شرعية الصّلاة من التراث (1)

 


1. مقدمـــة:

بحث ديني: يقول التراثيون: "إنه لولا التواتر، لما عرف المسلمون كيف يُصلّون". هذا إقرار ضمني يرقى إلى مستوى الكفر بآيات الله التي تؤكد أن الله ما فرّط في الكتاب من شيء، وأنه جاء تبيانا لكل شيء، وأنه أكمل للناس دينهم.. لأن مثل هذا الإقرار يعلن صراحة أن القرآن نص ناقص، ما دام لم يبيّن للمؤمنين طريقة الصلاة، وأوقاتها، وعدد ركعاتها، فجاءت السنّة لتوضّح لهم ذلك. لكن السؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: - عن أي سنّة يتحدث التراثيون؟.. لأنه فيما يتعلّق بشرعيّة "الصلاة الحركية" كما يؤديها المسلمون اليوم، ومن خلال البحث في التراث، لا نجد حديثا عزيزا واحدا يتوفّر فيه شرط التواتر يدعم هذه الشرعية المزعومة، ما دامت كل الروايات التي ذكرت في موضوع الصلاة تعتبر من أحاديث الآحاد التي رواها شخص واحد عن شخص واحد آخر، دون أن تكون موصولة إلى النبي عليه السلام.../...


2. شرعية الصلاة من التراث 

هناك رواية يتيمة روتها عائشة وفق ما ورد في كتب البخاري ومسلم، ونصها: "فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر"، لكنها لم توضح من فرضها وكيف ومتى فرضت بالضبط، هذا علما أن النبي عليه السلام لم يتزوج عائشة إلا في السنة الثانية من الهجرة. وهو الحديث الذي سنعود إليه أثناء مناقشتنا في الجزء الثاني من هذا البحث لمفهوم الصلاة من القرآن. غير أن المثير للتساؤل، هو أن رواية عائشة قد تم تعديلها برواية ثانية أوردها البيهقي تقول: "إن أول ما فرضت ركعتين، فلمّا قدم نبي الله - عليه السلام - المدينة واطمأن زاد ركعتين غير المغرب لأنها وتر وصلاة الغداة لطول قراءتها. قالت: وكان إذا سافر صلى صلاته الأولى" (أي ركعتين بالتقصير)، هذاعلما أنه عند قدوم النبي المدينة لم تكن عائشة زوجته ولم تكن قد بلغت سن الرشد بعد. هكذا إذن ومن خلال التلاعب بالروايات ونسبتها لأسماء معروفة ومقربة من الرسول عليه السلام، يتمّ التطاول على شرع الله، بحيث تحولت الصلاة بقدرة قادر إلى ما هي عليه من طقوس يمارسها المسلمون منذ العهد الأموي والعباسي إلى يوم الناس هذا، دون أن يتدبروا القرآن ليتأكدوا إن كانت طريقة صلاتهم هي نفسها التي نص الذكر الحكيم عليها.

والحقيقة أننا لا يمكن أن نصدّق أن عائشة هي من قالت ذلك فعلا للأسباب التي أوردناها، بعد أن تبيّن من خلال البحث والاستقصاء أن عديد الروايات التي نسبت إليها قد تمت من قبل من اكتتبوا شريعة الدين الموازي زمن الأمويين والعباسيين، لإضفاء المصداقية على ما رد مروياتهم المزورة من مضمون، بغض النظر عمّا يقوله القرآن حول هذا الموضوع. خصوصا إذا كنا نؤمن كمسلمين أن لا أحد غير الله يشرع لعباده أحكام العبادات بما في ذلك الرسول عليه السلام. وبالتالي، فكل ما لم يأتي مبيّنًا في القرآن الكريم لا يعتد به حتى لو نسب زورا وبهتانا للنبي أو إحدى زوجاته أو أصحابه.

أما كيف تحولت الصلاة الحركية إلى ما هي عليه اليوم، فهناك إقرار من الشيخ الألباني يفيد: "أن هناك إجماع للعلماء على أن عدد ركعات كل صلاة على ما هو معلوم عند المسلمين الآن من كون الظهر والعصر والعشاء أربعا، والفجر ركعتين، والمغرب ثلاث ركعات". وبهذا قال أيضا الشيخ الكاشاني في "بدائع الصنائع" والمنذر في "الأوسط في السنن والإجماع"، وغيرهما من فقهاء النقل وتعطيل العقل.

لكن ما لم يقله الشيخ الألباني وغيره هو:

 - على أي أساس من شرع انعقد هذا الإجماع؟.. - وهل اتفاق فقيهين أو ثلاثة من فقهاء السلطان يُعدُّ إجماعا ملزما للأمة ولو خالف القرآن؟ 

خصوصا وأن ما هو معلوم من الدّين بالضرورة وفق فقهاء الرسوم، لا يمثل دليلا شرعيا يُبنى عليه، لأن الأمر لا يتعلق بعرف متواتر، بل بفريضة من أهم فرائض الدين، لا يحق لأحد أن يشرّعها غير الله وحده دون سواه.

هذه إحدى المعضلات الكبرى التي تواجه المسلم كلّما أراد البحث في التراث عن شرعيّة الصلاة المفروضة كما يمارس طقوسها المسلمون اليوم، استنادا إلى سنة الفقهاء، لا شرع الله، ولا سنة رسوله المفترى عليها.

نقول هذا لأنه لا يوجد حديث واحد مرفوع للرسول عليه السلام يتحدث عن عدد الصلوات المفروضة في اليوم وأوقاتها وعدد ركعاتها وطريقة أدائها، باستثناء رواية رواها أبو داود والترمذي وغيرهما عن ابن عباس، يدّعون فيها أن الرسول عليه السلام قال بشأن الصلاة الحركيّة: "أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين كان ظله مثله، وصلى بي المغرب حين افطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، ثم التفت إليّ فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين". وهي الرواية التي قال عنها الشيخ الألباني أنها حسنة صحيحة.

لكن دليل عدم صحة هذه الرواية جملة وتفصيلا، هو أن الأنبياء قبل الرسول عليهم السلام جميعا، كانوا يصلون ثلاثة أوقات (الفجر والمغرب والعشاء) بنص القرآن، على أساس ركعتين في كل وقت. وهو ما قالته عائشة في روايتها السالف الذكر على افتراض صحّتها، والتي تتناقض مع الرواية الذي أوردها أبو داود والترمذي عن ابن عباس. كما أن الرواية المنسوبة للنبيّ تتحدث عن الصلاة في شهر الصيام، ومعلوم أن النبي وفق ما ذكره القرآن كان يصلي في مكة قبل المدينة على طريقة جدّه إبراهيم الخليل عليه السلام، ما يؤكد أن هذا الحديث ملفّق مدسوس. خصوصا إذا علمنا أن ابن عباس الذي نسبت إليه هذه الرواية هو جدّ العبّاسيين الذين ورثوا الحكم بعد بني أميّة، وكان عمره لا يتجاوز 12 سنة عندما توفّي الرسول عليه السلام. 

- وبالتالي، كيف يمكن الوثوق برواية طفل لم يكن قد بلغ الحلم ساعة وفاة الرسول عليه السلام، في حين أن أول شرط فيما يُسمى بعلم الرجال عند الفقهاء هو الرشد؟

ونأتي لرواية أخرى نسبها الإمام مالك للرسول عليه السلام تقول: "صلّوا كما رأيتموني أصلي". من دون أن يوضح لنا الطريقة التي كان يصلي بها الرسول عليه السلام، ولا أوضحها أيضا أصحابه الذين عايشوا تجربة الوحي عن قرب. نقول هذا لأنه لا توجد رواية واحدة لأحد من أصحابه المقربين بما في ذلك من يسمّون بـ "الخلفاء الراشدين" ذُكرت فيها الطريقة التي كان يصلي بها النبي، بل هناك فقط شهادات لأناس عابرين وآخرين مشركين زعموا أنهم رأوا الرسول يصلي فذكروا لأقوامهم عند عودتهم طريقة صلاة النبي من دون أن يكونوا هم من المصلين، والتراث يزخر بمثل هذه الروايات المُلفقة.

فعلى سبيل المثال، ولأهداف لا علاقة لها بالدين، تم اختلاق مجموعة من الشهادات من قبل حراس المعبد، نسبوها لأناس ليسوا مسلمين ولا يعرفون الصلاة، وفدوا على الرسول زمن الوفود ورأوه يصلي فوصفوا طريقته وفق ما يزعم ناقلوا هذه الروايات، لكن – ويا للمفارقة - لم يذكر التراث السني على لسان صحابة رسول الله والأقربين الذين عاشوا معه طريقة صلاته بالمطلق.

وهناك رواية أخرجها أبو داوود في سننه عن وائل بن حجر يقول، إنه عندما وفد على الرسول عام الوفد في آخر سَنة من عمره الشريف، رآه يُصلّي، فلما عاد إلى قومه ذكر لهم بالتفصيل كيف كان يُصلي، هذا علما أن وائل لم يسبق له أن عرف الصلاة، ولم يصلّي مع الرسول، ولا صلّى قبله ولا بعده عندما عاد إلى قومه. ناهيك عن أن ما ذكره أبو داود في سننه عن وائل لا يعدّ حديثا أصلا بل رواية لشخص غير مسلم، تدخل في باب "السّواليف"، أي مجرد ثرثرة وكلام فارغ لا فائدة منه ولا مصداقية له.

وهناك رواية أخرى أوردها الدرامي نقلا عن أبو عاصمٍ عنْ عبد الحميد بن جعفر نقلا عن محمد بن عمرو بنِ عطاءٍ يقول: أنه سمع أبا حميدٍ الساعديَّ يقول أن أبو قتادَةَ قالَ: "أنَا أعلَمُكُم بصلاةِ رسولِ اللَّهِ عليه السلام، فقالوا: لِمَ، فَمَا كُنتَ أكثرَنَا لَهُ تَبعةً، ولاَ أقدَمَنَا لهُ صُحبةً، قالَ: بَلَى قالوا: فاعْرِضْ، قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ عليه السلام إذا قامَ إلَى الصلاةِ رَفَعَ يديهِ حتَّى يحاذيَ بِهِمَا مَنْكِبَيهِ، ثُمَّ كبَّرَ حتَّى يَقَرَّ كلُّ عظمٍ في موضِعِهِ، ثُمَّ يقرأُ ثُمَّ يكبِّرُ ويرفَعُ يديهِ حتَّى يحاذيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ يركَعُ ويضعُ راحتيهِ عَلَى ركبتيهِ، حتَّى يرجِعَ كلُّ عظمٍ إلَى موضِعِهِ، وَلاَ يُصَوِّبُ رأسَهُ وَلاَ يقنعُ، ثُمَّ يرفعُ رأْسَهُ فيقولُ سمعَ اللَّهُ لِمَنْ حمدَه، ثُمَّ يرفَعُ يديهِ حتَّى يحاذيَ بِهِمَا مَنكِبيهِ، يظنُّ أبو عاصمٍ أنهُ قالَ: حتَّى يرجعَ كلُّ عظمٍ إلَى موضعِهِ معتدلاً، ثُمَّ يقولُ اللَّهُ أكبرُ ثُمَّ يهويَ إلَى الأرضِ، فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ ثم يسجُدُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فيثني رِجْلَهُ اليسْرَى فيقعدُ عليهَا، ويفتَحُ أصابعَ رجليهِ إذا سَجَدَ، ثُمَّ يعودُ فيسجُدُ ثُمَّ يرفَعُ رأسَهُ فيقولُ اللَّهُ أكبرُ، ويَثْنِي رجلَه اليسرَى فيقعُدُ عليهَا معتدلاً حتَّى يرجِعَ كلُّ عظمٍ إلَى موضِعِهِ معتدلاً، ثُمَّ يقومُ فيصنعُ في الركعةِ الأخرَى مثلَ ذَلِكَ، فإذا قامَ منَ السجدتينِ كبَّرَ ورَفَعَ يديهِ حتَّى يحاذيَ بِهِمَا مَنْكِبيهِ كَمَا فعلَ عندَ افتتاحِ الصلاةِ، ثُمَّ يصنعُ مثلَ ذلكَ في بقيةِ صلاتِهِ، حتَّى إذا كانت السجدةُ أو القعدةُ التي يكونُ فيها التسليمُ، أخَّرَ رجلَهُ اليسرَى وجلَسَ متوركاً عَلَى شِقِّهِ الأيسرِ، قالَ: قالوا: صدقتَ هكذا كانَت صلاةُ رسولِ اللَّهِ عليه السلام". 

لاحظ أن من يَسألُ أبو قتادة الذي روى هذا الحديث المزعوم هم صحابة رسول الله، فيقولون له: "ما كنت أكثرنا تبعة له ولا أقدمنا له صحبة"، والسؤال هو: - هل كان أبو قتادة وحده من دون أصحاب رسول الله يعلم بطريقة صلاته؟ هذا دليل تفوح منه رائحة التزوير الغبي الذي يخاطب عقول السّدّج من الناس لا العقلاء.

وها هو التاريخ يذكر أن رواية محمد بن عمرو بن عطاء التي نقلها عن أبا حميدٍ الساعديَّ مرفوعة إلى أبو قتادَةَ، رواية مختلقة لا أساس لها من الصّحّة، لأن الرجل توفي في خلافة الوليد وقيل آخر خلافة هشام ابن عبد الملك، وبالتالي، لم يكن موجودا زمن الرسالة، ولم يتعرّف على من قال إنه أعلم بصلاة الرسول من صحابته المقربّين، أي أبو قتادة، لينقل عنه طريقة صلاته المزعومة بالتفصيل المُمِلّ، وكأنها كانت سرّا لا يعلم تفصيلها إلا أبو قتادة دون غيره من المؤمنين اذي عايشوا الرسالة. كما أنه لا يُعدُّ من الصحابة أصلا، وثقافته ثقافة ما بعد الفتوح، أي زمن بني أميّة الذي كثرت فيه الروايات المزوّرة المنسوبة إلى الرسول عليه السلام. ناهيك عن أن روايته مثل سابقيه، ليست حديثا عزيزا موصولا بالرسول عليه السلام، بل مجرد رواية مختلقة مثل تلك التي قال بها ابن حجر، تُكذبها معطيات التاريخ وحقائق الدين التي وردت في كتاب الله الحكيم، وبالتالي، تدخل في باب "السواليف" كما غيرها من المرويات التي لا مصدر موثوق لمتنها من جهة، كما وأن القرآن لا يؤيد ما جاء في مضمونها من جهة ثانية.

هذه الروايات وغيرها التي اعتمدتها المنظومة السّنّية للتّشريع للصلاة كما يؤديها المسلمون اليوم، تؤكد أنه وباستثناء من أدلوا بهذه "الشهادات" الكاذبة التي لا تستقيم دينا ولا عقلا، وتؤكّد بما لا يدع مجالا للشك أنه لا يوجد بين السلف من المسلمين قديما، بما في ذلك زمن البعثة المحمّديّة، من كان يعرف كيف كان يصلي النبي عليه السلام، وإلا لنقله إلينا بتفصيل، وهو ما يؤكد أن الأمر مجرد افتراء على الله ورسوله، وإلا لما اختلف الفقهاء والمسلمون في مختلف أصقاع الأرض حول عدد الصلوات وركعاتها وطريقة أدائها، ولما تحدثوا أصلا عن صلاة للرسول، لأنه ليس هناك صلاة للرسول وصلاة لغيره من المسلمين ما دام المشرع واحد هو الله، ومصدر التشريع هو القرآن. وبالتالي، ففي غياب حكم الصلاة في القرآن الكريم كما هو الحال بالنسبة للغسل والطهارة والمواريث والحج والصيام وغير ذلك...  لم يجد من سمّاهم الرسول عليه السلام بـ "مجوس الأمة" (وفق ما ذكره أبو حامد الغزالي في الإحياء – باب العلم والعلماء)، أقول لم يجد فقهاء السلاطين وتجار الدين غير الكذب ليفتروا على الله ورسوله وعامة المسلمين ما لم ينزل به ربّ العالمين من سلطان في كتابه المُبين.


3. زمن فرض الصلاة وفق التراث

في رواية أوردها البخاري تحت الرقم 349، ومسلم تحت الرقم 162، عن أنس بن مالك تحت مسمّى "حديث الإسراء" جاء فيه أن الرسول عليه السلام قال: "فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّك\َ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ ... قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً".

لاحظ أن مثل هذه الرواية تتهم الله ضمنا - سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون - بأنه لا يعرف ما الذي يطيقه عباده وما لا يطيقونه، وأن موسى هو من نبّه النبي محمد لكي يراجع ربّه أكثر من مرّة. وبالتالي، يصبح فضل التخفيف عن المسلمين عائد إلى موسى، وهو ما يشتم منه رائحة الصناعة اليهودية. 

كما وأن التراثيين يتحجّجون بإجماع العلماء الذي انعقد وفق قولهم على أن الصلوات الخمسة لم تفرض إلا في ليلة الإسراء والمعراج وفق ما ورد في (فتح الباري لابن رجب: 2/104). 

وقالوا أيضا أن شيخ المفسرين السنة ابن كثير قال في تفسيره الشهير (7 / 164) "ثم نزل جبريل عليه السلام وعلم النبي أوقات الصلاة".

بل أكثر من ذلك، فقد روى البخاري رواية تحت الرقم 522 ومسلم تحت الرقم 611 تقول: "عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا مُغِيرَةُ؟ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ فَصَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : (بِهَذَا أُمِرْت) فَقَالَ عُمَرُ لِعُرْوَةَ : انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ يَا عُرْوَةُ ؟ أَوَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ أَقَامَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتَ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: كَذَلِكَ كَانَ بَشِيرُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ".

وروى النسائي في حديث تحت الرقم 526: "عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَصَلِّ الظُّهْرَ حِينَ مَالَتْ الشَّمْسُ. ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى إِذَا كَانَ فَيْءُ الرَّجُلِ مِثْلَهُ جَاءَهُ لِلْعَصْرِ فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَصَلِّ الْعَصْرَ. ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى إِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ جَاءَهُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الْمَغْرِبَ. فَقَامَ فَصَلَّاهَا حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ سَوَاءً، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ الشَّفَقُ جَاءَهُ فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ الْعِشَاءَ. فَقَامَ فَصَلَّاهَا: فَقَالَ: – يعني جبريل - مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ كُلُّهُ". وهي الرواية التي صححها الألباني فيما يسمّى بـ (صحيح النسائي).

وروى عبد الرزاق في (مصنفه رواية تحت الرقم 1773) وابن إسحاق في سيرته وفق ما ورد في فتح الباري (2 / 285): "أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة".

وقال القرطبي في تفسيره: "ولم يختلفوا في أن جبريل عليه السلام هبط صبيحة ليلة الإسراء عند الزوال فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ومواقيتها ".

وقال شيخ الإسلام في (شرح العمدة: 4 / 148): "إن بيان جبريل لمواقيت الصلاة كان صبيحة ليلة الإسراء".

وجاء في "الموسوعة الفقهية" (27 / 52 – 53): "إِنَّ أَصْل وُجُوبِ الصَّلاَةِ كَانَ فِي مَكَّةَ فِي أَوَّل الإْسْلاَمِ؛ لِوُجُودِ الآْيَاتِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي بِدَايَةِ الرِّسَالَةِ تَحُثُّ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِالصُّورَةِ الْمَعْهُودَةِ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ لَيْلَةَ الإْسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ ".

وقال الحافظ  بن حجر في (فتح الباري): " ذَهَبَ جَمَاعَة إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْل الْإِسْرَاء صَلَاة مَفْرُوضَة إِلَّا مَا كَانَ وَقَعَ الْأَمْر بِهِ مِنْ صَلَاة اللَّيْل مِنْ غَيْر تَحْدِيد، وَذَهَبَ الْحَرْبِيُّ إِلَى أَنَّ الصَّلَاة كَانَتْ مَفْرُوضَة رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيّ عَنْ بَعْض أَهْل الْعِلْم أَنَّ صَلَاة اللَّيْل كَانَتْ مَفْرُوضَة ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فَصَارَ الْفَرْض قِيَام بَعْض اللَّيْل، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْس".

أما الإمام الشافعي، وبدل الوثوق بما جاء في كتاب الله قال: "سَمِعْت من أَثِقُ بِخَبَرِهِ وَعِلْمِهِ يَذْكُرُ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فَرْضًا في الصَّلَاةِ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِفَرْضٍ غَيْرِهِ، ثُمَّ نَسَخَ الثَّانِيَ بِالْفَرْضِ في الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، قال (أي الشافعي): كَأَنَّهُ يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ عز وجل {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أو اُنْقُصْ منه قَلِيلًا...}. ثُمَّ نَسَخَهَا في السُّورَةِ معه بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى من ثُلُثَيْ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ} إلَى قَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ من الْقُرْآنِ}، فَنَسَخَ قِيَامَ اللَّيْلِ أو نِصْفَهُ أو أَقَلَّ أو أَكْثَرَ بِمَا تَيَسَّر من قراءة القرآن. وما أَشْبَهَ ما قال بِمَا قال".

نكتفي بهذا القدر من المرويات لأن ما ورد بشأن الصلاة لا يختلف عما سبق ذكره وإن اختلف السند حينا والصيغة أحيانا، لكن يظل المعنى واحد، حيث عُقد الإجماع على أن الصلاة الحركية كما نعرفها اليوم فرضها الله تعالى على رسوله الخاتم عليه السلام ليلة المعراج، وأن جبريل عليه السلام هو من علّمه طريقتها وأوقاتها صبيحة ليلة المعراج ولهذا السبب لم يفصل الله الصلاة في القرآن.. وإذا لم يكن مثل هذا القول قمة الجهل والغباء فلا جهل ولا غبار في هذه الدنيا.

نقول هذا لأن القرآن الكريم الذي نعتبره مصدر التشريع الإلهي الوحيد والأوحد يدحض مثل هذه الروايات جملة وتفصيلا، ويؤكد بالدليل القاطع والحاسم والنهائي: أن جبريل لم يعلم الرسول الصلاة الحركية صبيحة ليلة الإسراء، وذلك لسببين: 

- الأول: ان الرسول عليه السلام كان يصلي في مكة قبل الإسراء وبالطريقة التي أوضحها القرآن والتي سيأتي بيانها في سياق تكملة هذا البحث. وجبريل عليه السلام ما كان له أن يعلمه شيئا من أمور الدين لم يفصّله الله تعالى في الوحي المبين، لقوله في الاية 1 من سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير}.

- الثاني: أن واقعتا الإسراء والمعارج لا أساس لهما من الصحة بالمطلق، لأن التاريخ لا يذكرهما، فيما اللغة تُكذّبهما، أما القرآن فينفيهما جملة وتفصيلا، ما يؤكد أنهما مجرد أسطورة مقتبسة من تراث اليهود والمعتقدات الدينية القديمة. ودليل ذلك يكون كالتالي:


4. الإسراء والمعراج: بين الحقيقة والأسطورة

لمعرفة صحة واقعة الإسراء والمعراج من عدمها، سنتناول الموضوع من زوايا ثلاثة: التاريخ، اللغة، القرآن.


4.1. الإســـراء

من وجهة نظر التاريخ: يقول التاريخ، أن إسراء محمد عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أمر مستحيل الحدوث وذلك لسببين رئيسيين: 

- السبب الأول. أن المسجد الأقصى لم يكن موجودا زمن الرسول عليه السلام. لأن من بنا المسجد الأقصى وقبة الصخرة هو الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان كما هو موثّق تاريخيا. وذلك سنة 73 هجرية. أمّا لماذا؟ فيعود السبب الحقيقي وفق ما تؤكده عديد المصادر التاريخيّة، بما في ذلك ما ذكره شيخ المفسّرين السّنّة ابن كثير في مؤلفه الشهير (البداية والنهاية)، إلى سيطرة الصّحابي عبد الله بن الزبير على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة ومقام الناشب، فيهاجم عبد الملك بن مروان، ويذكر مساوئ أسرته ويقول: "إن النبي عليه السلام لعن الحَكَمْ والد عبد الملك وما نسل من سلالة جدّه أميّة بن عبد شمس القرشي. لأن الحَكَمْ كان طريد رسول الله ولعينه. وكان يدعو إلى نفسه. وقد عرف عن عبد الله بن الزبير الفصاحة في الخَطابة. فمال معظم أهل الشام إليه. وبلغ ذلك عبد الملك. فمنع الناس من الحج. ولمّا استنكروا عليه ذلك. بنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى الذي يعرف اليوم بالمسجد الأقصى. ليشغلهم بذلك عن الحج. ويستعطف قلوبهم. وكانوا يقفون عند الصخرة. ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة. وينحرون يوم العيد. ويحلقون رؤوسهم. ففتح بذلك على نفسه باب تشنيع ابن الزبير عليه. فكان ينتقده بمكة ويقول. إن عبد الملك ابن مروان اتبع بذلك سنّة الأكاسرة في إيوان كسرى والخضراء كما فعل معاوية. ونقل الطواف من بيت الله إلى قبلة بني إسرائيل في المقدس". 

وبرغم صحة ما ذكره ابن كثير من حيث الحقيقة التاريخية إلا أننا نتحفّظ على قوله: "إن النبي عليه السلام لعن الحَكَمْ والد عبد الملك وما نسل من سلالة جدّه". لأن النبي عليه السلام لم يكن لعّانًا، بل كان على خلق عظيم كما وصفه رب العزّة في القرآن الكريم.

- السبب الثاني: يكمن في أن المسلمين لم يكونوا قد فتحوا بلاد الشام زمن الرسول عليه السلام. والتي كانت تضم سوريا والأردن ولبنان وفلسطين قبل التقسيم بموجب اتفاق سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي. ومعلوم أن زمن ما يسمّى بالفتوحات الإسلامية لم يبدأ إلا في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وليس قبل ذلك. ودليل ذلك العهدة العمريّة الشهيرة التي أوصى بموجبها الخليفة الثاني المسلمين الفاتحين بأهل الكتاب من سكان القدس خيرا. 

من الناحية اللّغويّة: إن كلمة "أسرى" الواردة في الآية الأولى من سورة الإسراء لقوله تعالى: {سبحان من أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}. مصدرها من "الإسراء"، وتقال عن القافلة إذا أسْرت ليلا، أي خرجت وسارت مشيا. والإسراء لا يكون إلاّ بالسير على الأقدام لا بالطيران في السماء. أما الأقصى فمعناها البعيد، ولا تعني بالضرورة المسجد الذي في القدس ما دام لم يكم موجودا أصلا. 

أما من الناحية القرآنية: فالله تعالى في سورة الإسراء لم يقصد رسوله الخاتم محمد عليه السلام. بل قصد رسوله موسى عليه السلام، بدليل أن سورة الإسراء تُسمّى أيضا سورة بني إسرائيل. لأن الآيات العشر التي تلت الآية الأولى التي ذكر فيها الإسراء، خص بها تعالى رسوله موسى عليه السلام لقوله في الآية الثانية: {وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألاّ تتّخذوا من دوني وكيلا}. وبالتالي، فليس من طبيعة الخطاب القرآني أن يتحدث في الآية الأولى عن رسول، ثم ينتقل في بقية الآيات للحديث عن رسول آخر.  ذلك أن الآية الأولى وفق ما يفرضه السياق، تعتبر مقدمة لما سيأتي الحديث عنه بعدها.

كما وأنه بتطبيق قاعدة القرآن يفسر بعضه بعضا التي قال بها الرسول عليه السلام، نجد أن كلمة "أسرى" وردت في الآيات التالية:

- في الآية 1 من سورة الإسراء: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع البصير}.

- في الاية 77 من سورة طه: {ولقد اوحينا الى موسى ان اسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى}.

- في الاية 52 من سورة الشعراء: {وأوحينا الى موسى ان اسر بعبادي انكم متبعون}.

- في الاية 23 من سورة الدخان: {فاسر بعبادي ليلا انكم متبعون}.

وهذا دليل قرآني قاطع وحاسم ونهائي، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الإسراء أمر به تعالى نبيه موسى عليه السلام ليخرج قومه من مصر هربا من استبداد فرعون الذي كان يسومهم سوء العذاب ويقتل أبناءهم ويغتصب نساءهم، ولم يأتي في القرآن الكريم ما يفيد أن الأمر شمل النبي الخاتم عليه السلام بالمطلق، لإختلاف الوضع في مكة زمن البعثة عنه في مصر زمن موسى.

هذه الشواهد الثلاثة: التاريخية، واللغويّة، والقرآنية. تؤكد جميعها استحالة وقوع حادثة الإسراء زمن الرسول الخاتم عليه السلام. إلا في حالة واحدة فقد لا غير. وتتمثل في إلغاء العقل، وتكذيب السياق القرآني، والمعطيات التاريخية، والمنطق اللغوي.. وهذا ما حدث مع الأسف.


4.2. المعـــراج

إذا كان المعراج وفق ما يقول التراثيون، معجزة ربّانية تتمثل في عروج جبريل بالرسول (عليهما السلام) من الأرض إلى السماء على حيوان يدعى البراق، فإن الله تعالى قد أفصح في التنزيل الحكيم عن كل المعجزات التي وقعت للرسل عليهم السلام جميعا: كمعجزة إبراهيم مع النار. ومعجزة يونس مع الحوت. ومعجزة يعقوب الذي وهبه الله تعالى القدرة على التحكم في الريح. ومعجزة سليمان مع الجن. ومعجزة موسى مع العصا. ومعجزة عيسى مع الكلام في المهد وإحياء الموتى وشفاء المرضى. ناهيك عن معجزة مريم مع مائدة السماء. ومعجزة أهل الكهف.. وغيرها من الخوارق التي تخرج عن سنن وقوانين الطبيعة. أما الرسول الخاتم عليه السلام، فلم يذكر الله تعالى في التنزيل الحكيم أنه أيّده بمعجزة غير القرآن، وكل ما قيل خلاف ذلك هو محض هراء وافتراء على الله، وكفر بآياته، نعوذ بالله من أن نكون من الكافرين.

ومعلوم أن الله تعالى، ما أرسل من رسول إلى قومه إلا وأيّده بمعجزة من النّوع الذي يتناسب مع ثقافة مجتمعه. فموسى على سبيل المثال أيّده الله بالعصا، لأن ظاهرة السّحر كانت منتشرة في عهده. وعيسى بعثه الله بمعجزة إحياء الموتى وشفاء المرضى، لأن ظاهرة الأمراض كانت سائدة في وقته. أما محمد عليه السلام، فقد بعثه الله بالقرآن الكريم، لأن ظاهرة الشعر والبلاغة هي التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي أثناء بعثته. ومعلوم أن هذه المعجزات جعلها الله تعالى بمثابة مؤيدات لرسله حتى يصدّقهم أقوامهم ويؤمنون بأن ما جاؤوا به هو الحق من عند ربّهم.

ويلاحظ في هذا الصدد، أن كل المعجزات التي أيد بها الله تعالى رسله الكرام عليهم السلام كانت معجزات مادّيّة وظرفية. أي أنها كانت من النوع الذي يشاهد بالعين المجرّدة ولا يتكرر في الزمان لافتقار المعجزة الوقتيّة لطابع الاستمرارية. باستثناء معجزة الرسول الخاتم عليه السلاّم، التي كانت معجزة حسّيّة دائمة في الزمان ومستمرة في كل مكان. بدليل أن الله تعالى قال عنه أنه بعثه رحمة للعالمين، ولا شيء يمكن أن يحقّق عالمية هذه الرحمة كما هو معلوم، سوى القرآن الكريم. الذي جعله الله تعالى صالحا لكل مكان وزمان إلى يوم الدين.

أما بالنسبة لغير القرآن. مما نسب إلي الرسول الخاتم عليه السلام من معجزات: كتفجير الماء، وانشقاق القمر، وغيرهما.. فلا حقيقة لهما على الإطلاق، ما دام الوحي قد نفى عنه ذلك نفيا قاطعا. بدليل قوله تعالى في الآية 59 من سورة الإسراء: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلْأَوَّلُونَ (...) وَمَا نُرْسِلُ بِٱلْءَايَٰتِ إِلَّا تَخْوِيفًۭا}.  بمعنى، ما الفائدة من إعادة إرسال المعجزات إذا كان الناس سيكذبون بها كما فعل الأولون. كما وأن الغاية من بعث الرسل قديما بالمعجزات الماديّة هو تخويف الناس ممّا ينتظرهم من عذاب إن هم كذّبوا الرسل، وما ينتظرهم من نعيم بالمقابل إن هم صدّقوهم. لأن مهمة الرسول – أي رسول – لا تخرج عن كونه مُنذر وبشير، أي مبلّغ عن الله رسالاته، ولا يحق له التشريع مع الله ما لم ينزل به من سلطان.

وقوله أيضا في الآيات من 89 إلى 93 من سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍۢ فَأَبَىٰٓ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورًۭا * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلْأَرْضِ يَنۢبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌۭ مِّن نَّخِيلٍۢ وَعِنَبٍۢ فَتُفَجِّرَ ٱلْأَنْهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌۭ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًۭا نَّقْرَؤُهُۥ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًۭا رَّسُولًۭا}.

وبالتالي، فإذا كان ما سبق يعتبر نفي قاطع من قبل الحق تعالى على لسان رسوله الصّادق الأمين، يفيد عدم تأييده بأيّ من المعجزات التي طلبها القوم: كتفجير ينبوع ماء من الأرض، أو أن تكون له جنة من عنب ونخيل تجري من تحتها الأنهار، أو يسقط عليهم السماء كسفا، أو يأتي بالملائكة قبيلا، أو يكون له بيت من زخرف، أو يرقى إلى السماء وينزل عليهم منها كتابا يقرأونه.. أي أنهم طالبوه أيضا بمعجزة المعراج، فنفا عليه السلام أن يكون له كبشر القدرة على ذلك.   وبالتالي:

- هل يجب أن نكذّب هذه الآيات البيّنات ونصدّق ما روّج له التراثيون من أسطورة المعراج؟

ولأن الله تعالى، وبخلاف المعجزات الماديّة والظّرفيّة التي أيّد بها رسله الكرام من قبل، فقد أراد أن يكون لرسوله الخاتم معجزة حسّية لا ماديّة ظرفيّة، بل دائمة إلى أن تبدّل السّماوات غير السماوات والأرض. وها هم علماء الكون وعلماء الأحياء يكتشفون بين الفينة والأخرى معجزات علميّة لم تكن معروفة من قبل، ما يؤكد ان القرآن هو فعلا من عند الله، وأن محمدا حقّا رسوله. وهذا لعمري قمّة الإعجاز الدائم المستمر في كل زمان ومكان، لعلم الله تعالى، أن البشرية ابتداء من عهد محمد وما بعده، لن تحتاج لشيء غير القرآن، لقوله تعالى في الآية 82 من سورة الإسراء، أنه نزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للذين يؤمنون به. بمعنى أنه يشفي غليل العلماء إلى المعرفة، وينزل رحمة على الذين يتعاملون معه بالتدبّر العقلاني العميق. أما الظالمون الذي يلحدون في الحق، ويستهزؤون بآيات الله، ويفترون عليه وعلى رسوله الكذب، فلن يزيدهم موقفهم هذا إلا خسارا. 

ولعلّ الدليل على أن القرآن معجزة حسّيّة قائمة بذاتها ومستمرة في كل زمان ومكان إلى أن تقوم السّاعة، هو تحدّي الله للإنس والجن بأن يأتوا بمثله، لقوله تعالى في الآية 88 من سورة الإسراء: {قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍۢ ظَهِيرًۭا}.

وبعد أن نفى الله تعالى في الآيات من 89 إلى 93 من سورة الإسراء المذكورة أعلاه، أن يكون قد أيّد رسوله الخاتم عليه السلام بالعروج إلى السماء كما زعم الكهنوت، أمره بأن يؤكد هذا النفي على لسانه أيضا، لقوله في الآية 93 من نفس السورة: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًۭا رَّسُولًۭا}. ومعنى المعنى، أن البشر حتى لو كان رسولا، لا يمكنه أن يرقى إلى السماء ضدا في قوانين الطبيعة، أو يأتي بأيّة معجزة إلا بمشيئة الله وقدرته. وما دام تعالى قد نفى أن يكون ذلك قد حصل مع رسوله الخاتم عليه السلام، فإن تأكيد عكس ذلك من قبل كائن من كان هو افتراء على الله ورسوله، وتكذيب بآياته كما سبق القول، نعوذ بالله أن نكون من المفترين.  

والحقيقة، أن الله تعالى لم يكتفي بالنفي الذي أشرنا إليه في الآيات من 89 إلى 93 من سورة الإسراء، بل أكده مرّة تلو أخرى في سياقات مختلفة، منها قوله في الآية 37 من سورة الأنعام: {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ ۚ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةًۭ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. ومعنى الآية: العلامة الدّالّة على القدرة الفائقة التي تتحدّى قوانين الطبيعة، وليس الغرض منها إعجاز الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ويُبيّن تعالى سبب رفضه وفق ما يفهم من كيمياء الخطاب، حجم البلاء الذي سيصيب من يطالبون بالآية إذا أنزلها الله. 

وتوضيح ذلك يكون كالتالي: أن امتحان الدنيا يقتضي الإيمان بالغيب. أما إذا أنزل الله آية كالمائدة من السماء مثلا، فلن يكون لهذا الإيمان من معنى، وبالتالي، سيبتلي الله من أنزل لهم آية بما لا يعلمون من عذاب لا طاقة لهم بتحمّله إن هم كفروا بعد ذلك، بل ولن يرحمهم إن هم أخطأوا، وسيعذبهم عذابا لن يعذّبه لأحد من العالمين، لأن لا عذر لهم بعد أن رءوا الآيات بأم العين، بخلاف الذين آمنوا من دون أن يستفيدوا من هكذا فرصة. وهذا هو ما يفهم من قوله تعالى من الآية 112 إلى 115 من سورة المائدة بشأن الحواريين الذي طالبوا بمائدة من السماء، فأنزلها الله تعالى عليهم، لكن هدّدهم بما لم يهدد به أحد من العالمين، في حال كفروا بعد أن رأوا قدرة الله تتجسّد واقعا على الأرض رؤية العين. يقول تعالى في هذا الشأن: 

- {إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةًۭ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةًۭ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًۭا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةًۭ مِّنكَ ۖ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ * قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًۭا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدًۭا مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

وقطعا للشّكّ باليقين. قال تعالى في الآية 109 من سورة الأنعام: {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌۭ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا ٱلْءَايَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}. في هذه الآية الكريمة، يقسم المشركون للرسول الخاتم عليه السلام، أنهم وبخلاف من سبقوهم من الأقوام، سوف يؤمنون بالله ويصدقون بأنه رسوله بمجرّد أن يأتيهم بآية. لكن الله الذي يعلم ما يختلج في صدورهم، يرفض ذلك، ويقول: {وما يدريكم أنهم إذا جاءتهم آية لا يؤمنون}. ولا أدل على ذلك من قوله تعالى في الآية 124 من سورة الأنعام: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌۭ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ ۘ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌۭ شَدِيدٌۢ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}. فيوضّح  تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه كلّما جاء الرسول الخاتم عليه السلام المشركين بحجّة من كتاب الله، إلا واقلوا: "لن نؤمن حتّى نُأتي بمثل ما أوتي رُسل الله من قبل"، في إشارة إلى المعجزات المادية التي أيّد بها الله تعالى رُسله موسى وعيسى وغيرهما. وهو ما نفاه الله عن محمد عليه السلام بقوله: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته}.

وبالتالي، فأمام هذا العدد المعتبر من الآيات البيّنات التي تنفي أن يكون الله تعالى قد ايّد رسوله الخاتم بمعجزة غير القرآن. لا يسعنا إلا القول: أنه إذا كان المسلم الذي يتلو كتاب الله لا يعلم هذه الحقيقة من القرآن، فتلك مصيبة. أما إذا كان يعلمها ويصرّ على تجاهلها، ويفضّل تصديق الفقهاء فيما زعموا، فالمصيبة أعظم. 

وعلى هذا الأساس. فالقول بأن ظاهرة الإسراء والمعارج كانت معجزة ربّانيّة هو افتراء على الله، وتكذيب بآياته، يرقى لمستوى الكفر الفاضح إن كان عن جهل ولم يتداركه صاحبه، ويعتبر قمة ظلم النفس الذي لا يقع فيه إلا من يشرك بالله ويفتري عليه ما ليس له به من علم، خصوصا إذا كان من يروّج لمثل هذا الهراء رجل دين يدّعي أنه فقيه في الشريعة، متمكّن من اللّغة، مفسّر لكتاب الله، مُطّلع على السّيرة، عالم بظواهر الأمور وبواطنها.. وهو يعلم علم اليقين أن الله تعالى قد نفى نفيا قاطعا في الآيات التي استشهدنا بها أن يكون قد حصل للرسول الخاتم عليه السلام شيء اسمه الإسراء أو المعراج. 

أما الذين يحتجّون بما ورد في سورة النجم من آيات تدلّ على وقوع المعراج ووصول الرسول الخاتم عليه السلام إلى سدرة المنتهى ورؤية ربّه، وما إلى ذلك من مزاعم يكذّبها الوحي ويرفضها العقل. فتوضيح هذه المسألة استنادا إلى كتاب الله يكون كالتالي: 

يقول تعالى في الآيات من 1 إلى 16 من سورة النجم: {وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰٓ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌۭ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍۢ فَٱسْتَوَىٰ (6) وَهُوَ بِٱلْأُفُقِ ٱلْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (9) فَأَوْحَىٰٓ إِلَىٰ عَبْدِهِۦ مَآ أَوْحَىٰ (10) مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ (11) أَفَتُمَـٰرُونَهُۥ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ (12) وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ (13) عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰٓ (15) إِذْ يَغْشَى ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ (16) مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ (17) لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءَايَـٰتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰٓ (16)}.

بداية، وقبل الخوض في المعنى الموضوعي للآيات التي يتحجّج بها التراثيون للتدليل على وقوع المعراج، يجب توضيح أن سورة النجم مكّية، بحكم أسلوب الشجع الذي يميّزها من جهة، ولأنها تحكي قصّة نزول الوحي على الرسول عليه السلام بمكة، حيث رأى رسول الله جبريل (عليهما السلام) بفؤاده كما تؤكّد ذلك الآية 11 من نفس السورة. وبالتالي، فلا علاقة لهذه الرّؤية التي حدثت في مطلع نزول الوحي بمكّة، بما قيل عن المعراج الذي حدث قبل الهجرة بسنة كما ذكر عديد المفسرين. ما دام المبنى والمعنى الموضوعي للسورة يكذّبان هذا الإدّعاء جملة وتفصيلا.

أما بالنسبة للمعنى الموضوعي، فيقسم تعالى في الآية الأولى بالنجم إذا هوى، ليعطي بذلك صورة ذهنية معبّرة ببلاغة جميلة، عن مغيب الشمس عند الأفول، وكأنها تهوي في واد سحيق بالصحراء، (تماما مثل ما يشاهدها سكان المغرب وهي تهوى عند المغيب في المحيط)، وهي إشارة رمزيّة تفيد أن المغيب هو وقت نزول الوحي على الرسول عليه السلام.

ويؤّكد تعالى في الآية الثانية والثالثة من نفس السورة. أن صاحبكم ما ضلّ ولا خرج عن الرشد أو انحرف عن الصراط المستقيم، وأنه لا ينطق عن الهوى، بل ما يقوله هو وحي أوحي إليه من الله وعلّمه إيّاه جبريل عليه السلام. ومعلوم أن الوحي ليس بشيء مادي يرى بالعين المجردة. بل هو نور كالوميض يحصل في لحظة خاطفة، فيقذف في الرّوع المعنى المراد تبليغه مترجما من اللغة الرمزية الإلهية إلى اللغة البشريّة. ما يؤكد أن جبريل عليه السلام هو من قام بترجمة لغة الله الرمزية إلى اللغة العربيّة التي نزل بها القرآن، ليبلّغه الرسول الخاتم عليه السلام إلى قومه بلسانهم، ولم يكن من الممكن أن يفعل ذلك الرسول لأنه لم يكن شاعرا ولا مُتمكّنا من اللغة العربية التي نزل بها القرآن وتحدى تعالى الإنس والجن على أن يؤتوا بسورة مثله. 

وفي الآيات من الرابعة إلى التاسعة، يصف تعالى مبعوثه الكريم جبريل. بأنه ذو مرّة، أي ذو قوة عظيمة وجبروت شديد، فجبريل باللغة الآرامية القديمة يعني "قوّة الله وجبروته". 

وفي الآية 6 يتحدث الله عن الاستواء الذي يعني الثبات في المكان للظهور والتجلي، حيث أوضح تعالى أن هذا المكان هو بالأفق الأعلى الذي يظهر بين السماء والأرض على امتداد البصر. أي بالأفق الذي تصل إليه حدود الرؤية لجهة غروب الشمس. 

أمّا قوله في الآية 8 {ثم دنى فتدلّى}، فجاء من باب التوضيح أن جبريل هو الذي تدلّى من السماء إلى الأرض وليس الرسول من عرج من الأرض إلى السماء كما زعم الفقهاء. بدليل قوله تعالى في الاية 9: {فكان قاب قوسين أو أدنى}. وهو ما يفيد أن جبريل عليه السلام بالحجم والضخامة بحيث أن أوله كان بالأفق الأعلى في السماء الدنيا لجهة غروب الشمس، فيما آخره كان قاب قوسين أو أدنى من الرسول الأعظم على الأرض. وعند هذا الاستواء بدأ جبريل يوحي للرسول ما أوحى كما تفيد الآية 10 من نفس السورة.

ثم ينتقل تعالى ليوضّح في الاية 11 الطريقة التي تمّت بها رؤية رسوله الكريم لمبعوثه جبريل فيقول: إن هذه الرؤية قد تمت بالفؤاد لا بالعين المجرّدة، لأن البصر الوارد في الآية مصدره من البصيرة لا من الرؤية. بدليل، أن جبريل عليه السلام مخلوق من نور، والعين البشرية يستحيل أن ترى النور بما في ذلك عين الرسول عليه السلام، ما دام تعالى قد نفى أن يكون قد أيّده بمعجزة غير القرآن الكريم كما سبق التوضيح. لذلك استعمل تعالى الفؤاد في الآية ليوضح طبيعة الرؤية بالبصيرة التي يتحدث عنها. ومثال ذلك قوله عن نفسه في الآية 14 من سورة الملك: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}. أي أن الأبصار لا تستطيع رؤية الله الذي هو {نور السماوات والأرض} كما عرّف نفسه في الاية 35 من سورة النّور، بينما الإنسان يرى بواسطة النور حين يلحق ببصره فيرى من خلاله الأشياء. ولولا النور لما أبصر الإنسان الموجودات. وهو ما يؤكد وفق المعنى الذي تعطيه الآية 11 أن هذه الرؤية قد تمت بالفؤاد البصير لا بالعين الباصرة. وقول بعض الفقهاء أن الرسول عليه السلام قد رأى ربّه هو جهل فظيع بالتفسير حتى لا نقول شيئا آخر، لأنهم بذلك جعلوا الله يتحيز في المكان والزمان ليراه الرسول، نستغفر الله من هذا القول الذي يرقى لمرتبة الكفر. هذا علما أن من يقولون بذلك يتجاهلون رواية منسوبة لعائشة تقول: أنها "سألت الرسول إن كان قد رأى ربه؟ فقال: نور أنّى أراه؟": (أي نور كيف لي أن أراه؟).

وقطعا للشك باليقين حول معنى الرؤية بالقلب، يخبرنا تعالى بأنها ليست المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك، فقد سبق وأن رأى محمد جبريل نزلة أخرى بفؤاده عند سدرة المنتهى. واستعماله تعالى لمعبارة {نزلة أخرى} تفيد بما لا يدع مجالا للشك وللمرّة الثانية على التوالي أن جبريل عليه السلام هو الذي نزل إلى الأرض بالتدلّي وليس الرسول هو من صعد إلى السماء بالمعراج. ويؤكد تعالى هذا النزول من خلال الإشارة إلى الموقع الذي انتهى إليه بالتدلّي، وهو {سدرة المنتهى}. مع الإشارة إلى أن التدلّي يفيد الحركة في نفس المكان دون انتقال بسبب ضخامة وهج نور جبريل عليه السلام. بحيث أن أوّله كان بالأفق الأعلى حيث يمتد حد البصر فيما آخره وصل إلى سدرة المنتهى حيث كان الرسول واقفا كما سبق القول. 

ومعلوم أن "السّدرة" هي نوع من الأشجار، و"المنتهى" هو المكان الذي انتهى إليه تدلّي جبريل عليه السلام. بدليل أن العرب يصفون السّدرة بأنها من أقدم أنواع الشجر على الأرض، وتنبت في الصحراء ولا تحتاج لكثير ماء، حيث تساهم في مقاومة التصحّر. كما أنها تثمر فاكهة حلوة تسمى العُنّاب أو النَّبقْ. وقد ورد ذكرها أربع مرّات في القرآن الكريم: في الآية 16 من سورة سبأ. حيث أرسل تعالى سيل العرم على أهل اليمن عندما أعرضوا عن ذكر الله، فبدّل جنّاتهم بجنتين ذوات أكل مرّ وشيء من سدر قليل، ما يشير إلى أن مكان ظهور جبريل في المرة الأولى كان من جهة الركن اليمني. هذا المكان وكما أخبر تعالى، هو الذي توجد خلفه جنّة المأوى. بمعنى أن جنة المأوى توجد مباشرة خلف برزخ يحجبها في السماء الأولى لا السابعة. ويؤيّد هذا المعنى إشارته تعالى في الآية السادسة عشر من سورة النجم إلى الحاجز (البرزخ) الذي يغشى السدرة فيخفي جنّة المأوى عن الرؤية بالعين المجرّدة. 

ومعلوم أن "جنّة المأوى". من دون تعريف، هي غير "الجنّة" المُعرفة باللف واللاّم. بمعنى، أن جنّة المأوى هي مقام مؤقّت يأوي إليه المؤمنين بعد الموت مباشرة، حيث يجتمعون فيه لينعمون بالحياة البرزخية إلى أن تقوم الساعة. وجنة المأوى تختلف عن الجنّات المعرّفة التي خصّها تعالى لعباده كلٌّ حسب ما قدّمه من عمل بعد الحساب يوم القيامة. من هنا وجوب التفريق بين الخلود والأبديّة.  لأنه وفق القرآن الكريم. جنة المأوى هي المكان الذي تتجمع فيه أنفس المؤمنين بعد الموت مباشرة ليعيشوا حياة الخلود الثانية، والتي تنتهي بقيام الساعة. ليُسار بعد الحساب إلى توجيههم كلٌّ حسب الدرجة والمقام الذي يستحقه ليعيش الأبدية في إحدى الجنات التي ذكر الله اسم بعضها في القرآن الكريم. وبالتالي. فلا وجود لعذاب القبر ولا نعيمه كما زعم التراثيون، الذين ابتدعوا عذاب القبر وسؤال نكير ومنكر وخلافه خصيصا لإرهاب المسلمين فكريا، بهدف السيطرة على عقولهم وقلوبهم وتنصيب أنفسهم حراسا على عقيدة المؤمنين السُّدّج. 


4.3. مصدر أسطورة المعراج 

بعد أن أكّدنا استنادا إلى آيات الذكر الحكيم أن لا علاقة للنبي الخاتم عليه السلام بقضية الإسراء، وأن الله تعالى أمر به موسى عليه السلام ليُخرج شعبه من مصر إلى فلسطين، وأوضحنا بالدليل القاطع من القرآن الكريم أن معراج الرسول لم يتم إلى السماء كما زعم الفقهاء، ما دام القرآن ينفيه جملة وتفصيلا، ويذكر على لسان محمد عليه السلام، أن البشر لا يرقون إلى السّماء ضدا في قوانين الطبيعة، وأن الله لم يبعث رسوله الخاتم بمعجزة غير القرآن الكريم، الذي هو معجزة المعجزات الصالحة لكل مكان وزمان إلى ان تقوم الساعة، سنتطرق الآن إلى المصدر الذي أخذ منه الكهنوت هذه الأسطورة. 

الحقيقة، أن خرافة المعراج إلى السّماء لم تكن نتاج ثقافة العرب، بل تعتبر من الخرافات التي لازمت التاريخ الديني للشعوب القديمة، وقد سبق لباحثين حداثيين، أن اتهموا فقهاء بني أميّة وبني العبّاس، باقتباس عديد الأساطير من ثقافات قديمة، وتسويقها باسم السّنّة، باعتبارها عقائد إسلاميّة تدخل في باب "المعلوم من الدين بالضرورة".

ويلاحظ من كرونولوجيا تاريخ الفكر الديني عموما، أن مسألة العروج إلى السماء قد ذكرت في المراجع الدينيّة اليهودية، وتحديدا في التلمود، حيث يُحكى عن عروج إينوخ، وأخنوخ، وإبراهيم، وإيليا، وموسى، وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل. بعضهم طاف العالم واطّلع على أحوال الناس، ومعظمهم عرجوا إلى السماء ورءوا العرش الإلهي. ورءوا أيضا مجاميع الملائكة، كالسيرافيم الذين لا عمل لهم غير تقديس الله، والكاروبيم الذين ينفخون المعرفة فيمن يختاره الله، وذكروا أن النبيّ إيليا المسمّى بمار إلياس بعد أن قتل كهنة الأوثان، أرسل له الله مركبة ناريّة يقودها ملائكة عرجت به إلى السماء.

وقد وردت أسطورة المعراج أيضا في بعض الأناجيل المسيحية، ككتاب عهد إبراهيم، وكتاب رؤيا بولس، حيث ذكرت أن إبراهيم عليه السلام، قد عرج بمعيّة أحد رؤساء الملائكة إلى السماء، وشاهد ما فيها. وأن بولس الرسول الذي يعتبر من الحواريّين، قد عرج هو أيضا إلى السماء.

كما وردت فكرة العروج أيضا في الثقافات الدينية الوثنيّة القديمة، ومثال ذلك: أسطورة الملك إتانا البابليّة، الذي اصطفته الآلهة ليحكم شعبه بالعدل، غير أنه حزن لأن زوجته لم تأتي له بوريث، فطلبت منه الآلهة أن يصعد إلى السماء على ظهر نسر مارق، ليقطف منها نبتة الولادة، ويحضرها للأرض فيحظى بوريث لعرشه. 

وهناك العديد من الأمثلة على معارج تُروى في الثقافات والمعتقدات الدينية القديمة، كرحلة أرجنة في الثقافة الدينيّة الهندية، والذي يقال إنه عرج إلى السماء وشاهد كل شيء.

وعلى ضوء ما سلف، نخلص إلى أن رحلة إسراء الرسول عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن ثم عروجه إلى السماء، كانت مجرّد أسطورة ابتدعها الكهنوت في عهد عبد الملك بن مروان الأموي كما سبقت الإشارة. وذلك بسبب أنه هو من عطّل فريضة الحج وحوّل قبلة المسلمين من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لإضفاء الشرعية على حكمه، والقدسيّة على قراره بتحويل الحج من مكة إلى القدس، والذي لا علاقة له بالدين ما دام الله لم يشرّعه في التنزيل الحكيم.

وبالتالي، فكل ما بني على أسطورة الإسراء والمعراج من مقتضيات دينية تعتبر باطلة جملة وتفصيلا، لأنها بمثابة تشريع لم ينزل الله به من سلطان. كما أنه تطاول على مجال من اختصاصه تعالى دون سواه، يدخل في باب الشرك بمفهومه الغليظ، نعوذ بالله من أن نسقط فيه كمؤمنين.

والسؤال الذي يطرح بالنتيجة في موضوع الإسراء والمعراج هو التالي:

- هل ما روّج له الفقهاء من تشريع بشأن الصلوات الخمسة، والتي قيل أن الله أمر بها رسوله الخاتم عليه السلام، خلال تردّده أثناء معراجه صعودا ونزولا بين السماوات العُلى بنصيحة من موسى، تعتبر صحيحة حقا؟

 نقول هذا، لأن من يدّعي أن السنّة هي من شرّعت الصلاة الحركية استنادا إلى واقعة الإسراء والمعراج، فهو من حيث يدري أو لا يدري، يفتري على الله الكذب، ويجعل الرسول الخاتم عليه السلام مشرّعا مع الله، وهو الذي كان لا يفتي قومه في مسألة إلا بعد أن ينزل حكم الله فيها، بدليل قوله تعالى في أكثر من آية وسورة: {يسألونك عن.. قل} وقوله: {يستفتونك في.. قل}. 

وإلى مقالة مقبلة حيث سنفصّل فيها القول بشأن مفهوم الصلاة ومفهوم الإقامة استنادا إلى القرآن الكريم دون غيره من المرويات التراثيّة، لمن اراد معرفة ما يقوله القرآن بشأن هذين المفهومين اللذان يقوم عليهما الدين كلّه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق