مفهوم الصلاة من القرآن (2)

 


1. مقدمـــة

بحث ديني: بعد أن تناولنا في الجزء الأول من هذا الموضوع شرعية الصلاة الحركية استنادا إلى مرويات التراث، وأثبتنا بالدليل القاطع زيف أسطورة الإسراء والمعراج الذي قيل إن الصلاة الحركية تم تشريعها بمناسبة عروج الرسول الخاتم عليه السلام إلى السماء.. سنتناول في هذا الجزء الثاني: مفهوم الصلاة، ومفهوم الإقامة من القرآن الكريم دون غيره من المراجع، لنوضح الفرق الجوهري الكبير والخطير القائم بين الصلاة القرآنية كما شرّعها صاحب الدّين، والصلاة الحركية التي ابتدعها التراثيون لأهداف لا علاقة لها بالدين بقدر ما تخدم السياسة.


2. المفهوم العام لإقامة الصلاة 

وردت كلمة الصلاة على مستوى الجذر (ص ل ة) 125 مرة في القرآن الكريم، وجاءت بمصاديق عدّة، أهمّها على الإطلاق المحافظة على الصلة مع الله سبحانه وتعالى بحكم القضاء المبرم في أصل الخلق الوارد في الآية 56 من سورة الذاريات ونصّه: {وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون}. والعبادة بمفهوم الطاعة هي الطريقة الوحيدة للمحافظة على الصلة الدائمة بين العبد والمعبود، لكونها تُعزّز تقرّب العبد من ربّه بما يُرضيه، وسنمها بعد الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، العمل الصالح الذي ينفع الناس، وفق أركان الإسلام الثلاثة المذكورة في القرآن الكريم لقوله تعالى في الآية 62 من سورة البقرة والآية 69 من سورة المائدة: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.

وبحكم الإقرار الوارد في الآية 56 من سورة الذاريات، أصبحت ناصية جميع الخلق بيد الله، خاضعة له طوعا أو كرها. والناصية هي مقدمة الرأس، وتقال عن المنطقة الأمامية للدماغ التي بها التفكير وفيها الإدراك ومنها القرار، لذلك فكل الطرق مهما اختلفت السبل تؤدي إلى الصراط المستقيم، بما يعنيه ذلك من استحالة أن تخرج مشيئة عن مشيئة الله، أو أن تتجاوز إرادة إرادته، لقوله تعالى في الآية 56 من سورة هود: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. 

ومردُّ ذلك، أن العابدة في الإسلام تقوم على ثنائية الطاعة والمعصية. المعصية كحال آدم الذي عصى ربّه عندما خالف أمره فتاب عليه، والطاعة المتمثلة في العمل الصالح الذي ينفع الناس، وذلك لقوله تعالى في الآية 07 من سورة النحل: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}. ما يعني أن الجزاء لن يكون في الآخرة فحسب، بل وفي الدنيا أيضا، بحيث ينعم المؤمن الصالح أو المؤمنة الصالحة بحياة طيبة هنيئة في كنف الله، وبالتالي، فلا معنى لإيمان لا يقترن بعمل صالح ينفع الناس ويرضي الله تعالى.

وبهذا المعنى الجميل، فإقامة الصلاة لا تعني إقامة الطقوس الحركية كما ابتدعها الفقهاء، بل تعني إقامة القرآن ليتحول إلى سلوك في حياة الناس، كقولك مثلا "إقامة العدل" أي تطبيق القانون ليسود العدل والمساواة في حياة الناس. وعلى هذا المنوال فإقامة القرآن تعني حرفيّا، إقامة الدين القيّم الذي هو الإسلام السمح الجميل الذي ارتضاه الله دينا للعالمين، لبناء مجتمع صالح تسوده الفضيلة وتحكمه الأخلاق، ينعم المؤمن فيه بسعادة الدنيا ويضمن الخلاص في الآخرة. ودليل ذلك ما يعطيه مفهوم "الإقامة" في القرآن من معنى، كأمر الله تعالى لأهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل، لقوله تعالى:

- في الآية 66 من سورة المائدة : {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}.

- والآية 68 من سورة المائدة : {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم}.

وعلى غرار ذلك، أمر تعالى رسوله الكريم محمد عليه السلام وأمته من بعده، بـ "إقامة" نفس الدين الذي شرّعه تعالى للرسل والأنبياء والأمم من قبل، وذلك لقوله في الآية 13 من سورة الشورى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي اوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب}. الأمر الذي يؤكد أن إقامة الصلاة تعني حرفيّا إقامة الدين وعدم التفرقة فيه كما هو حال المسلمين اليوم للأسف، ذلك أن افتراقهم إلى طوائف ومذاهب وأحزاب تؤكد أنهم لم يمتثلوا لأمر الله تعالى بإقامة الدين، واستبدلوا ذلك بصلاة حركية شكلية تختلف عن تلك التي أمر بها صاحب الدين في كتابه المبين، والتي سنأتي على بيانها في سياق هذا البحث، بدليل أن الصلاة كما يقيمها المسلمون لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا تنتهي بصاحبها إلى التقوى التي تمثل الغاية الأسمى من إقامة الدين، ناهيك عن استحالة حصول الخشوع المطلوب خلالها كما هو الحال عند تدبر القرآن بعمق وتركيز.


3. الفرق بين الرسمين "الصلاة" و "الصلوة" في القرآن

يلاحظ من خلال البحث عن كلمة "صلاة" في المصحف الكريم أنها وردت برسمين مختلفين من حيث الكتابة، فيما النطق يبقى واحدا. الشكل الأول مفرد: (بالألف) أي "صلاة"، فيما الشكل الثاني مفرد (بالواو) أي "صلوة"، وهو الأمر الذي دفع بعض الباحثين للقول بأن المعنى يختلف بين اللفظين، ذلك أن "صلاة" (بالألف) وفق قولهم تعني الصلة بالله عموما، فيما "صلوة" (بالواو) تعني التعبد من خلال إقامة الصلاة الحركية "المفروضة"، واستثنوا من هذا التعريف الصّلة الأفقية  التي تمثل الجوهر الذي يقوم عليه الدين لما للعمل الصالح الذي ينفع الناس من أهمية عند الله، باعتباره مناط التجربة الدنيوية وأساس السؤال ساعة الموت وعند الحساب يوم العرض.

ومعلوم أن الصلاة (بالألف) هي من فعل "صلّى"، وهي نفسها الصلوة (بالواو). والرسمان يعنيان إقامة الصّلة مع الله من خلال إقامة القرآن ليصبح دستورا عمليّا ينظم حياة المؤمنين الخاصة والعامة. وفي هذا الصدد يقول ابن قتيبة: "إن الواو هي الأصل مثلها مثل 'الزكوة'، فقد قُلبت الواو ألفا لمَّا انفتحت وانفتح ما قبلها، وقد رُسمت هكذا للتنبيه على أصل مادتها، وأن ألفها منقلبة عن الأصل الذي هو واو، أي أن لام الفعل اللاحق منها هو الواو السابق". 

هذا ويبقى الرسم موضوعا على اساس تنوع القراءات الثابتة في اللفظ الواحد حسب بعض المفسرين، لكن ذلك لا يُوضِّحُ سبب اختلاف كتابة "الصلاة" مرة بالألف ومرة بالواو في مصحف عثمان، كما أن اختلاف الرسم لا يعني اختلاف المعنى لأنه لا وجود في كلام الله للترادف حسب ما هو معروف، فالتنزيل أُحكمت ألفاظه ثم فُصّلت معانيه، وكل لفظ من ألفاظه إلا وله معنى دقيق وضع بميزان الذهب بفصاحة وبلاغة منقطعة النظير. وعلى هذا الأساس قد يكون اختلاف الرسم كاختلاف القراءة مجرد عادة في ثقافة العرب ولا علاقة له باختلاف المعنى وهذا هو الصحيح عقلا عند المناطقة، باعتبار أن الوحي نزل على الرسول الخاتم عليه السلام بطريقة شفوية لا كتابية كما كان الحال مع ألواح موسى عليه السلام. لكن ذلك لا يعني تجاوز المعنى القرآني الذي يفيد أن الصلاة تعني الصلة مع الله من جهة، والصلة مع الناس من جهة أخرى. وهذا لا يُغيّر من المعنى بقدر ما يعدّد في التوجّه (وِجهة عمودية لله ووِجهة أفقية للمجتمع).

غير أن بعض الباحثين الحداثيين، واستنادا إلى المنهج اللفظي، يؤكدون على ضرورة فهم معنى المفردة القرآنية في السياق الذي وردت فيه، وربط دلالتها بالمصداق العملي الذي يفرزه واقع تطبيقها كما تنص على ذلك قاعدة المعنى والمصداق أو الدّال والمدلول عند المناطقة، مع مراعاة ما تشير إليه حروف اللغة العربية من نظام صوتي بديع يمثل جزء من النظام الكوني العام لقوله تعالى في الآيات من 1 إلى 3 من سورة الطور: {والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور}. ومعلوم أن الكتاب المسطور هو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه الله سنن وقوانين الوجود، ويشار إليه مجازا بالكون الفسيح وما يجري فيه من مشيئة إلهية بلا حدود ولا قيود وفق قوانين ثابتة ومعادلات رياضية دقيقة لا تتبدّل ولا تتغيّر. أمّا الرّقّ المنشور، فيحيل على ما أُخذ من اللوح المحفوظ ودُوّن في المنشورات كالورق والجلد والعساف وغيره من وسائل الكتابة التي كانت سائدة زمل التنزيل، ومنها صحف إبراهيم ومزامير داود وتوراة موسى وإنجيل عيسى وقرآن محمد عليهم السلام جميعا. والقرآن يعني "الجمع" و "المقارنة" بين الوجود الموضوعي والنص المُنزّل كما يفهم من الاية 3 ن سورة الطور.

فمثلا، بالنسبة لحروف العلة (ألف، واو، ياء) نجد أن لها تعبيراتها الخاصة عن الوجود، ذلك أن الألف يكون ممثلا بحركة الفتحة، والواو بالضمة، فيما الياء بالكسرة. وعلى هذا الأساس، فالفتحة تُستعمل للتعبير عن الزمن الماضي، والضمة للتعبير عن الزمن الحاضر بصيغة المضارع، والياء تستعمل للتعبير عن المستقبل، أما السكون فيشير إلى العدم بالمفهوم الفلسفي، أو اللاشيئ بالتعبير القرآني، لقوله تعالى في الآية 1 من سورة الإنسان: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا}.  فمصطلح "اللا الشيء" في القرآن الكريم يوازي مصطلح "العدم" في الفلسفة، لعدم استعمال القرآن هذا المصطلح الأخير بمعناه الأنطولوجي.

وحسب هذه القاعدة المنهجية في علم اللسانيات، فإنك إذا ربطت حروف العلة بمفردة الصلاة تحصل على المعاني التراتبية التالية:

المعنى الخاص: استخدام الواو في الرسم "صلوة" بالمفرد، يكون للتعبير عن إقامة الصلة العمودية مع الله في الحاضر، والتي لا تتحقق إلا من خلال إقامة الذكر أثناء الممارسة التعبدّية اليومية للمؤمن، وتتجلى هذه الممارسة بالطريقة العملية من خلال دخول مدرسة الله للتعلم على يد المعلم الأكبر الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لا يعلم، الأمر الذي يتيح للإنسان فرصة التأمل والتدبر والفهم من خلال الوحي لقوله تعالى في الآية 114 من سورة طه: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما}.  وذلك بهدف إقامة الدين على أساس الفهم الصحيح لما ورد في الذكر الحكيم من نور وهدى وتعاليم، بحكم ارتباط المعنى بالمكان، سواء أكان التعلم جَماعة في مسجد، أو جامع، أو بشكل فردي في المكان الذي يقيم فيه المسلم حتى لو كان خارج ديار المسلمين، لأن الله الحي القيوم الواجب الوجود، موجود في كل زمان ومكان، وهو معكم أينما كنتم، وأينما ولّيتم وجوهكم فتمّ وجه الله كما يؤكد تعالى في محكم التنزيل.

المعنى العام: استخدام الألف في الرسم "صلاة" بالمفرد، يكون للتعبير عن الصلة الأفقية مع الناس، لارتباط المفردة بنقطة زمنية متحركة في نسيج الزمكان الفسيح، ما دام لا وجود لمكان من غير زمان في واقع التجربة الإنسانية، والعكس صحيح أيضا. وفي هذه المرحلة يأتي التطبيق العملي لما تعلّمه المُسلم في المرحلة الأولى، أي إقامة الدين بشكل عملي في حياة الناس على ضوء تعاليم القرآن الكريم التي تعلّمها وآمن بها عن قناعة بعد أن فهمها بالعمق المطلوب في المرحلة الأولى من خلال صلته مع الله عن طريق تدبّر القرآن تحديدا. ومعلوم أن الخطاب القرآني موجه للعالمين وليس للفقهاء، لأن لا وساطة بين العبد وربّه في الإسلام، بدليل أن نداء تدبّر القرآن نداء عام يشمل الناس كافة.

يستنتج ممّا سلف، أنه كلّما تغيّر المبنى إلا وتغيّرت الصّلة المقصودة في الخطاب، وليس المعنى في حد ذاته والذي يظل هو نفسه، ذلك أن الصلاة اسم جنس تعني الصِّلَة، وكلما وردت هذه المفردة في القرآن الكريم بالواو (صلوة) إلا وأشارت إلى الصلة العمودية مع الله، والتي تُؤدَّى بطقوس معيّنة بيّنها تعالى في كتابه المجيد. وكلما وردت المفردة بالألف (صلاة) إلا وأشارت إلى الصلة الأفقية مع الناس، والتي أساسها تطبيق القيم الدينية المُثلى والقواعد الأخلاقية الحسنة التي تعلمها المؤمن من القرآن. بمعنى، أن الأولى صلواة قياميّة لأنها دائما تكون مسبوقة بفعل "أقام" لقوله تعالى: {الذين يقيمون الصلواة}، أي يقيمون الذكر والتسبيح لتحقيق انسجام الإنسان مع الله ومع الكون بدليل قوله في الآية 14 من سورة النور: {ألم تر أن الله يسبّح له من في السماوات والأرض والطّير صافّات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون}. 

ومعلوم أن التسبيح الوارد في الآية السالفة يعني "الصلواة" أي إقامة الصّلة مع الله من خلال الذكر الذي هو القرآن الكريم بالنسبة للإنسان، لقوله تعالى في الاية 14 من سورة طه: {وأقم الصلاة لذكري} أي إقامة الصلاة تكون من أجل تلاوة الذكر الحكيم وتدبره لفهمه والعمل بما جاء فيه بعد ذلك. أما الثانية فـ "صلاة" جماعية واجتماعية لإقامة الدين بهدف إقامة مجتمع الفضيلة الذي يحكمه العدل وتسود فيه القيم الأخلاقية النبيلة، وأهم قاعدة قرآنية تحقق ذلك هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنه عندما تخلّى عنها المسلمون أصبحوا أسوء أمة في العالمين بعد أن كانوا أحسن أمة أخرجت للناس كما يفهم من ظاهر الآية الكريمة، لقوله تعالى في الاية 110 من سورة آل عمران: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. 

وبالتالي، فتعطيل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو تعطيل لفريضة الصلاة الأفقية الجماعية والاجتماعية، الأمر الذي حوّل أمّة محمد اليوم إلى أسوء أمة منبوذة في العالمين، ولم ينفعها تديّنها السطحي ولا صلاتها الحركيّة الموروثة عن السلف الذي لم يكن كله صالحا، للخروج من أزماتها المعقّدة والمتراكمة التي أُرْكِسَتْ فيها منذ أن ترك المسلمون كتاب الله وراء ظهورهم وتمسّكوا بتراث الكهنوت.

وقد جاءت الصلاة في القرآن الكريم أيضا بمعنى "الصَّلْيُ" لقوله تعالى في الآية 12 من سورة الأعلى: {الذي يصلى النار الكبرى}. ومثال ذلك صَلْيُ العصا في النار بهدف تقويمها من الاعوجاج، وتنظيفها من الشوائب، وتجفيفها من الماء، وانضاجها لتقويتها في النهاية. وهذا بالضبط هو هدف إقامة الصلاة، أي إقامة الدين بغاية تقويم الإنسان المسلم من الاعوجاج، وتنقيته من الشوائب بإبعاده عن الذنوب والآثام والفواحش، وانضاجه عبر الانضباط حتى يصبح مؤمنا قويا ملتزما ومتّقيا على هدى من الله، وذلك هو الصراط المستقيم، الأمر الذي يُمهّد لخلق مُؤمن مُتنوّر نافع وقادر على إقامة مجتمع الفضيلة، الذي يقوم على العدل والأخوة والمساواة والتضامن والتعاون والتسامح والإحسان، مجتمع تسود فيه روابط الولاء على أساس مبادئ الأخلاق والمحبة في الله.

أما من حيث قواميس اللغة، فمعلوم أن فعل "وَصَلَ"، يعني أحسن العطيّة والبرّ والجائزة، كما أن الوصلة التي أصْلُها من فعل "وصل" أيضا تعني "الاتصال" و "الوصال"، وأوصل هي كذلك من فعل "وصل" وتعني أبلغ. وبذلك فكلمة "صلوة" أو "صلاة" في الاصطلاح الدّيني تعني عموما بارك، وبذلك تكون الصلواة من الملائكة تفيد طلب المغفرة والرحمة للمؤمنين، فيما الصلواة من الله تعني مباركة الدعاء بالاستجابة ليحصل المؤمن على المغفرة والرحمة، وبهذا تكون "إقامة الصلواة" من حيث الدلالة الدينية المقصودة في الكتب السماوية قديما وحديثا تعني إقامة الدين بالتسبيح الذي يعني السّعي والدعاء والتوكّل على الله والعمل الصالح الذي ينفع الناس، ويأتي ذلك بعد التصديق المعبّر عنه بلغة القرآن بـ "الركوع" الذي يعني "الخضوع"

أما "السجود" فيأتي بمعنى الطاعة المتجلية في صالح الأعمال بعد التصديق، لذلك قال تعالى لمريم عليها السلام في الآية 43 من سورة آل عمران: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين}، فأمرها بالقنوت (أي لزوم الطاعة) والسجود قبل الركوع، أي الإيمان الذي يأتي بعد التصديق على غرار ما فعله "الراكعون" أي المصدقون الخاضعون لتعاليم السماء من قومها. وهو ما يؤكد عليه القرآن حين يربط بين متلازمة "الإيمان والعمل"، لقوله تعالى في أكثر من آية وسياق {الذين آمنوا وعملوا الصالحات}. ما دام العمل هو ترجمة عمليّة لما تعلّمه الإنسان من الذكر الحكيم خلال صلته مع الله، فآمن بعد أن حصلت له القناعة المؤسسة على اليقين الصادق، وترجم ذلك من خلال الطاعة والخضوع التام، والتسليم بخشوع، والتطبيق العملي على الأرض بتفاني وإخلاص لصالح الأعمال التي تنفع الناس، مع الاستسلام لقضاء الله وقدره بخوف ورجاء ودعاء. لأنه لا يغير الأقدار إلا صالح الأعمال المتبوعة بالدعاء. أما الدعاء من دون تقديم ما يشفع للاستجابة من صالح الأعمال، فمجرد صيحة في واد لا تصل إلى عنان السماء.

وإذا كان هذا هو معنى الصلاة في القرآن بشقيها المتضمن: للصلة العمودية مع الله والصلة الأفقيّة مع خلقه، فالسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: 

- من فرض على الناس الصلوات الحركية الخمسة؟ 


4. مفهوم إقامة الصلاة من القرآن 

كلمة "صلاة" المشتقة من الجذر "صِلَة" (بكسر الصاد)، تعني لغة حسب قاموس المعاني: "الدعاء"، أما اصطلاحا فتفيد حسب شريعة الفقهاء: الصلاة الحركية التي تبدأ بالتكبير، وتُختتم بالتسليم، وتتخلّلها حركات وأقوال. وكِلا التعريفين (اللغوي والاصطلاحي) لا يتوافقان مع شريعة السماء التي أصبغت على المفردة نفس المعنى الذي يعطيه الجذر "صِلَة".

ويستفاد من التنزيل الحكيم أن "الصلاة" نوعان: 

- صلاة عمودية: تُقام بين المؤمن وربه أساسها الإيمان والتسليم والاستسلام. 

- وصلاة أفقية: تُقام بين الإنسان ومحيطه عمادها الأمن والسّلام والعمل الصالح.

ووفق هذا التعريف القرآني، فإن طقوس الصلاة العمودية كما حّددها صاحب الدين تتمثل في القنوت والذكر والتسبيح والركوع والسجود وما يتخلل ذلك من دعاء. أما الصلاة الأفقية، فهي ليست في حقيقة الأمر سوى ترجمة لمعاني الصلاة العمودية لجهة تنزيل كلّ ما آمن به المسلم من آيات ربّه على أرض الواقع، ليشعر الإنسان بالطمأنينة والأمان، ويعيش المجتمع في سلم وسلام، فيحلّ بالتالي التناغم المطلوب بين الدين والدنيا، بدل التناقض القائم بين تعاليم الذكر الحكيم والواقع الموضوعي كما نراه في حياة المسلمين، بسبب عدم فهم المغزى الحقيقي من عبارة "إقامة الصلاة" التي تعني حرفيّا: "إقامة الدين"، لتكون عبادة الإنسان من صلاة ونسك ومحيا وممات كلها لله رب العالمين، كما جاء في الإقرار الإبراهيمي الوارد في الآية 162 من سورة الأنعام.، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

والحقيقة أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن كلّما ذكرت الصلاة، هو عن سرّ الخلق والغاية من العبادة.. فتجد الكثير من الناس يتساءلون: 

- لماذا خلقنا الله؟ ولماذا نعبده؟..

والمفارقة أن معظم الكتابات الدينيّة عن الموضوع تجيب بالشطر الثاني عن الشطر الأول من السؤال، الأمر الذي لا يفي بالغرض لجهة الفهم والاقتناع. وهنا أتذكر محاضرة للدكتور مصطفى محمود رحمه الله تحدث فيها عن السرّ الحقيقي وراء عبادة الإنسان لربّه فقال ما مفاده، أن الذي يربط الجنين بأمه هو الحبل السرّي الذي يستمد منه المخلوق إكسير الحياة، فإذا انقطع بعد الولادة انفصل المولود عن والدته، لكن ظل الارتباط الروحي بينهما قائما مدى الحياة، لأن المولود هو جزء من روح أمه، ومعلوم أن لا حب في هذه الدنيا يضاهي حب الأم لولدها والعكس صحيح أيضا.

- لكن ماذا عن علاقة المخلوق بخالقه؟

نكتشف من خلال تدبّر آيات الذكر الحكيم، أن الله تعالى خلق الإنسان أطوارا، وبعد أن نضج واستوى نفخ فيه من روحه، أي أنه زوّده بالعلم والمعرفة عن طريق الوحي، ليعرف نفسه أولا ثم يهتدي إلى ربّه تاليا، لقوله الرسول ألأعظم عليه السلام: (من عرف نفسه عرف ربّه). وبالتالي، فالمعرفة التي يحيا بها الإنسان في حياته هي الحبل السري الذي يربطه بالله، والعبادة هي الغذاء الروحي الذي يجدد إيمان الإنسان ويزيد من معرفته بربّه ويجعله محبوبا من خالقه، فيغدق عليه النعم والبركات التي لا تُعدّ ولا تُحصى، وانقطاع العبد عن عبادة ربّه بما تعلّم من وحيه هو عقوق بخالقه، وتمرّد على رازقه، واستبدال للمحبة والرحمة بالسخط والغضب.

بالمختصر المفيد، إن هذا الانفصام من جانب الإنسان العاق هو عبارة عن قطع للحبل السري الروحي الذي يربطه بربه من خلال الصلاة، سواء منها الصلاة العمودية نظرا للرابطة المقدسة التي تجمع العبد بربه من خلال الذكر (القرآن)، أو الصلاة الأفقية التي تربط العبد بمحيطه وعمادها العمل الصالح الذي ينفع الناس، لقول الإمام عليّ: "الناس صنفان: أخ لك في الدين أو أخ لك في الخلق". وبالتالي فحب الله يستوجب حب خَلقه ومساعدتهم بل والتضحية من أجلهم، وهذا هو الفرق بين المحبّة في الإسلام التي ترتبط بالله وعباده من خلال إقامة الصلاة العموديّة والأفقيّة معا كما أسلفنا، وبين المحبة في المسيحية التي ترتبط بالمسيح عيسى عليه السلام بدلا من الخالق الذي هو الله. وقد رأينا ان المسلمين أيضا قلّدوا المسيحيين في هذا المنحى دون أن يدركوا الفرق القائم بين محبة الله التي لا تضاهيها محبة ومحبة رسوله.  

وعلى هذا الأساس، ومن باب التأكيد مرة أخرى على جوهر المعنى، فـ "إقامة الدين" وفق ما يؤكد القرآن الكريم تكون من خلال الالتزام بثلاثة أصول تعتبر الأركان الأساسية للإسلام كما سبقت الإشارة القول، لقوله تعالى:

- في الآية 62 من سورة البقرة : {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. وقد تكرّرت نفس الصّيغة بنفس المعنى في الآية 69 من سورة المائدة أيضا كما أسلفنا القول. 

وبالتالي، يفهم من الآيتين الكريمتين أن الله تعالى حدّد بوضوح أصول الدين الذي هو الإسلام كما ارتضاه للعالمين جميعا باختلاف الرسل والأمم في أركان ثلاثة هي: (الإيمان بالله - الإيمان باليوم الآخر - العمل الصالح الذي ينفع الناس)، وجعل العمل الصالح بمثابة تنزيل عمليّ على أرض الواقع لركني الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى أساس العمل الصالح كما أوضح القرآن، ينال العبد مغفرة الله ورحمته، فيسمح له بدخول الجنة من عدمه، لقوله تعالى: في الآية 110 من سورة الكهف: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا}. 

وواضح أن الله تعالى قد بيّن في هذه الآية الكريمة بأسلوب بليغ الأصول الثلاثة التي يقوم عليها الإسلام، ألا وهي: - التوحيد: لقوله {إنما إلهكم إله واحد). - المعاد: لقوله: {من كان يرجو لقاء ربّه}. – العمل الصالح: لقوله {فليعمل عملا صالحا}. واشترط أن يكون العمل الصالح خالصا لوجه الله لا يتخلّله أي وجه من أوجه الشرك أو النفاق، وما أكثر ذلك في حياة المسلمين اليوم بسبب الجهل والغرور للأسف. 

وواضح أن أركان الإسلام الثلاثة التي قال بها القرآن هي غير الأركان الخمسة التي قال بها فقهاء بنو أميّة، والتي لها علاقة بأركان الإيمان لا الإسلام، نظرا لصيغة الخطاب الذي يتوجه للذين آمنوا تحديدا. كما ليس صحيحا ما روّج له الفقهاء من حديث مكذوب على رسول الله مفاده أن كل من قال "لا إله إلا الله" دخل الجنة حتى لو أتى بثقل الكرة الأرضية من الذنوب، وإلاّ لدخلها المنافقون أيضا والله تعالى يقول في الآيات من 8 إلى 10 من سورة البقرة: {ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}.

وليس صحيحا أيضا أن رحمة الله ستشمل الجميع كما روّج لذلك بعض الصوفية استنادا إلى جزء من آية انتزع من سياقه لقوله تعالى في الآية 156 من سورة الأعراف: {ورحمتي وسعت كل شيء}. ذلك أن الرحمة هنا ليست على إطلاقها وفق ما توحي بذلك ظاهر الصيغة، لأن تتمة نفس الآية تبيّن بوضوح أن الله تعالى جعل رحمته مشروطة بالإيمان الصادق والعمل الصالح لقوله: {فسأكتبها – أي رحمتي - للذين يتّقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون}، (نفس الآية). 

وبالتالي، فلا علاقة للأركان الثلاثة المذكورة أعلاه كما فرضها تعالى على المؤمنين كافة بغض النظر عن الرسل والرسالات، بالأركان الخمسة التي ابتدعها فقهاء السلاطين لأسباب سياسية، وجعلوها من صميم العقيدة المحمّديّة بهدف اشغال المسلمين وتفريقهم في الدين، والله تعالى يقول في الآية 92 من سورة الأنبياء: {إن هذه أمّتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون}. ويقول في الاية 52 من سورة المؤمنون: {وإن هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربّكم فاتّقون}. وهو ما يفيد أن جنس البشر جعله الله تعالى في البداية أمّة واحدة وأمرهم بالعبادة والتقوى قبل أن يختلف الناس ويتفرقوا في الدين، بدليل قوله تعالى في الآية 19 من سورة يونس: {وما كان الناس إلا أمّة واحدة فاختلفوا}. 

وبسبب هذا الاختلاف في الدين تحديدا حدثت التفرقة التي نتج عنها الانقسام الذي فرّخ أمما ومللا ونحلا ومذاهب وفرقا وأحزابا... كل بما لديهم فرحون، لقوله تعالى: في الآية 53 من سورة المؤمنون: {فتقطّعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون}. وقوله أيضا في الآيتين 31 و32 من سورة الروم: {منيبين إليه واتّقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون}. لكن، وبرغم تصنيف القرآن لمن فرقوا دينهم بالمشركين، نرى المسلمين - إلا من رحم الله - يتفاخرون بانتمائهم لطوائف ومذاهب وأحزاب دينية باسم سنّة ما أنزل الله بها من سلطان، وهم يعتقون أنهم ينتمون للفرقة الناجية وما سواهم في النار. في تجاهل تام لأمر الله تعالى لرسوله الخاتم عليه السلام الوارد في الآية 159 من سورة الأنعام، لقوله: {إن الدين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}. والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو:

- إذا كان الله تعالى وصف من فرّقوا دينهم بالمشركين وقال عن رسوله الكريم أنه ليس منهم في شيء، فلماذا يصر الفقهاء على التفريق بين المسلمين شيعا ومذاهب باسم سنة كاذبة زائفة ينفيها القرآن جملة وتفصيلا؟

الجواب هو كما أمر تعالى رسوله الكريم بقوله إن كل من لم يُدر ظهره لهذه المذاهب ويوجّه وجهه لله ويتّبع آياته يكون حكما من المشركين. ويجب أن يكون الإنسان أعمى البصر والبصيرة لكيلا يفهم ذلك برغم وضوحه. ذلك أن التفرقة في الدين المقصودة في الآية الكريمة هي التي جعلت دين الله الواحد أديان متعددة كاليهودية والمسيحية وغيرهما، وهو ما لم يقل به الله في قرآنه. وانعكس ذلك أيضا على نفس الرسالة المُحمّدية بظهور المذاهب بعد وفاة الرسول الأعظم عليه السلام بقرنين من الزمن. الأمر الذي يؤكد أن من تسبب في هذه الكارثة هم فقهاء السلاطين خدمة للإقطاع، الذين يدّعون العلم وليس لهم منه إلا التّسمية. هؤلاء المتطاولون على شرع الله – إلا من رحم الله – هم مُجرّد خُدّام جنّدهم الشيطان ليشاركوا الله في التشريع لعباده فيُضِلّوا الناس ويبعدوهم عن صراط العزيز الحميد استنادا إلى دين موازي وضعوه ليكون دينا بديلا عن الإسلام السمح الجميل، فتبعهم للأسف معظم المسلمين بسبب الجهل والأميّة، والحقيقة أنّ ما اتّبع أكثرهم إلا الظنّ الذي لا يغني من الحق شيئا كما يقول تعالى في الآية 36 من سورة يونس، ويتساءل رب العزة في الآية 35 التي قبلها إن كان هؤلاء الشركاء أحق بالإتّباع أم الله الذي يهدي إلى الحق؟ لقوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}.

والطّامة العظمى التي لا ينتبه إليها هؤلاء التّابعون من العامّة، هو أن هؤلاء الفقهاء الذين يزعمون أنّهم يتبعون سنّة الرسول الكريم عليه السلام بدعوى أنها مكمّلة للقران، إنّما يتّهمون الله صراحة بالتفريط في كتابه والنقصان في دينه، وهو القائل سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون: {ما فرّطنا في الكتاب من شيء} الأنعام: 38، والقائل: {ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} النحل: 89. والقائل أيضا بشكل قاطع، حاسم، ونهائي: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} سورة المائدة: 3، وهي نفس الحقيقة التي أكدها الرسول الخاتم عليه السلام لقومه في خطبة الوداع كما هو معلوم. 

- فأين يذهب تجار الدين وحراس معبد الجهل من هنا؟ 

حقيقة الأمر وفق ما تبيّن من نتائج هذه التفرقة البغيضة التي حدثت عبر تاريخ الرسل والرسالات، أن هدف رجال الدين في كل العصور والدهور لم يكن خدمة دين الله كما زعموا، بل التفرقة بين الله ورسله بدعوى قولهم: {نؤمن ببعض الآيات ونكفر بالبعض الآخر} كما فضحهم الله تعالى في الآية 150 من سورة النساء ووصفهم بالكافرين، وهذا بالضبط هو السبب الذي دفع فقهاء المسلمين لابتداع الناسخ والمنسوخ لينهوا بذلك شريعة السماء ويستبدلوها بشريعتهم، بدعوى تطبيق سنة مزوّرة نسبوها إلى رسول الله عليه السلام وقالوا عنها وحيا، وهذا بالضبط هو معنى أن يفرّقوا بين الله ورسله كما أوضح تعالى في قرآنه، وهو النهج الذي ابتدعه قديما حاخامات اليهود ورجال الدين النصارى، ولم يحد عنه فقهاء الرسوم خدام إبليس من أمة محمد الذين يفترون الكذب على نبيّ الله، ووصفهم عليه السلام بـ "مجوس الأمة" وفق ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي في (الإحياء – باب العلم والعلماء).

وهذا يعني، أن الله تعالى وبرغم أنه خلق الناس ليكونوا أمّة واحدة، إلاّ أنهم تفرّقوا بسبب "الحديث" الذي شغل الناس عن القرآن تحديدا، واختلاف الشيوخ بينهم فيما سمّوه "اجتهادا"، والذي طال حتّى النّصوص القطعية الثّبوت والقطعيّة الدلالة في القرآن الكريم، فتاهت بأتباعهم السبل عن سبيل الله، وانقطع الحبل بين العبد وربّه، ففُضّ الاعتصام الذي أمر به تعالى المؤمنين كافة لقوله تعالى في الاية 103 من سورة آل عمران {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا}. ومعلوم أن الحبل الذي يقصده تعالى في الآية الكريمة هو القرآن الذي يَعْقِدُ "الصِّلة" بين العبد وربّه وفق ما يعطيه مفهوم "الصلاة العمودية".

ويُؤكد المولى عزّ وجلّ في محكم التنزيل أن التفرقة التي حدثت بين المؤمنين لم تكن بسبب نقص في المعلومات لتقصير الرسل في تبليغ رسالات السماء، بل كانت بسبب بغي رجال الدين بعد أن جاءتهم البيّنات، لقوله تعالى في الآية 213 من سورة البقرة: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مُبشّرين ومُنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم}.  

يستفاد مما سبق، أن الله تعالى كلّف الناس جميعا بإقامة الدين ليكونوا كما خلقهم أول مرة أمة واحدة موحّدة لا تعبد إلا الله ولا تشرك به شيئا، لكنهم اختلفوا، وهو ما يؤكده تعالى في خطابه لأهل الكتاب بشأن معنى "إقامة الدين" بقوله: في الآية 68 من سورة المائدة: {يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل}. فالمطلوب من اليهود إذن إقامة التوراة التي نزلت على الرسول موسى عليه السلام، أما النصارى فمطلوب منهم إقامة التوراة والإنجيل معا، أي الإيمان بما أنزل على عيسى وما أنزل على موسى قبله عليهما السلام. وعلى هذا الأساس من ترتيب، طلب الله تعالى من رسوله الخاتم وأمّته أن يقيموا الدين بنفس المعنى السالف الذكر، أي "إقامة القرآن" الذي يضم بين دفّتيه كل الشرائع التي أنزلها الله تعالى لعباده وفق معنى كلمة "قرآن" في لغة العرب القديمة، لقولهم: "قَرئ الماء في الحوض"، أي جمع الماء في مكان واحد، وهذا هو ما حدث بالضبط في القرآن الكرام الذي جمع بين دفّتيه كل الشرائع السابقة بدليل قوله تعالى في الآية 13 من سورة الشورى: {شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به موسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرّقوا فيه}. 

وبرغم وضوح المعنى في هذه الآية الكريمة، ها هو شيخ الأزهر أحمد الطيبي يقول بمناسبة تعليقه على الضّجّة التي أثيرت مؤخرا حول ما أصبح يعرف بالبيت الإبراهيمي الذي روجت له الإمارات العربية، أن القرآن ينسخ التوراة والإنجيل، وهو قول ينمّ عن جهل فضيع بالدين، بل وافتراء على الله الذي أمر رسوله الكريم وأمّته من بعده بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقضائه وقدره خيره وشرّه، ولم يقل أنه نسخ الرسالات السابقة، بل أوضح أنّه صحّح في القرآن الكريم ما طال التوراة والإنجيل من أوجه التحريف والتزوير والتبديل والتغيير والتحوير. وبالتالي، فلا وجود لدين عند الله غير الإسلام الذي ارتضاه دينا قيّما للعالمين كافّة، من نوح صعودا إلى محمد هبوطا مرورا بكل الرسل والأنبياء مما نعلم ولا نعلم عليهم السلام جميعا بشهادة القرآن، أما ما سواها من عقيدة فسمّاها تعالى بدين الكفر وفق ما يستفاد من أمره لرسوله الكريم في الآية 6 من سورة الكافرون، بأن يقول لهؤلاء: {لكم دينكم ولي دين} الكافرون: 6.


5. كيف يُقام الدين من خلال إقامة الصلاة؟

يقول تعالى في الاية 170 من سورة الأعراف: {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيع أجر المصلحين}. فذكر الله عزّ وجلّ أن إقامة الدين تكون من خلال إقامة الكتاب (القرآن) بما يشمل من صلة عمودية بين العبد وربه تقوم على أساس التعلم في مدرسة القرآن، وصلة أفقية بين العبد ومحيطه تقوم على أساس تطبيق ما تعلمه المؤمن في مدرسة الله من خلال الإصلاح الذي هو المعنى الأساسي للإسلام في القرآن. لأن الآية الكريمة تشير إلى أن التمسّك بما جاء في الكتاب وإقامته، أي تنزيله على أرض الواقع من خلال الصلاة في شقّها الأفقي هو عين الإصلاح، أي إصلاح النفس وإصلاح المجتمع معا ليسود الأمن والعدل والأخوة والمحبة والطمأنينة والتعاون والاستقرار فيتم عمار الأرض امتثالا للتكليف الإلهي وطبقا للمفهوم الذي يعطيه مصطلح العبادة في القرآن.

وأوضح تعالى أن التمسّك بكتاب الله هو تطبيق الإنسان في حياته لما تقتضيه قوانين الخلق من فطرة، واحترام ما تفرضه سنن الكون من توازن، ولا سبيل لتحقيق ذلك إلاّ بالصلاح الذي لا يضيع الله أجره كما أكّد في الآية 170 من سورة الأعراف. فربط الصلاح بإقامة الصلاة، بما يعنيه ذلك من إقامة الدين من خلال العلاقة العمودية مع الله والعلاقة الأفقية مع خلقه.

 ويفهم من مختلف الآيات التي وردت فيها كلمة "إقامة"، أن المطلوب هو إقامة الكتاب من خلال تمسّك الإنسان بما جاء في آياته، وتوجيه وجهه لله دون سواه، راجيا منه الهداية، وطالبا منه العون ليقوّم اعوجاجه، ويُصحّح أخطاءه، ويُهذّب نفسه، ويُغذّي روحه، ويصلح محيطه ومجتمعه.. ليسمو بمكارم الأخلاق، فيكون في النهاية إنسانا مستقيما صالحا يتبوأ في الدنيا المقام الأعلى بين البشر، ويخصّص له الله تعالى في الآخرة المقام الرفيع بين عباده المقرّبين، جزاءً بما قدم في حياته من أعمال صالحة تنفع الناس. وهذا هو ما يعطيه معنى "الإقامة"، أي إقامة الدين على أرض الواقع، ومثال ذلك إقامة الجدار الآيل للسقوط بسبب اعوجاجه وذلك بإعادة بنائه بشكل مستقيم، لقوله تعالى في الآية 77 من سورة الكهف: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه}.

وعلى هذا الأساس، فالهدف من إقامة الدين يتمثّل في إعادة بناء الإنسان الضال المنحرف ليكون مستقيما بالإيمان والتقوى ومفيدا لنفسه ولمجتمعه وللإنسانية جمعاء بالعمل الصالح. ومعلوم أن المعنى الحقيقي الذي يعطيه مصطلح "إسلام" وفق القرآن الكريم هو: "الإصلاح" الذي هو عكس "الإفساد". أي أن يكون المؤمن الحق مُصلحا لا مُفسدا. من هنا يُفهم أصل المسألة فيما يتعلق بقرار ربّ العزّة إخضاع الإنسان للتجربة الأرضية ليعلم المُصلح من المُفسد، بدليل ما سبق وأن عبّرت عنه الملائكة من مخاوف لربّها عندما أخبرها أول مرّة بأنه سيجعل في الأرض خليفة، فقالت له: وفق ما ورد في الآية 30 من سورة البقرة: {أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نُسبّح بحمدك ونُقدّس لك}.

وهو ما يدلّ على أن جوهر الاستخلاف في الأرض، أي استخلاف الأمم البدائية المتوحّشة السابقة التي كانت تفسد وتسفك الدماء في الأرض قبل آدم الإنسان الأخلاقي الذي اصطفاه الله من سلالتهم المتطوّرة فيما عرف بعصر الجنّة، ولا علاقة لهذا الاستخلاف بالله سبحانه وتعالى لقول فقهاء الرسوم: "إن الإنسان هو خليفة الله في الأرض". لأن ما يفهم من كلام الملائكة الذين لا يعلمون الغيب بل فقط يحكمون على ما عاينوه من تجارب سابقة لأجناس بشرية بدائية متوحشة (نيواندرتال) عاشت تفسد وتسفك الدماء في الأرض قبل آدم الإنسان الأخلاقي (هوموسابيانس). 

وبذلك، فالخلافة وفق المفهوم اللغوي والاصطلاحي والقرآني لا تكون إلا في حق الغائب لا في حق الحاضر، وبالتالي:

- كيف تستقيم الخلافة في حق الله الحي الدائم القيّوم المُدبّر لملكه وشؤون خلقه في كلّ وقت وحين، دون أن تأخذه سنة ولا نوم؟

والاستخلاف وفق السياق القرآني يقوم على الصلاح، والصلاح لا يتحقّق إلا إذا وجّه الإنسان وجهه لله تعالى وأقام الدين الذي ارتضاه له، ليتحوّل بذلك إلى مُسبّح في سعيه مُنسجم ومُتناغم مع سنن الكون وقوانين الخلق كما هو حال كل المخلوقات التي أوجدها الله تعالى في السماوات والأرض من غير البشر، وعلّمها كيف تسبّح لله بلغات وحركات لا يفهمها إلا هو، والتسبيح هو السّير وفق قوانين الله الذي أوجدها في الكون. ومن يُسبّح ضد سنن الله وقوانين الطبيعة يكون مصيره الهلاك وفق ما يستفاد من قصص الأحزاب الواردة للعبرة والموعظة في القرآن الكريم.

ولأن النتائج بمقدماتها، نستخلص مما سلف بالتحليل العقلي والاستنباط المنطقي، أن حرص المسلمين على إقامة الصلاة الحركية وفق شروط الفقهاء بدل إقامة الدين بشروط السماء لم يغيّر من واقع الأمة شيئا، بل على العكس تماما، حيث أصبح واضحا لكل ذي عقل راجح وحسّ سليم، أن لا علاقة لتصرفات الغالبية العظمى من المسلمين مع ما يتضمّنه كتاب الله من تعاليم، ولعل أكبر معضلة يعيشها المسلم اليوم على مستوى الشعور تتمثل في استحالة التوفيق بين الدين والدنيا، أي بين تعاليم السماء وظروف العيش على الأرض، والسبب يعود لعدم تدبّر المسلم للقرآن الكريم ليكتشف القطبة المخفية التي تعيق توجّهه بحرّيّة نحو ربّه، ليمارس دينه الذي ارتضاه له بيسر ومن غير حرج لقوه تعالى في الاية 78 من سورة الحج: {وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم}. أي طريقة أبيكم إبراهيم التي هي طريق العقل لما مارسه من تفكير عقلاني بمقاييس عصره خلال بحثه عن ربّه في الكواكب والأجرام السماوية.  لأنه بهذا الفهم سيشعر الإنسان أن ما هو مطلوب منه ليس بدعة بشريّة بل شريعة سماويّة أوجدها الله في جينات البشر، والمعبّر عنها بـ "الفطرة" بلغة القرآن الكريم، أي بالدافع الذي يحثه على معرفة الله والبحث عن الحقيقة في الأشياء كلها، لقوله تعالى في الآية 30 من سورة الروم: {فأقم وجهك للدّين حنيفا فطرة الله التي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدّين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}. 

وقد وردت عديد الآيات لتُؤكّد على نفس هذا المعنى مثل: (يونس: 105، الروم: 43، الشورى: 13). وهو الأمر الذي يعني أن كل ما يقتنع به العقل ويرتاح له القلب إلاّ وتقبله الفطرة لأنه يتوافق مع دين السماء، وكل ما يرفضه العقل ويكرهه القلب تشمئز منه النفس لأنه لا يتوافق مع دين الله، وهذا هو أساس عمل الفطرة في النفس. وبذلك يكون اتّباع شريعة الفقهاء بدل شريعة السماء سببا في كل تلبيس يختلط فيه الإيمان بالشرك لقوله تعالى في الاية 106 من سورة يوسف: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}. لاحظ أن الله هنا يتحدث عن المؤمنين لا الكافرين، وعن أكثرية المؤمنين الذين دنّسوا دينهم بالشرك، لأنهم لم يستعملوا عقولهم في تدبر القرآن لمعرفة الهدى من الضلال، فآمنوا بشريعة الفقهاء بدل شريعة السماء حيث أنهم اختاروا اتباع الدين الموازي الذي وضعه فقهاء السلاطين ليكون دينا بديلا عن دين الله القويم.

وها هو الواقع اليوم يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن إقامة المسلمين للصلاة الحركية الشكلية بديلا عن إقامة الدين الحقّ ناجم عن سوء فهم كبير لما ورد في كتاب الله من تعاليم. والسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو:

- إذا كانت صلاة المسلمين التي يقيمونها بالتواتر لم تصلح حالهم ولم تحقق الغاية التي شرّعها الله من أجلها. فأين تكمن المشكلة إذن؟

لنتذكر مثلا دعاء مئات الملايين من المسلمين في المساجد خلال كل صلاة جمعة لأكثر من 70 سنة، طالبين من الله أن يقطع نسل بني إسرائيل، ويحرق زرعهم، ويفسد حالهم، ويلحق بهم الهزيمة. لكن الله بدل ذلك هزم العرب، وأصبحت إسرائيل أقوى مما كانت عليه في البداية، تحظى بدعم القوى الغربية وتتحكم في اقتصاد العالم، وإعلام العالم، وصناعات العالم، ومخابرات العالم.. في حين أن العرب الذين حباهم الله بالوحي والخيرات يعيشون الجهل والفقر والقهر والذل والتبعيّة والهوان. والسبب أنهم لم يفهموا معنى إقامة الصلاة التي تعني إقامة الدين. فخسروا موقعهم في لعبة صراع الحضارات التي يتشكل على أساسه النظام العالمي الجديد بديلا عن النظام الليبرالي الآيل للزوال، وتحولوا إلى عدو بدل أن يكون رقما صعبا في المعادلة الجيوسياسية الدولية.

وهذا هو السؤال المسكوت عنه في الدين، والجواب عنه لا يكون إلا إذا فهمنا أوّلا كيف تم التأصيل للصلاة الحركية من خارج تعاليم القرآن كما أوضحنا بتفصيل في البحث السابق حول مفهوم الصلاة من التراث، لنقف على السبب الحقيقي لهذا الانحراف الكبير الذي وقع فيه معظم المسلمين عبر العصور والدهور، نتيجة استغلال الدين في السياسية، الأمر الذي تطلب إقامة دين بشري موازي بديلا عن دين السماء. 

إلى هنا يبدو مفهوم الصلاة واضحا، ومعنى إقامتها واضحا ايضا، لكن ما ليس واضحا بعد هو أوقاتها وطريقة إقامتها. وهذا ما سنتناوله في البحث التالي المتعلق بنفس الموضوع إن شاء الله. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق