الإنسان كائن أخلاقي
في هذه السلسلة من الحياة بعد الموت، سنحاول الإجابة على سؤال الوجود والمصير، الذي طالما حيّر العقول، وأرّق النفوس، وأسر القلوب قديما وحديثا. وذلك انطلاقا من القرآن الكريم دون سواه من المراجع، باعتباره المصدر الوحيد الذي يمكن الاستناد عليه في أمور الغيب التي لا تدرك بالعقل.../...
فبعد أن أوضحنا في مقالة سابقة، بأن الإنسان كائن أزليّ قديم في علم الله العظيم. بدليل ما ورد في الآية 172 من سورة الأعراف. سنكشف لكم في هذه السلسلة، عن حقيقة الموت التي لا تطال إلا الجسد. فيما تعيش النفس حياة الخلود في عالم ما وراء البرزخ، في انتظار البعث والحساب، لينتهي بها المطاف بعد ذلك إلى الحياة الأبدية في المدى السرمدي اللامتناهي.
والحقيقة، أنه لطالما تساءل الإنسان عن سبب قدومه إلى الدنيا، عن سر وجوده، وعن المصير الذي ينتظره بعد الموت، لكن لا جواب. فلا الفلسفة قدمت له الجواب المنطقي، ما دامت تشتغل على ما يسمى بالعلم الظني الذي يعتمد الفرضيات الفكرية. ولا العلوم التجريبية قدمت له الجواب الصحيح، لأن الغيب ليس مجالا في متناولها. ولا تفاسير الفقهاء وفّرت له الجواب الشافي، الذي يقبله العقل ويطمئن له القلب، ما دامت قد ركّزت في أدبياتها على التراث التوراتي، وأقوال السلف، التي فسرت الظواهر الغيبية بالعجائبي، والغرائبي، والأسطوري. الأمر الذي لا يقبله عقل. ولا يرتاح له قلب.
والواقع، أننا لا نملك مرجعا موثوقا، يمكن الركون إليه لمعرفة ما هو محجوب عنّا في عالم الغيب، غير ما ورد ذكره في القرآن الكريم. وهو على كل حال كافي وشافي. وطبيعي والحال هذه، ألا نصل إلى معرفة الحقيقة، من دون قراءة مركّزة لآيات الذكر الحكيم، لاستنباط مفاهيم جديد مغايرة للمعهود، تعيد تأثيث العقل الجمعي للأمة بمعتقدات صحيحة، مع التسليم بأن المُحدّد للمعنى في النهاية هو عامل الإيمان، الذي يعتبر ما جاء في القرآن الكريم هو عين الحق. لقوله تعالى في الآية 105 من سورة الإسراء: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل}.
لأنه إذا كان الدّال عن الحقيقة هو الله، فإن المدلول في مجال الغيبيات لا يمكن أن يكون له مصداق على أرض الواقع، إلا بعد الموت، ساعة يحصل للإنسان اليقين. لقوله تعالى في الآية 99 من سورة الحجر: {واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين}. أي حتى ترى الحقيقة بعد الموت رؤية العين. لذلك فنحن لا نملك من سبيل للحصول على بعض من هذا اليقين قبل الموت إلا بتدبّر القرآن الكريم. لقوله تعالى في الآية 24 من سورة محمد: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}. عسى أن يوحي الله لنا من المعاني، ما يشفي الغليل، من خلال قذف نور الحقيقة في الروع. وذلك لقوله تعالى في الآية 114 من سورة طه: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما}. وهو الأمر الذي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الله تعالى هو من تكفّل بتبيان معاني آياته لعباده، من خلال وحي المعنى. وليس الفقهاء من خلال تفاسيرهم المغلقة.
والتركيز على تدبّر القرآن الكريم لا يمنع من الاستعانة بالعلوم والمعارف الحديثة للكشف عن معاني بعض ممّا ورد فيها بشأن موضوعات البحث. ما دامت كلمات الله هي بالمحصلة أفعال يؤكدها الواقع لقوله تعالى في الاية 115 من سورة الأنعام: {وتمّت كلمت ربّك صدقا وعدلا}. وما دام التاريخ البشري هو مرآة يُرى على ضوء أحداثه مدى صحّة بعض ممّا ورد في التنزيل من وقائع. وهي جملة أدوات من بين غيرها اعتمدتها المناهج العلمية والموضوعية الحديثة لاستجلاء بعض من المعاني الباطنية التي تتستر وراء رداء الظاهر من الكلمات.
ولأن القرآن كلام الله الحق كما سبقت الإشارة، فقد نزل بالحق لقوله تعالى في الآية 176 من سورة البقرة: {ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق}.
وبالتالي. فلا مناص من تدبّر هذا الكتاب. تدبّرا عقليا عميقا. بدل هجره لحساب المرويات من التراث. خصوصا وأن الله يُؤكّد بما لا يدع مجالا للشك، أن القرآن لم يفرّط في شيء. وجاء تبيانا لكل شيء. وفيه تفصيل كل شيء. ووصفه تعالى بأنه كتاب أُحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير. ما يعني أن الآيات المحكمات، هي عين الحق المُتضمّن في أم الكتاب. فيما المتشابهات، لا يمكن فهمها إلا بإرجاعها إلى المحكمات، وفق ما تعطيه آليات التأويل من إمكانات.
وعلى هذا الأساس يقول الحق سبحانه في الآية 87 من سورة النساء: {ومن أصدق من الله حديثا}. ويقول في الآية 6 من سورة الجاثية: {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}. وهي كلها آيات كما غيرها كثير، توجّه المؤمن إلى ضرورة التمسك بالحقائق الواردة في القرآن الكريم، بدل الاستناد إلى غيرها من المرويات البشرية، لما قد يشوبها من تزوير وتحريف وتحوير وتضليل. وهذا هو ما حصل مع التراث للأسف.
لأنه إذا كان التراثيون يقولون أن السّنّة تعتبر وحيا ثانيا مثلها مثل القرآن، فالسؤال الذي يجب أن يطرح عليهم هو: - لماذا لا نجد في القرآن اختلافا كما أكد ربّ العزّة، فيما نصطدم عند مراجعة السنّة بعدد هائل من الاختلافات لدرجة تناقض الكثير من المرويات مع آيات التنزيل الحكيم؟. هذه الحقيقة وحدها تكفي لتكذيب مزاعم التراثيين الذين يفترون على الله ورسوله الإفك من حيث يعلمون أو لا يعلمون.
لهذا السبب تحدّث الله عن الصراط المستقيم، وحثّ عباده على اتّباعه في الحياة الدنيا. وأوضح أن لا علاقة له بالصراط الذي روّج له فقهاء الرسوم، واستقر في الوعي الجمعي للأمة لعصور ودهور، من كونه طريق أرفع من الخيط وأحدّ من السيف، يمرّ عليه الإنسان فوق جهنم يوم القيامة. هذا محض هراء وافتراء. لأن الصراط المستقيم وفق ما يفهم من حديث الله، هو القرآن الكريم الذي يهدي إلى الطريق القويم، الموصل إلى رضا الله. فمن آمن بآياته، وعمل بمقتضاها، كان على هدى من ربه وعلى صراط مستقيم في حياته. ومن تركها وراء ظهره، وآمن بأقوال التراثيين، وعمل بها، كان على ضلال مبين. بدليل قوله تعالى لرسوله الكريم في الآية 43 ن سورة الزخرف: {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم}. وقوله تعالى لعباده في الآية 2 من سورة الأعراف: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}. وواضح أن ما نزل للناس من ربّهم هو الذكر الحكيم. والذي لا علاقة له من حيث المعنى والمصداق مع ما روّج له التراثيون من مرويات جعلوا منها دينا بديلا عن دين السماء.
إن التغيّر النوعي الذي يمكن أن يأتي به هذا النوع الجديد من القراءة للنص القرآني، لا يقاس بالذكاء، ولا بشرط التخصّص في العلوم الشرعيّة كما يزعم المفترون، بقدر ما يستند إلى بدل الجهد، والتدبّر، والتأمل، ودقة الاستنتاج. مع مراعاة عامل الإيمان بالثوابت من جهة. وعامل الحرية بلا قيود ولا حدود عند الانفتاح على الأسئلة الحقيقية المسكوت عنها من جهة ثانية. وهي الأسئلة التي أغفلها التراث لأسباب سياسية وإيديولوجية. هدفها إخضاع الإنسان المسلم لسلطة الإقطاع، عن طريق تدجين عقله، وسجنه في معتقل المذهب. مع الحرص على تقييد حرية التفكير لديه، وسلبه إرادته، وضبط سلوكه، من خلال التحكم في كل كبيرة وصغيرة في حياته. ليكون عبدا مسالما ومستسلما، خاضعا بأدق التفاصيل إلى سُنّة الفقهاء، ضدا في سنة الله التي يُعتبر التطوّر والتبدّل والتغيّر هو الثابت الأساس فيها.
إن أكبر جريمة ارتكبها تحالف الإقطاع ورجال الدين في حق الإنسان المسلم عبر التاريخ، تتمثّل في تعطيل ملكة التفكير لديه. هذا علما أن تجربة الإنسان في الحياة الدنيا، تعتمد أساسا على حرية والإرادة. وهي الأمانة التي وهبها الله تعالى له ليخوض بها تجربة الحياة الدنيا، فيكون مسؤولا عن قراراته واختياراته. لأن بها كرّمه الله على بقيّة المخلوقات بما في ذلك الملائكة التي لا تتمتع بحرية الإرادة، لأنها لا تعصي لله أمرا وتفعل ما تُؤمر، لذلك فهي خارج نطاق المساءلة والمحاسبة يوم القيامة. بخلاف الجن والإنس الذين سيسألون يوم الدين بحكم المسؤولية المنوطة بهم. وبسبب الحرية والإرادة أصبح الإنسان كائنا أخلاقيا، قادرا على الاختيار بين الخير والشر، ين الخطأ والصواب، بين الهدى والضلال. ومردّ ذلك أن الإنسان كائن قابل للتعلّم، وبفضل التعلّم يستطيع التّغيّر والتّطوّر نحو الأفضل. والعكس صحيح أيضا، في حال عطّل الإنسان عقله، وركن للكهنوت يرضع من ضرعه الموبوء حليب الجهل والتخلّف.
يتبــــــع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق