الفرق بين الغسل والطهارة في القرآن الكريم

 

1. مقدمـــة

بحث ديني: بداية لا بد من الإشارة إلى أن القرآن الكريم لم يذكر شيئا اسمه "الوضوء"، ذلك أن هذا المصطلح ابتدعه الفقهاء وأصبح مفهوما تراثيا شائعا يُعبَّر عن الطقوس التي يمارسها المسلمون قبل الصلاة الحركية. كما أن القرآن لم يذكر شيئا يسمى الاغتسال من الجنابة، لأن مصطلح "الجنابة" لا وجود له في القرآن الكريم، بل ابتدعه الفقهاء ووضعوا له شروطا وطقوسا ما أنزل الله بها من سلطان. ذلك أن ما ذكر في التنزيل الحكيم هو "الغُسل" أو "الطَّهارة" حسب الظروف، وفي حال عدم توفر الماء أمر تعالى عباده بالتيمّم، وبيّن لهم كيف يكون ذلك، وفق ما جاء مجملا في الآية 43 من سورة النساء ومفصّلا في الآية 6 من سورة المائدة.../...

وبالتالي، فكل ما ذكره الفقهاء بشأن طقوس الوضوء الملازمة لكل صلاة والتي جعلوها 25 حركة تشمل أعضاء لم يأتي القرآن على ذكرها كالمضمضة والاستنشاق، وغسل الأرجل بدل مسحها، ناهيك عن نواقض الوضوء المفترضة، لا أساس لها من شرع الله الذي هو يسر لا عسر. ذلك أن القرآن وإن فصّل الأعضاء التي يجب غسلها والأعضاء التي يجب فقط مسحها قبل كل صلاة، إلا أنه لم يذكر عدد المرات التي يجب أن يشملها ذلك بل تركها حسب ما تتطلبه كل حالة على حدة، ومثال ذلك أن غُسل (وضوء) الفحّام هو غير غُسل (وضوء) عامل النظافة أو غُسل (وضوء) الميكانيكي في العصر الحديث. كما أن القرآن لم يشترط النية لأن من يعتزم دخول الحمام للاغتسال قبل إقامة الصلاة لا يحتاج إلى إعلان ذلك تصريحا أو تلميحا ما دام الله يعلم ما في الصدور. 

علاوة على ذلك، لم يذكر القرآن الكريم ما يسميه الفقهاء بنواقض الوضوء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر خروج الريح، ما دام ذلك لا يمس من قريب أو بعيد طهارة الأعضاء المذكورة في الآية 43 من سورة النساء والآية 6 من سورة المائدة، كاليدين والوجه والرأس والأرجل، باستثناء الحالات التي أشارت إليها الآيتين موضوع البحث، والمتعلقة بالجُنب، والغائط، والمرض، والسفر، وملامسة النساء، حيث أباح تعالى استخدام التيمم في حالة دم وجود الماء تيسيرا لعباده.

أما اشتراط القرآن الغُسل قبيل كل صلاة فأمر طبيعي، ويقصد به الصلوات الثلاثة التي ذكرت في القرآن، ألا وهي صلاة الفجر، وصلاة المغرب، وصلاة العشاء بالإضافة إلى النافلة التي تؤدى تطوّعا في الليل. هذه هي الأوقات التي تستوجب الطهارة بنص القرآن والتي سنأتي على ذكرها بتفصيل في معرض الحديث عن الصلاة بمفهومها الخاص الذي يعني الصلاة العمودية، ومفهومها العام الذي يعني الصلاة الأفقية. وبديهي والحال هذه أن يتوافق التشريع الوارد في القرآن الكريم مع حاجة الناس الطبيعية للنظافة وعاداتهم في الاغتسال: 

- فمن منا لا يغسل يده ووجهه ويمسح برأسه عند الاستيقاظ من النوم، وعند عودته من عمله مساء، ومن منا لا يغسل يديه وينظف أطرافه قبل النوم؟

إذا قارنها حاجة الإنسان إلى النظافة مع ما ورد بشأنها في القرآن الكريم، أدركنا أن الهدف الأساس من الغسل هو تنظيف الأعضاء المعرضة أكثر من غيرها للأوساخ والغبار أثناء السعي في النهار.


2. مصدر التشريع لطريقة الغُسل والطهارة

لقد وردت آيتين فقط لا غير في القرآن الكريم تفصلان طريقة الغُسل والطهارة قبل كل صلاة وهما:

- الآية 43 من سورة النساء لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا}. 

- والآية 6 من سورة المائدة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. 

ولفهم المراد من كلام الله بالعمق المطلوب، ما دام الأمر يتعلق بتشريع لا يحتاج لتأويل بل فقط لتفسير، علينا أن نفكك كل آية على حدة، ونحلل المصطلحات الواردة فيها، ومن ثم نحاول فهمها في إطار السياق الذي وردت فيه، وذلك وفق منهج القرآن يفسر بعضه بعضا، أي أن نفسر القرآن من داخله دون الاعتماد على مصادر بشرية من خارجه ما دام صاحب الدين يؤكد أن القرآن جاء تبيانا لكل شيء، وأنه لم يفرط في الكتاب من شيء، وأنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن خبير حكيم. 

- وبالتالي، فما دام الأمر كما يقول تعالى: -  فما الحاجة لترك القرآن الذي هو مصدر كل الحقائق والشرائع الدينية والبحث عن معاني ما أنزل الله بها من سلطان في مصادر بشرية أباحت لنفسها سلطة التشريع مع الله؟. 

كما وأنه من الضروري في رحلة البحث عن المعنى أن نأخذ بالاعتبار حقيقة ثابتة لا يمكن القفز عليها، ومفادها، أن القرآن لا يقبل الترادف، بمعنى أن كل كلمة قرآنية لها معنى محدد وضع بميزان الذهب، لا يتبدل ولا يتغير وإن اختلف السياق، وكل مصطلح لم يرد في القرآن الكريم لا يمكن بحال من الأحوال اعتباره من ثوابت الدين، ومثال ذلك "الوضوء" و "الجنابة" وغيرهما.


3. تفكيك وتحليل آية الغسل وآية الطهارة

بمقارنة الآيتين السالفتين الذكر، يتبيّن من تفكيك الصّيغ المستعملة، الملاحظات التالي:

الملاحظة الأولى: أن الخطاب في الآيتين موجه تحديدا للذين آمنوا.

الملاحظة الثانية: أن الأمر في الآيتين يتعلق بالنظافة التي تسبق إقامة الصلاة.

        أما الفرق بين الآيتين فيكمن في التالي:

الملاحظة الثالثة: أن المناسبة في الآية 43 من سورة النساء تتعلق بالغسل أو التيمم في حالة المرض أو السفر أو عدم وجود ماء.

الملاحظة الرابعة: أن المناسبة في الآية 6 من سورة المائدة تتعلق بالطهارة أو التيمم في حالة المرض أو السفر أو عدم وجود ماء.

الملاحظة الخامسة: أن ما يستوجب الغُسل (الوضوء) أو التيمم وفق الاية 43 من سورة النساء هو حالات: "السكر" أو "الجنب" أو "الغائط" أو "ملامسة النساء".

الملاحظة السادسة: أن ما يستوجب الطهارة (الإغتسال) وفق الآية 6 من سورة المائدة هو حالة: "الجُنُب"

والآن لنبحث عن معنى المصطلحات المذكورة في الآية 43 من سورة النساء والآية 6 من سورة المائدة من داخل القرآن نفسه وفق منهجية القرآن يفسر بعضه بعضا: 


3.1. في الفرق بين الغُسل والطهارة:

o أولا، الغُسل: ورد هذا المصطلح في ثلاث آيات فقط هي:

- الآية 43 من سورة النساء موضوع البحث لقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}. وواضح أن الغُسل هنا يكون باستعمال الماء.

- الآية 6 من سورة المائدة موضوع البحث أيضا لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. في هذه الآية يفصّل الله تعالى الأعضاء المطلوب غسلها بالماء، دون توضيح عدد المرات لما تتطلبه كل حالة على حدة من جهد لإجالة الأوساخ أو الغبار، بحيث ترك للإنسان حرية التصرف وفق ما يراه مناسبا وكافيا. 

- الآية 42 من سورة ص: {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}. هذه الآية الكريمة تشير إلى استجابة الله لدعاء أيوب عليه السلام، والذي كان لا يقدر على القيام والمشي أو الاغتسال من السقم الذي أصاب كل جسمه، فشفاه الله وكشف له عينا فيما ماء بارد، وأمره بأن يغتسل منها ويشرب حتى يبرأ بدنه مما أصابه من مرض جلدي معدي أدّى إلى فقدانه لأهله وأصدقائه وماله وجاهه بسبب عدم شكره لأنعم الله في حينه. والاغتسال هنا يشمل كامل الجسم. 

o ثانيا، الطهارة

ورد مصطلح الطهارة في القرآن الكريم بمعنين، معنى مادي، ومعنى حسّي:

المعنى المادي: ويُقصد به طهارة الجسم أو الثياب أو المكان، لقوله تعالى:

- في الاية 125 من سورة البقرة: {واذ جعلنا البيت مثابة للناس وامنا واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى وعهدنا الى ابراهيم واسماعيل ان طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود}. والمقصود بالأمر تطهير البيت من كل مخلفات الشرك من أصنام بعد أن أصبح بيت ثوبة وغفران ومُصلّى يركع ويسجد فيها لله وحده دون ساه. 

- وفي الآية 222 من سورة البقرة: {ويسالونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فاذا تطهرن فاتوهن من حيث امركم الله ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}. الطهارة هنا مادية، وتعني انقطاع دم الحيض عن المرأة كعلامة لطهرها منه وإيذانا لها بالتطهّر بالماء قبل أن يأتيها زوجها من المكان الذي أمر الله به، وسبب المنع وفق ما يفهم من القرآن والعلم الحديث أن المواطأة في فترة الحيض تؤذي المرأة لذلك قال تعالى {ويسالونك عن المحيض قل هو أذى}. وكونه أذى لا يعني أنه رجس أو نجاسة.

- أما قول من يستدلون على إباحة وطأ المرأة من أي مكان يرغب به الزوج لقوله تعالى في الاية 223 من سورة البقرة: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. فالاختلاف الذي وقع هو حول إن كانت الأداة {أنّى} الواردة في الآية تفيد ظرف مكان أم ظرف زمان. وبغض النظر عن هذا الجدل اللغوي العقيم، فإن استعمال الله تعالى لمصطلح {حرث} مرّتين في الاية الكريمة، إنما قصد به الفرج كناية، لأن فيه تُزرع النطفة التي تتطور عبر مراحل إلى خلفة، ومثل ذلك البذرة التي يزرعها الإنسان في الحقل فتنتج زرعا. والصورة واضحة لا تحتاج لمزيد تفصيل.

- وفي الاية 4 من سورة المدثر: {وثيابك فطهر}. تأكيد على أن طهارة الثياب لا تكون إلا بالماء أو بالطيب (العطر) في حالة عدم وجود الماء حتى لا يؤذي المؤمن الناس برائحة ثيابه العفنة.

- وفي الاية 48 من سورة الفرقان: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا}. إشارة إلى أن الماء الذي أنزله الله تعالى من المُزن ماء طاهر لا لون ولا طعم ولا رائحة له. وبذلك يكون الماء هو الوسيلة المثلى التي تستعمل في الطهارة المادية سواء تعلق الأمر بالمكان أو الثياب أو أعضاء الجسم الخارجية.  

- وفي الاية 6 من سورة المائدة: {وإن كنتم جنبا فاطهروا}. هنا يختلف الأمر عن السائد في اعتقاد العامة والمتوارث عن سوء تفسير التراثيين. ذلك أن "الجُنُبَ" لا تعني "الجَنَابَة" بالمطلق. بدليل المعنى الوارد بالنسبة لهذا المصطلح في عديد الآيات القرآنية ومنها: 

المعنى المعنوي: ويقصد به طهارة القلب والنفس والسلوك، لقوله تعالى:

- في الاية 41 من سورة المائدة: {الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم}. 

- وقوله تعالى في الاية 56 من سورة النمل: {اخرجوا آل لوط من قريتكم انهم اناس يتطهرون}.

- وقوله تعالى في الاية 33 من سورة الأحزاب: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة واتين الزكاة واطعن الله ورسوله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا}.

- وقوله تعالى في الاية 79 من سورة الواقعة: {لا يمسه إلا المطهرون}.

- وقوله تعالى في الاية 103 من سورة التوبة: {خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.

- وقوله تعالى في الآية 108 من سورة التوبة: {لا تقم فيه ابدا لمسجد اسس على التقوى من اول يوم أحق ان تقوم فيه، فيه رجال يحبون ان يتطهروا والله يحب المطهرين}.

وواضح أن استعمال الله تعالى لمصطلح "الطهارة" في الآيات المذكورة أعلاه لا يقصد به استعمال الماء، لأن الطهارة هنا لا تأخذ مفهوما مادّيا، بل معنويًّا يتعلق بالنّيّة والسلوك. فقوم لوط الذين يتطهرون تعني أنهم يبتعدون عن ممارسة الفاحشة. والمقصود بالصدقة تطهير النفس والقلب لا الجسم. والمقصود بقوله "لا يمسّه إلا المطهرون" إشارة إلى القرآن الكريم في نسخته الأصلية المتضمنة في "كتاب مكنون" عند الله أي في (اللوح المحفوظ)، وليس مصحف عثمان الذي بين أيدينا والذي هو مجرد نسخة منه. ذلك أن قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} يقصد بهم الملائكة المطهرون في أصل تكوينهم، لا البشر الذين يتطهرون. بدليل قوله تعالى في الآيات من 13 إلى 15 من سورة عبس: {في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة}. فالصحف المكرمة والمرفوعة المطهرة جاءت كناية عن اللوح المحفوظ الذي هو الأصل الذي أخذ منه القرآن وكل الكتب السماوية السابقة له، وأوضح تعالى أن هذه الصحف توجد بأيدي ملائكة اختارهم الله ليكونوا حراسا للوحي وسفراء له لأهل الأرض، ووصفهم بأنهم كرام بررة يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون لله أمرا وفق ما يعطيه مفهوم البررة من إخلاص في الطاعة. 


3.2. الفرق بين النجاسة والخَبث

يلاحظ بالمناسبة أن استعمال الله تعالى لمصطلح "نجاسة" لا علاقة له بالمعنى التراثي الذي يعتبر الغائط مثلا نجاسة. ذلك أن القرآن الكريم كلما استعمل مصطلح "نجاسة" إلا وعنى به القذارة، يقابلها "الطهارة" بالمفهوم المعنوي لا المادي أو الجسدي. ومثال ذلك قوله تعالى الآية 28 من سورة التوبة: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}. فالنجاسة هنا لها علاقة بقذارة القلب الذي يستبطن الشرك. لذلك اعتبر الله تعالى المشرك نجس من حيث سلوكه الفاسد، ما دام لا قيم أخلاقية له ولا يمكن تأمينه على مال أو عرض أو أرض. وعلى هذا المنوال اعتبر القرآن المُفسدون في الأرض "أنجاس" كالمجرمين وقطاع الطرق. ذلك أن كل مشكر أو فاسد إلا ويعتبر نجسا في دين الله.

وهذا يقودنا إلا جوهر المعنى الذي يفصح عنه القرآن، ألا وهو أن المؤمنة التي تكون في حالة حيض لا تكون نجسة بالمعنى المادي الذي يصيب الجسد كما روج لذلك اليهود ونقل عنهم هذا التعريف الظالم فقهاء الرسوم. كما أن المؤمن والمؤمنة اللذان يخرجان من علاقة جنسية مشروعة لا يكونان أنجاس، بمعنى أن المنيّ أو ماء المرأة لا يعتبران نجاسة كما ذهب إلى ذلك التراثيون. وعليه، يكون من الخطأ إطلاق مصطلح "نجاسة" على البراز والبول والمني وماء المرأة، ذلك أن القرآن وباستثناء المنيّ، يعتبر البول والبراز مواد خبيثة وهو ما يؤكده العلم أيضا نظرا لمليارات الميكروبات الضارة التي تحملها هذه الفضلات بعد أن يلفظها الجسم. وهذا هو سبب تحريم الله تعالى للخبائث بسبب ضررها الصحي الكبير على الإنسان كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير. ولا علاقة لمنيّ الرجل وماء المرأة بذلك دينيا وعلميا.

ولمصطلح "الخَبَث" في القرآن معنيين: معنى مادي وهو الذي تحدثنا عنه أعلاه، ومدلول معنوي يظهر من خلال قوله تعالى في الاية 26 من سورة النور: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات}.  وقوله أيضا في الآية 74 من سورة الأنبياء: {ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث}. وفي كلتا الحالتين، جاء استعمال المصطلح كناية عن الخَبَث المعنوي المتعلق بالسلوك الفاحش والفاسد، ولا علاقة له بالمعنى المادي من قريب أو بعيد.

والسؤال الذي يُطرح على ضوء ما سلف هو:

- هل يتوجب غسل الجسم كاملا بالماء في حالة المحيض أو ملامسة النساء لما يعنيه ذلك من معاشرة جنسية وفق المفهوم القرآني الذي يعطيه مصطلح "الملامسة"؟

لقد أوضحنا أن الطهارة وردت في القرآن الكريم على وجهين: طهارة معنوية تتعلق بإزالة النجاسة السلوكية. وطهارة مادية تتعلق بإزالة الخبث الذي يصيب جسم الإنسان أو ثوبه أو مكان إقامته أو مكان تعبّده. من هنا وجوب التفريق بين النجاسة والخبث استنادا إلى المفاهيم القرآنية بدل التراثية التي خلطت بين الإثنين.

وعلى هذا الأساس، فعند نزول دم الحيض أو البول أو الغائط فالأمر وفق القرآن لا يتطلب غسل الجسم كله بالماء، بل فقط الأماكن التي خرجت منها هذه المواد الخبيثة. لأن لا علاقة لهذه الأماكن ببقية جسم الإنسان من حيث أن خروج الخبائث منها لا يؤثر على بقية أعضاء الجسم، باستثناء اليد التي تستعمل لتنظيفها. ونفس الأمر يمكن أن يقال عن خروج الريح الذي لا علاقة له بنواقض الوضوء لأنه ليس من الخبائث ولا يدنس اليدين والوجه والرأس والأرجل المطلوب غسلها أو مسحها عند كل إقامة للصلاة. أما الذين يقولون إنه من الخبائث بحكم طبيعته الغازية التي تفرز رائحة البراز في حالته المادية. ذلك أنه لو سلّمنا بهذا التفسير، فعلينا اعتبار التَّجشُّؤ الذي هو خروج الغازات من فم الإنسان غاز خبيث أيضا يستوجب الغُسل (الوضوء)، ما دام هذا يقاس بذاك وفق منطق القياس الشيطاني الذي يستعمله الفقهاء لتشريع ما لم ينزل الله به من سلطان. وهو الأمر الذي لا يقول به القرآن ولا يسلم به العقل ولا يستصيغه منطق.


3.3. مفهوم "الجُنُب" وفق القرآن

والآن لنأتي لقضية "الجُنب" والتي لا تعني "الجنابة" من قريب أو بعيد. وإلا لما ذكر الله تعالى كلمة "الجُنُب" في نفس السياق الذي ذكر فيه "مُلامسة النساء" في الآيتين موضوع البحث، وإلا لاعتبر الأمر نوع من الحشو الزائد في الكلام، والمعنى المكرّر الذي لا يستقيم مع الأسلوب القرآني الذي يزن الكلمات والأحرف بميزان الذهب. لأنه لو كان الأمر كما زعم التراثيين لأصبح من العبث تكرار نفس الحالة في كل آية على حدة باستعمال مصطلحين مختلفين يفيدان نفس المعنى، والله سبحانه وتعالى منزه عن العبث، وهو ما يسقط المفسّر الظّاهري لآيات الله في فخّ الترادف الذي لا يقبله القرآن كما سبق القول.

ودليل ذلك قوله تعالى في الاية 36 من سورة النساء: {والجار الجُنب والصاحب بالجُنب وابن السبيل}. أي الجار القريب والجار المجاور. وقوله تعالى في الاية 35 من سورة التوبة: {فتكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم}. ويقصد بها جهات الجسم عن اليمين وعن الشمال. وقوله تعالى في الاية 11 من سورة القصص: {وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون}. بمعنى النظرة إلى جهة بطرف العين دون تحريك الرأس. وقوله في الاية 90 من سورة المائدة: {يا ايها الذين امنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}. حيث جاء أمر الإجتناب بمعنى الابتعاد عن هذا النوع من السلوك لأنه رجس من عمل الشيطان. وقوله بشأن موسى عليه السلام: {وناديناه من جانب الطور الأيمن}. أي ناداه الله من جانب الجبل. والآيات أكثر من يسعها المقام والتي تدل جميعها على ما يعطيه الجذر (ج ن ب) من استعمالات تفيد "التَّجنّب" و "الإجْتناب"، بمعنى الابتعاد المادّي أو الابتعاد المعنوي كما في قوله تعالى في الاية 30 من سورة الحج: {فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور}.

وبالتالي، فالمعنى القرآني الذي تعطيه كلمة "جُنُب" في الآيتين موضوع البحث يفيد الابتعاد إلى حين حصول الطهارة ذلك أن قوله تعالى {وإن كنتم جنباً فاطهروا}. يقصد بها الطهارة المادية بسبب ما علق بالجسم من عرق ورائحة كريهة أو ما علق بالثوب من أوساخ وروائح لا تطاق لأنها تزعج الغير. لذلك نهى الله المؤمنين من ولوج المسجد للصلاة إلا بعد تطهير الجسم والثياب، واستثنى المسافر من ذلك لأنه غير مقيم. والطهارة قد تكون بالماء وقد تكون بالطيب في حال عدم توفر الماء للإغتسال.   ونفس الأمر ينطبق على من شرب الخمر حتى بلغ درجة السكر التي تفقده التّركيز، فنهاه تعالى عن أن يقرب الصلاة حتى يعلم ما يقوله ويتطهر من رائحته التي قد تؤذي المصلين. 

يتضح ممّا سلف، أن كلمة "جُنُب" وفق المعنى القرآني لا علاقة لها بما ذهب إليه التراثيون من إسقاط يتعلق بمفهوم "الجنابة" الذي لم يرد ذكره في القرآن الكريم بالمطلق. بل وردت عبارة "ملامسة النساء". والملامسة هي عين العلاقة الجنسية، لإن "اللّمس" لا يكون إلا مادّيا، بخلاف "المسّ" الذي يكون معنويا. ومثال ذلك الذي يتخبطه الجنّ من المسّ، أو يتخبّط من الجنون، أو ما يمسّ الإنسان من بأساء وضراء وحزن وقرح وغضب، أو من يمسّه شر أو خير، أو من يمس العذاب. لأن المسّ يتعلق بالشعور والإحساس، والآيات الدالة على هذا المفهوم المعنوي أكثر من أن يسعها المقام. لكن ما يهمنا هنا هو المفهوم المادي.

ودليل أن المقصود بـ "ملامسة النساء" العلاقة الجنسية قوله تعالى في الآية 237 من سورة البقرة: {وان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم}. وقوله تعالى في الاية 49 من سورة الأحزاب: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة}. والقصود بالنكاح عقد القران لا العملية الجنسية في حد ذاتها، أما المقصود بقوله {من قبل أن تمسوهن}، أي من قبل أن تمارسوا معهن العلاقة الجنسية، بدليل أنه لا عدة على المطلقة في هذه الحالة لأنه لا ينتظر منها حمل.  وهو ما يؤكد أن المسّ في الاية يقصد به عدم الدخول في علاقة جنسية مع المرأة التي يراد تطليقها، الأمر الذي يستوجب استرجاع نصف الصداق أو أن يعفو الرجل عنه للمرأة من باب الفضل وفق منطوق الآية 237 من سورة البقرة. وعدم التزام المرأة التي لم يمسّها الرجل أثناء عقد النكاح بالعدة وفق منطوق الاية 49 من سورة الأحزاب.

والآن لنأتي إلى قضية ما يسمى في قاموس الفقهاء بـ "الجنابة"، والتي عبر عنها الله تعالى بـ "ملامسة النساء". ففي الآية 6 من سورة المائدة، أوضح الله تعالى تفصيل الغُسل الذي يجب أن يشمل الأعضاء التالية: الوجه، اليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، ومسح الرجلين. لا أكثر من ذلك. وفي حال عدم توفّر الماء أمر تعالى بالتيمّم. ولم يشر إلى أن الغُسل يعني شمول الجسم بالماء. وهذا يعني أن غَسل الجسم كاملا له علاقة بالطهارة المادية العامة التي ترك للإنسان حرية القيام بها متى دعت الضرورة ذلك، وبالطريقة التي يرتاح لها، وبالمواد التي يرغب في استعمالها، ولا علاقة لهذا النوع من النظافة العامة بـ "الغُسل" (الوضوء) من أجل إقامة الصلاة. 

هذا النوع من النظافة العامة يتم كلما شعر الإنسان أن رائحته أصبحت تبعث على الاشمئزاز بسبب العرق أو الأوساخ وخلافه. وهو ما يفيده المعنى الذي يدل عليه مصطلح "الجُنب" الوارد في الآيتين موضوع البحث، أي تجنّب الناس والابتعاد عن مكان الصلاة في المسجد بسبب ما يخرج من الإنسان من رائحة كريهة في حالة السكر مثلا، أو في حالة عودة الإنسان من عمل يتطلب التعامل مع مواد خبيثة كعمال النظافة وتطهير المجاري أو غير ذلك، ولا يشمل هذا النوع من الطهارة ما يُسمّى في دين الفقهاء بـ "الإغتسال من الجنابة".  

ومردّ ذلك، أن العملية الجنسية بطبيعتها لا تصيب الجسم بالخبائث، لأن المني لا يعتبر نجسا ولا خبيثا كما أوهم الفقهاء الناس بذلك. ولم يقل الله تعالى عنه أنه نجس مثله مثل البول أو الغائط. وبالتالي، أوضح تعالى بصريح العبارة في الآية 43 من سورة النساء والآية 6 من سورة المائدة، أنه في حال ملامسة النساء بما يعنيه ذلك من معاشرة جنسية فيتوجب الإغتسال بنفس الطريقة المبيّنة للصلاة، أي غسر اليدين والوجه ومسح الرأس والأرجل، وكفا الله المؤمنين العنت. وهو مكان يقوم به الرسول عليه السلام والصحابة في زمانه، حيث كانوا بعد المعاشرة الجنسية يغتسلون (يتوضؤون) كما يفعلون بالنسبة للصلاة قبل النوم وفق ما تذكر عديد المرويات التي لا يسع المقام لسردها هنا. خصوصا إذا علما مدى الحرج الذي كانت ستشعر به النساء من عنت وشدة أمام الأبناء والأهل في حال قامت للإغتسال الكلي كل يوم بسبب المعاشرة الجنسية، ناهيك عن نطرة الماء.


4. التعدد زمن البعثة

وإذا كان هذا الأمر يحتاج لتذكير فسيكون من المناسب إذن سرد ما جاء في السير عن مسألة زواج الصحابة. فبغض النظر عن الرسول عليه السلام الذي سمح له الله بالتعدد لأسباب سياسية معروفة ومفهومة، ها هم الصحابة والأصحاب الذين يعتبرهم الفقهاء قدوة للأمة يعددون دون مراعاة للقيود التي وضعها النص المقدس بالنسبة للزواج. حيث تذكر السير أنهم كانوا متزوجين بأكثر من زوجة بالإضافة إلى ما ملكت ايمانهم في السلم والحرب. ونظرا لشح الماء في الصحراء بالإضافة إلى عوامل الطقس الشديد البرودة ليلا، كانوا يغتسلون كما يفعلون للصلاة بعد المعاشرة أثناء الظهيرة أو ليلا قبل النوم.  

فعلى سبيل المثال:

- أبو بكر الصديق، جمع من النساء أربعة دون ما ملكت يمينه وهنّ: قتيلة من بني عامر بن لؤي، وهي أم عبد الله أكبر أولاده الذكور، وأم أسماء أكبر بناته. بالإضافة إلى أم رومان بنت الحارث من بني فراس بن غنيم بن كنانة، وهي أم ولده عبد الرحمن وأم عائشة. بالإضافة إلى أسماء بنت عميس الخثعمية، أم ولده محمد. بالإضافة إلى حبيبة بنت خارجة بن زيد، أم كلثوم التي ولدت بعد وفاته. وفق ما ذكره الطبري في (الرياض النضرة في مناقب العشرة).

- عمر بن الخطاب، جمع من النساء تسعة دون ما ملكت يمينه وهنّ: زينب بنت مظعون، أم عبد الله، وعبد الرحمن الأكبر، وحفصة زوجة الرسول. بالإضافة إلى أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، أم زيد الأكبر ورقية. بالإضافة إلى جميلة بنت عاصم بن ثابت حميّ الدبر بن الأقلح الأنصارية، أم عاصم. بالإضافة إلى مليكة بنت جرول الخزاعية، أم زيد الأصغر وعبيد الله. بالإضافة إلى لُهيّة، أم عبد الرحمن الأوسط. بالإضافة إلى عاتكة بنت زيد، أم عياض، بالإضافة إلى المسماة بـ "أم ولد"، وهي أم عبد الرحمن الأصغر الملقب بالمجبر. بالإضافة إلى فكيهة، أم زينب. بالإضافة إلى أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة أم فاطمة. (وفق نفس المصدر السابق). 

- عثمان بن عفان، جمع من النساء تسعة دون ما ملكت يمينه وهنّ: أم كلثوم بنت محمد عليه السلام، وقد سمي عثمان ذي النورين لأنه تزوج اثنتان من بنات الرسول كانت الثانية هي رقية بنت محمد أيضا عليه السلام، وهي أم عبد الله الأصغر. بالإضافة إلى فاطمة بنت غزوان، أم عمرو وعبد الله الأكبر. بالإضافة إلى بنت جندب بن الأزدي، أم خالد وعمر. بالإضافة إلى فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس، أم سعيد والوليد. بالإضافة إلى أم البنين بنت عينية بن حصن، أم عبد الملك. بالإضافة إلى رملة بنت شيبة بن ربيعة، أم عائشة وأم إبان وأم عمر. بالإضافة إلى نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص. مع الإشارة إلى أن نائلة وإن كانت قد أسلمت إلا أن أباها كان نصرانيا. بالإضافة إلى أم ولد وأنجبت له أم البنين. (وفق نفس المصدر السابق).

- عليّ بن أبي طالب جمع من النساء هو أيضا تسعة وهنّ: فاطمة بنت الرسول عله السلام، أم الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم وزينب الكبرى. بالإضافة إلى خولة بنت إياس بن جعفر الحنفية، أم محمد (المشهور بابن الحنفية)، وقيل إن أبا بكر أعطى عليا الحنفية أم محمد من سبي بني حنيفة وفق الرواية التي أخرجها ابن السمان. بالإضافة إلى ليلى بنت مسعود بن خالد النهشلي، أم عبد الله وأبي بكر. بالإضافة إلى أم البنين بنت حزام بن خالد الوحيدية، أم العباس الأكبر وعثمان وجعفر وعبد الله. بالإضافة إلى أم ولد وهي أم محمد الأصغر. بالإضافة إلى أسماء بنت عميس الخثعمية، أم يحيى وعوف وأم محمد بن أبي بكر. بالإضافة إلى أم حبيب الصهباء التغلبية وهي "سبيّة" سباها خالد في الردة، فاشتراها عليّ منه، وهي أم عمر الأكبر ورقية. بالإضافة إلى أمامة بنت أبي العاص (أمها زينب بنت الرسول عليه السلام) أم محمد الأوسط. بالإضافة إلى أم سعد بنت عروة بن مسعود الثقفي، أم الحسن ورملة الكبرى. هذا بخلاف أمهات أولاد شتى ولدن له: أم هاني وميمونة ورملة الصغرى وزينب الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرم وأم سلمة وأم جعفر وجمانة. وذكر ابن تيمية أن عدد أمهات الولد أربعة عشرة وقيل ستة عشر. (نفس المصدر السابق)

أما باقي العشرة الذين قيل إنهم "مبشرين بالجنة" فقد جمع كل منهم من النساء ما يلي:

- طلحة بن عبيد الله: تزوج 9 نساء.

- الزبير بن العوام: تزوج 6 نساء.

- عبد الرحمن بن عوف: تزوج 20 امرأة.

- سعد بن أبي وقاص: تزوج 11 امرأة.

- سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: خلف واحد وثلاثين ولدا منهم ثلاثة عشر ذكرا والباقي إناث. ولم يذكر المحب الطبري عدد زوجاته.

- أبو عبيدة بن الجراح: من القلة الذين أعرضوا عن الدنيا، وكان مقلا في كل شيء. ولم يذكر له المحب الطبري سوى زوجة واحدة هي هند بنت جابر، وولدين هما يزيد وعمير. وكذلك قال المصعب الزبيري في نسب قريش، وابن حزم الأندلسي في جمهرة أنساب العرب.

والحقيقة، أن مثل هذا السلوك من جانب الصفوة المختارة من المسلمين الأوائل، يدل دلالة أكيدة على أن التقاليد العربية زمن الجاهلية السابقة للإسلام تركت آثارا واضحة على قناعات الناس، وعلى سلوكياتهم الدينية. خصوصا وأن الأمر لا يتعلق بعامة المسلمين، بل بصفوة الصحابة والأصحاب المقربين الذين يقول عنهم الفقهاء أن سلوكهم يدخل في باب السّنّة، أي أن سلوكهم يعتبر بإجماع الفقهاء بمثابة تشريع إسلامي مقدّس يحل أحيانا كبديل عن شريعة السماء، مستندين في ذلك إلى حديث غريب منسوب للنبي عليه السلام يقول: "أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم". 

والسؤال هو: - هل يقتدي المسلمون بهؤلاء كما يقول الفقهاء فيتجوزون على هواهم ما يشاؤون من النساء؟ 

نذكر بالمناسبة على سبيل المثال لا الحصر الشيخ محمد أبو زهرة الذي قال: "إن الصحابة كانوا أعرف الناس بشرع الله تعالى، وأقربهم إلى هدى الرسول محمد عليه السلام، فمن تبعهم فهو من الذين قال الله تعالى فيهم في الآية 100 من سورة التوبة: {والذين اتبعوهم بإحسان}". هذا علما أن الإتباع في هذه الآية لا يقصد به الاقتداء بسلوكهم في حياتهم الخاصة، بل اتباعهم في هجرتهم لأوطانهم، وجهادهم في سبيل الله، وطاعة الرسول عليه السلام فيما جاء به من عند الله مرضاة له وطلبا للمغفرة والرحمة في الدنيا وللآخرة. أما اتباعهم في التّعدد بما تشتهي الأنفس، فسيحوّل النساء إلى سلعة للمتعة والإنجاب ليس إلا. هذا علما أن القرآن لم يبح التعدد بالشكل الذي روّج له الفقهاء.


5. التعدد بين شرع الله وشريعة الفقهاء

بالنسبة للتعدد، تجذر الإشارة بالمناسبة إلى أن الله تعالى لم يشرّع في الاية 3 من سورة النساء الزواج من أربعة دون قيد أو شرط. بل قيّد التعدّد حصريا بالنساء الأرامل، واشترط في ذلك العدل. غير أن العدل المذكور في الاية الكريمة لا يتعلق بالعدل بين النساء كما روّج لذلك الكهنوت، بل بالعدل بين الأطفال اليتامى في حال كفلهم الإنسان وضمهم إلى أولاده بعد الزواج بأمهاتهم الأرامل. لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا}. وهي الآية التي تمثل الاستثناء الذي استخدمه فقهاء القشور فحوّلوه إلى تشريع عام لم ينزل الله به من سلطان للقول بجواز جمع الرجل لأربعة نساء دون قيد أو شرط، سوى قيد اليُسر المادّي وشرط العدل في الإنفاق لا في المحبة. هذا علما أن السياق في الاية الكريمة يتحدث بوضوح لا لبس في عن النساء الأرامل وأولادهن اليتامى.


6. أسئلة العقل وجواب النص 

وعودة لقضية الغُسل والطهارة موضوع هذا البحث، هناك دليل قرآني واضح يؤكد أن كل ما قاله الفقهاء في هذا الشأن هو محض هراء وافتراء ولا علاقة له بما سمّوه بـ "الوضوء من الحدث الأصغر" أو "الإغتسال من الحدث الأكبر".

ولعل أول ما يجب التذكير به هنا لأهمية ما سيُبنى عليه من نتائج، هو أزمنة وأسباب نزول الآيات التي تتحدث عن الغسل والطهارة ليتضح المعنى من السياق. ذلك أن القرآن الكريم ينقسم إلى مكي ومدني. المكي هو الذي نزل بمكة المكرمة خلال 13 سنة من البعثة. والمدني هو الذي نزل بعد الهجرة إلى المدينة حيث استمرت عملية التنزيل خلال 10 سنوات، ما يجعل فترة نزول الوحي مُنجمّا (أو مُفرّقا) بين مكة والمدينة تمتد إلى 23 سنة كاملة. 

أولا: بالنسبة للآية 43 من سورة النساء، تذكر المرويات أنها نزلت في فترة نزول سورة النساء الرئيسية، والتي استمرت لمدة 15 شهرًا تقريبًا. هذه الفترة بدأت في منتصف العام الرابع الهجري بالمدينة وانتهت في الشهر التاسع من العام الخامس الهجري بنفس المدينة طبعا. أي أنها نزلت قبل أن يختتم الوحي بخمس سنوات تقريبا. والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: 

- هل ما ورد فيها حول طريقة الغسل (أو الوضوء بتعبير الفقهاء) يتعلق بالتحضير للصلاة الحركية؟..

 لأنه لو كان الأمر كذلك فعلينا الإجابة على السؤال التالي:

- هل كان الرسول عليه السلام ومن معه يصلون بغير غسل (وضوء) في مكة والمدينة طيلة ما يناهز 18 سنة قبل نزول الآية 43 من سورة النساء ليفهموا منها أن الغسل يعد ضروريا قبل كل صلاة؟  

هذا علما أن الآية 43 تتحدث في شقها الأول عن عدم الاقتراب من الصلاة في حالة السُّكر لقوله تعالى في مطلعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}. بمعنى ألا يقرب المؤمن الصلاة وهو في حالة سكر طافح، فاقد للعقل والتركيز حتى يصحو منه ويعلم ما يقوله. 

ثانيا: بالنسبة للآية 6 من سورة المائدة، تذكر المرويات أنها نزلت في السنة السادسة من الهجرة بالمدينة، أي قبل أربع سنوات من وفاة الرسول عليه السلام. وهنا نعود لنطرح نفس السؤال السابق:

- هل كان الرسول عليه السلام ومن معه يصلون بغير غسل (وضوء) في مكة والمدينة طيلة ما يناهز عقدين من الزمن قبل نزول الآية 6 من سورة المائدة؟  

ما سلف يقودنا حكما إلى طرح الأسئلة المنطقية التالية: 

- إذا كانت الصلواة الخمسة الحركية قد فرضت على الرسول عليه السلام ليلة الإسراء والمعراج في السنة 12 من البعثة وفق التراثيين، أي قبل سنة من الهجرة إلى المدينة: فلماذا يكذب القرآن هذا الزعم وينفي واقعة الإسراء والمعراج جملة وتفصيلا وفق ما ورد في سورة الإسراء التي تعني الرسول موسى لا محمد عليهما السلام، وما ورد في سورة النجم التي توضح بما لا يدع مجالا للشك أن جبريل عليه السلام هو من دنى وتدلى من فوق إلى تحت وليس الرسول عليه السلام هو من عُرج به إلى السماء كما زعم الفقهاء اقتباسا من أسطورة مزورة ابتدعها اليهود وذكرت أيضا في الديانات القديمة كالإغريقية والهندوسية؟.

والآن لنأتي إلى جوهر الموضوع فنسأل لنفهم:

- إذا كان الغسل (أو الوضوء) يسبق إقامة الصلاة الحركية: فلماذا فصل الله تعالى طريقته في القرآن ولم يفعل ذلك بالنسبة للصلاة؟

هذا علما أن الله تعالى قال في محكم التنزيل، أنه لم يفرط في الكتاب من شيء، وأنه جاء تبيانا لكل شيء، وأنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.. وأنه أكمل للناس دينهم وأتم عليهم نعمته كما سبق القول.

الحقيقة أننا لا يمكن أن نفهم حقيقة معنى الغسل والطهارة بمعزل عن فهم معنى الصلاة نفسها، لأنه إذا كان الغسل والطهارة مرتبطان بالصلاة تحديدا، فعلينا ابتداءا توضيح معنى الصلاة من القرآن الكريم. وهنا لا بد وأن نطرح السؤال التالي:

- هل المقصود بالصلاة في القرآن الكريم الصلاة الحركية؟

إذا كان الجواب هو نعم.. 

- فما أنواعها؟ وكم عددها؟ وأوقاتها؟ وركعاتها؟ وماذا يقال خلال كل حركة من حركاتها؟  

وهذا هو بالتحديد موضوع البحث القادم لتكتمل الصورة بحول الله. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق