حكومة العالم الجديدة: سيناريو مركزيّة القوى الكبرى في نظام عالمي جديد

 

(نهاية النظام الليبرالي القديم وميلاد نظام هيمنة جديد)

لم يعُد خللُ النظام الدولي مجرّد انطباعٍ أو دعايةٍ أيديولوجية، بل حقيقةٌ تكشفها الوقائع اليومية: مجلسُ أمنٍ عاجزٌ عن إيقاف حربٍ تُدار على مرأى العالم في أوكرانيا، ومن قبْلها وفي موازاتها حروبٌ مستدامة في الشرق الأوسط وأفريقيا، وتوسُّعٌ في النزاعات الإقليمية بالوكالة، وسباقٌ محموم نحو التسلّح النووي والصاروخي والفضائي، وانقسامٌ اقتصادي وتكنولوجي حادّ بين معسكرات متنافسة. في حين تبدو الأمم المتحدة اليوم أشبه بمسرحٍ للخطابة الدبلوماسية أكثر منها آليةً فعّالة لصناعة القرار؛ إذ يكفي أن يرفَع أحدُ الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن يده بحق النقض حتى تُشلّ إرادة المجتمع الدولي بأكمله، ويتحوّل القانون الدولي إلى “نصٍّ مُعلَّق” لا يُطبَّق إلا حيث تتقاطع مصالح الكبار.../... 


في ظلّ هذا الإعطاب البنيوي المتراكم، تترسّخ قناعةٌ مفادها أن العالم يسير إمّا نحو فوضى متفجّرة قد تنتهي بحرب عالمية ثالثة تحرق اليابس والأخضر، وإمّا نحو محاولةٍ راديكالية  لإعادة هندسة بنية النظام برمّته، عبر صيغٍ جديدة لمركزة القرار في يد القوى الكبرى وفق منطق القوة والمصالح، لا منطق الأخلاق والعدالة، وهنا يبرز سيناريو “حكومة العالم الجديدة” بوصفه أحد أكثر الاحتمالات إثارة للجدل والقلق في آن واحد.


- هل يمكن للعالم أن يتفادى حربًا عالمية ثالثة، قد تكون نووية هذه المرة، من دون إعادة هندسة بنية النظام الدولي نفسه؟


هذا السؤال هو ما يحاول سيناريو “حكومة العالم الجديدة” الإجابة عنه، بوصفه تصورًا افتراضيًا يقوم على فكرة بسيطة وخطيرة في آن واحد:


إذا كان الانفجار سيقع حتمًا نتيجة تضارب مصالح القوى الكبرى، فربما لا مفر من جمع هذه القوى في إطار حاكم واحد، يحتكر القرار الاستراتيجي ويعيد توزيع مناطق النفوذ وخيرات العالم بطريقة متوافق عليها، ولو على حساب بقية الدول.


ينطلق هذا التصور من فرضية أساسية تقول إن النظام الليبرالي - مرحليا الحالي، القائم على الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بلغ حدوده التاريخية. فالمجلس الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية ليمنع اندلاع حرب ثالثة، تحول مع مرور الوقت إلى ساحة لتعطيل القرارات أكثر منه آلية لصناعتها، خصوصًا مع حق النقض الذي يسمح لكل قوة كبرى بأن تشلّ القرار الجماعي متى تعارض مع مصالحها. ومع توسع النزاعات الإقليمية والحروب بالوكالة، واحتدام الحروب التجارية والتكنولوجية بين واشنطن وبكين، وعودة روسيا بقوة إلى المسرح الدولي، باتت احتمالات الانزلاق إلى مواجهة كبرى أعلى من أي وقت مضى.


في هذا السياق يظهر سيناريو “حكومة العالم الجديدة” كحل راديكالي: بدل أن تتصارع القوى الكبرى على قيادة النظام الدولي، تتقاسم قيادته مباشرة من خلال هيكل مغلق، يشبه من حيث الجوهر “نادي الكبار”، لكنه أكثر وضوحًا وجرأة. لا يعود مجلس الأمن صاحب الكلمة الفصل، بل يصبح - مرحليّا - مجرد واجهة شكلية في اتظار الإعلان عن موته ودفته، بينما تنتقل السلطة الحقيقية إلى مجلس تنفيذي عالمي صغير يضم الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند واليابان، (وفق تسريب صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية لما يفترض أنه ضمته البقية السرية من وثيقة الأمن القومي الأمريكي)، حيث يفترض أن يتولى هذا المجلس إدارة ملفات السلم والحرب والاقتصاد العالمي والطاقة والتكنولوجيا، ويُسند إليه حق التدخل في كل منطقة من العالم بحجة حماية الأمن الكوني.


أولا: معايير أختيار أعضاء الحكومى العالمية الجديدة:

قد يبدو اختيار هذه الدول الخمس بالذات اعتباطيًّا في الظاهر، لكنه في منطق القوة يعكس مجموعة من المعايير الصلبة. فالولايات المتحدة وروسيا والصين تمثّل مثلث القوى النووية والعسكرية الكبرى، القادرة على تدمير الكوكب أو حمايته، كما تمثّل في الوقت نفسه أقطابًا اقتصادية وتكنولوجية لا يمكن تجاوزها. وتأتي الهند بصفتها قوةً سكانية صاعدة تمتلك سلاحًا نوويًا وحضورًا متناميًا في الاقتصاد الرقمي والطاقة والفضاء الآسيوي، بينما تمثّل اليابان حالةً خاصة لقوةٍ صناعية–تكنولوجية كبرى، وإن كانت منضبطة داخل تحالفات أمنية تقودها واشنطن. 

بهذا المعنى، لا يُبنى “نادي الحكم العالمي” على أساس العدالة أو التمثيل المتوازن للمناطق والثقافات، بل على أساس امتلاك مفاتيح الردع النووي، والكتلة الاقتصادية، والقدرة على التحكّم في التكنولوجيا والموارد الحيوية. أمّا الاتحاد الأوروبي وبقية القوى الإقليمية فيُنظر إليها – في هذا السيناريو – بوصفها فضاءات نفوذ أو شركاء وأدوات تنفيذ من الدرجة الثانية، لا أعضاء أصيلين في دائرة القرار المغلقة.


ثانيا: الأساس الذي يقوم عله التصور الجديد

يقوم هذا التصور على مجموعة من المقايضات الكبرى:

   أ. مقايضة الأمن بالسيادة:

 تقبل الدول المتوسطة والصغرى عمليًّا بتقليص جزء من سيادتها لصالح هذه “الحكومة العالمية”، مقابل وعود بعدم اندلاع حرب عالمية شاملة، وبضمان حد أدنى من الاستقرار السياسي والاقتصادي. في الظاهر يبدو العرض مغريًا لشعوب أنهكتها الحروب والفوضى، لكن الثمن الحقيقي هو تكريس نظام هرمي واضح: قمة تتحكم في مصائر العالم، وقاعدة واسعة مُطالَبة بالطاعة والانضباط.


   ب. مقايضة النفوذ بالموارد:

يجري الاعتراف بحق روسيا في نفوذ أوسع في أوروبا الشرقية وفضائها السوفييتي السابق، وبحق الصين في تعزيز حضورها في آسيا وتايوان وبحر الصين الجنوبي، وبحق الولايات المتحدة في ترسيخ قبضتها على أمريكا الجنوبية والشرق الأوسط وأمن الممرات البحرية، مقابل صيغة لتقاسم خيرات أفريقيا ومواردها بين الجميع، في إطار صفقات استثمارية كبرى تحت إشراف “الحكومة العالمية”. وبهذا تتحول القارة الأفريقية تحديدًا إلى ساحة تجريب لمعادلة جديدة: لا استعمارًا تقليديًا ولا استقلالًا حقيقيًا، بل شراكات قسرية تحت سقف النظام الكوني الجديد.


   ج.  مقايضة الشرعية بالديمقراطية:

تحتاج “حكومة العالم الجديدة” إلى نوع من الشرعية الأخلاقية الصورية حتى لا تبدو مجرد مؤامرة بين الكبار. لذلك قد تلجأ إلى خطاب حقوق الإنسان، ومحاربة الإرهاب، وحماية البيئة، والتحول الطاقي، كغطاء إيديولوجي يبرر تدخلاتها وقراراتها. لكن في العمق، ستكون الديمقراطية خاضعة لمعيار المصلحة العليا للنظام؛ فما دامت الانتخابات في بلد ما لا تهدد بنية التقاسم القائم ولا تفتح الباب أمام قوة متمردة، فهي مقبولة، أما إذا أفرزت قوة سياسية تعتبرها “الحكومة العالمية” خطرة على الاستقرار، فسيُعاد تعريف قواعد اللعبة باسم حماية السلم الدولي.


هذا السيناريو، رغم طابعه الافتراضي المحتمل، ليس بعيدًا تمامًا عن التحولات الجارية. فالعالم يشهد بالفعل نوعًا من التفاوض غير المعلن بين الكبار حول خطوط التماس: 

- كيف تُدار الحرب في أوكرانيا من دون انزلاق إلى مواجهة مباشرة بين الناتو وروسيا؟ 

- كيف تُحاصر الصين اقتصاديًا من دون إغلاق شامل لسلاسل التوريد العالمية؟ 

- كيف تُدار ملفات الطاقة والغاز في شرق المتوسط وأفريقيا والخليج من دون انفجار شامل؟

كل هذه الأسئلة تُطرح اليوم ضمن منطق “إدارة الأزمة”، أما سيناريو “حكومة العالم الجديدة” فيذهب خطوة أبعد: بدل إدارة الأزمة، يتم إعادة صياغة قواعد اللعبة من جذورها.

- لكن هل يشكل هذا السيناريو حقًا “الحل الوحيد” لتفادي الحرب النووية؟ 

هنا يظهر الجانب المظلم للفكرة. فالحرب ليست الخطر الوحيد الذي يهدد الإنسان؛ هناك خطر آخر لا يقل فتكًا هو الاستبداد الكوني. حين تُختزل إرادة مليارات البشر في قرارات تُتخذ داخل غرفة مغلقة بين خمس زعماء، حيث يصبح السلم نفسه أداة للسيطرة. 

لن يحتاج النظام الجديد إلى شنّ حرب عالمية لفرض إرادته؛ تكفيه السيطرة على النظام المالي العالمي، والعملات، والتكنولوجيا الرقمية، والفضاء السيبراني، ليجعل أي دولة “متمردة” تدفع ثمن عصيانها من دون إطلاق رصاصة واحدة.


إضافة إلى ذلك، فإن التوافق بين الكبار نفسه ليس مضمونًا؛ فمصالحهم متناقضة في العمق. قد ينجحون في تأجيل الحرب أو تجميدها، لكنهم لن يلغوا جذورها البنيوية: 

التفاوت الاقتصادي الهائل، سباق التسلّح التكنولوجي، التنافس على الموارد النادرة، صراع النماذج الحضارية والثقافية. وفي لحظة ما قد ينفجر التناقض داخل “الحكومة العالمية” ذاتها، فتتحول من آلية لتفادي الحرب إلى ساحة لتفجيرها من داخل المركز لا من الأطراف.

مع ذلك، يظل لهذا التصور بعدٌ تحذيري مهم. فهو يضعنا أمام مرآة قاسية: 

إذا استمر العالم في مساره الحالي، حيث تتحول الأمم المتحدة إلى مؤسسة شكلية، ويزداد عجز القانون الدولي عن ضبط الحروب، وتستمر سباقات التسلح الصاروخي والنووي والفضائي، فسنجد أنفسنا أمام خيارين كلاهما مرّ:

  • إما فوضى دولية مفتوحة قد تنتهي بحرب شاملة،
  • وإما مركزة صارمة للسلطة العالمية في أيدي الكبار بحجة تجنب تلك الحرب.


البديل الحقيقي ربما يكمن في مسار ثالث أكثر صعوبة وأقل بريقًا إعلاميًا: إصلاح تدريجي لبنية النظام الدولي، يعيد الاعتبار لمبدأ المساواة القانونية بين الدول، ويوسع تمثيل الجنوب العالمي في مؤسسات القرار، ويقوّي آليات الوقاية من الحروب بدل الاكتفاء بإدارتها بعد اندلاعها، ويضع حدودًا فعلية لجبروت السلاح النووي عبر معاهدات ملزمة للجميع. لكن هذا المسار يحتاج إلى إرادة سياسية عالمية غير متوفرة اليوم، وإلى ضغط شعبي وثقافي عابر للحدود لم يتشكل بعد بالقدر الكافي، وإن كان "جيل زد العالمي" يعبر بشكل ما عن هذا التوجه الجديد في استراتيجية الإحتجاج الدولي.


لهذا، يمكن النظر إلى “حكومة العالم الجديدة” ليس بوصفها مشروعًا جاهزًا، بل كـمرآة كاشفة لِمآلات الطريق الذي نسير فيه. فإذا وجدنا أنفسنا يومًا أمام نظام عالمي مغلق، يقسم الكوكب إلى مناطق نفوذ محروسة نوويًا، ويحكم مليارات البشر من وراء شاشات وخوارزميات، فسنكون قد وصلنا إلى نسخة مشوهة من حلم السلم الدائم: سلم بلا حرية، واستقرار بلا عدالة، وأمن تحرسه قنابل معلّقة فوق رؤوس الجميع.


في نهاية المطاف، يبقى السؤال مفتوحًا: 

- هل يمكن للإنسانية أن تتفادى الحرب الكبرى دون أن تسلّم مصيرها لحكومة عالمية مستبدة؟ 

- أم أن ثمن البقاء في زمن الأسلحة المطلقة هو القبول بسيطرة مطلقة من نوع جديد؟

هذا السؤال بالذات هو ما يجب أن يشغل الفكر السياسي في العقود القادمة، قبل أن تفرض الإجابة نفسها علينا من خارج إرادتنا، إما على شكل فوضى لا تُبقي ولا تذر، أو نظام كوني محكم لا يترك لأحد فرصة الاعتراض.


خاتمة: سيناريو الرفض والمواجهة من خارج نادي الكبار

غير أن هذا التصوّر لا يمكن أن يمرّ بلا مقاومة. فخلف طاولة “حكومة العالم الجديدة” تقف قوى كبرى ومتوسطة تُستبعَد من نادي القرار الضيّق، بدءًا من الاتحاد الأوروبي وبعض القوى الصاعدة في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، وصولًا إلى الفاعلين غير الدوليين من حركات اجتماعية وشبكات رقمية عابرة للحدود. هؤلاء لن يقبلوا بسهولة بأن تتحوّل الكرة الأرضية إلى مجال مقسم بين خمس لاعبين يحتكرون النفوذ والموارد وحقّ تعريف “الأمن” و“الاستقرار”.


قد يتخذ الرفض في البداية شكل مقاومة ناعمة: تعطيل للاتفاقات، بناء تحالفات موازية، تعزيز استقلالية العملات والأنظمة المالية والتكنولوجية، وتوسيع فضاءات التعاون الإقليمي خارج سقف النظام العالمي المفروض. لكن إذا نجحت “الحكومة العالمية” في تحويل هذا الترتيب إلى بنية صلبة تُقصي الآخرين نهائيًّا، فإن السيناريو المرجّح هو الانتقال من المقاومة الناعمة إلى مواجهة صامتة: سباق تسلّح جديد خارج الأطر الرسمية، وتطوير تحالفات ظلّ، وربما ظهور مراكز قوى متمرّدة تُفضّل المخاطرة بالفوضى على الخضوع الدائم.

هنا يعود السؤال إلى نقطة الصفر: 

- هل يؤدّي السعي إلى تجنّب الحرب الكبرى عبر تركيز القرار في يد قلّة إلى إنتاج حروب من نوع آخر، أشدّ تعقيدًا وتفكّكًا، تُخاض في الهامش بدل المركز، وفي الفضاء السيبراني والاقتصادي بدل الجبهات العسكرية التقليدية؟ 

إن سيناريو “حكومة العالم الجديدة” يكشف أن الخطر لا يكمن فقط في انفلات النظام الدولي، بل أيضًا في محاولة ضبطه بقبضة حديدية؛ ففي الحالتين يظل مصير الإنسان معلَّقًا بين فوضى تدميرية واستقرار قهري، ما لم تنجح البشرية في ابتكار صيغة أكثر عدلًا لتقاسم السلطة والثروة والمعرفة على هذا الكوكب الصغير.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق