(قصة جيل رقمي يفكك مكامن الشرعية ويعيد كتابة قواعد الصراع السياسي في المغرب)
دراسة: قراءة معمقة في خريطة نفوذ جيل زيد 212 وتأثيره على توازنات السلطة في المغرب
المقدمة
شهد العالم خلال العقود الأخيرة تحولات جذرية في طبيعة الحركات الاجتماعية والسياسية، إذ لم تعد المطالب الشعبية تنطلق من الأطر التقليدية مثل الأحزاب أو النقابات أو الجمعيات، بل بدأت تتشكل من داخل الفضاء الرقمي الذي بات هو المنصة الأساسية للتعبير والتنظيم والتعبئة. في هذا السياق، برز جيل جديد يُعرف اصطلاحًا بـ جيل زيد (Generation Z)، وهو الفوج الذي وُلد ونشأ في قلب الثورة الرقمية، وتعلّم منذ طفولته أن يتعامل مع الهواتف الذكية، والإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي كجزء أصيل من حياته اليومية.../...
هذا الجيل، الذي يغطي مواليد منتصف التسعينيات إلى بداية العقد الثاني من الألفية، يتسم بوعي مختلف عن الأجيال السابقة؛ فهو أكثر انفتاحًا على العالم، وأكثر رفضًا للسلطوية، وأكثر حساسية تجاه قضايا العدالة الاجتماعية والبيئية. وإذا كان العالم قد شهد حركات احتجاجية كبرى في السنوات الأخيرة يقودها الشباب من هذا الجيل في أماكن مختلفة، فإن المغرب لم يكن استثناءً، حيث ظهر مصطلح جيل زيد 212 في إشارة إلى الشباب المغربي الذي ينتمي إلى هذا الفوج العالمي ولكن بخصوصية وطنية مرتبطة برمز الهاتف الدولي للمغرب (+212).
لقد تحول “جيل زيد 212” إلى ما يشبه الهوية الرقمية الجماعية التي تعكس روح الشباب المغربي المعاصر، الممزق بين طموحات كونية كبرى، وواقع محلي يتسم بالأزمات البنيوية في الاقتصاد والسياسة والتعليم والصحة. ومن هنا تأتي أهمية دراسة هذه الظاهرة باعتبارها ليست مجرد حراك احتجاجي عابر، وإنما تعبير عن تحوّل عميق في علاقة الشباب بالسلطة والمجتمع والدولة.
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل أبعاد “جيل زيد 212” عبر محاور متعددة: تعريف الجيل وسياقه العالمي، قراءة في الوضع المغربي الذي أدى إلى بروز هذه الحركة، تفصيل في أدوات التنظيم الشبحي الرقمي، مقارنات دولية مع حالات مشابهة (نيبال، سريلانكا، بنغلاديش)، ثم ربطها بالتسريبات الأخيرة وحملات الإعلام الدولي، وأخيرًا إسقاط سيناريوهات مستقبلية على المغرب والمنطقة المغاربية ومصر، مع مقاربة مقارنة مع حركة 20 فبراير 2011.
الفصل الأول: من هو جيل زيد 212؟
1. تعريف جيل زيد عالميًا
يُطلق مصطلح “جيل زيد” على الفئة العمرية التي وُلدت تقريبًا بين عامي 1997 و2012. ويُعتبر هؤلاء الشباب “الجيل الرقمي الأصلي” (Digital Natives)، أي أنهم أول جيل نشأ منذ البداية في بيئة رقمية متكاملة. الهواتف الذكية، المنصات الاجتماعية، الإنترنت عالي السرعة، ألعاب الفيديو، والتطبيقات الرقمية ليست بالنسبة لهم أدوات جديدة أو مكتشفة لاحقًا، بل هي مكوّنات أساسية لحياتهم اليومية.
يتسم جيل زيد بمجموعة من الخصائص:
• نزوع قوي نحو التعلم الذاتي خارج المؤسسات الرسمية، عبر الإنترنت والدورات المفتوحة.
• وعي حاد بالقضايا الكونية مثل العدالة الاجتماعية، التغير المناخي، المساواة بين الجنسين.
• رفض للتراتبية التقليدية، والبحث عن أشكال جديدة من التنظيم الأفقي المرن.
• حساسية تجاه الصحة النفسية باعتبارها جزءًا من كرامة الفرد وجودة حياته.
2. التوطين المغربي: معنى “212”
حين أضيف رقم “212” إلى تسمية “جيل زيد”، كان الهدف الإشارة إلى الانتماء المغربي. الرقم هو رمز الهاتف الدولي للمملكة المغربية، وبالتالي فإن “جيل زيد 212” يعني ببساطة “جيل زيد المغربي”.
هذا التوطين لم يكن مجرد تفصيل شكلي، بل عبّر عن خصوصية التجربة المغربية:
• شباب يتشاركون السمات العالمية لجيل زيد.
• لكنهم يواجهون تحديات محلية مرتبطة بالأزمات البنيوية للدولة المغربية.
• يستخدمون الأدوات الرقمية نفسها (تيك توك، إنستغرام، ديسكورد)، لكن مطالبهم تتعلق أساسًا بـ التعليم العمومي، الصحة العامة، البطالة، والفساد.
3. هوية مزدوجة: الكوني والمحلي
يعيش “جيل زيد 212” في تقاطع بين هويتين:
• هوية كونية رقمية: يشاهدون المحتوى نفسه الذي يستهلكه أقرانهم في نيويورك أو سيول أو باريس أو لندن أو غيرها. يتابعون المؤثرين العالميين ويشاركون في التحديات الرقمية والترندات العابرة للحدود.
• هوية محلية متأزمة: يدرسون في مدارس عمومية متهالكة، أو يبحثون عن عمل في سوق مشبّع بالبطالة، أو ينتظرون في مستشفيات تفتقر إلى الحد الأدنى من التجهيزات.
هذا التناقض بين الكوني والمحلي هو ما يغذي الحراك ويجعله أكثر جذرية، إذ يشعر الشباب أن العالم متاح لهم نظريًا عبر الشاشة، لكنه مغلق عمليًا بفعل السياسات الداخلية.
الفصل الثاني: السياق المغربي وبروز الحركة المطلبية
1. الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية
يُعتبر المغرب من الدول التي عرفت تحولات اقتصادية مهمة خلال العقود الأخيرة، غير أن هذه التحولات لم تُترجم بالضرورة إلى تحسين ملموس في حياة فئات واسعة من الشباب.
• البطالة: تتراوح معدلات البطالة بين الشباب في المدن الكبرى (كالدار البيضاء، الرباط، طنجة) ما بين 25% و35%، وهي نسب مقلقة تجعل من دخول سوق العمل تحديًا يوميًا.
• الفوارق الاجتماعية: تتسع الفجوة بين فئات محدودة تستفيد من الريع والامتيازات الاقتصادية، وغالبية واسعة تكافح من أجل الكفاف.
• الهجرة كمهرب: لم يعد الشباب يرون في الهجرة حلمًا بل ضرورة، حتى وإن كانت عبر قوارب الموت.
2. أزمة التعليم والصحة
أصبحت الخدمات العمومية، التي تمثل عماد العقد الاجتماعي، في حالة انهيار:
• التعليم: ضعف البنية التحتية، نقص الأطر التربوية، تدني جودة المناهج. يشعر الشباب بأن المدرسة العمومية لا تمنحهم الحد الأدنى من التأهيل لمواجهة تحديات العصر.
• الصحة: المستشفيات العمومية تعاني من نقص التجهيزات والموارد البشرية، والفساد الإداري يضاعف معاناة المواطنين. جائحة كورونا كشفت هشاشة النظام الصحي بشكل صارخ.
هذه الأزمات جعلت المطالب الأساسية لـ “جيل زيد 212” تتلخص في ثلاث كلمات: تعليم – صحة – عمل.
3. انعدام الثقة في الأطر التقليدية
• الأحزاب السياسية: فقدت الأحزاب التقليدية جاذبيتها لدى الشباب، إذ يُنظر إليها كامتداد لطبقة سياسية بعيدة عن هموم الشارع.
• النقابات والجمعيات: لم تعد قادرة على استقطاب الطاقات الشابة أو التعبير عن مطالبها.
• البرلمان والمؤسسات: كثير من الشباب يرون أن هذه المؤسسات لم تعد سوى واجهات شكلية تُعيد إنتاج الوضع القائم.
من هنا، فإن “جيل زيد 212” لم يجد نفسه داخل هذه الأطر، بل اختار الفضاء الرقمي ساحة بديلة للتنظيم والاحتجاج.
4. الشرارة الرقمية
مثلما كان فيسبوك أداة حشد لحركة 20 فبراير 2011، برزت منصات جديدة كأدوات رئيسية للحشد الرقمي لـ”جيل زيد 212”:
• تيك توك: وسيلة أساسية لنشر الفيديوهات القصيرة التي تفضح الواقع الاجتماعي وتدعو للاحتجاج.
• ديسكورد: منصات دردشة آمنة نسبيًا لتنسيق المواعيد والأساليب بين مجموعات مختلفة.
• إنستغرام: أداة لخلق رمزية بصرية للحراك عبر الصور والشعارات.
هذه المنصات جعلت التنظيم أكثر سرعة ولا مركزية، وأصعب على السلطات من حيث المراقبة والسيطرة.
5. من الاحتجاج الرقمي إلى النزول للشارع
في البداية، ظل “جيل زيد 212” ظاهرة رقمية، لكن مع تراكم الغضب، بدأ الشباب يتحركون ميدانيًا:
• مظاهرات سلمية متفرقة في مدن متعددة.
• رفع مطالب محددة بدل الشعارات العامة، مثل تحسين وضع المستشفيات أو مراجعة ميزانية التعليم.
• الاعتماد على المقاطعات الاقتصادية كأداة ضغط (كما حدث مع مقاطعة شركات الحليب والماء المعدني والمحروقات سابقًا).
هذا الجمع بين الحشد الرقمي والاحتجاج الميداني منح الحركة زخمًا جديدًا، وأدخلها في دائرة الاهتمام الإعلامي والسياسي.
الفصل الثالث: أدوات التنظيم الشبحي وآليات التعبئة الرقمية
1. من الواجهة إلى الظل
يتسم “جيل زيد 212” بقدرته على التحرك في مساحة ضبابية بين العلن والسرية. فهو يستعمل المنصات المفتوحة مثل تيك توك وإنستغرام لخلق الرمزيات وجذب الأنظار، لكنه يعتمد في الوقت نفسه على منصات أكثر غموضًا مثل ديسكورد وتيليغرام للتنسيق العملي. هذا المزيج بين العلني والـ”شبحـي” يجعل من الصعب على السلطات تفكيك الشبكات أو السيطرة عليها.
2. اللاتمركز والمرونة
على عكس الحركات التقليدية التي تملك قيادة واضحة، يقوم التنظيم الشبحي على:
• غياب القيادة المركزية: لا وجود لزعيم أو هيئة ناطقة باسم الجميع.
• الخلايا المرنة: مجموعات صغيرة متصلة عبر غرف دردشة، كل منها قادر على التحرك بشكل مستقل أو بالتنسيق مع الآخرين.
• التحرك الأفقي: القرارات تُتخذ عبر النقاش الجماعي والتوافق اللحظي، لا عبر هرمية حزبية.
هذه البنية تجعل من الصعب شل الحركة باعتقال بعض الأفراد، لأنها قادرة على إعادة التشكل بسرعة.
3. الرمزية البصرية والسرد القصير
في عالم جيل زيد، الصورة والفيديو القصير أقوى من الخطب والبيانات الطويلة. لذلك نجد أن أدواتهم المفضلة هي:
• الميمات: صور ساخرة تحمل رسائل سياسية عميقة بلغة مبسطة.
• الفيديوهات القصيرة: 30 ثانية كافية لإظهار الفوارق بين خطاب رسمي فاخر وواقع شعبي بائس.
• الشعارات المختصرة: كلمات أو رموز تنتشر كالنار في الهشيم، وتُصبح أيقونات للحراك.
4. المقاطعة كسلاح اقتصادي
من أبرز الأساليب التي تميز التنظيم الشبحي الاعتماد على سلاح المقاطعة:
• مقاطعة منتجات معينة مرتبطة برجال سلطة أو نافذين اقتصاديًا.
• التحريض الرقمي الجماعي الذي يؤدي إلى خسائر مالية ضخمة في فترة وجيزة.
• هذه المقاطعة لا تحتاج إلى تجمعات ميدانية، بل يكفي أن يتحول الاستهلاك إلى أداة مقاومة.
5. الأمان الرقمي والوعي بالتجسس
جيل زيد 212 أكثر وعيًا بالرقابة الإلكترونية من أي جيل سابق:
• استخدام أسماء مستعارة وصور رمزية بدل الهوية الحقيقية.
• اللجوء إلى VPN وتقنيات التشفير لحماية الاتصال.
• نشر أدلة تعليمية داخلية حول كيفية تجنب الاختراق أو الملاحقة القضائية بسبب منشورات على الإنترنت.
6. البعد الشبحي كأداة سياسية
هذا الطابع الشبحي يجعل الحراك غير قابل للاحتواء بسهولة:
• لا تستطيع الدولة استدعاء “القيادة” إلى طاولة الحوار لأنها غير موجودة أصلاً.
• الخطاب يتوزع عبر آلاف الحسابات المستقلة، فلا يمكن حجبه كليًا.
• كل محاولة لإغلاق حساب أو قمع مظاهرة تُترجم إلى مزيد من الانتشار الرقمي بدل تراجع الحركة.
وبهذا، فإن “جيل زيد 212” يجسد نموذجًا جديدًا للحركات الاجتماعية، حيث التنظيم لم يعد مرئيًا في الشارع أو مقرات الأحزاب، بل متوارٍ خلف الشاشات، متصل بمرونة، ومتحرك بسرعة يصعب ضبطها.
الفصل الرابع: المقارنة الدولية – جيل زيد كظاهرة عابرة للحدود
1. نيبال: من الحظر الرقمي إلى التمرد العنيف
شهدت نيبال سنة 2025 واحدة من أبرز محطات حراك جيل زيد عالميًا. بدأت الأزمة بقرار حكومي يقضي بحظر 26 منصة تواصل اجتماعي بحجة عدم الامتثال للأنظمة الوطنية. بالنسبة للشباب، الذين يعتمدون على هذه المنصات للتنظيم وكشف الفساد، كان القرار بمثابة إعلان حرب على وجودهم الرقمي.
• البداية السلمية: احتجاجات في الشارع رفعت شعار الحرية الرقمية ورفض التضييق على حرية التعبير.
• التصعيد: سرعان ما تحولت المظاهرات إلى اقتحامات لمباني البرلمان ومقر الحكومة، مع إحراق رموز سيادية.
• النتائج: عشرات القتلى ومئات الجرحى، واستقالة رئيس الوزراء ووزير الداخلية، وتراجع الحكومة عن قرارها.
هذا المثال أبرز بوضوح استعداد الجيل للتحول من ثورة سلمية للقيم إلى تمرد فعلي إذا قوبل بالقمع أو التجاهل.
2. سريلانكا: ثورة الغضب الاقتصادي (2022)
في سريلانكا، لم يكن السبب المباشر قضية رقمية، بل الانهيار الاقتصادي الحاد. انقطاع الكهرباء، نقص الوقود، ندرة الغذاء، وارتفاع التضخم فجّر غضبًا شعبيًا غير مسبوق قاده الشباب.
• اقتحم المحتجون القصر الرئاسي وأجبروا الرئيس على الهروب.
• تم حرق منازل مسؤولين كبار، في مشهد يعكس انهيار الهيبة السياسية.
• لعبت الشبكات الرقمية دورًا أساسيًا في تنسيق التظاهرات الحاشدة.
أثبتت هذه الحالة أن جيل زيد لا يكتفي بالاحتجاج الرمزي، بل يملك القدرة على فرض تغييرات سياسية حقيقية.
3. بنغلاديش: نهاية حقبة سياسية (2024)
في بنغلاديش، كانت الشرارة نزاعًا حول حصص التوظيف في القطاع العام. تحولت بسرعة إلى حركة واسعة ضد الفساد وتشبث النخب بالسلطة.
• قاد الشباب المظاهرات المليونية.
• تصاعدت الاحتجاجات إلى مواجهات دامية مع قوات الأمن.
• النتيجة: استقالة رئيسة الوزراء ومغادرتها البلاد.
هذا المثال يعزز فكرة أن جيل زيد قادر على إسقاط حكومات راسخة إذا ما التقت التعبئة الرقمية مع الغضب الشعبي.
4. إندونيسيا: معارك العمل والحقوق الاجتماعية
تكررت في إندونيسيا احتجاجات شبابية ضد القوانين الجديدة للعمل، والتي اعتبرها الشباب تكريسًا لـ “اقتصاد الوظائف المؤقتة” (Gig Economy).
• المظاهرات بدأت سلمية لكنها كثيرًا ما انتهت باشتباكات مع الشرطة.
• المطالب ارتبطت مباشرة بتحسين شروط العمل والعدالة الاقتصادية.
رغم أن هذه الحركات لم تُسقط الحكومة، إلا أنها أجبرت السلطات على مراجعة بعض السياسات.
5. الدروس المستخلصة للمغرب
تؤكد هذه التجارب أن جيل زيد يتبع نمطًا متكررًا:
1. التعبئة الرقمية.
2. النزول إلى الشارع بمطالب محددة.
3. التصعيد نحو التمرد عند القمع أو التجاهل.
وبما أن المغرب يشترك مع هذه الدول في سمات عدة (أزمة البطالة، ضعف الخدمات العامة، فساد النخب)، فإن انتقال العدوى ليس احتمالًا بعيدًا، بل سيناريو منطقي إذا لم تُفتح قنوات حوار حقيقية مع هذا الجيل.
الفصل الخامس: التسريبات والإعلام الدولي كوقود لحراك جيل زيد 212
1. التسريبات كأداة لتقويض الشرعية
من بين أبرز الظواهر التي رافقت بروز جيل زيد 212 في المغرب ما عُرف باسم تسريبات “جبروت”. هذه الوثائق والتسجيلات التي انتشرت على نطاق واسع عبر المنصات الرقمية لم تكن مجرد فضائح عابرة، بل تحولت إلى سلاح رقمي في يد الشباب.
• أظهرت التسريبات تفاصيل مرتبطة بالفساد المالي واستغلال النفوذ.
• تفاعل معها الشباب بسرعة، وأعادوا نشرها على نطاق واسع في شكل مقاطع قصيرة أو ميمات ساخرة.
• منحت هذه التسريبات شرعية إضافية لمطالب الجيل، إذ وفرت لهم أدلة ملموسة على ما كانوا يشتكون منه.
التسريبات إذن ليست مجرد معلومات، بل هي شرارة تعبئة تترجم الغضب الكامن إلى احتجاج فعلي.
2. الإعلام الدولي كعامل تضخيم
إلى جانب التسريبات المحلية، لعبت وسائل الإعلام الدولية دورًا أساسيًا في تغذية الحراك. فقد خصصت صحف كبرى مثل لوموند الفرنسية تغطيات معمقة حول الوضع المغربي، ركزت على:
• الفساد واللامساواة الاقتصادية.
• التناقض بين مشاريع كبرى (مثل كأس العالم أو البنى التحتية السياحية) وانهيار الخدمات الأساسية.
• غياب القنوات السياسية القادرة على استيعاب الشباب.
هذه التغطية منحت “جيل زيد 212” شرعية دولية، وأشعرت الشباب أنهم ليسوا وحدهم في معركتهم، بل إن قضاياهم تُسمع في الخارج.
3. العلاقة التكاملية بين الداخل والخارج
يمكن القول إن التسريبات الداخلية (جبروت) والحملات الإعلامية الخارجية (لوموند) لعبتا دورين متكاملين:
• التسريبات تزود الشباب بالذخيرة المعلوماتية.
• الإعلام الدولي يضفي على هذه الذخيرة صدى عالميًا ويحرج النظام في الخارج.
بهذا، يصبح الحراك أكثر قوة، لأنه يضرب على جبهتين: جبهة الداخل عبر الاحتجاج، وجبهة الخارج عبر الإدانة الدولية.
4. التأثير النفسي على الشباب
لم يعد الشاب المغربي يكتفي بسماع خطاب رسمي مطمئن، لأن تسريبات “جبروت” وتغطية “لوموند” تقدم له رواية مضادة مقنعة. هذا أدى إلى:
• فقدان الثقة الكاملة في الخطاب الرسمي.
• تزايد الاستعداد للتصعيد، إذ يرى الشباب أن الفساد لم يعد مجرد شائعة، بل حقيقة موثقة.
• تحصين نفسي ضد محاولات التشكيك، لأن المعلومة تنتشر بسرعة ولا يمكن احتواؤها.
5. الإعلام كعنصر جيوسياسي
لا يمكن تجاهل أن بعض الحملات الإعلامية ليست بريئة تمامًا، بل تخدم أحيانًا أجندات جيوسياسية، خصوصًا في ظل توتر العلاقات المغربية – الفرنسية. وهنا يبرز الخطر:
• يتحول النضال المطلبي المحلي إلى ورقة ضغط دولية.
• يجد الشباب أنفسهم في تقاطع معقد بين قضاياهم الحقيقية وبين رهانات قوى خارجية.
ومع ذلك، فإن “جيل زيد 212” أثبت أنه قادر على توظيف هذا الضغط لصالحه، عبر استثماره في تعزيز مطالبه الداخلية.
الفصل السادس: المقارنة مع حركة 20 فبراير 2011
1. الخلفية المشتركة
تُعد حركة 20 فبراير 2011 محطة مفصلية في التاريخ السياسي والاجتماعي المغربي الحديث. اندلعت في سياق ما عُرف بالربيع العربي، وشارك فيها آلاف الشباب الذين طالبوا بالحرية، الكرامة، العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد.
اليوم، وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن، يبرز “جيل زيد 212” كامتداد جديد لذلك الحراك، لكنه يحمل سمات مختلفة فرضتها التحولات الرقمية والاجتماعية.
2. نقاط التشابه
• المطالب الجوهرية: كلا الحركتين رفعتا شعارات العدالة الاجتماعية، إنهاء الفساد، وتوسيع الحريات الفردية والجماعية.
• دور الشباب: كان الشباب هم القلب النابض لحركة 20 فبراير كما هم اليوم في جيل زيد 212.
• الاحتجاج خارج الأطر الحزبية: في الحالتين، لم يكن للأحزاب السياسية الدور المركزي، بل جاء الحراك من خارجها، وهو ما أربك النظام السياسي.
• البعد الرمزي: مثلما اعتمدت حركة 20 فبراير على الصور والفيديوهات لنشر رسالتها، يعتمد جيل زيد 212 على الرمزية الرقمية والميمات القصيرة.
3. أوجه الاختلاف
• الأداة الرقمية:
o في 2011، كان فيسبوك المنصة الأساسية للحشد والتنظيم.
o في 2020، برزت منصات أكثر تعقيدًا وتأثيرًا: تيك توك، ديسكورد، وإنستغرام، ما جعل الحراك أسرع وأكثر صعوبة في المراقبة.
• البنية التنظيمية:
o حركة 20 فبراير كان لها ناطقون معروفون ووجوه إعلامية بارزة.
o جيل زيد 212 يعمل وفق تنظيم شبحي بلا قيادة مركزية، وهو ما يجعل من الصعب احتواؤه أو اختراقه.
• طبيعة المطالب:
o حركة 20 فبراير ركزت على الإصلاح السياسي والدستوري، مثل تقليص صلاحيات الملك وتعزيز سلطة البرلمان.
o جيل زيد 212 يركز على المطالب الاقتصادية والاجتماعية المباشرة: التعليم، الصحة، العمل، محاربة الفساد الملموس.
• رد فعل الدولة:
o في 2011، استجابت الدولة بسرعة بإصلاح دستوري ووعود سياسية.
o في حالة جيل زيد 212، الدولة تبدو أكثر حرصًا على إدارة الملف عبر المراقبة والاحتواء الإعلامي بدل الإصلاحات الجوهرية.
4. أثر حركة 20 فبراير على جيل زيد 212
لا يمكن إنكار أن ذاكرة حركة 20 فبراير تركت أثرًا عميقًا في وعي جيل زيد:
• بالنسبة للكثير منهم، هي الدرس الأول في إمكانية التغيير عبر الشارع.
• لكنها أيضًا الدرس الأول في حدود الإصلاح، إذ انتهت دون تغييرات جوهرية في بنية السلطة.
• لذلك، يميل جيل زيد 212 إلى الحذر من الوعود الرسمية، ويرفض إعادة تدوير التجربة نفسها دون نتائج ملموسة.
5. الخلاصة المقارنة
يمكن القول إن “جيل زيد 212” هو الجيل الثاني من 20 فبراير، لكنه أكثر راديكالية في أساليبه، وأكثر رقمية في أدواته، وأقل قابلية للاحتواء من طرف النظام السياسي أو الأحزاب. وإذا كانت حركة 20 فبراير قد نجحت في فتح باب النقاش حول الإصلاح الدستوري، فإن جيل زيد 212 يسعى إلى فتح باب النقاش حول إعادة توزيع الثروة والفرص والعدالة الاجتماعية
الفصل السابع: السيناريوهات المستقبلية – العدوى المغاربية وانتقال الحراك إلى مصر
1. مفهوم العدوى السياسية والاجتماعية
التاريخ المعاصر يثبت أن الحركات الاحتجاجية نادرًا ما تبقى محصورة في بلد واحد. ما حدث في تونس سنة 2010 انتقل إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا في شكل موجة إقليمية عُرفت بالربيع العربي. اليوم، مع جيل زيد، يصبح انتقال العدوى أسرع وأكثر حتمية بفعل الفضاء الرقمي.
• أي فيديو احتجاجي في المغرب يمكن أن يصل في دقائق إلى شباب الجزائر أو تونس.
• أي حملة مقاطعة رقمية يمكن أن تتحول إلى نموذج يُحتذى في بلدان الجوار.
• العدوى ليست مجرد نقل للشعارات، بل انتقال للآليات والأدوات التنظيمية ذاتها.
2. الجزائر: الجار الأقرب
الجزائر تعيش بدورها حالة من الاحتقان الشبابي: بطالة مرتفعة، أزمة سكن، تضييق على الحريات السياسية.
• رغم تجربة “الحراك الشعبي” (2019)، فإن المطالب الشبابية ما زالت قائمة.
• جيل زيد الجزائري يتقاطع في خصائصه مع المغربي، خصوصًا في إتقانه للأدوات الرقمية.
• أي تصعيد مغربي من شأنه أن يجد صدى مباشرًا في الجزائر، والعكس صحيح.
3. تونس: ما بعد الثورة
بعد أكثر من عقد على ثورة 2011، يعيش الشباب التونسي إحباطًا عميقًا بسبب الأزمة الاقتصادية والجمود السياسي.
• لم تتحقق وعود الثورة، ما جعل الشباب أكثر حساسية لأي نموذج بديل.
• إذا تمكن جيل زيد المغربي من فرض أجندة اجتماعية قوية، فإن الشباب التونسي سيعتبره نموذجًا قابلاً للتكرار.
4. ليبيا وموريتانيا: القابلية للتأثر
• في ليبيا، رغم الانقسام السياسي والحرب الأهلية، فإن الشباب يستعملون المنصات الرقمية للتعبير عن رفضهم للفساد والميليشيات. العدوى الرقمية يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة لحراك شبابي عابر للانقسامات.
• في موريتانيا، حيث البطالة والفقر يطبعان حياة الشباب، يمكن لأي موجة احتجاجية مغاربية أن تصبح مصدر إلهام لحراك محلي.
5. مصر: احتمال عودة الحراك
مصر، التي شهدت ثورة 2011 ثم موجات قمع لاحقة، تعيش اليوم حالة من التوتر الاجتماعي بسبب الأزمة الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة.
• رغم القبضة الأمنية، فإن جيل زيد المصري يملك أدوات رقمية تمكنه من تجاوز الرقابة التقليدية.
• إذا اندلعت موجة مغاربية جديدة، فإن الشباب المصري قد يجد فيها نافذة لإعادة طرح قضايا العدالة الاجتماعية والحرية السياسية.
6. عوامل مسرّعة للعدوى
• الفضاء الرقمي المشترك: نفس المنصات (تيك توك، فيسبوك، إنستغرام) تُستعمل عبر المنطقة كلها.
• اللغة والثقافة المشتركة: اللغة العربية واللهجة المغاربية تسهل انتقال الخطاب.
• التجارب المتشابهة: بطالة، فساد، خدمات عمومية متدهورة.
7. سيناريوهات محتملة
1. إصلاح استباقي: إذا استجابت الحكومات بمبادرات إصلاحية حقيقية (تشغيل، تحسين الصحة والتعليم والقضاء ومحاربة الفساد)، قد يتم احتواء العدوى.
2. احتواء قمعي: إذا وُوجه الحراك بالقمع، فإن العدوى ستزداد وتتحول إلى مواجهة أوسع.
3. انفجار إقليمي: في حال تراكمت الأزمات الاقتصادية مع فشل الاستجابة، قد نشهد موجة ثانية من الربيع العربي، لكن هذه المرة بقيادة جيل زيد الرقمي، وبأدوات أكثر تطورًا وأقل قابلية للاحتواء.
الفصل الثامن: الخاتمة – تركيب بين المطلبي والسياسي والشبحي والجيوسياسي
لقد أظهر تحليل حركة جيل زيد 212 في المغرب أنها ليست مجرد موجة احتجاجية عابرة، بل تعبير عن تحوّل بنيوي في علاقة الشباب بالدولة والمجتمع والسلطة. هذا التحول يتسم بتركيب معقد بين أربعة مستويات مترابطة:
1. البعد المطلبي
في الجوهر، يظل الحراك تعبيرًا عن مطالب أساسية: الحق في تعليم عمومي جيد، الحق في صحة لائقة، الحق في فرص عمل، ومحاربة الفساد الذي ينهش موارد الدولة. هذه المطالب ليست راديكالية في ذاتها، لكنها تكتسب قوة لأنها تمس الحياة اليومية المباشرة للشباب وتشكل مستقبلهم.
2. البعد السياسي
حين تُقابَل هذه المطالب بالتجاهل أو الالتفاف، يتحول الحراك من اجتماعي إلى سياسي. فالمطالبة بإصلاح التعليم والصحة تُترجم عمليًا إلى مطالبة بإصلاح بنية الحكم نفسها، لأن الشباب يدرك أن السياسات العمومية الحالية غير قادرة على تلبية احتياجاتهم. ومن هنا، يتجاوز الحراك مجرد تحسين الخدمات ليطرح سؤال الشرعية السياسية.
3. البعد الشبحي
ما يميز جيل زيد 212 عن حركة 20 فبراير أو غيرها هو الطابع الشبحي الرقمي.
• التنظيم غير مرئي، بلا قيادة يمكن استهدافها.
• القرارات تتخذ عبر غرف دردشة ومنصات لامركزية.
• الرمزيات تنتشر بسرعة لا يمكن للرقابة التقليدية مواكبتها.
هذا البعد يمنح الحراك مرونة وقدرة على الاستمرار، حتى في ظل محاولات الاحتواء أو القمع.
4. البعد الجيوسياسي
لا يتحرك جيل زيد 212 في فراغ، بل في فضاء إقليمي ودولي مشحون:
• التسريبات (جبروت) تكشف فسادًا داخليًا وتُفجر الغضب الشعبي.
• الإعلام الدولي (لوموند) يمنح شرعية خارجية ويضغط على الدولة.
• التوترات بين المغرب وشركائه الغربيين تضيف بُعدًا استراتيجيًا يجعل من كل احتجاج ورقة ضغط في لعبة دولية أكبر.
5. المستقبل المفتوح
من خلال المقارنة مع حالات نيبال، سريلانكا، وبنغلاديش، يمكن القول إن مستقبل جيل زيد 212 في المغرب يتوقف على كيفية استجابة الدولة:
• إذا بادرت بإصلاحات ملموسة، فقد يتحول الغضب إلى طاقة بنّاءة.
• إذا تجاهلت المطالب، فإن الحراك قد يتصاعد إلى مستويات غير مسبوقة.
• وإذا اختارت القمع، فإن العدوى قد تنتشر سريعًا إلى الجزائر وتونس ومصر، لتصنع موجة ثانية من الربيع العربي، هذه المرة بقيادة جيل رقمي شبحي لا يشبه أي جيل سابق.
6. الخلاصة الكبرى
جيل زيد 212 ليس كيانًا منظَّمًا بالمعنى التقليدي، بل هو حالة وعي جماعي جديدة. إنه جيل ولد عالميًا ورقميًا، لكنه يعيش محليًا في واقع مليء بالتناقضات. يستخدم أدوات النظام (التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي) لمقاومة اختلالاته. يرفض الموت الاجتماعي أو التهميش، ويريد أن يثبت أن صوته لا يمكن إسكاتُه.
بهذا، فإن حركة جيل زيد 212 هي:
• ثورة قيمية ضد النيوليبرالية المتوحشة.
• تمرّد اجتماعي ضد التهميش المحلي.
• تنظيم شبحي ضد الرقابة السياسية.
• ورقة جيوسياسية في صراع إقليمي ودولي.
إنها مزيج معقد قد يشكل أكبر تحدٍّ يواجه المغرب والمنطقة المغاربية في العقد القادم، ويفرض إعادة التفكير في العقد الاجتماعي برمته.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق