التاريخية والاجتماعية والسياسية، لتقديم تصور أعمق عن مستقبل السياسة المغربية. فيما يترتب على هذه التفاعلات من آثار ومشاركة المواطن في الحياة السياسية، يصبح من الضروري أن تتجه الجهود نحو خلق فضاء حوارٍ بناءٍ، بما يُمكّن من استثمار كل الفرص نحو إعلاء شأن الديمقراطية والتعددية والاستقرار الأمني في ظل مشهد وطني وإقليمي ودولي مضطرب ومتغيّر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق