هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتجاوز إرادة الله ومشيئته؟

 


1. مقدمـــة

بحث علمي - ديني: يطرح سؤال العنوان على العقل البشري تحدّيا من نوع جديد، لا يمكن الإجابة عنه دون تفكيك معادلة: (الله – الإنسان – الشيطان)، قبل التطرق لمسألة الذكاء الاصطناعي، لما تطرحه هذه المعادلة المعقدة من إشكالية تتعلق بطاعة أو معصية الأمر الإلهي في شقيه التكويني والتكليفي. خصوصا إذا علمنا أن الأمر التكويني يتعلق بالمشيئة الإلهية الخفيّة التي يستحيل أن يتحداها الشيطان فأحرى الإنسان، لأنها من مجال القضاء الذي هو بأمر "كن"، في حين أن الأمر التكليفي هو الأمر الجليّ الذي يمكن للشيطان كما الإنسان عصيانه دون أن يغير ذلك من إرادة الله شيئا، باعتباره من مجال القدر المتغير بالأسباب. ومثال ذلك عصيان الشيطان لأمر ربه بالسجود لآدم، وعصيان آدم لأمر ربه بعدم الأكل من الشجرة المحرمة.. - لكن ماذا عن الذكاء الاصطناعي؟ 

- هل يستطيع اتخاذ قرارات مُدمّرة تُنهي البشرية فيتجاوز بذلك إرادة الله ومشيئته؟.../...


يستمد السؤال مشروعيته مما أصبحنا نقرأه من تصريحات خطيرة صادرة عن علماء مرموقين في مجال علوم فيزياء الكمّ الحديثة والتكنولوجيا التوليدية، أعربوا عن قلقهم من "المخاطر المتوقعة من تطور الذكاء الصناعي إلى مستوى ينفلت فيه من السيطرة البشرية تماما"، كما قال بذلك من قبل العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ صاحب نظرية الانفجار العظيم، ونظرية الثقوب السوداء، وتاريخ الزمن الموجز. وهي نفس المخاوف التي عبر عنها اليوم الملياردير الأمريكي الشهير إيلون ماسك بقوله: "إذا كُنت سأخمن ما هو أكبر تهديد وجودي لنا، فهو على الأرجح الذكاء الاصطناعي في حال عدم وضع ضوابط تنظيمية صارمة لمنعه من التحول إلى خطر يتجاوز قدرة الإنسان على التحكم به".

قد تبدو مثل هذه المخاوف منطقية من وجهة نظر عقلية، لاعتقاد أصحابها بأن الذكاء الاصطناعي هو فعلا ذكاء اصطناعي، يتمتع بحرية الإرادة التي تسمح له بأن يتخذ قرارات مصيرية انطلاقا من وعي لا يملكه ودون الرجوع للقيود البرمجية التي تكبّله. وبالتالي، فمثل هذه المخاوف لا تعدو عن كونها مجرد هواجس مبالغ فيها، ما دام الذكاء الاصطناعي يظل في النهاية أسير الخوارزميات البرمجية التي يضعها له الإنسان، ويستحيل أن يقوم من تلقاء نفسه بتطويعها لخدمة أهداف لا يفهمها في غياب الإرادة الحرة التي يفتقدها. هذا علما أن الإرادة الحرة بالمفهوم القرآني هي الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. وبالتالي فما وهبه الله للإنسان يستحيل أن يحصل عليه غيره من المخلوقات بما في ذلك الملائكة، ناهيك عن الذكاء الاصطناعي الذي هو في النهاية مجرد أداة ذو حدين قد تكون نافعة وقد تكون ضارة حسب الهدف الذي يسخرها الإنسان لتخدمته خيرا كان أم شرا. بمعنى أن مجال استعمالها يظل خاضا لإرادة الإنسان.  

ودليل ذلك، أن الذكاء الاصطناعي ليس ذكيا بنفسه من نفسه ولنفسه، لأن ما تبدو لنا ذكية هي مجرد أدوات تكنولوجية متقدّمة خلقها الإنسان ويغديها بالبيانات الرقمية التي تتعلم منها وتتخذ بالتالي القرارات المنطقية وفق نماذج من المعادلات الرياضية الرقمية التي تؤدي إلى نتائج أوتوماتيكية من وجهة نظر علمية، دون اعتبار للقيم الأخلاقية أو العواطف الإنسانية، وبالتالي، لا يمكن الحديث عن إدراك الذكاء الاصطناعي لما يقوم به من أعمال أو يصل إليه من نتائج.  وهذا هو الفرق بين خلق الله وخلق الإنسان لقوله تعالى في الاية 14 من سورة المؤمنون: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} في إشارة إلى خلق الإنسان الذي لا يضاهيه خلق في الوجود من حيث الإبداع والدقة والتعقيد. واستعماله تعالى لمصطلح "أحسن الخالقين" دلالة على أن الإنسان يستطيع هو بدوره صنع مخلوقات من نوع آخر، لكنها لا ترقى لمستوى خلق الله.


2. المخاوف من تطور الذكاء الاصطناعي

ما من شك أن التكنولوجيا الحديثة تقدم للبشرية فرصا جديدة وإمكانات عظيمة تسهم في تطور نوعية الحياة، لكنها في نفس الوقت تضع أمامنا تحديات كثيرة تتطلب تفكيرا عميقا ووعيا مسؤولا من أجل إيجاد توازن معقول بين الحاجة لهذا النوع من التكنولوجيا المتطورة باستمرار، والمخاوف التي تتيرها في بعض المجالات التي ظلت إلى وقت قريب حكرا على البشر. ومنها على وجه الخصوص:


2.1. فقدان الوظائف:

يُعتبر استبدال البشر بالآلات والبرامج الذكية في العديد من القطاعات من أبرز المخاوف. تطور الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى فقدان ملايين الوظائف التقليدية، مما يسبب أزمات اقتصادية واجتماعية. ولا أدل على ذلك من الملصقات التي ظهرت لأول مرة في شوارع بعض عواصم الغرب تدعو لاستغناء عن توظيف البشر واستبدالهم بالذكاء الإصطناعي. (توقف عن توظيف البشر.. عصر موظفي الذكاء الإصطناعي هنا). 


2.2. الخصوصية والأمان:

يمكن أن تساهم الأنظمة الذكية في انتهاك الخصوصية من خلال جمع وتحليل البيانات الشخصية بشكل غير قانوني بإيعاز من بعض الجهات الاستخباراتية أو غيرها، وهذا يعرض الأفراد لمخاطر تتعلق بأمن المعلومات.

2.3. التحيز والتمييز:

إذا تم تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي على بيانات تتضمن تحيُّزات، فقد تُنتج نتائج غير عادلة أو تمييزية. هذه الأنظمة يمكن أن تعزز من ظواهر مثل العنصرية أو التمييز ضد الفئات الأقل حظاً، خصوصا في مجال الولوج إلى سوق العمل، ما ينتهك مبدأ تكافؤ الفرص بين الناس باختلاف أعراقهم وأجناسهم وعقائدهم الدينية وتوجهاتهم السياسية.

2.4. القرارات المستقلة:

هناك قلق بشأن قدرة الذكاء الاصطناعي على اتخاذ قرارات دون تدخل بشري، مما قد يؤدي إلى تصرفات غير متوقعة أو غير أخلاقية. على سبيل المثال، استخدام الذكاء الاصطناعي في برمجة القرارات العسكرية.

2.5. التحكم في المعلومات:

الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستخدم لنشر معلومات مضللة أو لأغراض دعائية، مما يؤثر على رأي الجمهور المستهدف ويُقوّض مبدأ الديمقراطية والحق في الولوج إلى المعلومة.

2.6. التأثير على العلاقات الإنسانية:

الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تراجع العلاقات الإنسانية العميقة، مما يؤثر على التواصل والتفاعل الاجتماعي.

2.7. التحديات التنظيمية:

توجد صعوبة في وضع قواعد تنظيمية مناسبة لحماية المجتمع من المخاطر المحتملة للذكاء الاصطناعي، حيث تتطور التكنولوجيا بسرعة تفوق القدرة على تنظيمها.

2.8. مخاطر استخدامه في أعمال إرهابية:

يُخشى من استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير أسلحة ذكية، مما قد يزيد من حدة الصراعات ويؤدي إلى نتائج كارثية. خصوصا إذا تم استخدامه من قبل منظمات إرهابية تهد الأمن والسلم المجتمعي لتحقيق أغراض سياسية. 

2.9. فقدان السيطرة:

هناك قلق من فقدان السيطرة على الأنظمة الذكية المستعملة في مجال البحوث البيولوجية، حيث يمكن أن يؤدي خطأ في البرمجة إلى عواقب وخيمة على البشرية. الأمر الذي يجعل من الضروري أن يتم التعامل مع هذا النوع من البرمجيات بحذر شديد، مع وضع استراتيجيات تنظيمية صارمة، واهتمام بالقيم الأخلاقية لضمان استخدام هذه التكنولوجيا بشكل آمن ومفيد من قبل العلماء.

ولفهم حقيقة هذه المخاوف التي تثار بسبب تقدم الذكاء الاصطناعي بوثير سريعة، سنحاول معالجة الموضوع من خلال الجواب على سؤالين: سؤال العلم، وسؤال الدين:


3. سؤال العلم يقول: 

- هل الذكاء الاصطناعي ذكيّ حقا؟

يلاحظ أنه وبرغم التطور السريع الذي يعرفه الذكاء الاصطناعي بحيث بات يؤثر على مختلف مناحي حياتنا ويغير من طريقة تفكيرنا وعملنا، إلا أن هناك بعض المجالات التي يصعب، بل يستحيل أحيانا على الذكاء الاصطناعي استبدال الإنسان في مجالاتها: مثل مجال الإبداع الذي هو من مجال الخيال الخلاّق الذي لا يملكه الذكاء الاصطناعي، لأنه مجال جعله الله حصرا على الإنسان دون سواه من المخلوقات بما في ذلك الملائكة.  ومجال الرحمة الذي هو من مجال الأخلاقيات النابع من التعاطف الذي مركزه الإحساس. ناهيك عن التفاعل الذي هو من مجال الشعور الإنساني الذي يستحيل على الآلة التي لا وعي ولا شعور لها أن تقلده. ومنها مثلا المجالات التي تعتمد على التواصل الاجتماعي المباشر لما تحتاجه من حساسية مرهفة وذكاء عاطفي لا علاقة لهما بآليات العقل وأدوات المنطق. ناهيك عن مجالات أخرى مثل القضاء، والصحافة الاستقصائية، والإدارة السياسية، لما تتطلبه من توازن بين المعرفة التقنية، والتجربة، والبصيرة الإنسانية. وهذه الأخيرة يستحيل أن يتحلى بها الذكاء الاصطناعي. كما وأن هناك عديد المهن التي تتطلب تفاعلا نفسيا وأخرى تفاعلا جسديا لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها، كالطب النفسي لما تتميز به العلاقة بين الطبيب النفسي والمريض من فهم وتعاطف يفتقر إليهما الذكاء الاصطناعي، والمهن اليدوية التي تتطلب مهارات عالية، بالإضافة إلى بعض مجالات التعليم التي تتطلب رعاية خاصة وتفاعل إنساني مع الأطفال الذين يرفضون التكيف مع البيئة التعليمية. من هنا ضرورة التركيز مستقبلا على هذا النوع من المهن، كما أخرى لا تزال غير معروفة، وقد تنشأ بسبب إمكانية استحواذ الذكاء الاصطناعي على سوق العمل بالكامل تقريبا.

هذا الاستحواذ إذا حصل فعلا، فسيعني طغيان السياسي على الاجتماعي وترجيح المصلحة الخاصة على المنفعة العامة، الأمر الذي سيؤدي حتما إلى فوضى عارمة وعواقب وخيمة يستحيل التحكم فيها بسبب فقدان الناس للوظائف، وما سينتج عن ذلك من تمرّد سيؤدّي بالنهاية إلى تفكك الروابط الأسرية وانفصام العلاقات المجتمعية، خصوصا تلك التي تقوم على أساس الهوية الوطنية الجامعة، مما يجعل من الذكاء الاصطناعي قنبلة موقوتة من شأنها أن تُفجِّر الاجتماع الإنساني في المدى المتوسط بسبب سرعة تطوّر هذا الوحش المخيف. وهذا هو الخطر الحقيقي المرتقب في العقود القليلة المقبلة.  ما يعني أن التهديد الأكبر الذي سينجم عن هذا التغيير السريع في نمط حياة المجتمعات سيؤدي حتما إلى الإحساس بفقدان الأمن والاستقرار بسبب فقدان الأمل الذي يربط الإنسان بالحياة سعيا وراء السعادة. 

وبذلك، قد نشهد تجسيدا عمليا على أرض الواقع لقوله تعالى في الآية 251 من سورة البقرة: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}. ما يفيد أنه لولا وجود الصراع والتدافع بين الناس، بعضهم يدفع بعضاً في الخير والشر، لعم الفساد الأرض. ذلك أن الله تعالى جعل الصراع بين الحق والباطل سبباً في حفظ الأرض من الفساد والناس من الهلاك. فالدفع في الآية الكريمة يشير إلى فعل الله تعالى من خلال تسخير الناس بعضهم لبعض، سواء كان ذلك في صورة صراع أو تعاون، فالخير والشر موجودان في الحياة، ووجودهما معاً يخلق التوازن من خلال التدافع. وحيث أن الخطاب يشمل الناس كافة لا المؤمنين خاصة، فبديهي ألاّ يقتصر الصراع والتدافع على فئة معينة، ما يعطي للتدافع والصراع قوة عظيمة تكون سببا في حفظ الأرض من الفساد والخراب.


4. أما سؤال الدين فيقول:

- هل يمكن أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي إرادة الله ومشيئته؟

الجواب على هذا السؤال يختلف بين الغرب والشرق، لاختلاف المعتقدات والثقافات والعقليات، وذلك كالتالي:


4.1. الإله في الغرب 

إن استحواذ الذكاء الاصطناعي في الغرب على مختلف جوانب حياة الإنسان والتحكم في مستقبله ومصيره قد يفيد ما عبّر عنه الفيلسوف فريديريك نيتشه في كتابه "العلم المرح" بعبارة "موت الإله"، والتي تعني حكما استبدال الإله بالإنسان الخارق أو "الإنسان السوبرمان" كما يقول. 

والحقيقة أن الفيلسوف نيتشه لم يقصد بعبارته الشهيرة تلك موت الإله بالمعنى الحرفي، ما دام الإله ليس كائنا ماديا يتحيز في المكان، بل قصد بها تراجع وتلاشي الأهمية والقوة الأخلاقية للعقيدة المسيحية التي استحوذت على الغرب عن طريق الكنيسة لقرون طويلة، بعد أن استبدل الإنسان الغربي الإيمان بالله بالإيمان بالماديات، وكرّس حياته للسعي المحموم وراء تحقيق الرفاهية المادية الظرفيّة دون اعتبار للمبادئ الروحية. وقد بنى الفيلسوف نيتشه استنتاجه هذا بعد أن لاحظ انهار القيم مع تقدم العلم والتوجه المفرط نحو العقلانية، الأمر الذي ولّد فراغا روحيا لدى الإنسان الغربي. وبهذا المعنى، يكون الإنسان الغربي وفق نيتشه هو من قتل الإله الذي كان يعبده حين تخلى عن الإيمان الديني وراح يبحث عن معاني جديدة لحياته حصريّا في العلم، وعن السعادة في المحسوسات، معتقدا أنه بفضل عقله وابداعه يستطيع استبدال القيم الدينية والغيبية بقيم مادية وجودية يشعر بها وتؤثث حياته الجديدة في عالم ما بعد الحداثة يختلف جملة وتفصيلا عن العالم القديم الذي كان يحكمه الدين تحت سلطة الكنيسة. 

بهذا المعنى، أصبحت عبارة نيتشه تُؤذّن بنهاية عصر قديم يتحكم فيه الكهنوت الديني وبداية عصر جديد لا مكان فيه لسلطة الكهنوت، الأمر الذي أثر بشكل كبير على الفكر الغربي الفلسفي والأدبي على حد سواء، ولا يزال الجدل قائما إلى اليوم حول الأخلاق ومعنى الحياة، بل وسؤال الوجود والمصير بعد الموت في ظل الفتوحات الفيزيائية الجديدة في مجال تجارب التشابك الكمي وما أسفرت عنه من نتائج مدهشة. هذا الجدل يتمثل في الصراع القائم بين الرؤى التقليدية المحافظة من جهة، والرؤى الحداثية الموغلة في التحرر من جهة ثانية، ما يؤشر لطفرة انتقال جديدة للبشرية من عالم قديم إلى عالم جديد. وبذلك تصدق مقولة نيتشه التي تتهم الإنسان الغربي بقتل الإله الذي كان يعبده، فأصيب جراء ذلك بالجنون الذي لا حدود له ولا شفاء منه كما يقول. 


4.2. الإله في الشرق

من هنا يجب إعادة تعريف مفهوم الغرب والشرق الذي لا يمكن أن يعني مجرد تحديد جغرافي بل وهويّاتي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ذلك أنه إذا كان الغرب قد قتل إلهه، فإن الشرق لا يزال وسيظل يؤمن بالله رب العالمين فاطر السماوات والأرض، ويؤمن بالبعث والحساب والجزاء، ويعمل صالحا في حياته من أجل الظفر برضى الإله ورحمته ونعيمه بعد انتهاء التجربة الدنيوية والانتقال لحياة الخلود في عالم ما وراء البرزخ، في انتظار أن ينفخ في الصور إيذانا بقيام الساعة، ومن ثم ينتقل ليعيش الحياة الأبدية الموعودة في المدى السرمدي اللامتناهي بعد الحساب يوم القيامة.

كما وأن مفهوم الإله يختلف باختلاف الديانات، ففي الديانة التوحيدية التي هي الإسلام، يعتبر الله واحد أحد فرد صمد خالق كل شيء ومدبر الكون في كل وقت وحين. بينما في الديانات الشرقية القديمة كانت الآلهة تعتبر جزءا من الكون تقوم بدور الوسيط بين الإنسان والله. كما وأن في الإسلام يتصف الله بالكمال والجمال والجلال والعلم والقدرة والحياة، في حين أن الآلهة في الديانات الشرقية القديمة كانت لها صفات بشرية لأنها في الأصل كانت من صنع البشر بسبب طغيان التجسيد على التجريد لعدم قدرة العقل البدائي على استيعاب فكرة الله الذي لا يتحيّز في المكان.


5. مشيئة الخلق ومشيئة الله

هنا نأتي لجوهر المسألة والمتمثل في السؤال الذي عنونا به هذا البحث، لنطرح نفس السؤال من جديد، لكن هذه المرة بصيغة أخرى فنقول:

- هل يستطيع الإنسان التصرف من خارج مشيئة الله؟

 لأنه إذا كان الجواب هو لا بالقطع، بحكم محدودية إرادة الإنسان وضيق مجال حريته، فالسؤال الذي يتطلب الجواب عنه أولا هو:

- هل يستطيع الشيطان فعل ذلك، باعتباره يتمتع بخصائص ومؤهلات تتجاوز تلك التي يتمتع بها الإنسان؟

إن الجواب على هذا السؤال وحده كفيل بأن يوضح لنا حقيقة الصورة الغائبة عنا، والمتمثلة فيما يسميه القرآن بـ "المعصية"، وتسميها الكنيسة المسيحية بـ "الخطيئة"، والتي حدثت في عصر الجنة قبل أن تهبط نفس الإنسان إلى الدنيا لتخوض تجربة المعاناة والتوق والشوق للعودة إلى موطنها الأول في عالم الذر والأنوار العلوية من حيث أتت. ذلك، أن الفهم السائد لدى الناس حول هذا الموضوع، هو أن سبب وجود الإنسان في الدنيا يعود لواقعة العصيان التي حدثت في عالم الغيب وتقرّر على إثرها معاقبته بطرده من الجنة، ليعيش الشقاء في الأرض وفق المفهوم التراثي لـ "المعصية"، والتكفير عن الذنب وفق المفهوم الكنسي لـ "الخطيئة".


5.1. المعصية مفتاح الفهم

إن قضية “المعصية” أو “الخطيئة” قد طرحت بحدة عبر مختلف مراحل تطور الفكر الإنساني في الغرب كما في الشرق، وذلك في إطار ثنائية “الجبر وحرية الاختيار”، حيث شكلت معضلة استعصت على الحل، ولم تجد الكنيسة من سبيل لتجاوزها غير القول إن صلب المسيح عليه السلام كان بسبب قبوله تحمل خطيئة آدم وخطايا البشر من بعده. الأمر الذي حوّل معصية آدم إلى “خطيئة” تتحمّل عبئها كل البشرية عن طريق الوراثة، حيث تنتقل ضدا في عدل الله من السلف إلى الخلف، والله تعالى يقول في الآية 38 من سورة المدثر: {كل نفس بما كسبت رهينة}. ويؤكد في الآية 134 من سورة البقرة هذه الحقيقة بقوله: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}. ليتبيّن أن هدف الكنيسة من هذا النوع من التشريع المناقض لرؤية الله للخلق، لم يكن خدمة الحقيقة الدينية، بقدر ما كان يرمي إلى تدجين الناس خدمة للإقطاع وسعيا وراء جمع الثروة، وذلك من خلال القول أن: “لا خلاص للإنسان من خارج الكنيسة”. وقصة صكوك الغفران وبيع قصور وحدائق غناء في الجنة للأثرياء في عصور الظلام معروفة، لدرجة تحولت معها الكنيسة إلى أغنى مؤسسة في أوروبا. وظل الأمر على هذا الحال إلى أن جاءت الثورة الفرنسية فصوّبت هذا الوضع الشاذ عندما انتفضت ضد كهنوت رجال الدين لا الدين نفسه كما اعتقد خطأً عديد الباحثين الإسلامويين، وهي الثورة التي أنهت عصر الجهل والكهنوت الديني والإقطاع السياسي حين رفعت شعار: “يجب صلب آخر ملك إقطاعي بمصران آخر كاهن منافق”. والشعار مجازي طبعا. 


5.2. المعصية من وجهة نظر الفكر الصوفي 

أما الصوفية، فلم تفُتهم معالجة هذه القضية من مختلف جوانبها لأهميتها في تشكيل رؤية متناسقة حول مسألة وجود الخلق بالحق، لكن دون التوغل في الشرح، واكتفوا باللجوء إلى أسلوب الرمز، باستعمال لغة الإشارة بدل التوسع في متاهات العبارة، لعجز اللغة البشرية وقصورها عن تقريب المعاني الدينية الباطنية المراد شرحها لذهن العامة. وهو الأمر الذي جعل الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في معالجته لهذا الموضوع يطرح السؤال التالي: 

- هــل عصــى آدم ربـــه؟ كيف؟ ولماذا؟

القرآن يجيب بصريح العبارة في الآية 21 من سورة طه بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}. و “الغــيّ” هو خلاف “الرشد” الذي يعني الصواب، وهو غير الضلال الذي يعني التيه والخروج عن الطريق، ويقابلهما الهدى الذي يكون بمعنى الإرشاد، أي الإشارة إلى الطريق والهداية إلى السبيل. والغيّ وإن كان فسادا إلا أنه لا يفسر بالضلال بل بالانحراف عن جادة الصواب.

إلى هنا لا اختلاف حول واقعة عصيان آدم لربه ما دام القرآن يؤكد ذلك، لكن السؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: 

- هل هذه المعصية كانت لأمر “تكويني” في أصل الخلق، أم لأمر “تكليفي” كما هو الشأن بالنسبة للعبادات، أم لأمر “إرشادي” كما هو الحال بالنسبة للمعاملات؟.. 

لأنه من دون معرفة طبيعة الأمر لا يمكن الحكم على نوع المعصية التي ارتكبها آدم لمعرفة إن كانت هذه المعصية بإرادته أم بأمر خارج عن إرادته.

وهنا اختلف المفسرون، فذهبوا مذاهب عديدة لا تستقيم مع رؤية الله للخلق بالحق. فالإمام الطبطبائي (شيعي) مثلا، ذهب في تفسيره (الميزان في تفسير القرآن) إلى القول: إن “المعصية كانت لأمر إرشادي لا تكليفي، باعتبار أن الأنبياء (عليهم السلام)، معصومون من المعصية والمخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يُوحَى إليهم من جهة تلقيه، فلا يخطئون ولا ينسون ولا يُحرّفون، بل يُبلغونه إلى الناس بأمانة فلا يقولون إلا ما أوحي إليهم من الحق، وحيث أن فعلهم لا يخالف قولهم فهم لا يقترفون معصية صغيرة ولا كبيرة".

هذا كلام إنشائي لا يعني شيئا يذكر، لأن آدم لم يكن رسولا صاحب شريعة. وعلى هذا الأساس نستطيع القول، أن لا علاقة لما تحدث عنه الإمام ‘الطبطبائي’ بالأمر “الإرشادي”، لأن القضية في جوهرها تتعلق بأمر “تكويني” في أصل الخلق كما سيأتي بيان ذلك.

أما القرطبي (سني مالكي)، فاستند في تفسيره لهذه الآية (الجامع لأحكام القرآن)، إلى حديث ذكره الصوفي العراقي ‘الجنيد’ جاء فيه: “حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم، فلم يخل ذلك بمناصبهم، ولا قدح في رتبتهم، بل قد تلافاهم، واجتباهم وهداهم، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم”. 

هذا أيضا كلام إنشائي لا يقدم علما ولا يفيد معرفة. وبهذا، يكون غريق قد تمسك بغريق، فلا الطبطبائي قدم لنا تفسيرا يقبله العقل من وجهة نظر شيعية، ولا الجنيد صنف لنا طبيعة معصية آدم من وجهة نظر صوفية، ولا القرطبي قدم لنا تصورا مقنعا من وجهة نظر سُنّيّة. وقس على ذلك بقية التفاسير التي تزخر بها المكتبة الإسلامية باختلاف المذاهب والمدارس والتيارات الفكرية الأصولية، التي تستند في تعاطيها مع النص المقدس إلى العجائبي والغرائبي الذي لا يقبله عقل ولا يرتاح له قلب.

لكن من اللافت للنظر، أن يستند الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي في تأويله لواقعة الغواية والمعصية، إلى حديث غريب ورد في صحيح مسلم، رواه أبو هريرة عن النبي عليه السلام يقول: ”احتج آدم وموسى، فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: يا موسى، اصطفاك الله عز وجل بكلامه وخطّ لك بيده يا موسى، أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ فَحَجَّ آدم موسى ثلاثاً”. وحجّ هنا تعني الغلبة بالحجّة.

وواضح من سياق الحديث – إن صحّ - أن آدم نفسه، كان يؤمن بأن عصيانه لم يكن بإرادته، وإنما جاء استجابة غريزية لأمر جعله الله في أصل تكوينه، ما دام مفهوم العبادة وفق القرآن يعني الطاعة والمعصية معا. وبالتالي فلا إرادة ولا خيار له فيما حصل. ولولا المعصية، لما كان له أن يخرج من الجنة حيث السعادة والنعيم الدائم المقيم، إلى حياة السّعي من أجل الكسب والشقاء من أجل البقاء. وهي مهمة الاستخلاف التي خلق أصلا من أجلها، لا استخلاف الله في الأرض الذي لا يصح ما دام الله حي حاضر دائم يدير ملكه في كل وقت وحين من دون أن تأخذه سنة ولا نوم، لأن الاستخلاف لا يكون إلا في حق الغائب. بل المقصود هنا هو استخلاف فصيلة البشر البدائي المتوحش الذي كان يسفك الدماء ويفسد في الأرض، فأبادهم الله وفق ما يستفاد من سؤال الملائكة: - أتجعل فيها من يسفك الدماء ويفسد في الأرض؟. لاعتقادهم أن آدم الذي اصطفاه الله من أرقى فصيلة بشرية بعد ملايين السنين من التطور وجعل منه إنسانا أخلاقيا راقيا ومسؤولا، سيكون مثله مثل سلفه، ولأنهم لا يعلمون الغيب، فلم يدركوا أنه باصطفاء الله لفصيلة آدم المتطوّرة، ونفخ روح العلم والمعرفة فيها، سيبدأ عهد جديد يتحول فيه هذا المخلوق من بشر بدائي متوحش (نيوإندرتال) إلى إنسان أخلاقي عاقل ومسؤول (نيوسابيانس)، وفق ما تؤكده نتائج أبحاث الحفريات الحديثة (علم الأركيولوجيا). وهو ما أشار إليه أيضا حديث للرسول عليه السلام أورده ابن عربي يقول: "قبل آدم، كان هناك ألف ألف آدم". ما يؤكد أن تطور البشرية مرّ من خلال مراحل عديدة قدّرها العلماء بـ بملايين السنين وفق بعض الحفيات، فيما آدم الإنسان الأخلاقي والأب الجيني للأنبياء والرسل الذين ذكرهم القرآن لم يظهر إلا قبل سبعة ألف سنة أو يزيد قليلا.

ما نشير إليه هنا، يتعارض كليّة مع رؤية المؤسسة الدينية اليهودية، ورؤية الكنيسة المسيحية الكاثوليكية، ورؤية المؤسسة الدينية الأصولية التي روج لها فقهاء الرسوم في الثقافة الإسلامية نقلا عن الثقافة اليهودية والمسيحية، لأن الذي ينقل ما قاله سابقوه لا يقدم معرفة بقدر ما يخلق مأزقا يُجذّر الجهل ويكرّس التخلّف.

نقول هذا، لأنه بالعودة إلى قضية المعصية، نجد أن القرآن كان واضحا بشأنها، حيث أكد تعالى أن المعصية لم تكن مقصودة لذاتها من باب تحدي الرؤية الإلهيّة، بل أرجع تعالى أسبب مخالفة الأمر إلى نسيان آدم لعهد ربه، لقوله تعالى في الاية 115 من سورة طه: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزماً}. ومعلوم أن النسيان من طبيعة التكوين التي جلب الله الإنسان عليها. أما المراد بالعهد فالوصيّة. وقد أوضح تعالى أن المعصية التي تكون نتيجة الخطأ أو النسيان هي من الذنوب التي يغفرها بالدعاء، بدليل قوله في الآية 286 من سورة البقرة: {ربنا لا تآخذنا إن أخطئنا أو نسينا}. أما “العزم”، فمعناه النيّة والقصد لقوله تعالى في الآية 159 من سورة آل عمران: {وإذا عزمت فتوكل على الله}. أما "العهد" بالمعنى “الميثاقي” الذي يعطيه السياق، فلا يمكن أن يكون أمرا “إرشاديا” كما ذهب إلى ذلك الإمام الطبطبائي في تفسيره للآية 121 من سورة طه كما سبقت الإشارة. كما أنه لا يمكن أن يكون أمرا “تكليفيّا” كما اعتقد غيره من المفسرين من مختلف المذاهب والمدارس الفكرية العتيقة، لأن الأمر التكليفي يكون رسولي في قضية التبليغ بواسطة، كأن يكلف الله رسولا بتبليغ رسالة إلى قومه، وهو ما لا ينطبق على حالة آدم في ظرفه وزمانه.

وبالتالي، فالقياس هنا في غير محله، ويتضح ذلك جليا من خلال ورود كلمة “العهد” في سورة طه الآية: 115، والتي تعني أن الأمر “تكويني” بامتياز لارتباطه بالغاية التي من أجلها خلق الله آدم وذريته، لارتباط ذلك بميثاقهم مع ربهم قبل أن يخرجوا من العدم إلى الوجود ليشهدوا بربوبية الله لهم في قيامة أولى عقدت في عالم الذر والأنوار العلوية قبل وجودهم المادي لخوض التجربة الدنيوية، وفق ما يستفاد من منطوق الآية 172 من سورة الأعراف. الأمر الذي يعني بوضوح أن الله لم يخلق آدم ليخلد في الجنة، ولا خلقه ليكون معصوما لا يخطئ ولا يذنب ولا يعصي لله أمرا مثله مثل الملائكة، لقوله تعالى في الآية 60 من سورة الزخرف: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ}. ومعنى المعنى، أنه ولو حاول الناس أن يتحوّلوا إلى معصومين كالملائكة لدمّرهم تعالى جميعا واستبدلهم بقوم آخرين يعصونه ثم يتوبون إليه، لأن أحب الخلق عند الله "التوّابين"، ومعلوم أن التوبة لا تكون إلا بعد معصية.

وإذا كان هذا هو حال آدم مع معصيته لربه، فبماذا يمكن تفسير خروج الشيطان عن أمر ربه حين أقدم على إغواء آدم فجعله يأكل من الشجرة المحرمة، اعتقادا من الأخير أنه سيتحوّل بعد ذلك إلى ملاك أو يكون من الخالدين: 

- هل يُعدُّ تصرف الشيطان هذا خروجا عن إرادة الله ومشيئته؟

نقول هذا، لأنه إذا كان الله قد غفر لآدم معصيته وتاب عليه، فما هو المصير الذي سيلقاه الشيطان نتيجة إغوائه لفصيلة آدم والتسبب في طردهم جميعا من الجنة، لقوله تعالى في الاية 38 من سورة البقرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. لاحظ أن الخطاب هنا موجه لآدم بصيغة الجمع، أي لفصيلة الإنسان الأخلاقي العاقل كلها، ما يشير بوضوح إلى أن آدم ليس شخصا واحدا، بل رمز لفصيلة بشرية متطورة استحقت لقب الإنسان الأخلاقي العاقل الدي استخلف الإنسان البدائي المتوحش على الأرض لا في السماء.. وهنا يتوافق العلم مع الدين.

أما بالنسبة للسؤال المتعلق بالشيطان، فهناك عديد الروايات تحدثت بإسهاب عن واقعة فريدة في تاريخ الفكر الصوفي، ويتعلق الأمر بتناظر الحلاج مع الشيطان حيث انتهى به الأمر إلى القول جهارا نهارا أن “الشيطان في الجنّة”، من منطلق أنه لم يخرج عن إرادة ربّه ولا تجاوز في شيء مشيئته، لأنه بالنهاية مخلوق مأذون له من ربّه بغواية آدم وذريته كما يؤكد القرآن، لذلك سمّي "رسول السّيف”. إذ لا يعقل أن يتصرف الشيطان من نفسه فيتحدى مشيئة خالقه، هذا مستحيل. ذلك أن الشيطان لم يشرك بالله ولا هو أنكر وجوده، بل كفر بأمر الله “التكليفي” حين رفض السجود لآدم، وذلك لحكمة اقتضتها رؤية الله للخلق بالحق. ما يفيد أن معصيته كانت مجرد سبب لأمر جلل كان مقدرا في علم الله العلي العظيم تقوم على أساسه رؤيته للخلق بالحق، فلا شيء يمكن أن يحدث في الوجود من دون علم الله ومشيئته، بما في ذلك أعمال الخلق لقوله تعالى في الآية 96 من سورة الصافات: {والله خلقكم وما تعملون}. ولذلك قال الله عن إبليس أنه كان من الكافرين، أي ستر أمر ربه ولم يظهره بتنفيذه وفق ما يعطيه مفهوم كلمة "الكفر" لغة واصطلاحا، والذي يختلف عن مفهوم "الشرك".

غير أن حراس العقيدة، استنكروا على الحلاج مثل هذا القول واعتبروه هرطقة وكفر بواح، ولم يحاول أحد منهم أن يفهم لماذا قال هذا الصوفي المتمرد على التقليد، الثائر على الجمود، والمفجّر للّغة، ما قاله بالتحديد.. حيث أنه وبغض النظر عن الأمر التكويني الذي قضى بخلق آدم واختياره ليكون الإنسان العاقل لخلافة البشر المتوحش الذي عاش قبله في الأرض، وتسخير الشيطان لإغوائه تحقيقا لرؤية الله ومشيئته، لم يتساءل أحد من القدماء أو المحدثين عن معنى أن يخلد إبليس في النار بسبب ذنب يصنف في خانة معصية أمر تكليفي لا تكويني.

بل أكثر من هذا وذاك، إذ يتبادر إلى الذهن بالتحليل المنطقي سؤال محيّر وصادم يقول: 

- هل يعذب بالخلود في النار من يخاف الله ولا يشرك به أحدا؟

هذا ما لا يقول به القرآن أبدا.

لم يفصح الحلاج عن معنى قوله إن “الشيطان في الجنة”، وهو ما يجعلنا نفترض بمنطق الأمور، لكن من دون ادعاء معرفة قصد الحلاج من قوله ما دام أنه لم يفصح عنه، أن هذا الصوفي الذي سُمّي بـ ”شهيد العشق الإلهي”، قد يكون عرف عن طريق الكشف من خلال النور الذي يقذف في الروع، أن طبيعة الشيطان الذي خلقه الله من نار، تقتضي أن يخلد فعلا في النار التي هي بالنسبة له جنّة، وأن يعذبه الله فيها بالزمهرير، وهنا يشير الصوفية إلى أن كلمة "عذاب" مشتقة من المصدر "عذوبة"، ما يعني التلذذ بما سيلقاه من عذاب، مثل المصاب بالجرب الذي يلقى اللذة في الحك. نقول هذا لأن ذات المنطق يقول، أن حياة الشيطان في الأرض هي جحيم حقيقي جعله الله عقابا أليما له إلى يوم الدين بسبب عصيان أمر ربه التكليفي القاضي بالسجود لآدم بما يعنيه السجود في القاموس القرآني من طاعة وخدمة كما هو الشأن بعديد الملائكة التي سخّرها الله تعالى لخدمة الإنسان في حياته خلال مدّة تجربته القصيرة على الأرض. خصوصا إذا علمنا أن الأرض ليست البيئة التي خلق الشيطان منها وعاش فيها قبل أن يطرد من ملكوت السماء.. هذا مجرد تصور قد يكون أقرب إلى الحقيقة المنطقية وفق الرؤية الصوفية، لكنه يظل دون مستوى ما وصل إليه الحلاج من معرفة لدنيّة في هذا الشأن، والتي لا يعلمها إلا الله.

ولعل ما يؤكد هذه القراءة المنطقية إن صح التعبير، هو ما ورد في القرآن الكريم نفسه، حيث يستفاد من آياته أن الله كلّف الشيطان بمهمة “الإغواء”، باعتباره رسولا مبعوثا لفتنة الناس، ما دامت “الفتنة” هي أساس التجربة الأرضية التي على ضوء نتيجتها يُعزّ الأنسان أو يهان، والشيطان لا يمكن أن يتصرف ضد إرادة الله أو من خارج مشيئته. بدليل، أن الشيطان يقول للإنسان: "اكفر"، فإذا كفر يقول: "إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين". ومعلوم أن الله تعالى لم يجعل للشيطان على عباده الصالحين من سلطان، وكل من يتبع الشيطان يفعل ذلك بمحض إرادته وبكامل حرّيته دون ضغط أو إكراه سوى هوى النفس الأمارة بالسوء. لذلك اعتبر الصوفية أن أعلى مراتب الجهاد هي مرتبة جهاد النفس، لأنه بفضلها لا يحتاج الإنسان لجهاد الشيطان ما دام هذا الأخير يغوي الإنسان من بوابة النفس.

من جهة أخرى، نعلم من نصوص القرآن، أن من لا يشرك بالله لا يخلد في النار، وأن من يخاف الله لا يعذب بالنار. وبالتالي، قد يكون للأمر علاقة بطبيعة تكوين الشيطان النارية، هذا هو التفسير الذي يبدو أكثر رجحانا من الناحية العقلية بمقاييس فهمنا المحدود، والله أعلى وأعلم.

بهذا المعنى، قد تبدو الصورة سريالية تشبه إلى حد بعيد سيناريو فيلم “ماتريكس”. وكأننا أمام سوبر كومبيوتر كوني ينتج كائنات من نور (نفوس)، تنزل للأرض بالدور جيلا بعد جيل (لكل أمة أجل ولكل أجل كتاب)، لتسكن في أجساد مادية مؤقتة (مستودع بتعبير القرآن)، لتأدي مهمة محددة (عبادة)، وفق برمجة فطرية مسبقة (تقتضي الطاعة والعصية وفق ما يعطيه مفهوم العبادة)، وضعها مهندس عبقري لغاية تخدم رؤيته للوجود. والسؤال الذي يطرحه مثل هذا النمط من الهندسة الكونية هو:

- هل للاّعبين البشر من خيار أو قدرة على التحكم في هذا البرنامج الذكي بهدف تغيير الدور والوظيفة والمسار ضدا في إرادة المهندس الذي وضعه ويسهر على تنفيذه في كل وقت وحين ودون أن تأخذه سنة ولا نوم؟.

الفكر الصوفي يقول “هذا مستحيل”، لأن الإنسان لا يمكن أن يكون خالقا لأفعاله كي يتصرف بحرية وإرادة. يقول تعالى في الاية 14 من سورة المؤمنون: {فتبارك الله أحسن الخالقين}. هذه الآية استند إليها المعتزلة للقول بعد تأويلها بما يخضع لعقيدتهم، أن الإنسان هو من يخلق أفعاله. غير أن ابن عربي يرفض مثل هذا التأويل ويقول أن: “هناك نسبة جامعة بين الحق والخلق” سماها "مقام البسط الإلهي” الذي “منه أطلق لفظ الخالق على الإنسان وإن كان الله هو الخالق على الحقيقة لأفعال الإنسان” (الفتوحات 2/511). ووفق هذا القول، تكون تسمية الله لنا بـ ”الخالقين” هي من باب البسط الذي يجب أن نقابله بالأدب مع الله ونرد أفعالنا كلها إليه، وهذه هي الحقيقة ما دام الله في النهاية هو أحسن الخالقين.

كما وأن مثل هذه الإشكالية التي تتعلق بخلق الأفعال لم تفت صوفي وفيلسوف عقلاني وضع نظرية الشك بمبادئها الخمسة التي سرقها منه الفيلسوف ديكارت ونسبها إلى نفسه دون أن يشير إلى اسم صاحبها. ويتعلق الأمر بالإمام أبو حامد الغزالي الذي حجّ ابن رشد في تهافت الفلاسفة حول المبادئ العشرين في الإلهيات فغلبه، وقضى بذلك على الفكر المعتزلي الذي كان يعتقد بإمكانية معرفة الله بالعقل إلى الأبد. هذا الفيلسوف والصوفي الكبير عالج قضية الأفعال بإسهاب في مؤلفه الشهير "الإحياء" انطلاقا من سؤال المعتزلة الذي يقول:  

- كيف يكون الله فاعلا لأفعالنا ثم يحاسبنا عليها، فيعذب ويعاقب؟ 

يرد الغزالي على ذلك فيقول ما مفاده: هذا سؤال في غير محله، لأنه ينظر إلى أفعال الإنسان من الزاوية الخطأ، حيث يعتبر الأفعال من خلق الإنسان لا الله، أما لو طرح السؤال من زاوية الحق، لفهم أن الله تعالى يعلم الحال الذي كان عليها العبد في مقام العدم حين كان مجرد فكرة في رؤيته، وأنه على أساس ما أعطى وأظهر حينها من ذاته بقبوله، حدد الله له دوره ومهمته وأفعاله، فأبرزها للوجود بهدف اختباره وهو يعلم يقينا ما الذي سيفعله في حدود مساحة الحرية الضيقة المتاحة له. وما يؤكد ما أراد الله توضيحه بقوله "إن له الحجة البالغة على عباده"، هو تحديدا ما يعني العلم المسبق الذي لدى الله بما سيفعله العبد وحدوده وتداعياته ونتائجه وآثاره، ما دام الله غير متزمّن، أي لا يسري عليه زمان، وكل ما يحدث في الكون يحدث الآن دون ماضي ولا مستقبل كما أكدت نظرية النسبية ذلك بقول أينشتاين ما مفاده: إنك لو صعدت إلى قبة الكون، لشاهدت كل الكواكب باختلاف أحجامها وسرعاتها تدور في نفس الوقت، وكل الحادثات تحدث الآن دون ماضي ولا مستقبل، لأن الله لا يسري عليه زمان ولا يحده مكان للقول أنه قديم قدم الزمان والمكان، أو أنه يرى المستقبل الذي هو مستقبل بالنسبة لنا فقط لا بالنسبة لله. لذلك لا تعارض بين علم الله والخلق الذي تم بالحق، لأن حجة الخلق الواهية تتلاشى وتسقط أمام العلم الإلهي العظيم. وفي هذا يتوافق العلم والدين أيضا.

يتساءل الغزالي حول الإشكالية التي تطرحها ثنائية "التوحيد والشرع" فيقول: 

- من يخلق الفعل ومن يكتسب نتائجه؟ 

ومن دون أن يأتي بشيء من عنده، يقدم عديد آيات القرآن الكريم ليدحض بها ما زعمه المعتزلة من أن الإنسان حر في أفعاله.  يقول الإمام الغزالي حول هذا الموضوع في (الإحياء - باب التوحيد والشرع – المقام الثالث: 4/221)، موضحا طبيعة الأفعال وحقيقة الفاعل ما يلي: 

"إن الفاعل بالحقيقة واحد، فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد، ولم نقدر أن نذكر من مجاز التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد.. وكل ذلك ينطوي تحت قول: (لا إله إلا الله)، وما أخف مؤنته على اللسان، وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب، وما أعز حقيقته ولبّه عند العلماء الراسخين في العلم، فكيف عند غيرهم.. فإن قلت: فكيف الجمع بين التوحيد والشرع؟  ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى، ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد، فإن كان العبد فاعلاً فكيف يكون الله تعالى فاعلا؟ وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا؟ ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد، ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه! فقال تعالى في الموت: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) السجدة:11، ثم قال عز وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) الزمر:42. وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ) الواقعة:63، أضاف الحرث إلينا، ثم قال تعالى: (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا..) عبس:25-28، فأضافه إلى نفسه. وقال عز وجل: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) مريم:17، فنسب النفخ لجبريل الذي وصفه بروح الله، وفي آية أخرى يقول (فإذا نفخت فيه من روحي) فنسب النفخ إليه. وقال تعالى: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) التوبة:14، فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه! والتعذيبُ هو عين القتل! بل صرح وقال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) الأنفال:17، وقال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) الأنفال:17، وهو جمع بين النفي والِإثبات ظاهراً، ولكن معناه: وما رميت، بالمعنى الذي يكون الرب به رامياً، إذ رميت، بالمعنى الذي يكون العبد به رامياً؛ إذ هما معنيان مختلفان. وقال الله تعالى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق:4-5، ثم قال: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الرحمن: 2، وقال: (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) الرحمن:1-4. وقال: (إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) القيامة:19، فأكد أن من سيبيّن معنى القرآن لمن يتقرب إلى الله بتدبره هو الله نفسه. وقال: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) الواقعة:58- 59، وهذا يعني أن حتى المنيّ الذي يقذفه الإنسان خلال عملية الجماع من خلق الله"

وعلى هذا الأساس يمكن القول، إن كل ما أورده الإمام الغزالي مفصلا في هذا الباب جاء مختصرا في قوله تعالي في الاية 96 من سورة الصافات السالفة الذكر: {والله خلقكم وما تعملون}. وهي من الآيات المحكمات، فيما الآيات التي تتحدث عن الأفعال جاءت تفصيلا لها. يستشهد الغزالي على ذلك بقول النبيّ عليه السلام وفق ما أورده البخاري عن أبو هريرة أن النبي قال: (إن اللّه خالق كل صانع وصنعته)، وهو الحديث الذي ذكره الثعلبي وخرّجه كذلك البيهقي من حديث حُذَيفة بصيغة أخرى حيث قال: "قال رسول اللّه عليه السلام": (إن اللّه عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه). وإلى نفس المعني ذهب الصوفي العطار مفصحا عن ماهية سر الأسرار فقال: "الآن سأقول لك ما لا يقال.. اعلم يا أخي، أن النقش هو النقاش".

وهنا يحق التساؤل: 

- أيـن ينتهـي الجبـر وأيـن تبـدأ حريـة الاختيار؟


5.3. إشكالية الجبر وحرية الإختيار

ما يتبيّن من تدبّر القرآن، هو أن آدم لم يكن يتصرف بمحض إرادته، ولم يقم بما قام به من عصيان عن سوء نية، بل بسبب نسيان أمر ربه وطمعه في أن يكون ملاكا أو يكون من الخالدين كما يقول تعالى. بعكس ابليس الذي رفض أمر ربه عن كبر وغرور وتجبر اعتقادا منه أنه أحسن من آدم من ناحية الخلق. فآدم قد تواجد عن إرادة قاهرة وبتكليف محدد لخلافة البشر المتوحش قبله، وقَبِلَ طوعا القيام بهذه المهمة العظيمة التي على أساسها أُعطيَ أمانة الإرادة ليتصرف بها عندما تحل نفسه في مستودعها المادي المقدر لها خوض التجربة الأرضية فيه (الجسم البشري)، لقوله تعالى في الاية 98 من سورة الأنعام: {هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون}. والمستودع هو الخرقة المادية بتعبير الصوفية أو الجسد المادي بالتعبير العلمي، ومعلوم أن مصطلح "المستقر" القرآني يحيل على رحم الأم الذي سيلبس فيه الإنسان جسده المادي (المستودع)، وهذه أمور خارجة عن إرادة الإنسان ولا تخضع لحرية اختياره، بحيث لا يستطيع اختيار والديه ولا مواصفات جسده ولا الموطن الذي سيولد فيه ويحمل هويته، لأن هذه كلها أمور من تخطيط المهندس الأكبر وفق شروط التجربة الأرضية، ما دام له الأمر من قبل ومن بعد.

وبما أن الشيطان هو الذي غرّر بآدم فتسبب في طرده حين نسي الأخير أمر ربه. إلا أن الشيطان نفسه لا يعدو أن يكون مجرد أداة استعملت لحكمة تتعلق بالمشيئة الإلهية كما أسلفنا، لأن الشيطان لم يكن من الممكن أن يتصرف من تلقاء نفسه – خارج مشيئة الله وإرادته – وإلا لكان أقوي من الخالق سبحانه، وهو ما لا يمكن تصوره فأحرى التفكير فيه.

وابن عربي بدوره لم يفته بحث الموضوع من مختلف جوانبه في إطار المبادئ العامة دون التركيز على واقعة بعينها كواقعة إغواء الشيطان لأدم، تلافيا لسوء فهم فقهاء الظاهر الذين كانوا يتربّصون به الدوائر عند كل منعطف ليتهموه بما ليس فيه. فالمعصية بالنسبة لابن عربي الذي يؤمن بالجبر بمفهومه الغليظ، تحمل في طياتها أربعة أسئلة فلسفية كبرى تضع “الأمر الإلهي” في مواجهة مفتوحة مع “الإرادة الإلهية”. وقد سبق لأستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية، الدكتورة سعاد الحكيم أن تطرقت لها في كتابها المهم (معجم المفردات الصوفية – ص: 36) على شكل أسئلة استقت إجاباتها من مقولات محيي الدين ابن عربي كالتالي:

1. هل يمكن أن يُعصَى الأمرُ الإلهي؟

2. هل يمكن أن يَخرج فعل عن الإرادة الإلهية؟

3. هل يُعقل أن يأمر الله بفعل ولا يُريده؟

4. هل يريد الله الشرّ والمعصية؟

يقول ‘ابن عربي’ في معرض إجابته على هذه الأسئلة، إن “الأمر الإلهي" ينقسم إلى شقين: 

- أمر إلهي دون واسطة لا بد من أن ينفذ، فسُمِّيَ "الأمر التكويني".

- وأمر إلهي بواسطة قد ينفذ وقد لا ينفذ فسُمَِّي “الأمر التكليفي".

وعند البحث عن مترادفات الأمرين نقف على التالي:

مترادفات الأمر التكويني: أمر المشيئة – الأمر بالتكوين – الأمر الخفي.

مترادفات الأمر التكليفي: أمر الواسطة – الأمر الجلي.

ومعلوم من الناحية اللغوية، أن لحروف الهمزة والميم والراء المشكلة للجذر "أمر" أصول خمسة هي: الأمر من الأمور – والأمر ضد النهي – والأمر بمعنى النماء والبركة، والأمر بمعنى العلم أو العجب.

وفي القرآن، ورد لفظ “أمر” بالمعنيين الأول والثاني من الأصول الخمسة السابقة. أي بمعني الأمر التكويني والأمر التكليفي، وكمثال على الأمرين نورد الآيات القرآنية التالية:

أولا: الأمر التكويني:

- {وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} البقرة: 117.

- {يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله} آل عمران: 145

ثانيا: الأمر التكليفي:

- {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} الأعراف: 157.

- {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} النساء: 58.

يقول ابن عربي في هذا الشأن: ”فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجا عن المشيئة، فان الأمر الإلهي إذا خولف هنا بالمسمى معصية، ليس إلا الأمر بالواسطة، أي الأمر التكليفي لا الأمر التكويني. فما خالف الله أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة، فوقعت المخالفة من حيث أمر الواسطة” (فصوص الحكم 1/165).

وفي سياق حديثه عن الفرق بين الأمر التكويني والأمر التكليفي يقول: “فإن أمره سبحانه برفع الوسائط (الأمر المباشر)، لا يتصور أن يُعصي لأنه بصيغة: “كُن”. إذ أن “كن” لا تقال إلاّ لمن هو موصوف بـ "لم يكن”، وما هو موصوف بـ "لم يكن” ما يُتصوّر منه إباية. أما إذا كان الأمر الإلهي بالواسطة فيكون بما يدل على الفعل، كأمره بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فتكون الصيغة كمن اشتُقّ له من اسم الفعل اسم الأمر، فيطيعه من شاء منهم ويعصيه من شاء منهم". (الفتوحات المكية: 2/577).

وحول الالتباس الذي قد يُتوّهم ظاهريا بين الأمر الإلهي ومخالفته للإرادة الإلهية، يقول ابن عربي: “الأمر الإلهي لا يخالف الإرادة الإلهية فإنها داخلة في حده وحقيقته، وإنما وقع الالتباس من تسميتهم صيغة الأمر أمرا وهو ليس بأمر. والصيغة مرادة بلا شك. فأوامر الحق، إذا وردت على ألسنة المُبلّغين، فهي صيغة الأوامر لا الأوامر فتُعصى. وقد يأمر الآمر بما لا يريد وقوع المأمور به، فما عصى أحد قط أمر الله”. (الفتوحات 4/430).

أما بالنسبة للسؤال الذي يقول: 

- هل يعقل أن يأمر الله بفعل ولا يريده؟

فنصوص ابن عربي واضحة بالنسبة لهذا الموضوع: “فالرسول والوارث خادم الأمر الإلهي بالإرادة، لا خادم الإرادة. فهو يرد عليه به طلبا لسعادة المكلف. فالرسول عليه السلام مُبلّغ عن ربه: ولهذا قال: (شيّبتني هود وأخواتها) لما تحوي عليه من قوله {فاستقم كما أُمرت} هود: 112. فشيّبته قوله {كما أُمرت}، لأنه لا يدري هل أُمر بما يوافق الإرادة فيقع، أو بما يخالف الإرادة فلا يقع. ولا يعرف أحد حكم الإرادة إلا بعد وقوع المُراد، إلاّ من كشف الله عن بصيرته فأدرك أعيان الممكنات في حال ثبوتها” (فصوص الحكم 1 / 98 – 99).

وفي شرح ذلك يقول ابن عربي: “قال رسول الله عليه السلام: (شيّبتني هود وأخواتها)، والحكم للعلم لا للأمر، وما الله بظلام للعبيد، فانه ما علم تعالى إلا ما أعطته المعلومات، فالعلم يتبع المعلوم ولا يظهر في الوجود إلا ما هو المعلوم عليه، فصح قوله: {ولا يرضى لعباده الكفر} الزمر: 7. والرضا إرادة، فلا تناقض بين الأمر والإرادة، وإنما التناقض بين الأمر وما أعطاه العلم التابع للمعلوم. فهو فعاّل لما يريد وما يريد إلاّ ما هو عليه العلم، وما لنا من الأمر الإلهي إلا صيغة الأمر. فانظر أن يُهيّئ محله بالانتظار، فإذا جاء الأمر الإلهي الذي يأتي بالتكوين بلا واسطة، فينظر أثره في قلبه أولا، فإن وجد الإنابة قد تكوّنت في قلبه فيعلم أنه مخذول، وأن خذلانه منه لأنه على هذه الصورة في حضرة ثبوت عينه التي أعطت العلم لله به. وإن وجد غير ذلك وهو القبول فكذلك أيضا. فلا نزال نراقب حكم العلم فينا من الحق حتى نعلم ما كان فيه، فانه لا يحكم فينا إلاّ بنا. ومن كان هذا حاله في مراقبته وإن وقع منه خلاف ما أُمر به فإنه لا يضره ولا ينقصه عند الله. فإن المراد قد حصل. وهو المراقبة لله في تكوينه” (الفتوحات المكية 4 / 182).

مما سبق، يتبين أن ابن عربي في محاولته فك التعارض المُتوهّم بين “الأمر الإلهي” و “الإرادة الإلهية”، لجأ إلى إدخال عنصر “العلم” كوسيط لإثبات أن “الإرادة” لا تخالف “الأمر الإلهي” و “العلم الإلهي” معا. ووفق هذا التفسير لم يخرج ابن عربي عن إطار “الجبريّة الغليظة” التي لا تسمح لقارئ أفكاره بمعرفة لمن يكون الحكم بالنهاية، لأن ابن عربي لا يوضح هذه المسألة، لكن بالعودة إلى القرآن الكريم وسؤال قريش الرسول عليه السلام: - "هل لنا من الأمر من شيء؟ جاء الجواب حاسما، قاطعا، ونهائيا، يوضح الأمر بما لا يدع مجالا للتعارض المُتوهّم، وذلك من خلال قوله تعالى في الاية 154 من سورة آل عمران: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الامر كله لله}. 

وإلى هذا المعنى ذهبت أيضا الدكتورة ‘سعاد الحكيم’ في شرحها للأمرين التكويني والتكليفي في معجمها الصوفي المشار إلى مرجعه أعلاه حيث جاء فيه: “فالإرادة الإلهية تتبع العلم الإلهي الذي بدوره يتبع المعلوم، والمعلوم هو أعياننا الثابتة". 

وللتوضيح، فالأعيان الثابتة توجد في الملكوت الأعلى كما يقول ابن عربي، بما يعني أننا مجرد صور مستنسخة منها تمشي على الأرض، وهو ما حاول كاتب سيناريو فيلم ماتريكس تقريب صورته للأذهان عن طريق الفن السابع. ذلك، أنه عندما تحكم الإرادة الإلهية ممكنا بأمر كما يقول اين عربي، لا تحكمه بما يخالف العلم الإلهي التابع للمكن نفسه. فعلى الحقيقة: لا يحكم على الممكن إلا الممكن. أو حسب تعبير الشيخ الأكبر: "فانه لا يحكم فينا إلا بنا". وبذلك يكون انتظار الإنسان لأمر الله تعالى ومراقبة إرادته وسريان مشيئته في خلقه موقفا إيمانيا إيجابيا متقدما، وهو ما كان يحرص عليه الرسول الأعظم عليه السلام أشد الحرص، وهذا هو معنى قوله عليه السلام وفق ما ذكره ابن عربي: (شيبتني هود وأخواتها).

هذا الكلام معناه أن لا شيء يمكن أن يتم في هذا العالم من خارج “الإرادة الإلهية” و “العلم الإلهي” معا، وأن الإنسان لا يستطيع خلق شيء من عدم، بما في ذلك أفعاله خيرا كانت أم شرا، إذ حسب تفسير ابن عربي، يصبح كل فعل إنساني من خلق الله تعالى، أمّا اكتسابه فيكون للعبد، لقوله تعالى في الآية 23 من سورة الأنبياء: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. وهو نفس الاعتقاد الذي قال به الأشاعرة في مواجهة القول بحرية الإرادة والاختيار عند المعتزلة والشيعة.

وقد أوضح القاضي أبو بكر الباقلاني (أشعري) وجهة نظر الأشاعرة حول المسألة بالقول: “أن الإنسان هو الذي يُحوّل فعل الله، كالحركة مثلا إلى طاعة أو إلى معصية. أي أن الإنسان لا يخلق فعله من عدم، إنما يكتسبه فقط، ويستشهد على ذلك بالقول، إن عيسى عليه السلام لم يخلق صورة الطير بمحض إرادته من لا شيء، بل خلقها من طين أوجده الله، وقدّرها على مثال سابق معروف هو هيئة الطير التي هي في الأصل من خلق الله، وأنه لم يفعل ما فعل إلا بإذن الله وعلمه وإرادته". (الاتجاه العقلي في التفسير – د. نصر حامد أبو زيد – ص: 228).

لكن لابن عربي فيما يطرحه المعتزلة والأشاعرة بشأن قضية خلق الأفعال واكتساب نتائجها رأي آخر، يندرج في إطار معنى الجبر بالمفهوم الغليظ، حيث يقول: “والأفعال والأعمال إذا لم تنسب إلى الله فقد أبعدت عن الله فوجبت الزكاة فيها (يعني الكفّارة) وهو ما لله فيها من الحق يردّها إليه سبحانه، فإذا ردّت إليه اكتسبت حلّة الحسن فقيل أفعال الله كلها حسنة، والزكاة واجبة على المعتزلي من حيث اعتقاده خلق أعمال العباد لهم والأشعري تجب عليه الزكاة لإضافة كسبه في العمل إلى نفسه” (الفتوحات المكية: 1/595).

ويستند ابن عربي في دعم أطروحته هذه على قوله تعالى في الآية 54 من سورة الأعراف: {ألا له الخلق والأمر}، فيقول: ”إن لله تعالى في كل موجود وجها خاصا يُلقي إليه منه ما يشاء مما لا يكون لغيره من الوجوه. ومن ذلك الوجه يفتقر كل موجود إليه… وذلك الوجه الإلهي لا يتصل بالخلق. وقال للقلم: اكتب علمي في خلقي، وما قال له اكتب علمي في الوجه الذي مني لكل مخلوق على انفراده… فهو سبحانه يعطي بسبب وهو الذي كتبه القلم من علم الله في خلقه، ويعطي بغير سبب وهو ما يعطيه من ذلك الوجه فلا تعرف به الأسباب ولا الخلق… ذلك الوجه الخاص الإلهي الخارج عن الخلق وهو الأمر الإلهي. فإن له الخلق والأمر، فما كان من ذلك الوجه فهو: الأمر، وما كان من غير ذلك الوجه فهو: الخلق“. (الفتوحات المكية 2 / 423).

أما بالنسبة للسؤال الأخير الذي يقول: 

- هل يريد الله الشر والمعصية؟ 

فيعتقد ابن عربي جازما أن جميع الأفعال هي خير في ذاتها ولا توصف بالشر إلا عرضيا، وأن الرحمة الإلهية أوجدت جميع الأشياء في صور أعيانها الثابتة قبل أن يوجد تمييز بين خير وشر أو طاعة ومعصية، وأن مآل الأمور كلها إلى الرحمة، بدليل قوله تعالى في الاية 156 من سورة الأعراف: {قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء}. بمعنى أن عدالتي وحكمتي اجتمعتا في مشيئتي، وأني خلقت الخلق لأسعدهم ورحمتي شملتهم جميعا دون استثناء، فليس هناك أناس خلقتهم لأعذبهم، وأن كل من آمن وعمل صالحا واتقى فسأكتب له رحمتي كي لا يشقى. وأن العذاب الذي تَوَعّدَ الله به في القرآن إنما يُخوّف به تعالى عباده لقوله في الآية 59 من سورة الإسراء: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}. عساهم يتذكرون ويعتبرون فيرجعون ويتقون.


5.4. نظرية التبديل القرآنية

وللتّدليل على صحّة ما سلف، تنقل الدكتورة سعاد الحكيم في معجمها الصوفي (ص: 100)، نصا لابن عربي تقول عنه أنه نص جريء في تصريحه ومخيف في نتائجه للمؤمن العادي، يشير فيه إلى نظرية “التبديل الإلهي”. والتبديل عبارة عن إبدال الله سيئات قوم حسنات، حتى يندم المسيء عند التبديل على أنه لم يأتي بذنوب الدنيا كلها.

- لكن ما سر هذا التبديل العجيب ومتى تصبح السيئة أفضل من الحسنة؟

إنها التوبة.. التوبة باعتبارها إكسير عجيب يقلب صورة الفعل وصفته. فالفعل بذاته خير، ولا يوصف بالشر إلا عرضيا، وبالتوبة يزيل عنه الله صفة الشر ويكسوه كسوة الرضى التي تزيد في جماله فيفوق الفعل الحسن نفسه لقوله تعالى في الآية 70 من سورة الفرقان: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما}. يقول ابن عربي في هذا الصدد: “ومن الناس من يرى الندم على ما فاته من فعل الكبائر في وقت المخالفة لأنه يشاهد التبديل: كل سيئة بما يوازيها من الحسنات… فإن السوء للعمل عارض بلا شك والحسن له ذاتي، وكل عارض زائل وكل ذاتي باق… فالحسنة كشخص جميل في غاية الجمال لا بزة عليه. وشخص جميل مثله في غاية الجمال طرأ عليه وسخ من غبار فنظف من ذلك الوسخ العارض، فبان جماله ثم كسي بزة حسنة فاخرة تضاعف بها جماله وحسنه، ففاق الأول حسنا” (الفتوحات المكية 2 / 140 – 141).

وما يدعم هذه القراءة المنطقية لابن عربي ويتناغم مع مدلول ما ورد في الآية 70 من سورة الفرقان الآنفة الذكر، هو ما ورد في الأثر من دعاء للرسول عليه السلام يقول فيه: (اللهم بدّل سيئاتي حسنات واغسل ذنوبي كما يغسل الثوب الأبيض من الدنس بالماء والثلج والبرد)، وهو ما يؤكد كلام ابن عربي بأن الذنوب والسيئات إنما هي أوساخ عارضة، تغسلها التوبة وتتحول إلى حسنات بالمغفرة، والله يضاعف لمن يشاء بغير حساب.. وهذا سر عجيب يدركه كل من تاب وأصلح وتوكل على الله وأناب.

ذلك أن الأسماء الإلهية وفق منطق الجبر الذي يقول به ابن عربي، هي الفاعلة على الحقيقة من خلال صور الأعيان الثابتة التي هي عبارة عن ظلال لهذه الأعيان، وأن لا شيء يمكن أن يحدث في عالم الغيب أو الشهادة من خارج علم الله وإرادته ومشيئته حتى وان بدا الأمر عكس ذلك ظاهريا لما تعطيه الأبعاد الثلاثة للذات الإلهية والإنسانية من مماثلة (الرحمن الرحيم)، وتغاير (الرحمن الصبور)، وتضاد (الضار النافع)، بحكم أن الله خلق الإنسان على صورته – لا الصورة الذاتية لأن الله ليست له ذات مادية يتجسد من خلالها – بل الصورة التي كانت في علمه كفكرة منذ الأزل، حيث كان الله ظاهرا بنوره والإنسان باطنا في علمه، وعندما خلق الله الإنسان أصبح باطنا والإنسان ظاهرا. وبهذا المعنى، فالألوهة هي الوسيط البرزخي بين الله والخلق، والألوهة هي ما تعطيه أسماء الله وصفاته، أي أنها الوسيط بين الله والعالم والإنسان. فالعلم والقدرة والحياة أسماء أزلية كانت ظاهرة قبل الخلق، وغيرها أسماء تفرعت عنها بظهور مرتبة الألوهة بعد الخلق بحيث ظهرت كل مرتبة من مراتب الوجود باسم إلهي خاص يناسبها، وبظهور الإنسان توجهت عليه الأسماء كلها كما يقول ابن عربي (الفتوحات المكية: 3 / 147). فالإنسان كان أوّلا بحكم أنه كان في علم الله الأزلي الذي هو صفة ذاتية لله ويحمل نفحة من روحه الأقدس، أي من علمه، لقوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي} الحجر: 29. ولذلك قال تعالى في الآية 3 من سورة الحديد إنه: {الأول والآخر والظاهر والباطن}. أي أنه: الأول والآخر بعلمه وقدرته وحياته، والظاهر قبل الخلق، والباطن بعد الخلق.

وإذا كانت كل مرتبة من مراتب الوجود قد ظهرت باسم إلهي خاص يناسبها كما يقول ابن عربي، فإن ظهور الإنسان قد توجّهت عليه الأسماء الإلهية كلها كما سبقت الإشارة، ووجود الأسماء الإلهية سابق على وجود الإنسان المادي، وهي بذلك تعتبر أصلية وأزلية عند الله ومستعارة في الإنسان، لذلك قال تعالى في الآية 31 من سورة البقرة: {وعلم آدم الأسماء كلها}. وهذا هو معنى أن الله خلق الإنسان على صورته، لا الذاتية المتوهمة من قبل العامة، بل الصورة التي كانت في علمه حول الإنسان الذي أعاره كل أسمائه ليظهر الخلق بصفة الحق، وهو ما عبر عنه ابن عربي بالقول: "فكل اسم لهم (أي للخلق) هو حق للحق مستعار للخلق. ولولا الأسماء لما استطاع الإنسان أن يكون فاعلا، وفعله في الأصل هو فعل الله خالق الأفعال كلها لقوله تعالى في الآية 96 من سورة الصافات: {والله خلقكم وما تعملون}. أما كسب تبعات الأفعال فيتحملها الإنسان ويسأل عنها يوم القيامة لقوله تعالى في الآية 23 من سورة النساء: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}. ذلك لأنه "الخالق ونحن المخلوقين" (الفتوحات المكية: 3 / 266 – 267).

فإبليس مثلا، عندما يدعو الإنسان إلى المعصية، لا يقوم بذلك من نفسه وفق إرادته ومشيئته، بل يفعل ذلك بعلم الله وإذنه لأنه رسول السيف موكّل بغواية البشر لاختبار إيمانهم، لكنه لا يملك سلطانا على عباد الله المؤمنين كما سبق توضيح ذلك، وهنا يكمن المجال الضيق الذي يمتلك فيه الإنسان حرية الاختيار، بين الإيمان ليحظى بنور الله ورحمته، أو الضلال ليسقط في الظلام فينفذ إليه الشيطان ليحوّل حياته إلى ضنك ومعاناة وشقاء، لذلك قال تعالى في الآيتين 7 و8 من سورة الشمس: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}. وبالتالي، فمدخل الشيطان الوحيد لغواية الإنسان هو النفس، وتحصينها بالإيمان والتقوى هو السبيل الوحيد لحمايتها من الغواية. وقد أكد القرآن أن سحرة فرعون لم يكونوا ليصيبوا أحدا بأذى إلا بإذن الله، وبهذا المعنى فكل ما يقع في الكون يكون بإذن الله ولا يعقل أن يحدث ضد إرادته أو من خارج مشيئته، والفرق يكمن في الفهم بين أهل الظاهر الذين يقفون عند رسوم النص، والعارفين من أهل الباطن الذين يغوصون في أعماقه ليدركوا جواهر المعاني الكامنة في كيميائه.

من هنا نخلص إلى أن قضية الجبر والاختيار تطرح على العقل تحديات صعبة لا قبل له بتجاوزها لما لها من تأثير على سلوكيات المؤمن وممارساته، وقد تحولت زمن علم الكلام إلى عقيدة مذهبية فرّقت المسلمين بين قائل بالجبر وقائل بحرية الاختيار كل من منطلق الحجج التي يؤسس عليها مقولته.  ومهما يكم من أمر، فقضية من هذا النوع والحجم لا يمكن الاستناد فيها على ما تتيحه أدوات العقل من فهم، بل لا بد من الرجوع إلى القرآن الكريم الذي يعتبر قوله في هذا الشأن القول الفصل.


6. سورة الكهف نموذجا

الحقيقة أن هناك عديد الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها في هذا الباب، لعل أبرزها قصة الرجل الصالح التي وردت في سورة الكهف وما دار بين الخضر ونبي الله ورسوله موسى عليهما السلام. لقد وضع القرآن الكريم بهذه القصة الغريبة أنموذجا يعتبر بحق قمّة في الروعة، سواء لجهة الطرح وتبسيط المعنى لتقريب الفهم من عقول من يتدبرون القرآن من المتنورين، أو لجهة المضمون العميق والدقيق الذي تُبطنه، والذي لا يفقه سره إلا العارف بالله. وهذا الأنموذج الجميل الذي جسّد من خلاله الله تعالى معاني الخير والشر والقضاء والقدر والإرادة وحرية الاختيار في أبهى صورها، موضحا في نفس الوقت، بل ومؤكدا بما لا يدع مجالا لشك أن الأشياء ليست كما تبدو للعيان، وأن ما قد يبدو شرا مطلقا قد يكون فيه خير كثير لا يعلمه إلا الله تعالى والراسخون في العلم ممن فتح الله عليهم الفهم بنور الكشف.

فموسى عليه السلام نبي الله ورسوله، لكنه تحول فجأة إلى تلميذ يتعلم على يد رجل عادي، لكنه عبد صالح ومعلم كبير وهبه الله من العلم والحكمة ما لم يهبه لنبيه ورسوله. يتساءل موسى بمنطق الأخلاق: 

- كيف يمكن اعتبار إفساد مركب لصيادين قرويين فقراء عمل من أعمال الخير؟ 

- كيف يمكن عدم تصنيف فعل قتل طفل بريء في عمر الزهور لم يرتكب جريمة تذكر في خانة الشر؟ 

- كيف يمكن القبول بمساعدة قوم رفضوا إطعامهما على إعادة بناء جدار بيت قديم يكاد ينقض؟ 

- أي منطق هذا الذي يقول لعكس؟

لكن دهشة وحيرة موسى لم تستمر طويلا، فسرعان ما جاءه الجواب من خارج منطق الأخلاق. الخضر لم يفعل ما فعله من أعمال ظاهرها شر من نفسه بإرادته واختياره، بل بأمر من ربه لما في تنفيذه من امتثال وطاعة تُعبّر عن روح الإيمان وجوهر العبادة، ولما سيترتب عن ذلك من خير كثير قادم يفوق ما بدى له للوهلة الأولى من أنه شر قبيح. لهذا يقول الحكماء أن في كل شرّ خير.

وبالتالي، فالآمر هنا هو الله تعالى بشهادة القرآن، والمنفذ هو الخضر عليه السلام باعترافه، وحيث أن ما ارتكبه الخضر يعتبر شرا بالمطلق وفق العقل والمنطق والعرف والقيم والأخلاق، فأهل الظاهر هنا في معضلة حقيقية. لأن منطق الأمور من وجهة نظرهم يقتضي أن يعاقب كل من ارتكب جريمة بما يتناسب وجسامة فعلته. وهذا صحيح في الدنيا حتى تحفظ في المجتمع الأرواح والأموال والممتلكات والقيم والأخلاق، لكن: 

- كيف سيكون عليه الأمر بالنسبة لحساب الآخرة؟ 

أو بعبارة أخرى:

- كيف يجب التعامل مع هذه الواقعة التي تفصح عن حقيقة قرآنية لا يجوز تجاوزها وإن عجز العقل عن إدراك الحكمة الإلهية الكامنة فيها؟

- هل ما يرتكبه الإنسان من أفعال قبيحة تتم حقا بإرادته؟ 

- أم أن الله يملي لمن يشاء من عباده لحكمة لا يعلمها إلا هو وفق ما أكد للملائكة حين استنكروا عليه بأدب أن يجعل في الأرض من يسفك الدماء ويفسد فيها فقال {إني أعلم ما لا تعلمون}؟ 

هنا سر عظيم لم تفهمه الملائكة فأحرى البشر العادي.. وهنا بدأ تناطح الماعز زمن الكلام.. يتساءل بعضهم بحثا عن مخرج للهروب فيقول: 

- هل ما جاء في سورة الكهف حادثة خاصة واستثنائية لا تتكرر في ملك الله، وبالتالي لا يمكن القياس عليها؟ 

يذكرهم خصومهم: أنتم بهذا المنحى ستخرقون قاعدة فقهية تعتبر من الثوابت المتفق عليها، والقائلة بأن القرآن يفهم قرآنا لا فرقانا، استنادا إلى عموم اللفظ لا خصوص السبب.. يتيه أصحاب الكلام في لجة الكلام فيسود الصمت تاركا المجال لمزيد من التأمل والتدبر والسباحة المتسكعة في فضاءات المعاني.

يدخل الصوفي على الخط ليبدأ الرقص على إيقاع الأحرف والكلمات.. يُذكرهم أن القصة في القرآن آية ورمز وعلامة، والعبرة تكمن في الأخذ بها من باب الإيمان بأن ما يقوله الله تعالى هو الحقيقة المطلقة، هذه الحقيقة تقول في تجلياتها الكثيرة أن لا شيء يمكن أن يحدث في هذا العالم من خارج علمه وإرادته ومشيئته وفق ما يعطيه الأمر التكويني في أصل الخلق. بدليل أن الله يملي حتى للكافرين فعلهم لقوله تعالى في الاية 178 من سورة آل عمران: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين}. والمعنى واضح، فالله لا يملي لهم بقصد الخير بل ليدفعهم لارتكاب مزيد من الشر ما داموا على الكفر، وهذا يعني أن اعتقاد الكافر أن ما يقوم به من شر هو بمحض إرادته وحريته واختياره هو مجرد وهم ومحض هراء. وقس على ذلك قضية المكر حيث يقول تعالى في الآية 30 من سورة الأنفال: {ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}. وصفة المكر وفق المعنى الذي تعطيه اللغة البشرية تحمل دلالة بذيئة يتعفف المؤمن من أن يصم الله تعالى بها، وقد حاول المفسرون القدماء الهروب من معناها اللغوي من خلال الالتفاف عليها وتأويلها تأويلا يخرجها عن معناها بالقول: "إن المقصود بها هو العذاب الذي سيجازي الله به هؤلاء الماكرون". هذا تفسير لا علاقة له مطلقا بالمعنى الواضح الذي يعطيه ظاهر اللغة، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، والمكر هنا جاء بمعنى الحيلة التي تحبط شر المشركين الذين كانوا يتربصون شرّاً بالرسول عليه السلام، لتبطله وتستبدله بالنجاة فتكتمل إرادة الله ومشيئته باكتمال الرسالة لما فيها من خير ورحمة للعالمين من بعده، لقوله تعالى في الاية 107 من سورة الأنبياء: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. 

هناك مثال آخر حيث يقول تعالى في للآية 142 من سورة النساء: {إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم}. هذه أيضا صفة بديئة وفق ما يعطيه ظاهر اللغة من معنى، وقد نسب الله الخداع لنفسه للقول بأنه يستعمل نفس سلاح المنافقين لإحباط مؤامراتهم لما فيه خير المؤمنين وصلاحهم، فهو يواجه ما يدبر المنافقون للرسول والمؤمنين من مكائد، ليكشف للمؤمنين سوء نيتهم وخباثة أعمالهم فينقلب كيدهم عليهم من حيث لا يحتسبون، وبالتالي، فخدعتهم لله هي بعينها خدعتهم لأنفسهم من حيث لا يشعرون، إذ سرعان ما تأتي بنتائج عكسية فتنقلب آثارها عليهم من حيث لا يدرون.

هذا يعني أن بعض العمل وإن بدى شرا واتخذ صفة بديئة ممن ننزهه عنها احتراما وتأدبا، إلا أنه في بعده خير يصيب المؤمنين، يدبره تعالى بمعرفته ويستعمل أحيانا نفس سلاح الأعداء لهزيمتهم. وهو نفس المعنى الذي يستفاد من الآيات التي استشهدنا بها أعلاه. فالعمل وإن بدى من ظاهره شرا إلا أن في نتائجه خير كثير لا يدركه إلا من يتجاوز ظاهر المعنى إلى صبر أغوار ما يستره الباطن.

وقس على ما سبق مسألة الحرب التي هي شر مطلق لما يترتب عنها من قتل للأنفس وخراب للعمران وهدر للأموال والخيرات، لكنا تصبح خيرا مطلقا عندما يتعلق الأمر بصد الاعتداء أو مقاومة الاحتلال، وقد جعلها الله تعالى فرض عين على كل مسلم قادر، لذلك قال تعالى في الاية 216 من سورة البقرة: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.

وتجدر الإشارة بالمناسبة إلى أن هناك حقيقة تبدو باطنة في ثنايا قصة موسى والخضر عليهما السلام، وهي أن الله تعالى، لحكمة بالغة، اختار أن يضع سره في أضعف خلقه، أي في رجل لا هو نبي ولا هو رسول، رجل من البسطاء الصالحين كما سبق القول، يمشي فوق الماء ضد قوانين الجاذبية بما وهبه الله من بركات، ينفذ أمر الله بعلمه وإذنه.. حار موسى النبي والرسول عليه السلام في أمره، واضطر في النهاية للتسليم بأنه تعلم على يده ما لم يكن يعلمه، وأن الأمور ليست كما تبدو للعيان، لأن الله يفتحُ على عباده الصالحين من نور علمه ما لا يستطيع غيرهم فهمه أو إدراك الحكمة منه. 

والحقيقة أن الحدود بين الجبر وحرية الاختيار، تشبه حجاب البرزخ غير المرئي الذي يفصل بين العوالم، عالم الغيب وعالم الشهادة، والأمر وفق هذا الطرح متروك للمؤمن ليدركه بالتجربة بعد أن يُكمل معراجه إلى الله. لأن ما سيحدث بعد ذلك أمر لا يمكن أن يُصدّقه العقل.. قد يشبه العسل في حلاوته، لكن من لم يذقه بالتجربة لا يمكن أن يعرف روعة الإحساس بطعمه، ومن ذاق عليه أن يتكتّم على السر لأن البوح به يعتبر من قبل فقهاء الرسوم كفر. وإذا بلغ بالعبد الصالح الحال مبلغه عند مغامرة التقرب إلى الله، فشطح على غير هداه، وباح بما لا يقال، فلن يُصدّقه الناس. لأنه لن يجد الكلمات المناسبة للتعبير عن حلاوة التجربة غير لغة الرمز والإشارة بدل العبارة. وبالتالي:

-   فإذا لم تكن السعادة الحقيقية هي التي يعيشها الإنسان العارف في حلاوة التجربة، فأي قيمة لسعادة غيرها؟

هناك تجربة حصلت لأحد تلامذة محيي الدين ابن عربي فجاء يسأله: "يا سيدي إن القوم يسئلون عن الطريق وعلومه وأذواقه ومشاربه وفتوحاته، فبِمَ أقول لهم، فقال له: قل لهم من لم يذق طعم العسل هل يستطيع وصفه؟ فسيقولون: لا، فقل لهم: كيف يستطيع وصفه؟ فسيقولون: إذا ذاقه، قال، فقل لهم: هذا مثل ذاك". بمعنى أن الطريق وفتحه لا يستطيع الحديث عنه ولا وصفه إلا من ذاق حلاوته بالتجربة، لأن العلم اللدني (من لدن الله) بخلاف العلم الكسبي (المدرسي) الذي يتعلم الإنسان نظرياته من الكتب، لا يحصل بالجدل العقلي والبرهان الفلسفي، لأنه علم ذوقي يقول عنه تعالى في الآية 36 من سورة الإسراء: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}. فبيّن تعالى أن طرق تحصيل العلم ثلاثة: السمع من الغير، والبصر في الكتب أو في الآفاق، ثم الفؤاد الذي يتلقى من الله عبر الملك الوسيط، فأثبت للفؤاد أنه وسيلة من الوسائل التي يحصل بها الإنسان على العلم اللدني عن طريق المشاهدة والذوق، فيحصل الفهم دون القدرة على الوصف لعجز اللغة عن ذلك. لكن هذا العلم الإلهي أو علم القلوب كما سماه الإمام علي، لا يحصل إلا لعباد الله المخلصين الذين خاضوا غماره من خلال تجربة التقرب إلى الله، فأعطاهم تعالى ثماره وأذاقهم لذته وأسعدهم بمشاهدة أشجاره الطيبة في جنانه.


7. هل الذكاء الاصطناعي بالذكاء الذي نتصوّره حقّاُ؟

بعد هذا الذي أوضحناه بشأن إرادة الله ومشيئته، وخضوع الإنسان كما الشيطان لها دون القدرة على تجاوزها، نطرح نفس السؤال الذي انطلقنا منه في بحثنا هذا فنقول:

- هل يستطيع الذكاء الاصطناعي تجاوز إرادة الله ومشيئته؟

الجواب هو لا بالقطع، لأن الآلة لا يمكنها أن تفكر كما أوضح عالم الرياضيات البريطاني آلان تورينغ في مقالته العلمية الأشهر على الإطلاق والتي نشرها عام 1950، حيث وضع فيها أسس مفهوم الذكاء الاصطناعي وتعريفه من خلال ما أصبح يعرف اليوم بـ "اختبار تورينغ". وبعد مرور 70 عاما، ما زالت نتائج ذلك الاختبار مذهلة وغير قابلة للدحض. وقد خلص عديد العلماء في المجال اليوم مثل العالم "هيرفي بورلار" من معهد "إيدياب للأبحاث" في مدينة مارتيني بولاية "كانتون فاليه" المتخصص في الذكاء الاصطناعي والمعرفي للقول: "لا يوجد نظام ذكاء اصطناعي واحد، ولا أي واحد، استطاع اجتياز اختبار تورينغ الأول". 

وعلى ضوء نتائج التجارب العلمية في المجال، يعزو العالم "بورلار" الهالة التي حظي بها ما يسمى بالذكاء الاصطناعي التوليدي إلى أسباب تسويقية وتجارية، بدليل أنه لم يتم حتى اليوم إحراز أي تقدم حقيقي يؤشر إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على اتخاذ قرارات مستقلة من خارج البيانات التي يغديه بها الإنسان. وأن التقدم الحقيقي الذي يشهده المجال له علاقة بقوة النماذج الرياضية حصريا، الأمر الذي يثير الشك حول المصطلح، ما دام الذكاء الاصطناعي لا هو باصطناعي ولا هو بذكي. بل ويضيف جازما: "ليس ثمة شيء اسمه الذكاء الاصطناعي على اعتبار أنه لا يُوجد نظام يعكس أدنى درجة من الذكاء البشري. فحتى الطفل البالغ من العمر شهرين أو ثلاثة أشهر، باستطاعته أن يفعل ما لن يستطيع الذكاء الاصطناعي فعله أبداً".

وكمثال بسيط على ذلك يقول بورلار وفق ما أورده موقع "سويس أنفو": "إذا وضعت كوباً ممتلئاً بالماء على الطاولة، ستلاحظ أن الطفل الرضيع يعرف حق المعرفة أن الكوب إذا انقلب رأسا على عقب يصبح عندئذ فارغاً. لذلك السبب يستمتع الطفل الرضيع بقلب الكوب وهو يضحك. وليس بمقدور أي آلة في العالم أن تفهم هذا الاختلاف”. وما يوضحه هذا المثال الواقعي ينطبق أيضاً على الحس المنطقي السليم، أي القدرة البشرية المميزة التي لا يُمكن للآلات أن تكتسبها بالتقليد ولن تقدر على فعل ذلك مطلقاً.

وبذلك، يؤكد بورلار أنه لا يوجد أي ذكاء في الذكاء الاصطناعي، بل إنه من الخطأ الجسيم إطلاق هذه التسمية عليه، وبدل ذلك، يجب الحديث عن "تعلّم آلي"، لأن الذكاء الحقيقي يكمن في البيانات التي يغديه بها الإنسان الذكي، والمعتمدة في المجال التجاري وغيره، ما دامت تُسهم بصورة متزايدة في عمليات اتخاذ القرار في مجالات مثل الموارد البشرية والتأمين والإقراض المصرفي، على سبيل المثال لا الحصر. وتتعرف الآلات على هويتنا وعلى ما نحب من خلال خوارزميات رياضية وضعت لتحليل السلوك البشري على شبكة الإنترنت. ثم تقوم محركات التوصية بتصفية المعلومات الأقل أهمية وتقترح مشاهدة الأفلام أو قراءة الأخبار أو شراء الملابس التي قد تُعجبنا.

أما إذا حدث وتسبب ما يسمى بالذكاء الاصطناعي في كارثة للبشرية، فسيكون ذلك بسبب ظلم الإنسان وجهله لسوء استعماله أمانة حرية الإرادة التي وهبه الله إياها، لقوله تعالى في الاية 72 من سورة الأحزاب: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}. وبالتالي، فما يمكن أن يصيب البشرية في هذا الشأن سيكون بسبب هذا الجهل والظلم تحديدا، لقوله تعالى في الآية 30 من سورة الشورى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. 

غير أنه ومهما حصل، فيستحيل أن يؤثر ذلك على إرادة الله أو أن يتجاوز مشيئته، ما دام سبحانه قائم على ملكه، يدبره في كل وقت وحين بمعرفته، ومن دون أن تأخذه سنة ولا نوم. وما دامت نظرية "التدافع القرآنية" كفيلة بتقويم الوضع في حال تجاوز الذكاء الإصطناعي المدى واستحوذ على سوق العمل بما يؤثر على استقرار الإنسان وسعادته.

والصورة واضحة لا تحتاج لمزيد تفصيل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق