1. مقدمـــة
مقال ديني: تشكل ثنائية الجبر وحرّية الإختيار إحدى القضايا الجوهرية التي شغلت فكر الإنسان منذ أن عرف الأديان ولا يزال. وفي ظل تعدد الإيديولوجيات الدينية والرؤى الفلسفية، يبقى القرآن الكريم مصدراً غنياً لتفسير مثل هذه المسائل الشائكة التي تطرح على العقل المسلم، حيث يتناولها النص المقدّس من منظور شامل يجمع بين الحقائق الروحانية والمنطق العقلي. تستعرض هذه المقدمة السياقات المختلفة التي تبرز أهمية هذه القضية في الفكر الإسلامي، مستفيدة من المقارنة التي يمكن إجراءها بين المرويات التي تعكس طبيعة العقل التراثي المدرسي المغلق من جهة، وبين النصوص القرآنية التي تعكس عمق التصور الإسلامي التحرّري من منظور الخالق لمعادلة: (الله – الإنسان – العالم) من جهة أخرى.../...
والغريب في الأمر، أن الذين يستشهدون بالمرويات التراثية النقلية التي تغيّب إعمال العقل في مثل هذه القضايا المصيرية، يتجاهلون عن عمد وسبق إصرار قول الرسول عليه السلام وفق رواية الصحابي المشهور أبي سعيد الخضري الذي شهد معارك مهمة مثل أحد والخندق وبيعة الرضوان وأصبح بعد ذلك مفتي المدينة، ومفادها: (قال رسول الله عليه السلام: لكل شيء دعامـة ودعامـة المؤمن عقله، فبقدر عقلـه تكون عبادتـه، أما سمعتهم قول الفجار في النار: {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}؟. وهذا دليل يتوافق مع القرآن حول مسؤولية الإنسان عما كسبت يداه، بدليل شهادة الكفار على أنفسهم في النار، لأنه لو كان الأمر غير ذلك لاتهموا الله سبحانه وتعالى بأنه هو من كتبهم من الأشقياء.
وفي هذا الصدد، يركز القرآن الكريم على حقيقة مركزية مؤدّاها أن وجود الإنسان ليس عشوائيًا، بل هو مقصود ومخطط له بشكل يهتم بالنفس الإنسانية وتطورها في فضاء التجربة الدنيوية بفضل رقيها في مجالات المعرفة. في هذا السياق، يفسح الخطاب القرآني المجال للبحث في الأسئلة الوجودية التي تتعلق بأصل الخلق، ومعنى الحياة، والغاية منها، وسر الوجود ذاته. كما تحتل فكرة المصير بعد الموت مكانة محورية، حيث يُشير القرآن إلى مفهوم الحساب والجزاء كتقييم لحصيلة التجربة الأرضية، مما يعكس رؤية قائمة على العدل الإلهي. يتسم هذا العدل بشموليته، حيث يمتدّ إلى جميع الأعمال، كبيرها وصغيرها، كما ويشمل كل فرد دون استثناء، مؤكدًا على تحميل الإنسان مسؤولية أفعاله، لقوله تعالى في الاية 38 من سورة المدثر:
- {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}.
إن الاتجاه التحليلي الذي ينتهجه القرآن في تناول مسألة الجبر وحرية الإختيار يوفر إطارًا غنيًا لفهم طبيعة الحياة ودورها في تحقيق الغايات الروحية. من خلال استقصاء النصوص القرآنية، نسعى إلى تحليل كيف يعكس القرآن الكريم هذه القضايا بطرق متعددة، وكيف يمكن أن تُستثمر هذه الرؤى في التعامل مع تحديات العصر الحديث. وبذلك، يَبرز النص القرآني كمصدر للإلهام والتوجيه، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالغاية من الوجود، الأمر الذي يحث الإنسان على التأمل العميق والتفكير الدقيق في المصير الذي ينتظره بعد الحياة الدنيا.
2. ماهية الله وطبيعة الوجود في القرآن الكريم
لم يرد في القرآن الكريم مصطلح الوجود بمعناه الأنطولوجي، لكن ورد مصطلح النور الذي يفيد نفس المعنى، لكن بشكل أوسع يتجاوز الظواهر المادية إلى الروحانية، فيعالجها في سياق المنظور الأزلي الغيبي، فالتاريخ الكوني بمفهوم الزمن الدنيوي النسبي، فالفضاء القدساني الذي هو من مجال المدى اللا متناهي، وذلك انطلاقا من الأزل، مرورا بالوجود الأرضي، ثم الخلود في الحياة البرزخية بعد الموت، وانتهاء بالأبدية بعد الحساب يوم القيامة. ولأن الله هو الوجود كله من عرشه إلى فرشه، ولا موجود في الوجود لموجود سوى واجب الوجود من دون أن يكون موجود معه أو من خارجه شيء على الإطلاق، وفق ما يعطيه مفهوم شهادة (لا إله إلا الله) التي هي تأكيد بعد نفي، فالمصطلح الوحيد في القرآن الكريم الذي يفيد هذا المعنى الشامل والمطلق هو النور، لقوله تعالى في الاية 35 من سورة النور:
- {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وبما أن لا شيء يشبه الوجود غير الوجود، فكذلك لا شيء يشبه النور غير النور، لقوله تعالى في الآية 11 من سورة الشورى:
- {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
فالرّسم "كاف" الوارد في الآية الكريمة أعلاه، ليست أداة زائدة بلا معنى كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين، لأن الله سبحانه مُنزّه عن الحشو والكلام بلا معنى. وبالتالي، فإن "الكاف" بالتعريف اللغوي تمثل في العبارة ضمير يعود على النور الذي ليس كمثله شيء. والغريب في هذا التعبير البلاغي، أن الله تعالى لم يقل: "ليس مثله شيء" لينفي عنه المثل بالمطلق، بل قال {ليس كمثله شيء}، ليشير إلى كنه ذاته باعتباره نور الأنوار ومنبع كل الأنوار التي تصدر عنه. بدليل أن الله عرّف نفسه بأنه نور السماوات والأرض كما سبق القول. والعجيب أن النور لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، كما أنه لا يتحيز في المكان ولا يسري عليه زمان، وأينما ولّى الإنسان وجهه فتم وجه الله بمعنى نوره، وهو سر الحياة الذي يتجلى في كل الكائنات الظاهر منها والباطن. وغيرها من الآيات التي تدل على ماهية الله ذاتا وموضوعا، والتي سنأتي على تفصيل القول فيها في مبحث آخر إن شاء الله.
وعليه، يُعتبر فَهم الوجود في إطار مفهوم النور، انعكاسا لرؤية متكاملة تمثل الطبيعة الوجودية للعالم والبشر معا وفق معادلة (الله – الإنسان – العالم) المذكورة أعلاه. ما دام النور هو أسم الله الأعظم بالمفهوم القرآني، كما أن الوجود هو اسمه المطلق بالمفهوم الفلسفي، وأحيانا يفضل البعض كفولتير مثلا تسمية الله بالطبيعة التي هي عين الوجود، وهو ما ذهب إليه سبينوزا أيضا. بهذا المعنى، يُعدُّ القرآن الكريم مصدراً غنياً لفهم الأسس التي تُبنى عليها الحياة والكون، حيث يقدم تصوراً معرفيا للوجود بمعناه الاصطلاحي في حدود إدراك العقل البشري. لأنه من خلال النصوص القرآنية، يتجاوز مفهوم الوجود مجرد الوجود الفيزيائي المادي، نحو أبعاد أعمق تتعلق بجوهر الإنسان، ومعنى الحياة، والغاية منها، وهو ما يعبّر عنه النور بدقة متناهية ما دام هو أصل الطاقة المنتجة للمادة. لذلك، يُعتبر الوجود بهذا المفهوم الشامل نتاجاً للتوجيه الإلهي، حيث يُكشف من خلاله عن علاقة الإنسان العمودية بالخالق، وعلاقته الأفقية بالعالم، باعتبار الإنسان وسيط بين الإثنين (الله والعالم). هذه العلاقة تُبرز الروحانية كجزء لا يتجزأ من الوجود المادي.
أما بشأن الإنسان، فيقدم القرآن بوضوح فكرة الخلق بمفهوم الأزلية التي تعني خلق النفس الإنسانية قبل المستودع المادي (القالب أو الجسد) الذي ستسكنه أو ستتزوجه بالتعبير القرآني لتخوض فيه وبه تجربتها الدنيوية. يتجلى ذلك بوضوح في الآية 172 من سورة الأعراف، حيث يُشار إلى أن النفوس قد وُجدت قبل خلق الأجساد. يتصل هذا المفهوم بمسألة المصير والوجود الدائم، مما يُثير الذهن حول طبيعة النفس البشرية وماهية وجودها الأسمى الذي يمضي دون انقطاع وراء العوالم المادية المتحوّلة باستمرار. تتجلى الأبعاد الروحية والمعنوية في التصور القرآني، حيث يُنظر إلى الإنسان ككائن لا يقتصر على التجارب الزمكانيّة، بل كنفس خُلقت لتتفاعل مع الأبعاد الروحانية الخفيّة للوجود المطلق حيث ينتفي الزمان والمكان، ليتيح المجال للفضاء حيث تسبح الكائنات في انتظار أن يأتيها الدور.
3. الإنسان مخلوق مادي قديم، وكائن نفسي أزلي في علم الله العظيم
يقول تعالى في الاية 172 من سورة الأعراف:
- {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ}.
في هذه الآية الكريمة. يخبرنا تعالى أنه قبل خلق الخلق على الصورة التي سيخوضون بها تجربتهم الحياتيّة. أخرج من فصيلة آدم ذرّيتهم كلّها من أولها إلى آخرها. بمعنى، أنه أوجد الأنفس من نور قبل خلق أجسامها من تراب. وذلك في عالم الذر والأنوار العلوية، ليخيّرها تعالى بين القبول به كربّ لها، أو العودة إلى العدم من حيث أتت حين لم تكن شيئا مذكورا. وفي حال قبولها اشترط عليها خوض التجربة الدنيوية لإثبات إيمانها والتزامها بميثاقها مع ربّها وإخلاصها في عملها. وهي إشارة لطيفة تفيد أن الله تعالى حين اجتبى فصية آدم الإنسان الأخلاقي المتطور. فَلِيَحُلَّ مَحلَّ فصيلة الكائنات البدائيّة المتوحّشة التي كانت تسفك الدماء وتفسد في الأرض. وبالتالي. فالله لم يجتبي سلالة آدم الإنسانية لتكون خليفة له في الأرض كما زعم رجال الدين. لأن الله حاضر لا يغيب، قائم على ملكه، يدبر شؤون الكون والخلق في كل وقت وحين. والخلافة لا تصح في حال الحاضر الذي لا تتأخذه سنة ولا نوم، بل فقط في حال الغائب.
ومعلوم أن مصطلح "ذُرِّيَّتَهُمْ" الوارد في الآية الكريمة مشتق من الجذر "ذرّة"، ونفس الشيء يقال كذلك عن النفس التي خلقها الله تعالى من "ذرّة" كما يوضّح القرآن، أي من خليّة أولى انقسمت ثم تكاثرت فانتشرت لقوله تعالى في الآية 1 من سورة النساء:
- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}.
والبثُّ يعني الانتشار. ويشار بالمناسبة إلى أنه لا يوجد في ذلك تعارض يذكر بين العلم والدين، بل هناك توافق ولا نقول تطابق، نظرا لأن الحقيقة القرآنية تابثة فيما الحقائق العلمية متغيّرة أحيانا.
ولأن الذَّرَّةَ بالتّعريف العلمي هي الخليّة التي تحتوي في نواتها على الصِّبغِيات التي توجد فيها الجينات الوراثية، بالإضافة إلى شيفرة الغرائز الطبيعيّة المشتركة بين جميع المخلوقات، وشيفرة الفطرة التي كتبها تعالى في سجلّ تكوينها بعد أن أدّت شهادتها حضوريا أمام الله في قيامة أولى، حيث اعترفت بربوبيته لها قبل خلق الكون وفق ما تؤكده الآية الكريمة 172 من سورة الأعراف. لأن الله ما خلق الكون إلا ليكون مُسَخَّرا لخدمة الإنسان، وهو الأمر الذي لم ندرك حقيقته بعد، لأن الإنسانية لا زالت تعيش مرحلة المراهقة ولمّا تبلغ مرحلة النضج، ما دام عمر فصيلة آدم الإنسان العاقل لم يتجاوز سبعة آلاف سنة، في حين أن عمر فصيلة البشر البدائي المتوحش المنقرض عاشت في الأرض زهاء خمس مليون سنة، ومنها اصطفى تعالى آدم وذريته. كل ذلك مقارنة باليوم الفيزيائي للتدبير الإلهي لشؤون خلقه من خلال الملائكة، والمقدر بخمسين ألف سنة بمفهوم الزمن الأرضي وفق منطوق الآية 4 من سورة المعارج. وبالتالي، فإذا كان عمر فصيلة آدم الإنسان الأخلاقي هي 7 ألف سنة، فأين نحن من قيام الساعة ولمّا ينتهي بعد يوم واحد من تدبير الله لشؤون خلقه والمقدر بخمسين ألف سنة بتقويم الزمن الدنيوي النسبي؟.. وهو ما يترتب عنه خلاصة نهائية مفادها: أن كل من يتحدّث من رجال الدّين عن ظهور علامات الساعة وقرب الفناء وحلول القيامة. إنما يهرِفْ بما لا يعرف. ويتدخّل في أمر لا يستوعبه عقله المسطّح.
وبالمناسبة، لدينا دليل آخر حاسم وقاطع، يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الإنسان كائن أزليُّ النفس، قديم الجسد.. ويتمثل في الآية 98 من سورة الأنعام. حيث يقول تعالى:
- {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ}.
في هذه الآية الكريمة، يؤكد تعالى ما سبق وأن ذهبنا إليه من أن الله خلق البشرية جمعاء من نفس واحدة. أي من خليّة أولى في الماء، انقسمت إلى ذكر وأنثى وتضاعفت رجالا كثيرا ونساء كما يؤكد ذلك أيضا في الآية الأولى من سورة النساء السالفة الذكر. ثم ها هو تعالى يفصح لنا هنا عن حقيقة مدهشة أخرى، مكمّلة للحقيقة التي جاءت في الآية 172 من سورة الأعراف. هذه الحقيقة العجيبة تقول: إنّ الأنفس بعد أن خلقها الله في عالم الذر، جعلها تنتظر بالدور أجلها لتخوض امتحان الدنيا، بحيث كلّما حل أجل نفس إلا ونزلت إلى المستقر الذي قرره الله لها، أي إلى الرحم الذي سيتم فيه تكوين المستودع الذي هو الجسد الذي اختاره الله لها لتعيش فيه وبه تجربتها الأرضية، بالدّور أمّة بعد أمّة وإلى أن تقول الساعة. وهذا هو معنى قوله تعالى في الآية 34 من سورة الأعراف:
- {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.
وقوله أيضا في الآية 38 من سورة الرعد:
- {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.
ولعله من نافلة القول التأكيد بالمناسبة أنه ليس للإنسان حرّية في اختيار الرحم الذي سينمو فيه، أو الجسد الذي سيلبسه، أو الزمن والمكان اللذان سيخوض فيهما تجربته الأرضية. لأن ذلك من مقتضيات الاختبار الذي يتحكّم فيه الخالق تعالى دون سواه. والإنسان في الدنيا مثله مثل تلميذ في المدرسة، يتعلّم ليُمتحن في نهاية التجربة. لكن لا يسمح له بتذكّر ما عاشه قبل أن تسكن نفسه جسده، وإلا لآمن الناس كلهم جميعا، ولما كان لامتحان الدنيا وجزاء الآخرة من معنى.
4. هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟
في عالم الذر والأنوار العلوية حيث عقد الله تعالى قيامة أولى أحضر فيها الأنفس البشرية كلها من أولها إلى آخرها كما سبق القول، لم يكن الإنسان مجبرا على خوض التجربة الدنيوية وفق ما يستفاد من نص الآية 172 من سورة الأعراف، بل كان مخيرا بين أن يعترف بالله ربّا ويقبل بخوض امتحان الدنيا بشروط الخالق لينال الجزاء على ما قدمت يداه في الاخرة، أو أن يرفض الشهادة ويعود للعدم من حيث أتى وكأنه لم يكن شيئا مذكورا. لقوله تعالى في الآية 1 من سورة الإنسان:
- {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا}
وهي الآية التي تفيد أن الإنسان لم يكن شيئا يذكر قبل القيامة الأولى التي شهدت فيها نفسه بربوبية الله لها، لأن هذه الشهادة كانت بمثابة الميثاق الذي بموجبه خرجت النفوس للوجود ومنحت حق الحياة الأبدية عبر محطات ومراحل مختلفة سنأتي على ذكرها في مبحث خاص حول (الحياة بعد الموت). وتجذر الإشارة إلى أن القرآن لا يتحدث عن العدم بل يستعمل مصطلح "اللا شيء" للتعبير عن فضاء موجود لكنه فارغ يخلق فيه تعالى ما يشاء من موجودات وكائنات.. بدليل أن بداخل كل خلية يوجد فراغ تتردد فيه الدبدبات التي هي إحدى تعابير الوعي.
أما في الحياة الدنيا، فالأمر يختلف كما سنرى، بين الحقيقة القرآنية من جهة، والمزاعم التراثية من جهة ثانية. وذلك بسبب ما شاب مفهوم السعادة والشقاء بين القضاء والقدر في التراث من ترّهات، لا ترقى إلى مستوى الكفر فحسب، بل وتتهم الله سبحانه وتعالى عما يصف الجاهلون علوّا كبيرا، بالعبث والظلم. لذلك، سنتناول بالمقارنة فكرة الجبر بمعناه الغليظ من وجهة نظر التراث، مع مفهوم حرية الإرادة والاختيار في الحدود التي وهبها الله للإنسان من وجهة نظر القرآن.
4.1. الإنسان مُسيّر بالإجبار من وجهة نظر التراث
يروج التراثيون لعقيدة خطيرة مفادها، أن الله تعالى، وقبل اكتمال نمو الإنسان في بطن أمّه، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، بل وقدره إن كان سيكون شقيا أو سعيدا. ويستندون في ذلك على رواية متداولة رواها عبد الله بن مسعود عن النبي عليه السلام تقول:
- "إن الإنسان مسيّر لا مخيّر، وأنه قد يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، والعكس صحيح بالنسبة لمن كتبه الله من السعداء، حيث يعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل الجنة فيدخلها".
والحقيقة، أن لا دليل على أن الصحابي عبد الله بن مسعود هو من قال بهذه الرواية المختلقة والمنسوبة إليه من باب إضفاء المصداقية عليها، برغم تعارضها مع عديد الآيات القرآنية جملة وتفصيلا، كما هو الحال مع معظم المرويات الزائفة التي تنسب لصحابة ثقات بهدف إصباغ نوع من المصداقية عليها بغض النظر عن مضمونها. ذلك أن أصل هذا الاعتقاد لا علاقة له بالقرآن الكريم، بل ورد في التوراة المحرفة عند اليهود، بحيث نسب إلى داوود عليه السلام قوله في المزمور 51:
- "ها أنا ذا بالإثم صوّرت، وبالخطيئة حبلت بي أمّي".
نستغفر الله من هذا الادعاء. وقوله أيضا في المزمور 85:
- "زاغ الأشرار من الرّحم، ضلّوا من البطن".
إن مثل هذا الزعم الخطير، نسبه التراثيون السّنّة إلى الرسول الخاتم عليه السلام، زاعمين أنه قال:
- "السّعيد من سعد في بطن أمّه، والشقيّ من شقي في بطن أمّه".
رواه أبو هريرة بالإضافة إلى آخرين مرفوعا إلى الصحابي حذيفة بن أسيد الغفاري الذي كان قد بايع الرسول تحت الشجرة. وبهذه الطريقة يتم إعطاء المصداقية لمرويات يهودية منتحلة، ونسبتها إلى شخصيات محترمة، بالرغم من أن القرآن يرفضها جملة وتفصيلا.
وهناك حديث آخر يستند إليه الشيعة في الترويج لنفس هذه العقيدة الفاسدة، منسوب للإمام علي عن النبي عليه السلام، ومفاده:
- "ما منكم من أحد، أو نفس، إلاّ وكتب الله مكانها في الجنّة أو النار، وإلا وقد كتبت شقيّة أو سعيدة".
ويستدلّون على صحة هذا الحديث بحديث آخر رواه البخاري تحت الرقم: 4666 ومسلم تحت الرقم: 2647 يقول:
- "اعملوا فكل مُيسّر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة".
ولتأكيد صحّة ما ورد في الحديث المذكور، يستشهدون بقوله تعالى في الآيات من 105 إلى 108 من سورة هود:
- {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ. خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.
هذا علما أن هذه الآيات تتحدث عن يوم القيامة، أي اليوم الذي يأتي فيه الناس بسجلات أعمالهم مكتملة بعد انتهاء تجربة الحياة الدنيا، والتي على ضوء نتائجها يتم تقرير مصير كل إنسان على حدة، إما إلى السعادة أو إلى الشقاء. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن بالمناسبة هو: هل خلق الله العالم والإنسان، والخير والشر، والحياة والموت، والجنة والنار، والسعادة والشقاء، ككوميديا عبثيّة ليستمتع بها؟ ما دام، وفق المرويات التراثيّة السالفة الذكر، قد حدد تعالى مصير كل مخلوق بشكل مُسبّق، لا تنفع معه إرادة ولا حرية اختيار. بل وحتى امتحان الدنيا وفق هذا الطرح يعتبر ضربا من العبث. نعوذ بالله من أن نؤمن بهذا الهراء فنكون من الجاهلين. والله تعالى يؤكد في أكثر من آية عكس ما ذهب إله التراثيون من اضاليل. منها على سبيل المثال لا الحصر قوله في الآية 3 من سورة الإنسان:
- {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
فالشاكر يختار بمحض إرادته سلوك سبيل الهدى فيستحق السعادة الأبدية. بخلاف الكافر الذي يختار بمحض إرادته سلوك سبيل الضلال فيستحق بالتالي جزاء كفره. ودليل ذلك قوله تعالى في الاية 50 من سورة سبأ:
- {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}.
هنا تُنسب الضلالة إلى نفس الإنسان، والهداية إلى الله سبحانه بفضل نور وحيه الذي يهدي به عباده في ظلمات المسار. مع أن الهداية والضلالة خلقهما الله باعتبارهما من مقتضيات الاختبار في الحياة الدنيا الذي على أساسه يعزّ المرء أو يهان يوم القيامة. وما هذا إلا لأنه سبحانه قد هيأ للإنسان مقتضيات الإيمان وأرشده لسبل الهداية من الولادة وإلى أن يدرج في أكفانه. نقول الولادة لأنه تعالى زوّد الإنسان في المهد بفطرة التوحيد، وعززها ببعث الأنبياء والمرسلين لتذكيره بميثاقه مع ربّه في عالم الذر لكي لا يكون له على الله حجة يوم القيامة بعد الرّسل. ووهبه القلب لينير له طريق الهدى من الضلال، والعقل ليميّز به بين الخير والشر والخطأ والصواب.
بدليل قوله تعالى في الاية 15 من سورة الإسراء:
- {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}.
ما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الإنسان حر في اختياره، وغير مجبر في إرادته، فقد جعل الله تعالى الهداية والضلال من مسؤولية نفس الإنسان، ونتيجة طبيعية لقراراته التي يتخذها بمحض إرادته، وخياراته التي يتبنّاها بكل حرّية دون ضغط أو إكراه. بل ونزع المسؤولية عمّن يُكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، لقوله تعالى في الاية 106 من سورة النحل:
- {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وقوله أيضا في الآية 21 من سورة الطور:
- {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}.
وبالتالي، فبموجب حرية الإرادة والاختيار، حمّل تعالى الإنسان مسؤولية ما يكتسب من أعمال في الحياة الدنيا. واستثنى تحميله مسؤولية النطق بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان في حال الإجبار. وما يؤكد ما ذهبنا إليه قوله تعالى في الاية 7 من سورة التحريم:
- {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
وهذا لعمري قمّة العدل الإلهي، بحيث يخبر تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الإنسان لن يجزى إلا ما عمل في الحياة الدنيا خيرا كان أم شرا. وبالتالي، فلا جبر ولا من يحزنون. بل أكثر من ذلك، يؤكد القرآن أن الإنسان ليس مسؤولا عن ذنوب غيره، ولا يتحمل خطيئة اسلافه من الأمم السابقة، لقوله تعالى في الاية 141 من سورة البقرة:
- {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.
وهذا دليل أيضا على سقوط العقيدة الكنسيّة التي تقول بمسؤولية الإنسان عن الخطيئة الأولى التي اقترفها آدم بعصيانه لربه وأكله من الشجرة المحرّمة وتُبرّئه منها. وبذلك، لن يسأل الإنسان يوم القيامة لا عن معصية آدم، ولا عمّا اقترفه أسلافه من الأمم السابقة. بل سيسأل فقط عمّا قدّمت يداه في الحياة الدنيا، لأن كل نفس بما كسبت رهينة.
والحقيقة أن الآيات الدالة دلالة قاطعة على أن الإنسان مسؤول عن اختياراته وقراراته في تجربته الأرضية كثيرة لا يسع المجال لسردها كلّها هنا. لكن من المهم الإشارة إلى أن الله تعالى لم يكلّف الإنسان ما لا يطيقه رحمة به، لقوله تعالى في الاية 185 من سورة البقرة:
- {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر}.
وقوله في الآية 6 من سورة المائدة:
- {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ}.
وقوله في الآية 27 من سورة النساء:
- {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا}.
وقوله في الآية 28 من سورة النساء:
- {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}.
وقوله في الآية 7 من سورة الزمر:
- {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}.
هذه الآيات كلها تؤكد ما ذهبنا إليه من حرية الإنسان في اختياره بإرادته، وتدحض قول التراثيين بأن مصير الإنسان محدّد بشكل مُسبّق، ومقدّر له منذ الأزل أن يكون سعيدا أو شقيّا قبل خروجه من رحم أمّه، استنادا إلى تراث اليهود. بل وتفيد الآية 7 من سورة الزُّمر أن الله تعالى من رحمته بعباده لا يرضى لهم الكفر ويحب لهم الإيمان.
وتبقى الإشارة بالمناسبة، إلى أن هناك نوعان من الإرادة: الإرادة الإلهية الكونية المطلقة التي يخلق بها الله تعالى كل شيء ويدبّر أموره. والإرادة الإنسانية المحدودة والمقيّدة التي وهبها تعالى للإنسان ليخوض بها تجربة الحياة الدنيوية في إطار القانون الإلهي الأسمى الذي أوضحه تعالى في القرآن، والذي أوردنا بعضا من مقتضياته العمليّة في الآيات السالفة الذكر.
4.2. الإنسان مخيّر من وجهة نظر القرآن
إن مرد سوء الفهم الكبير الذي وقع فيه من يقولون بالجبر بمفهومه الغليظ من التراثيين سنة وشيعة، هو أنهم لم يفهموا بالعمق المطلوب معنى الأمانة التي قال عنها تعالى في الآية 72 من سورة الأحزاب:
- {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.
فبالنسبة لهذه الاية، اختلف التراثيون في تفسيرها، منهم من قال إنها أمانات الناس، ومنهم من قال إنها أمانة الدين، ومنهم من قال إنها أمانة الروح، وكل ذلك غير صحيح بالمطلق.
- لماذا؟ ...
لأنهم لو تدبّروا قوله تعالى في الاية 30 من سورة البقرة:
- {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
لفهموا ما قصده الله بالأمانة. والتي تعني حرفيّا "الإرادة". هذه الإرادة التي لا تتمتع بها الملائكة لأنها تفعل ما تؤمر ولا تعصي لله أمرا، وهذا هو سبب استغرابها، لإدراكها أن ما ستقوم به فصيلة آدم في الأرض، لن يختلف عمّا قامت به فصيلة البشر المتوحش من فساد وسفك للدماء من قبل. ذلك أن الملائكة لا تعلم الغيب بل بنت استنتاجها على ما عاينته من تجربة الإنسان البدائي على الأرض. ولأن الله تعالى اختار فصيلة آدم بعد أن اكتمل تطوّرها خلال ملايين السنين (خمس مليون سنة)، وأصبح الإنسان إنسانا أخلاقيا يميّز بعقله بين الخطأ والصواب والخير والشر، قرر سبحانه أن يفني أهل القرى من البشر القديم، ليهب أمانة الإرادة للإنسان الأخلاقي الجديد كي يتصرف بها بحرية في حياته ويحاسب على أساسها يوم الدين.
وما يؤكد تمتع الإنسان بحرية الإرادة هو ما أصبح يعرف بالخطيئة الأولى، حيث عصى آدم ربّه وفق ما تؤكد الآية 121 من سورة طه لقوله تعالى:
- {وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ}.
ومعلوم أن "الغيّ" هو بخلاف الرشد الذي يعني الصواب، وهو غير الضلال الذي يعني التّيه والخروج عن جادة الطريق، ويقابلهما الهدى الذي يكون بمعنى الرّشاد، أي الإشارة إلى الطريق الصحيح والهداية إلى السبيل القويم. والغيّ وإن كان فسادا، إلا أنه لا يفسّر بالضلال. لذلك غفر الله لآدم معصيته التي ارتكبها بحكم حرّية الإرادة التي وهبه إياها، ولو لم تكن له هذه الإرادة لما ارتكب خطيئته الأولى التي تميّزه كإنسان مسؤول، وإلا لكان كالملائكة يفعل ما يؤمر ولا يعصي لله أمرا. وهو ما يعطي للعبادة مفهوما أوسع من الطاعة، حيث تعتبر المعصية أيضا من مقتضيات العبادة. ولو كان البشر أتقياء لا يذنبون ولا يعصون، لأبادهم الله جميعا وجاء بغيرهم يعصونه ثم يتوبون إليه فيغفر لهم. لقوله الرسول الأعظم عليه السلام وفق الحديث الذي رواه عنه أنس بن مالك: (كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوّابون).
بدليل أن الآية 121 من سورة طه التي تتحدث عن معصية آدم، تُعتبر مفتاح فهم ثنائية الجبر وحرية الإرادة، ذلك أن الإنسان عند الموت، يفقد هذه الإرادة التي كان يتمتع بها في حياته، فلا يستطيع التحكم في جسمه أو التصرف بحريّة كما كان عليه الأمر من قبل، لأن الملائكة ساعة الموت ينزعون من الإنسان هذه الأمانة التي هي الإرادة فيستسلم لقدره. أما الروح، فتعني المعرفة وفق المفهوم القرآني، ولا علاقة لها بالنفس أو الجسم من قريب أو بعيد. وهذا مبحث آخر سنتناوله بتفصيل في أوانه بمعية مفهوم النفس والقلب والجسد.
لذلك ننصح إن نفعت النصيحة، بعدم الاعتقاد بصحّة المرويات التراثية التي تتحدث عن أن الإنسان مُجبر لا مُخيّر، وأن الله تعالى قد قدّر عليه السعادة أو الشقاء في بطن أمه قبل أن تسكن نفسه جسده ليخوض تجربة الحياة الدنيا. وهو الأمر الذي يتجاوز الكفر إلى ما لا تحمد عقباه، بسبب الجهل الناتج عن عدم تدبّر القرآن بالعقل، كما حثّنا الله تعالى على ذك. لأنه لو استعمل التراثيون العقل في تدبّر آيات الذكر الحكيم، لما سقطوا في فخ اتهام الله سبحانه وتعالى بالعبث والظلم. خصوصا وأن من أسمائه الحسنى العدل واللطف والرحمة. ولو لم يكن كذلك، وكان الإنسان مجبرا ومقدر له أن يكون شقيا أو سعيدا منذ الأزل، لسقطت حاجة الناس إلى الدين من أساسه، بل ولم تعد للأخلاق من جدوى، ولأصبح الخير بلا معنى، وتحوّل الشر إلى السبيل الأقرب إلى تحقيق غايات الإنسان في عالم لا يؤمن إلا بقانون الغاب وسلطة الأقوى. بل ولما اختلف الإنسان الأخلاقي من فصيلة آدم عن الإنسان البدائي المتوحش الذي كان يسفك الدماء ويفسد في الأرض فأفناه الله، لأنه تعالى لا يحب المجرمين الظالمين، ولا الفاسدين والمفسدين.
إن جوهر مفهوم الأمانة وفق القرآن الكريم، يعني إعطاء الإنسان حرية الاختيار التي على أساسها تقوم التجربة الدنيوية. ولو لم يكن الأمر كذلك، لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، ولفقدت الرسالات السماوية أهميتها وقيمتها، ولأصبح الحديث عن الجنة والنار ضرب من العبث الذي لا فائدة منه. ذلك، أن مثل هذا الاعتقاد الفاسد، يحوّل الإنسان إلى مجرّد مخلوق بلا حرّية ولا إرادة، مثله مثل خروف يعيش في مزرعة سيده، ليقاد في النهاية إلى المذبح رغما عنه.
يقول تعالى بشأن الفرق بين الكافر والمؤمن في الآيتين 20 و21 من سورة سبأ:
- {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ}.
وهذا دليل قاطع بأن الله لم يكتب بشكل مسبق السعادة أو الشقاء على أحد وهو لا يزال في بطن أمه، بل الإنسان بمحض إرادتهم وحرية اختياره يقرر أن يتبع إبليس فيضل الطريق أو يقرر اتباع النور الذي جاء به الرسل فيكون على هدى من ربه، وقوله تعالى في الآية 21 من نفس السورة أعلاه:
- {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ}.
دليل حاسم ونهائي على أن العلم بسلوك الإنسان يتم بعد أن يتخذ الأخير قراره وينحاز بحرية لاختياره، فتسجله الملائكة في كتاب أعماله من باب العلم بالشيء بعد وقوعه وليس قبل ذلك.
وهو ما ينزه الله سبحانه وتعالى عن الظلم الذي اتهمه به فقهاء القشور من حيث يدرون أو لا يدرون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق