في المغرب تسقط العمارات ... ولا تسقط الحكومات


(من ضحايا مستشفى الموت بأكادير إلى ضحايا عمارات فاس: الجاني واحد اسمه الفساد)

من ضحايا مستشفى الموت بأغادير، مرورا بقتلى عمارات فاس، إلى تسريبات المهداوي.. كيف يتغذى الفساد من قمع حرية التعبير التي تحوّلت في المغرب إلى جثة بلا قبر؟

لم تكن حرية التعبير في المغرب يومًا مجرد حق قانوني على الورق، بل كانت في لحظات نادرة من تاريخ البلد، طاقة أخلاقية وجمالية حملها جيل من الصحافيين الأحرار والمثقفين الشرفاء الذين أدّوا دور ضمير الأمة عندما كان للوطن معنى في وعي النخبة.

كان الصحافي آنذاك مثقفًا حقيقيًّا: يمتلك رصيدًا معرفيًّا واسعًا، وأسلوبًا عربيًّا رفيعًا قادرًا على مخاطبة وجدان جمهور عاطفي، وفي الوقت نفسه، يحفر في عمق الحدث السياسي والاجتماعي، فيجمع بين نقل الخبر، وتفكيك بنية الأزمة، والإشارة إلى الداء، وتوصيف الدواء.../...


حين أدركت السلطة خطورة هذا المزج بين الثقافة والصحافة، بدأت المعركة من باب قوانين المنع والضغط والقمع الناعم..

فتحدّثنا أولًا عن أزمة الثقافة تحت وطأة الرقابة وتضييق فضاءات النشر، ثم تحوّل الخطاب تدريجيًّا إلى أزمة المثقف نفسه:

مثقف مُلاحَق، مهمَّش، أو مُستقطَب إلى دواليب طابور الدعاية الرسمية.

وحين استقال كثير من هؤلاء من دورهم التاريخي، دخلنا إلى المرحلة الأشدّ قسوة: "موت الثقافة العامة باستقالة المثقف".

في الفراغ الذي خلّفه انسحاب المثقف ـ الصحافي، صعدت الصحافة الصفراء والأقلام المأجورة، وتحوّل جزء كبير من الإعلام إلى تجارة في الفضائح التافهة والمديح السياسي، بينما تعرّضت القلّة التي حافظت على طهر ضميرها للملاحقة والتشهير والتجويع.


اليوم، ونحن نتابع آخر حلقات هذا الصراع الطويل بين السلطة والرأي الحر، نشهد كيف يُدفع ثمن إسكات الضمير العام جثتا بلا حراك في قاعات المستشفيات، ودمًا بلا جثت تحت قبور الإسمنت، لا حبرًا على الورق فقط.


في بلد أُقصي فيه المثقف عن موقعه الطبيعي، واختُزل فيه الصحافي إلى موظّف يخاف على راتبه أكثر مما يخاف على الحقيقة، تصير الكارثة مجرد خبر عابر:

يموت الناس في مستشفى الحسن الثاني بأكادير،

ويُسحق آخرون تحت ركام عمارات فاس،

بينما تظل البنية نفسها التي صنعت الموت قائمة لا تمسّ،

فتسقط الأرواح في المستشفيات وتتبعها الجثت تحت أنقاض العمارات… ولا تسقط الحكومات.


لم يعد الحديث عن حرية التعبير في المغرب ترفًا نظريًّا، ولا مجرد سجال بين السلطة والمعارضة.

اليوم، صار الأمر أقرب إلى الحديث عن مريض في غرفة الإنعاش: الأجهزة تواصل إصدار أصواتها المنتظمة، لكن أحدًا لا يجرؤ على أن يقول بصوت عالٍ: هل هذا الجسد لا يزال حيًّا حقًّا، أم أننا نرفض فقط توقيع شهادة الوفاة؟


في أسبوع واحد فقط، سقطت عمارتان سكنيتان في فاس على رؤوس ساكنيهما، مخلفةً 22 قتيلًا و16 جريحًا، بحسب الحصيلة الرسمية الأخيرة.  

وقبلها بأسابيع، تحوّل مستشفى الحسن الثاني في أكادير إلى رمز لـ”مستشفى الموت” بعد وفاة ثماني نساء حوامل في أقل من شهر، في مشهدٍ يلخص كل شيء عن كرامة المواطن وقيمة الحياة في هذا البلد الذي سرقه الفساد.  


ما العلاقة بين فاجعة فاس، ومستشفى أكادير، وتسريبات لجنة الأخلاقيات، وصمت الأحزاب والنقابات، وتقاعد المثقف، وتقاعس المواطن، وارتباك شباب جيل زد؟

العلاقة بسيطة وقاسية: عندما تُكمّم الأفواه طويلًا، تسقط البيوت على الرؤوس بدل أن تسقط الحكومات مهما بلغ حجم الفساد.


1. مِن: “أنت تاجر مخدرات”.. إلى: “أنت خارج عن المهنية”

يومًا ما، كتبت الصحافية المقتدرة فاطمة الإفريقي، في لحظة يأس أخلاقي عميق، نصًّا أصبح عنوان مرحلة:

“أنت صحافي؟ إذن أنت تاجر مخدرات”.

هذا العنوان لخّص بشكل بليغ زمنًا كان يُشيطَن فيه الصحافي الحرّ بتهم أخلاقية وجنائية جاهزة، من المخدرات إلى “الفضائح الجنسية”، في محاولة لاغتياله رمزيًّا أمام الرأي العام قبل الزجّ به في السجن وإخراصه.


اليوم لم تعد السلطة بحاجة دائمًا إلى هذه الأساليب الفجّة؛

لقد طوّرت أدوات أكثر نعومة:

مجلس وطني للصحافة،

لجنة أخلاقيات،

نقابة تمثل الصحافيين،

تبدو كلها، في الظاهر، ضمانات لحماية مهنة لا زال أصحابها يحاكمون بالقانون الجنائي على ما أصبح يعرف في المغرب بجرائم القلم.


لكن تسريب حميد المهداوي لاجتماع لجنة الأخلاقيات كشف الوجه الآخر للقصة:

اجتماع مغلق يُفترض أنه فضاء لـ”حماية شرف المهنة”، يتحوّل إلى فضاء لتصفية الحسابات، ولغة متعالية عن “تأديب” هذا الصحافي أو ذاك، وتداخل مقلق بين الحسابات المهنية والحسابات السياسية والقضائية.  


وبدل أن تهتزّ النقابة من الداخل، وتعتبر ما جرى إنذارًا وجوديًا لسلطة صاحبة الجلالة كما يحلو للإنجليز تسمية الصحافة من باب التشريف، بدا جزء من الجسم المهني مشغولًا أكثر بـ”معاقبة من سرّب” لا بـ”محاسبة من أساء”.

هكذا يتحوّل “التنظيم الذاتي للمهنة” إلى عصا إضافية بيد السلطة، وتتحوّل أخلاقيات الصحافة إلى سلاح يُشهر فقط في وجه من يزعجون النظام، لا في وجه من يحوّلون الصحافة إلى تجارة في المديح والكذب والنفاق.


2. عندما يسقط السقف على الجميع

انهيار عمارتين سكنيتين في فاس ليس حادثًا طبيعيًّا،

إنه انهيار بنية كاملة:

بنية الفساد في التعمير،

بنية الغضّ المتعمّد للطرف عن الرخص،

بنية “دبّر راسك” التي تسود في الإدارات المحلية،

وبنية إعلامٍ لا يجرؤ إلا نادرًا على تسمية الأشياء بأسمائها.


حين يموت 22 مستضعفا تحت الإسمنت، فهذه ليست فقط جريمة مهندس أو مقاول أو موظف بلدي؛

هذه جريمة نظامٍ كامل جعل من حياة المواطن تفصيلًا تقنيًّا،

ومن الموت الجماعي خبرًا عابرًا يقدَّم ببرودة:

“تم قيل أن تحقيقا فتح في النازلة، وستُتخذ الإجراءات اللازمة”.

لكن أي تحقيق هذا، ما دامت البنية التي تصنع الموت لا تمسّ؟


حين كان الصحافي يمتلك قليلًا من الحرية، كان يستطيع أن يربط بين:

فساد التعمير،

غياب المراقبة،

تواطؤ المنتخبين والسلطة بكل مستوياتها،

وبين الدم تحت الركام.


اليوم، في زمن “التأديب المهني”،

يتحوّل كثيرٌ من الإعلام إلى مجرّد ناقل لبلاغات رسمية،

ويُترك للمواقع المتمردة ومنصات اليوتيوبرز المغامرة أن يملؤوا الفراغ،

بين مبالغة فجة في الإثارة، وصمت ثقيل عن الجذور الحقيقية للمأساة.


3. مستشفى أكادير وجيل يحب الحياة أكثر مما يحتمل الوطن

فاجعة مستشفى الحسن الثاني في أكادير كانت الشرارة التي فجّرت غضب جيل زد 212؛ جيل شاب خرج إلى الشوارع يهتف:

“المستشفى أولًا… الملعب عاشرًا”،

رافضًا أن تُصرف مليارات الدولارات من مقدرات الشعب على ملاعب كأس إفريقيا والعالم ومشاريع عملاقة لن تستفيد منها سوى النخبة الفاسدة، بينما النساء يمُتن على أبواب المستشفيات.  


خرج هذا الجيل إلى الشوارع ليتظاهر سلميا، معتقدا أن دستور هذا العهد الأحمر يعطيه الحق في ذلك، فواجهته الدولة ببلاغات مطمئنة من جهة، وبالقمع والاعتقالات ووسيف القانون الذي قُدَّ على مقاس الفاسدين من جهة أخرى:

286 مصابًا و 409 معتقلين في احتجاجات أواخر شتنبر، وفق أرقام وزارة الداخلية نفسها.  


ثم ماذا؟

أُفرِج عن ثُلّة من المعتقلين،

أعفي بعض المسؤولين الصغار دون رؤوس الفساد الكبيرة،

وصدرت تصريحات حكومية تؤكد “تفهم المطالب الاجتماعية والاستعداد للتجاوب معها”.  


لكن البنية نفسها بقيت على حالها.

وحين انهارت عمارات فاس بعد أسابيع قليلة،

كان السؤال الذي يطارد جيل زد في سرّه:

“هل يستحق الأمر أن أعود للشارع وأعرض نفسي للسجن والضرب، بينما الأغلبية صامتة، و ’النخبة’ متواطئة؟”


هذا جيل يحب الحياة للأسف،

يريد أن يسافر، أن يعمل عن بُعد، أن ينجو من جحيم البطالة والخوف.

حبّه للحياة طغى على روح التضحية والإيثار؛

لكن من علّمه أن الحرية يمكن أن تأتي بلا ثمن،

وأن التغيير يمكن أن يحدث بلمسة لايك وهاشتاغ فقط؟



4. تقاعد المثقف… وإحالة الصحافي على “الرفّ الأخلاقي”

في زمن مضى،

كان هناك شيء اسمه “المثقف العمومي”:

يكتب مقالًا في صحيفة فترتجف مدينة،

تظهر افتتاحية غاضبة فتربك حسابات وزير أو تُحرج حكومة،

يعتقل صحافي، فتنتفض نقابة وتخرج بيانات تضامن حقيقية، لا بلاغات بروتوكولية.


اليوم،

استقالت فاطمة الإفريقي من الكتابة، ورمت القلم جانبًا بعد أن رأت كيف يُباع الكلام ويُشترى.  

وتمت “إحالة” كثير من الصحافيين على التقاعد الأخلاقي إن لم يكن الإداري:

من اختار الصمت،

من اكتفى بلعب دور المعلّق المحايد على شاشات لا حياد فيها،

من تعلّم فنّ المديح المغلّف بلغة “تحليل موضوعي”.


هكذا وُلد فراغ خطير:

لا صحافة مستقلة قوية، ولا مثقّف عضوي يقف في المنتصف بين السلطة والشعب.


في هذا الفراغ بالضبط،

خرجت أصوات جديدة:

يوتيوبر يصرخ من سيارته،

طالب في كلّية القانون يشرح في فيديو جوّال، معنى الاعتقال التعسفي ومفهوم المحاكمة العادلة بين النص والواقع،

طبيبة شابة تكتب منشورًا عن جحيم المستشفيات،

ناشط مجهول الاسم يدير قناة تيليغرام تُسرب ما لا يجرؤ الإعلام على نشره.

    •    وشباب غاضب يفضل أن يحمل وطنه في حقيبة ويسافر بعيدا نحو المجهول، بدل أن يعيش الغربة في بلد سرقه الفساد.  

هذه الأصوات هشة، غير محمية،

لكنها في كثير من الأحيان أصدق من الصحافة الرسمية،

وأقرب إلى نبض الشارع من أجيال كاملة من المعلّقين والمحللين الذين تقاعدوا وهم على الهواء مباشرة.


5. شعب يبيع صوته… وسلطة تشتري صمته

لا أحد معفي من المسؤولية هنا.

من السهل أن نحمّل السلطة كل شيء،

لكن الحقيقة المُرّة أن جزءًا من هذا الشعب:

يبيع صوته في الانتخابات مقابل دريهمات أو وعود كاذبة،

يطبّل للفاسدين لأنه ينتظر وظيفة أو امتيازًا أو “قضية تُقضى”،

يسخر من من يخرج للشارع، ثم يبكي على الأنقاض عندما يسقط السقف.


كيفما تكونوا يُولَّ عليكم”..

هذه العبارة ليست فقط حكمة تُقال في المجالس؛

إنها قانون اجتماعي قاسٍ يعمل كل يوم على هذه الأرض.

لكن هذا الشعب نفسه ليس قطعة واحدة:

فيه من خان وباع،

وفيه من خاف وسكت،

وفيه من قاوم ودفَع الثمن،

وفيه من يبحث عن لغة جديدة للفعل بعيدًا عن المسرح القديم.


المشكلة أن الخطاب الرسمي والمعارض معًا يميلان إلى التعميم:

السلطة ترى في كل منتقد “خائنًا” أو “مخرّبًا”،

وبعض الغاضبين يرون في كل الشعب “جبانًا” أو “لا يستحق الحياة الكريمة”.


الحقيقة تقع في المنتصف المرّ:

نحن مجتمع ممزّق بين الخوف والرغبة في التغيير،

بين حب الحياة والخشية من دفع ثمن حمايتها،

بالرغم من أن النص يقول: {لا يغيّر الله ما بقوم حتّى يغيروا ما بأنفسهم}.


6. أي معنى لحرية التعبير حين يصبح الصمت نظامَ حكم؟

ما جدوى الكلام عن “مدوّنة الصحافة” و”القانون الجنائي” و”التنظيم الذاتي” وخلافه..

إذا كان الصحافي يفكر ألف مرة قبل أن يكتب جملة تربط بين موت الناس تحت ركام فاس، وبين أسماء ومؤسسات تتحمل مسؤولية ما حدث؟


ما معنى “الحق في التظاهر”؟

إذا كان ثمن وقفة أمام مستشفى أكادير هو احتمال أن تُسجَّل ضدك تهمة “العنف” أو “التخريب” أو “المساس بالنظام العام”،

حتى ولو كنتَ خرجت فقط لتقول إن ثماني نساء لم يكن يجب أن يمتن على باب مستشفى في 2025؟  


حرية التعبير في المغرب اليوم ليست ميتة تمامًا؛

هناك هوامش، وهناك منافذ، وهناك منابر صغيرة تصرخ بقدر ما تستطيع.

لكنها أيضًا ليست حية بما يكفي لمنع سقوط عمارة،

أو حماية امرأة حامل،

أو ضمان ألا يتحوّل مجلس الصحافة إلى محكمة تفتيش مهنية تنفذ تعليمات كهنوت السياسة بدل حماية حرمة الكلمة.


إنها حرية تعبير تشبه حال مريض ممدّد على سرير أبيض في غرفة إنعاش:

الأجهزة موصولة،

المؤشرات تتحرك،

لكن الوعي غائب،

ولا أحد يملك شجاعة أن يقول:

إما أن ننقذه حقًّا،

أو نكفّ عن استعماله شعارًا في نشرات الأخبار.


خاتمة بطعم المرارة

من فاس إلى أكادير،

من قاعات لجان الأخلاقيات إلى شوارع جيل زد،

من استقالة الصحافية فاطمة الإفريقي إلى تقاعد المثقف،

يتشكّل أمامنا مشهد واحد:

بلدٌ يخاف الحقيقة أكثر مما يخاف الموت،

وسلطةٌ تريد صحافة بلا صحافيين،

وشعبٌ يتعلّم ببطء أن ثمن الصمت قد يكون أعلى من ثمن الاحتجاج،

وجيلٌ جديد يحب الحياة لكنه لم يقرّر بعد:

هل يحبها بما يكفي ليدافع عنها،

أم يحب سلامته الشخصية أكثر من أن يغامر من أجل كرامة جماعية؟


ربما وظيفة الكاتب اليوم ليست أن يقدّم حلولًا جاهزة،

بل أن يرفض أن يوقّع شهادة وفاة الحرية،

وأن يكتب، بمرارة كاملة ووعيٍ كامل ليقول بصوت مزلزل:


إن الذين ماتوا تحت إسمنت فاس،

واللواتي فارقن الحياة على أبواب مستشفيات هذا البلد،

لم يموتوا فقط بسبب صدفة هندسية أو خطأ طبي،

بل ماتوا بسبب جريمة صمتٍ جماعية،

شاركت فيها سلطة خائفة من الحقيقة،

ونخبة باعت لسانها،

وشعبٌ تعب من الصمت… لكنّه لم يفقد بعد الأمل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق