مقـــال دينـــي: يستدل التُّراثيون على وجوب اتّباع سنّة الرسول عليه السلام بمجموعة من الآيات الآمرة، منها على وجه الخصوص: قوله تعالى في الآية 7 من سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}. وقوله تعالى في الآية 80 من سورة النساء: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. وقوله تعالى في الآية 59 من سورة النساء: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} .../...
هذه الآيات التي تتحدث عن طاعة الرسول تُعتبر من المُتشابهات، لأنها لم تبيّن فيما تجب طاعته: هل فيما بلّغه عن ربّه حصريّا؟.. أم فيما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير كما يقول التراثيون؟.. أم فيهما جميعا؟.. الأمر الذي يفسح المجال واسعا للخلط بين كلام الله وقول البشر، ما دام الكلام هو كلام الله، فيما القول هو قول محمد الإنسان الذي لم ينتهي كلامه بوفاته، بل ظل يتكلم على لسان التراثيين قرونا بعد ذلك. ما أتاح للكهنوت وضع الأسس النظرية والقواعد العملية لدين جديد يعتبر نسخة مشوهة إلى أقصى الحدود عن دين الله السّمح الجميل.
وواضح أن القطبة المخفية في المنظومة التراثية التي تخلط بين الدّين والتديّن، بين الحقيقة الإلهية الكامنة في كمياء النص المقدس، والفهم البشري النسبي الذي ينتجه العقل بشأنها، تكمن في مفهوم الرسول كما بيّنه القرآن الكريم، والذي يُوضّح بجلاء مفهوم الطاعة والإتباع المنصوص عليهما في الآيات الكريمة السّالفة الذّكر. من هنا تنبع شرعيّة السؤال عن ماهية الرسول المُحدِّدة لوجوب الإتباع كما أمر بذلك صاحب الدين في التنزيل الحكيم:
- هل هو محمد المُرسل بالقرآن الكريم ليكون رحمة للعالمين كافة في كل مكان وزمان؟.. أم محمد النبي المبعوث لقومه في زمانه؟.. أم محمد القائد؟.. أم محمد القاضي؟.. أم محمد الإنسان الذي يمشي في الأسواق ويأكل الطعام؟.. أم كل ذلك وأكثر مما جاء في أدبيات التراثيين، بغض النظر عن عامل الزمكان وسنن التّطوّر والتّبدّل والتّغيّر؟..
ولأن المُتشابه من القرآن لا يُفهم إلا بإرجاعه إلى مُحكمه كما تقول القاعدة القرآنية المنطقيّة. ولأن القرآن يفسر بعضه بعضا كما يقول الرسول الأعظم عليه السلام. فقد كان لزاما أن أبدأ رحلة البحث عن المعنى من خلال الآيات التي ذُكر فيها الرسول في القرآن الكريم، مع مراعات اختلاف السياقات للتمييز بين المُحكم والمُتشابه.
وبعد رحلة طويلة في بحر المعاني تتقاذفني أمواج اللاّ يقين بقوة رياح أنفاسي، وصلت إلى برّ الأمان حيث يرسو المعنى الثابت والوحيد للمصطلح، والذي لا يستطيع الوصول إليه برغم وضوحه، إلا من خاض تجربة السباحة المُتسكّعة في أعماق النص، حيث الهدوء والسكينة ووضوح الرؤية بعيدا عن السطح، حيث الزّبد الذي تثيره عواصف التيارات المذهبية والفكرية، فيذهب جفاء كلّما اصطدم بشاطئ الحقيقة.
كنت مقتنعا بصوابية التعريف اللغوي للكلمة والذي يقول بأن "الرسول" كلمة مشتقة من "ر س ل": ومنها "الرِّسالة" التي هي القرآن، و "المُرسِلُ" الذي هو الله، و "الرَّسُولُ" الذي هو محمد الذي اصطفاه الله، و "المُرسَلَةُ إليهم الرِّسَالة" وهم العالمين كما يؤكد صاحب الدّين في خطابه للناس كافّة.. وكنت مدركا أيضا، أن "الرَّسول" في الاصطلاح الديني هو من يبعثه الله لأمته برسالة سماوية تتضمّن شريعة، فيما النبّي هو من يبعثه الله في قومه ليذكرهم بشريعة الرسول الذي قبله.. لا خلاف حول هذا المعنى، لكن الخلاف يكمن في معرفة إن كانت هذه الرسالة بما تمثّله من شريعة تقتصر على وحي السماء أم تتجاوزه لما هو أبعد من ذلك كما حدث من التوراة والإنجيل اللّتان اختلط فيهما شرع الله بشريعة الكهنوت؟..
ولأن القرآن نصّ صالح لكل مكان وزمان فلم يكن من المقبول القول مثلا، إن الرسول قد سبق وأن فسّره كما أوهم الفقهاء العامّة بذلك، فسقطوا في التناقض، لأن تفسير الرسول للقرآن لو كان حصل فسيجعل منه حتما نصّا مُغلقا. وبالتالي، ما كان للمفسّرين أن يقوموا بتأليف ما يزيد عن 180 مصف يفسّر القرآن الكريم، ولما قال التراثيون أن القرآن يحتاج إلى سنّة تبيّنه، وتفسّره، وتكمله، كما لو كان نصّا ناقصا، والله تعالى يقول: أنه ما فرّط في الكتاب من شيء، وجاء تبيانا لكل شيء، وأنه كتاب أُحكمت آياته ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير، وأنه أكمل للناس دينهم وأتمم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا.. تعالى الله عما يصف الجاهلون.
وهنا يجب أن أعترف، أن من أخطر الآيات التي قرأت ذات فجر جميل، فغيّرت قناعاتي، وقلبت حياتي رأسا على عقب، حين أدركت بفضلها الطريق في الله التي ليس لها نهاية لأنها طريق المعرفة التي يتيحها القرآن الكريم بلا قيود ولا حدود، بخلاف الطريق إلى الله التي تبدأ بانتهاء أمد التجربة الدنيوية ساعة الموت وانتقال النفس لتعيش الخلود في عالم ما وراء البرزخ في النعيم اللاّ مادّي أو العذاب المعنوي في انتظار الساعة. هذه الآيات البيّنات هي التي جاء ذكرها كالتالي:
يقول تعالى في الآية 134 من سورة طه: - {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ}.
- ويقول تعالى في الاية 47 من سورة القصص: - {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
وواضح أن هاتين الآيتين الكريمتين تُؤكدان على وحدة المعنى المحوري برغم اختلاف السياق، حيث يشير تعالى إلى أنه لو أهلك المشركين قبل بعثة محمد عليه السلام لحاجّوه يوم القيامة بقولهم: {لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}، ولأن الله ليس بظلام للعبيد فقد أرسل إليهم الرسول بالقرآن ليتبعوا آياته - لا سنّة رسوله المتمثلة في أقواله وأفعاله وإقراره - فيكونوا بالتالي من المؤمنين، ويتجنبّوا الذل في الدنيا والخزي في الآخرة. لذلك قال تعالى في الاية 156 من سورة النساء: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
ويتبيّن من مبنى ومعنى الآيتين الكريمتين (طه: 134 والقصص: 47)، أن الهدف من بعثة الرُّسل هو إتباع آيات الله لا أقوال وأفعال المبعوثين الذين هم في النهاية مجرد بشر مُؤتمنين على تبليغ الرسالة السماوية دون زيادة أو نقصان، ولا يحق لهم بأي وجه من الوجوه التشريع مع الله، لأنه تعالى لا يشرك في حكمه أحدا كما يؤكد في التنزيل الحكيم.
وبالتالي، فإصرار الكهنوت على القول بأن الآيات التي أوردناها في مطلع هذا المبحث تأمر المسلمين باتباع الرسول وطاعته في كل ما صدر عنه من قول أو فعل أو إقرار، بل وحتى ما صدر عن الخلفاء والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، هو افتراء على الله ورسوله، وكفر بآياته التي أوضح تعالى ضرورة اتباع ما جاء فيها باعتباره كلام الله وحديثه، ولم يرد في الذكر الحكيم ما يشير إلى حديث رسوله، لقوله في الاية 87 من سورة النساء: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}. وقوله تعالى في الاية 6 من سورة الجاثية: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ}.
وما يقطع الشك باليقين بالنسبة للمعنى الذي ذهبنا إليه أعلاه، هو قوله تعالى في الاية 3 من سورة الأعراف: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}. وقوله في الاية 67 من سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
لكن مع ذلك، وبرغم كل ذلك، يصرّ الكهنوت على أن من لا يؤمن بدينهم ويتبع سنّتهم يُعتبر كافرا خارجا عن الملّة والدين. هذا علما أن الله تعالى يقول بصريح العبارة، أن كل من يتبع حديثا غير ما ورد في التنزيل الحكيم، يكفر حكما بآيات الله فيضل ضلالا بعيدا. وبالتالي، فالضالين وفق المفهوم القرآني ليسوا هم النصارى الذين قالوا إن المسيح عيسى ابن الله فحسب، بل والتراثيون ومن تبعهم أيضا، ما داموا يكفرون بآيات الله ويؤمنون بأحاديث البشر ويتخذون أولياءهم اربابا من دون الله.
نخلص مما سلف، إلى أن الهدى الموجب لرحمة الله في الدنيا والآخرة لا يوجد إلا في آيات الله، لا في أقوال وافعال السّلف الذي لم يكن كلّه صالحا. والعبرة كما أوضحها الحق في القرآن الكريم تكمن في أن ما أصاب القرون الأولى من مصائب وكوارث، إنما كان بسبب كفرهم وفسوقهم وإصرارهم على اتباع ما ألفوا عليه آبائهم من ضلال بدل اتباع ما جاء به الرسل من حق من ربّهم. بدليل قوله تعالى في الاية 96 من سورة الأعراف: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}.
وعليه، فإذا كان ما أصاب المسلمين حتى الآن من مصائب في الدنيا بسبب هجرانهم لدين السماء وإصرارهم على اتباع دين الفقهاء إلا من رحم الله، فالمصيبة الحقيقية كما توعّد بها الحق تعالى في أكثر من آية وسورة، تكمن فيما ينتظرهم في الآخرة. بدليل أن الرسول الكريم الذي تقوّلوا عليه ما لا يليق به، ونسبوا إليه ما لا تحتمله مُهمّته، وما لا يستقيم دينا وعقلا من اقوال وافعال باسم سنّة مزوّرة تتعارض مع التنزيل الحكيم لجهة المضمون.. سيتبرّأ منهم يوم القيامة بشهادة مزلزلة تقشعر منها الأبدان، حيث سيجيب الحق تعالى حين يسأله إن كان هو من أمر أمّته باتباع سنّته بدل آيات الله، فيقول وفق ما ورد في الآية 30 من سورة الفرقان: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}. رفعت الأقلام وجفّت الصحف. والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو:
- أين نذهب في الدنيا من هنا؟.. ثم كيف سنهرب بعد الموت من هذا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق