مقال سياسي: النظام في الجزائر من حقده على المغرب، يشبه إلى حد بعيد حيزبون خبيثة، تتصرف في السياسة كأرملة عجوز فاتها القطار، فراحت من غبائها تبحث عن عاشق مغامر يحضنها مقابل أن تمنحه أموال الجزائر، وبترول الجزائر، وغاز الجزائر، ومعادن الجزائر.. ثم ماذا؟.. آه، وأن تُطبَّع مع إسرائيل كهديّة فوق البيعة.. خصوصا بعد أن تخلت عنها أمّها فرنسا، وطلقها الرئيس بوتين بالثلاث، وأبرم زواجا رباعيّا جديدا مع كل من ليبيا، وبوركينا فاسو، ومالي، والنيجر.. شهد عليه العالم في عرس النصر بموسكو. أمام هذا الحدث التاريخي الكبر والمهيب، بكى شيخ الأركان شنقريحة على فراش المستشفى وقال.. ماذا قال؟.. قال: "إنها مؤامرة صهيو - مخزنية بدعم من الإمارات".../...
والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو:
- فما الذي حصل حتى أصبحت القوة المضروبة منبوذة في المنطقة، ومرعوبة لدرجة إعلان التعبئة الوطنية وبناء الملاجئ خوفا من هجوم عسكري محتمل؟
- هل يتعلق الأمر بما قد تقدم عليه فرنسا والمغرب ضد نظام العسكر بعد لقاء باريس المرتقب؟
- هل لأن النظام يتوجس خيفة مما قد يقدم عليه الرئيس بوتين في حال أشار على حلفائه من دول الجوار (ليبيا – بوكينا فاسو – مالي – النيجر) بإعادة الجزائر إلى حجمها الطبيعي ما قبل الاستعمار عقابالها على خيانتها وتهديد مصالح روسيا في المنطقة؟
- هل للأمر علاقة بتمرد شعبي محتمل على ضوء تغيير عسكر الجزائر لعقيدتهم السياسية وبيعهم لحلفائهم التقليديين وفشلهم في إدارة الصراع مع المغرب، الأمر الذي يهدد بعشرية سوداء جديدة؟
- أم أن الأمر يتعلق بمهلة الثلاثة أشهر التي أعطاها الرئيس ترامب لعسكر الجزائر لكي يتخلوا عن دعم ميليشيات البوليساريو والجماعات الإرهابية في المنطقة، ويعترفوا بمغربية الصحراء؟.
نقول هذا قياسا على التحذير الأمريكي لإيران حليفة الجزائر، وما أسفر عنه من قبول أصحاب العمامة في طهران ببيع حلفائهم وأدواتهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مقابل الحفاظ على نظامهم الشيعي وبرنامجهم النووي السلمي. ولنا فيما وقع في سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا وغزة، المثال على ما تم إنجازه من صفقات سرّيّة بعيدا عن أعين الإعلام.
الجزائر تغيّر عقيدتها وتبيع حلفائها
في عام 2018، كادت الدماء أن تسيل أنهارا في انقلاب صامت هز أركان الحضيرة، قاده ضبّاط شباب على جنرالات فرنسا وروسيا وعلى رأسهم العجوز شنقريحة. خصوصا بعد أن وصلت الجزائر إلى أسفل سافلين وبدت ملامح ثورة شعبية عارمة تلوح في الأفق بسبب الجوع والعطش الذي تسبب فيه الفساد وسياسة الريع لشراء الذمم في المحافل الدولية، حتى يتم إنهاك المغرب إقتصاديا، وإبقائه منشغلا بقضية صحرائه الغربية فلا يفكر في المطالبة بصحرائه الشرقية. غير أن نجاح فريق الضباط الجدد في فرض إرادته على المعسكر القديم، وانصياع الأخير مجبورا مقابل المحافظة على حياته ومكاسبه، جنّب الجيش الصدام، والشعب القتال، والبلاد التفكك مؤقّتا فقط، ما دام أصل الخلاف لا يزال قائما يتربص الفرصة ليطفوا بعنف على السطح.
فريق الجنرالات الجديد سمّي نفسه "التّوازنيون" (Équilibristes) في إشارة إلى رغبة الجيل الجديد في إعادة التوازن إلى الجزائر كقوة إقليمية ضاربة بعد أن أصبحت مضروبة، لكن من خلال تغيير مذهبها السياسي، وعقيدتها العسكرية، وتحالفاتها الدولية.. بعد أن أصبحت واحة معزولة ومنبوذة من دول الجوار.
لم يكن أمام هذا الفريق الجديد من خيار لإنقاذ الجزائر من السقوط في الهاوية سوى السعي للتحالف مع واشنطن، خصوصا بعد أن أدرك القادة الجدد من خلال قراءة سطحية للمتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والجيواستراتيجية الدولية، أن لا بديل عن أمريكا القوة العظمى وسيدة العالم، وأن كل التحالفات المناهضة لها ستسقط على صخرة معالم النظام العالمي الجديد الذي بدأ يتشكل من رماد الحروب القائمة في أوكرانيا أو القادمة في آسيا (باكستان والهند) أو الشرق الأوسط (اليمن وغزة) أو شمال إفريقيا (الجزائر كآخر دولة مارقة في المنطقة).
ولعل ما أعطى الانطباع بأن الجزائر بصدد تغيير وجهتها، هو لقاء الدمية المسمّى "تبّون" مع وزير الخارجية الأمريكي في عهد بايدن المدعو "أنتوني بلينكن". حيث أشارت معلومات سرّبتها المخابرات الفرنسية حينها، أن الطّغمة العسكرية الجزائرية الجديدة بصدد الإقدام على تحوّل استراتيجي كبير على مستوى السياسة الخارجية والتحالفات الدولية.
ولعل ما أكد صحة التسريبات الفرنسية، هو تلة اللقاء المذكور من أحداث مهمة:
- توقيع الجزائر لاتفاقيات شراكة كبيرة، شملت على الصعيد الاقتصادي اتفاقيتين مع كل من شركة "شيفرون" وشركة "أوكسيدنتال بتروليوم" الأمريكيتين: (OXY Occidental Petroleum +)، وذلك لتقييم واستغلال الموارد الهيدروكربونية في الجزائر أو ما تبقى منها على الأقل. (ماي 2025).
- ابرام مذكرة تفاهم عسكري مع الولايات المتحدة (يناير 2025)، لتعميق التعاون في المجال الأمني، وتشمل: تبادل الأسلحة – ونشر أصول عسكرية مشتركة – والالتزام بتعزيز الشراكة الدفاعية في المنطقة. حيث اعتقد نظام العسكر البليد أنه بفضل هذه المذكرة سيحمي نفسه من المخاطر الأمنية المحيطة به. غير أن انسحاب العسكر من المشاركة في مناورات الأسد الإفريقي التي انطلقت شهر أبريل الماضي بسبب خلاف بين الأجنحة داخل المؤسس العسكرية، جعل الجزائر أضحوكة بين الأمم، وأعطى الانطباع بأنها دولة لا تحترم التزاماتها، الأمر الذي حوّل مذكرة التفاهم العسكري التي أبرمت مع واشنطن إلى مجرد حبر على ورق.
- مشاركة وفد جزائري رفيع المستوى من لصوص مال الشعب في قمة (Select USA) التي تعتبر أكبر تظاهرة أمريكية لجلب الاستثمارات الخارجية، والتي عقدت قبل أيام (ماي 2025).
- دخول وفد أمريكي رفيع المستوى من شركة "أوسترويد" العملاقة (Austroid Corporation USA) في مناقشات متقدمة مع المجموعة الجزائرية (Sonarem) للمعادن، لوضع اللمساء الأخيرة لاتفاق يهدف إلى إقامة تعاون ملموس في المشاريع التي تعتبر استراتيجية في مجال استخراج الموارد الأساسية والمواد النفيسة التي تدخل في الصناعات التكنولوجية المتطورة (ماي 2025). خصوصا وأن المعادن الأساسية والنفيسة لم تعد مجرد سلع يتم استخراجها؛ بل أصبحت أصولاً جيوسياسية كبرى. ففي عالم تتزايد فيه التوترات على سلاسل التوريد، أصبح التحكم في هذه المواد أو تأمين الوصول إليها أولوية بالنسبة للقوى الصناعية الكبرى. ومن خلال التدخل المباشر في قطاع التعدين الجزائري، تسعى الولايات المتحدة إلى موازنة النفوذ المترسخ للمنافسين مثل الصين، التي تتواجد في كل مكان في قطاع المعادن النادرة، وخصوصا في إفريقيا.
- كما وأن هناك تقارير إعلامية تحدثت عن نشاط مكثف للوبي جزائري في واشنطن يُسوّق لصورة الجزائر الجديدة بهدف التأثير على السياسة الأمريكية في شمال إفريقيا، خصوصا ما له علاقة بالصحراء المغربية ومحاولة روسيا الهيمنة على ليبيا ومنطقة الساحل. وهو الأمر الذي أثار استياء موسكو التي تسعى لترسيخ وجودها في المنطقة دفاعا عن مصالحها بعد التفاهمات السرية التي أبرمتها مع واشنطن بشأن أوكرانيا برغم معارضة أوروبا. كما وأنه أثار غضب وامتعاض باريس التي ترى أن تمرد الجزائر أضر بسمعتها في المنطقة التي تعتبرها حديقتها الخلفية، وأنه لم يعد لهذا التحوّل الدراماتيكي من رجعة، ما يستوجب مواجهة الجزائر بما تستحق لتدفع ثمن خيانتها وغدرها واستخفافها بقوة فرنسا وتآمرها على مصالحها الحيوية في المنطقة.
كل هذا وغيره مما لا يسع المقام لذكره، أدى إلى تصاعد التوتر بين الجزائر وفرنسا من جهة، والجزائر وروسيا من جهة أخرى. علما أن فرنسا هي من كانت تدافع سياسيا وديبلوماسيا عن نظام العسكر في المحافل الدولية، وروسيا هي الدولة التي سلحت الجزائر لعقود طويلة مضت، ما يعني أن قطع الإمدادات العسكرية عنها سيشكل قفزة لنظام العسكر في الظلام تشكل بحق نوع من الانتحار السياسي. وهو ما أدرك خطورته "التوازنيّون" الجدد، فقرروا تنويع مصادر تسليحهم بالتوجه نحو الصين وإيطاليا وأمريكا ودول أخرى بعضها من شرق أوروبا. بدليل أن الصين وفق آخر التقارير زودت فرقاطات الجزائر بنظام إلكتروني متطور لتعطيل الموجات الكهرومغناطيسية التي قد تشلّ أجهزتها الإلكترونية في حال اندلعت مواجهة بحرية، مما زاد من قوة أدائها بنحو 60 في المائة.
ولعل من تداعيات هذه الأزمة الخطيرة بين الجزائر وحلفاء الأمس، الطرد المتبادل لديبلوماسيين وعناصر استخباراتية بين باريس والجزائر، وفرض تأشيرة الدخول إلى التراب الفرنسي على الديبلوماسيين الجزائريين، ورفض تسليم المعارضين لنظام العسكر من قبل فرنسا. بالإضافة إلى استثناء شنقريحة وتبون من حضور احتفالات النصر لهذا العام في موسكو. وهو ما يعني بكل اللغات القطيعة التي ما بعدها رجعة في ظل نظام تعتبره باريس وموسكو نظاما خائنا ومتمردا لا يُؤتمن.
ومهما يكن من أمر، فالخيانة ليست بجديدة على هذا النظام الفاسد واللاّ أخلاقي، بل هي في جينات دمه الهجين الملوث بدم الجيش الفرنسي، وتشكل مُكوّنا أساسيا من طبعه الغدّار. فقد سبق وأن خان المغرب بعد الاستقلال عام 1962 حين انقلب قادة جبهة التحرير عليه ورفضوا تسليمه صحرائه الشرقية كما وعدوه قبل ذلك، برغم ما قدمه الشعب المغربي للجزائر من مساعدات وتضحيات لا تقدر بثمن.
والسؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو:
- هل تثق واشنطن في عسكر الجزائر، وتُرجّح بالنتيجة مصالحها الاقتصادية على حساب تحالفها الاستراتيجي والتاريخي مع حليفها الموثوق المغرب كما يعتقد عسكر الحضيرة؟
هذا ما يسعى كابرانات الجزائر لتحقيقه، لكن بينهم وبينه سنوات ضوئية من الأحلام التي تشبه الأوهام.
ذلك، لأنه إذا كان عسكر الجزائر يعتقدون أن النظام الدولي الذي تأسس سنة 1945 قد انهار وأصبح من الماضي، وأن نظاما جديدا بصدد التشكل تتزعمه أمريكا، ما يسمح لهم باللعب على المحاور وترجيح ورقة واشنطن على ما سواها من قوى دولية وإقليمية صاعدة، فهم واهمون، لأن العالم الجديد يستحيل أن يقاد من قبل قوة عظمى واحدة. بدليل أن النظام الأحادي القطب الذي تأسس زمن بوش الأب وأدى إلى سقوط سور برلين الشهير سنة 1991 باتفاق مع العميل غورباتشوف، قد انهار بدوره وبدء في التفكك، وبدل أن تنهار روسيا وتختفي كدولة عظمى من الساحة، ها هي تعود من جديد كتنّين أسطوري استيقظ من سبات طويل بفضل الزعيم بوتين، وبدأ ينفث نار الانتقام الرهيب ضد كل من عمل على شطبه من معادلة التوازنات الدولية الجديدة. وبالتالي، فلا زال الصراع على أشده بين أمريكا من جهة، والصين وروسيا وأوروبا من جهة أخرى، ما دامت واشنطن تسعى لمحاربة الأصدقاء والحلفاء على كل الأصعدة من دون أن تلوث يدها بالدّم، معتقدة أنها ستتربع على عرش العالم بمنطق الحروب بالوكالة والإجراءات الاقتصادية القاسية.
لأن ما لم يفهمه عسكر الجزائر حتى الآن، هو أن العالم الجديد الذي تسعى أمريكا لتشكيله، عالم أسوء من القديم، لأنه لا يعترف بقانون ولا يلتزم بأعراف ولا يتصرف بأخلاق، بل يرجح فقط منطق القوة الغاشمة ولغة المصالح الانتهازية، وهو النظام الذي لن يكتب له النجاح، وقد يؤدي إلى صدامات وحروب لا تنتهي إلا لتبدأ أخرى، ما دامت الحروب هي من تنعش الاقتصاد، وقد مضت سنة الأولين في ذلك.
وإذا كان عسكر الجزائر يعتقدون أنهم بتقديم خيرات أرض الجزائر ومقدرات شعبها لواشنطن ستجعل منهم قوة إقليمية في المنطقة بدل المغرب، فنجوم السماء أقرب إليهم. خصوصا وأن المنافسة اليوم على مقعد دائم في الأمم المتحدة تدور رحاها بين المغرب ومصر وإثيوبيا وجنوب إفريقيا، وقد رأينا كيف أن المغرب تحالف مع مصر وإثيوبيا لإقصاء جنوب إفريقيا، لتبقة المنافسة ودية بين ألأقطاب الثلاثة.
نقول هذا استنادا إلى معلومات موثوقة من مصادر روسية، تحدثت عن سعي الجزائر لضرب نفوذ روسيا في المنطقة، تجلى ذلك من خلال إسقاط طائرة بدون طيار تملكها قوات فاغنير الروسية على الحدود المالية في الوقت الذي كانت تطارد فيه عناصر متطرفة. وتجييش الجزائر لمليشيات إرهابية بهدف زعزعة استقرار أمن دول الساحل، ناهيك عن تسليح البوليساريو بأسلحة ثقيلة لزعزعة الاستقرار في الصحراء المغربية وتخويف المستثمرين. وهي بذلك تحاول إقناع واشنطن بمدى قدرتها على ضرب النفوذ العسكري الروسي والفرنسي في المنطقة لصالح أمريكا.
الهدف الأساسي للتكتيك الجزائري
من خلال ما قدمته الجزائر بين ايدي أمريكا لكسب ثقتها وإظهار عزمها المضي قدما في مخطط تغيير سياستها وخيانة حلفائها، تكون قد بعثت برسالة مشفّرة إلى واشنطن مفادها، أن هيمنة أمريكا سياسيا وعسكريا واقتصاديا على المنطقة بالإضافة إلى إخضاع أوروبا بسلاح الطاقة، يتطلب إفشال المشروع الأطلسي المغربي من خلال خطوتين:
- الأولى: تعطيل حل ملف الصحراء المغربية، حتى لا يكون للمغرب امتداد على دول إفريقيا. ويشار في هذا الصدد إلى أن ألمانيا قامت هذا الأسبوع بضخ ميزانية مهمة لدعم بقاء قوات "المينورسو" في المنطقة، ما يؤشر لخطوة سياسية خبيثة ومدروسة هدفها إطالة وضع "الستاتيكو" في المنطقة. وما يؤكد حقيقة هذه الطبخة المسمومة قرار أوروبا حضور البوليساريو للمؤتمر الأورو – إفريقي الذي سيعقد بعد أيام في بروكسيل، بزعم أن أوروبا لا تعترف بالبوليساريو، لكن حضوره يتعلق بقرار من الاتحاد الإفريقي.
- الثانية: قطع الطريق على أنبوب غاز نيجيريا – المغرب - أوروبا، واستبداله بأنبوب غاز نيجيريا – النيجر – الجزائر - أوروبا. لأن مثل هذا المشروع من شأنه أن يجعل من الجزائر المزود الرئيس للغاز في المنطقة، الأمر الذي سيخضع أوروبا لسياسات واشنطن، وفي نفس الوقت يزيح ورقة الغاز الروسية كوسيلة ضغط على الدول الأوروبية.
وحيث أن مشروع أنبوب غاز نيجيريا – المغرب – أوروبا، ستستفيد منه 14 دولة إفريقية، بالإضافة إلى أن المشروع الأطلسي سيساهم في إقامة نموذج تنموي مستدام لتحرير دول إفريقيا من الاستغلال، وانتشال شعوبها من الفقر والتخلف، فإن محاولة الجزائر الخبيثة عرقلة هذين المشروعين سيدخل المنطقة في صراعات دموية سيترتب عنها حتما هجرة جماعية، بالإضافة إلى تكاثر الميليشيات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود. وستكون بالتالي أوروبا هي المتضرر الأكبر من هذا المخطط الخطير.
ما من شك أن المغرب يدرك خطورة ما يطبخ في الخفاء، ويتبين من سياسته الحكيمة أنه لا يضع بيضه في سلة واحدة، وأن مقاربته للعلاقات الدولية تقوم على معادلة رابح - رابح، بما يعنيه ذلك من أن المغرب يفكر سياسيا بالمنطق الاقتصادي الجديد، فيما الجزائر تفكر بمنطق الأحلاف العسكرية القديم، جاهلة أو متجاهلة أن واشنطن لن تستبدل حليفها التاريخي الموثوق بحليف هجين وخائن، حتى لو طبّع نظام العسكر الجزائري مع إسرائيل كما ألمح لذلك دمية العسكر "تبون" في تصريح له بالقول: "إن الجزائر ليس لها مشكلة مع إسرائيل، ومستعدة للتطبيع معها في حال اعترفت الأخيرة بدولة فلسطين". وهو تصريح لذر الرماد في العيون، لأنه يُحضّر لنقلة نوعية تنتهي بالتطبيع دون اعتراف ولا من يحزنون. كما وأن عسكر الجزائر يجهلون أو يتجاهلون من غبائهم، أن من يصنع السياسة في إسرائيل وواشنطن هم يهود مغاربة يحبون وطنهم، ويتشبثون بملكهم، ومستعدون لقلب الطاولة على كل من يفكر في أديّة بلدهم.
ناهيك عن أن للمغرب حلفاء أقوياء وأوفياء في الخليج، كالسعودية والإمارات والأردن والبحرين، وواشنطن ليست غبية لتضحي بمصالحها الحيوية في الشرق الأوسط، وتقامر بضياع استثمارات بتريليونات الدولارات في الاقتصاد الأمريكي، وتنقلب على المغرب لأجل هوس الجزائر للتربع على عرش المنطقة كقوة إقليمية مضروبة. هذا مستحيل.. وإن كان صهر ترامب الأمريكي من أصول لبنانية، والذي عيّنه ترامب مستشارا كبيرا للشرق الأوسط وإفريقيا، سبق وأن لمّح إلى إمكانية عقد اتفاق بين المغرب والجزائر وأخذ مطالب ساكنة مخيمات تندوف بالاعتبار في مخطط الحكم الذاتي المجمع تنزيله في الصحراء المغربية، وهو التصريح الذي يُستشف منه نية توجّه واشنطن نحو اللعب على التناقضات وإدارة الخلافات من أجل ممارسة مزيد من الضغوط والابتزاز على كل الأطراف وفق ما يقتضيه منطق القوة والمصالح الذي يقوم على مبدأ "أمريكا أولا" وبعدها الطوفان.
نقول هذا لأن روسيا ليست لقمة صائغة يمكن قضمها، وفرنسا ليست قوة ناشئة يمكن هزيمتها، وأمريكا تدرك ذلك وتحسب له وللصين ألف حساب، ولا ترى من مصلحتها المقامرة بمصالحها الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أجل عيون عسكر الجزائر. ومن المؤشرات التي تؤكد هذا التوجه:
- دخول واسنطن على خط تمويل مشروع أنبوب الغاز النيجيري – المغربي، أما استحالة تنفيذ أنبوب غاز نيجريا الجزائر عبر النيجر بسبب الخلافات الخطيرة والكبيرة القائمة بين الجزائر ودول الساحل من جهة، ومخاطر الجماعات الإرهابية التي تنشط على الحدود جنوب الجزائر.
- ضخ أمركا لاستثمارات مهمة في عديد المجالات بالمغرب، فلاحية، وصناعية مدنية وعسكرية، بما في ذلك صناعة ذرة التاج الأمريكي طائرة (F-16 Fighter) المتطورة. ويكفي التذكير بالمناسبة، أن حتى إمارة قطر التي وقعت مع أمريكا عقدا لتوريد 160 طائرة بوينغ بمبلغ 200 مليار دولار، تدرك قبل غيرها أن جزءا مهما من هذا المبلغ سيستفيد منه المغرب، ما دامت شركة بوينغ تُصنّع عديد مكونات طائراتها في المغرب.
أما على المستوى الجيوسياسي، فإن جولة ترامب في الشرق الأوسط ولقائه مع كل من ولي عهد السعودية وأمير دولة الإمارات العربية اسفر عن مجموعة قرارات ستغير وجه منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لعل أبرزها:
- خروج سوريا ولبنان بصفة نهائية من محور إيران، وعودتهما إلى الحضن العربي السعودي.
- نهاية التحالف الإخواني الإيراني في إطار ما يسمى بـ "محور الممانعة" بعد أن باعت إيران حلفاءها لإسرائيل مقابل حماية نظامها والحفاظ على مصالحها. وهذا يعني أن الدعم السياسي والمالي والعسكري الذي كانت جماعات الإخوان يتلقونه من واشنطن وقطر وتركيا زمن "براك أوباما" والوزيرة "كلينتن" قد ولّى وانتهى، ولم تعد أمريكا في عهد ترامب ترغب في وصول الإسلامويين إلى الحكم في المنطقة. لا في المشرق ولا في شمال إفريقيا. وبالتالي، فلا أمل لإخوان بن كيران في العودة إلى الحكومة في المغرب من خلال الانتخابات القادمة سنة 2026. الأمر الذي يقتضي تدخل القصر لتغيير الخريطة السياسية وشروط اللعبة الديموقراطية من جديد، حتى لا يلعب حزب الإسلامويين على ورقة الشارع مستغلا في ذلك الخطابات الشعبوية التحريضية.
- إنقلاب تركيا وقطر على الإخوان من خلال قبولهم بالشرع رئيسا لسوريا الجديدة، وتحالفهم مع المملكة السعودية وأمريكا من أجل حفط الأمن والاستقرار في المنطقة والتركيز على مشاريع التنمية التي تعود بالفائدة على دول وشعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
- انخراط السعودية وسوريا ولبنان وليبيا والجزائر في مسلسل التطبيع مع إسرائيل في إطار البيت الإبراهيمي، بعد اعتراف أمريكا بدولة فلسطين منزوعة الأسنان وترحيل ما يناهز مليون فلسطيني من غزة إلى ليبيا مقابل رفع العقوبات عن ليبيا، وإعادة مليارات الدولارات التي جمدتها واشنطن زمن القذافي إلى خزينة الدولة، وإتاحة المجال لحفتر كي يسيطر على الحكم في طرابلس. وهو ما تم بسرعة ما أدى إلى تحرير العاصمة وهروب رئيس الحكومة الصورية عميل الجزائر عبد الحميد الدبيبة من طرابلس الي مصراتة ومن هناك إلى الجزائر.
وإذا كان هدف العسكر في الجزائر هو استدراج أمريكا للتحالف معهم ضد المغرب وروسيا وفرنسا مقابل التحكم في الطاقة والاقتصاد في شمال إفريقيا ودول الساحل بالإضافة إلى إخضاع أوروبا، فقد أخطأوا القراءة، ولم يفهموا ما الذي تعنيه المؤشرات الجيوسياسية الجديدة. لأن النظام الدولي الجديد الذي هو في طور التشكل لا يقوم على الأحلاف العسكرية، بل على السلم والأمن وتجذير المنطق الاقتصادي بدل منطق الأحلاف العسكرية. بدليل أن وعود ترامب الانتخابية روجت لعقيدة أمريكا الجديدة التي ترفض الحرب، وما تهديده بقطع التمويل عن حلف الناتو حتى لا ينعم القادة الأوروبيين بالراحة على حساب واشنطن إلا دليل على أن أمريكا لم تعد ملتزمة بالدفاع عن أوروبا القديمة.
وعلى ضوء هذه التوازنات الجديدة، فإن ما يوفره المغرب وحلفاؤه في شمال إفريقيا ومنطقة الخليج العربي لأمريكا وروسيا والصين، لا تملك منه الجزائر شيئا يذكر غير طوابير الجوع والعطش ومظاهر الفساد والإرهاب، ولن يغير من معالم النظام الدولي الجديد الذي يرتسم في الأفق شيئا، حتى لو قدم عسكر الجزائر لواشنطن كل مخزون بلادهم من الطاقة والمعادن.
استراتيجية المغرب تجاه أوروبا
وحيث أن المغرب لا يمارس التكتيك في السياسة كما تفعل الجزائر وبعض الدول الأوروبية، بل له رؤية مستقبلية متينة، وخطط استراتيجية قويمة، ومشاريع جيواستراتيجية، فلن يضل صامتا، ولا مكتوف الأيدي تجاه ما يحاك ضد مصالحه من قبل أوروبا.
وبما أن أوروبا لا زالت تلعب على حبال التناقضات، وتسعى إلى ابتزاز المغرب من مدخل صحرائه، ما دامت ألمانيا تهدف من خلال تمويل بعثة المينورسو إلى تأبيد النزاع، وما دامت إيطاليا مقابل الغاز ومشروع الربط الكهربائي القاري مع الجزائر أصبحت تدافع عن خطط العسكر التخريبية في المنطقة، وما دامت بروكسيل بقبولها لحضور البوليساريو لمؤتمر "أوروبا - إفريقيا" الذي سينعقد خلال الأيام المقبلة، تهدف إلى عرقة جهود طي ملف الصحراء بشكل نهائي برغم أن البوليساريو منظمة إرهابية. وما دامت إسبانيا تعمل على عرقلة صادرات المغرب الصناعية خصوصا في مجال السيارات ومكوناتها الأساسية لأنها تنافس صناعاتها، وقد زاد سُعارها وتكثفت جهودها التحريضيّة ضد المغرب في أوروبا، خصوصا بعد أن اختارت الصين الاستثمار في المغرب بدل إسبانيا، وقررت نقل مصنع ينتج 12 مليون عجلة من إسبانيا إلى المغرب ردا على التضريب الجمري الذي فرضته أوروبا على العجلات الموردة من المغرب. ناهيك عن نجاح مهندسين مغاربة في صنع أول محرك سيارة بالكامل في مصنع القنيطرة، الأمر الذي لم تنجح في إنجازه إسبانيا طوال مسيرتها الصناعية.
وما دامت أوروبا تعمل على عرقلة مشاريع التنمية المغربية في إفريقيا، في الوقت الذي تعيش فيه أزمات إقتصادية كبرى، ومشكلة القوميات في كل من بلجيكا وهولاندا وإسبانيا، فقد آن الأوان ليُذكّر المغرب أوروبا بسلبيات سياساتها التي ستنعكس على أمنها واستقرار مجتمعاتها، بل وعلى اقتصادها أيضا، وذلك من خلال التخلي عن حماية حدودها الجنوبية من هجرة الأشقاء الأفارقة الفقراء، ومن تسلل الإرهابيين الذين تمولهم الجزائر من منطقة الساحل إلى أوروبا عبر سبتة ومليلية، ومن عصابات الجريمة المنظمة العابرة للحدود عبر مضيق جبل طارق. بالإضافة إلى البحث عن أسواق جديدة تصدر إليها السلع والمنتجات المغربية بدل السوق الأوروبية، لتدفع بروكسيل في النهاية، ثمن التحالف مع الجزائر مقابل الريع والوعود بالتزود بالطاقة بأسعار رخيصة.
ويكفي المغرب اليوم أن روسيا تصطاد السمك في المياه الإقليمية لصحرائه، والصين تستثمر المليارات في الصناعة المغربية، بالإضافة إلى استثمار إسرائيل في الغاز بالصحراء، واستثمار بريطانيا في غاز الشرق والشمال، ناهيك عن أمريكا ودول إقليمية كبرى لها وزنها في السياسة وثقلها في الصناعة، ككوريا والهند واليابان والبرازيل وغيرها من الدول التي اختارت المغرب كقبلة للاستثمار والتجارة، بفضل موقعه الجغرافي الجيواستراتيجي، وقيادته الحكيمة، وسياسته الاقتصادية المنفتحة، واستقرار أوضاعه الاجتماعية، وبنيته التحتية المتطورة، ومشاريعه الضخمة الواعدة، ناهيك عن خيرات أرضه وبحاره، ومخزونه الكبير من المعادن النفيسة، ومستوى عطاء شبابه المبدع والمنتج الذي حقق المعجزات، ويفاجئ العالم كل يوم باختراع جديد بفضل سياسة التكوين الخاص الذي انتهزها العاهل المغربي بديلا عن التعليم العتيق الذي لم يعد له مكانا في سوق الشغل المتطورة.
لهذا وغيره، فإذا كان العسكر في الجزائر يسعون لتحقيق بعض النقط بالتكتيك، فإن المغرب يمضي قدما بخطى عملاقة وثابتة بفضل الرؤية الحكيمة لعاهله، والتخطيط الجيواستراتيجي والماكرواقتصادي الذي يهدف لحماية أرضه، وتقدم شعبه، وتنمية شعوب المنطقة.
وعلى هذا الأساس، فلينتظر كابرانات الجزائر الزلزال القادم الذي سيهز أركانهم المتداعية من روسيا وفرنسا وخلفاؤهما في المنطقة. لأن مخططا خبيثا كالذي تدبره بليل دولة هجينة كالجزائر، لا يمكن أن يمر مرور الكرام على دول عظمى وعريقة كروسيا وفرنسا، ناهيك عن دول المنطقة التي تجد نفسها متضرر من مؤامرات نظام العسكر البليد، والتي لا تنتهي إلا لتبدأ أخرى، في محالة مستميتة دائمة لعرقلة جهود تنمية شعوب أفريقيا.
وإنّ غدا لناظره قريب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق