في إطار تصحيح المفاهيم الدينية الخاطئة. التي ورثناها عن التراثيين من ثقافة القبور، سنحاول في هذه السلسة من قصة الإسراء والمعراج معرفة إن كان ما روّج لها التراثيون بشأنها حقيقة يؤكدها القرآن، أم أنها مجرد اسطورة ابتدعها التراثيون اقتداء بسنّة اليهود؟.../...
أولا: الإسراء
والسؤال الذي سنحاول الإجابة عنه في هذا الجزء هو: - هل أسرى الله بعبده محمد عليه السلام ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما يقول التراثيون، أم أن الأمر يتعلّق برسول آخر غير الرسول الخاتم عليه السلام؟
- من وجهة نظر التاريخ:
التاريخ يقول، إن إسراء محمد عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، من المستحيل أن يكون قد حدث زمن الرسول، وذلك لسببين أساسيين:
السبب الأول:
أن المسجد الأقصى لم يكن موجودا زمن البعثة المحمّديّة. لأن من بنا المسجد الأقصى وقبة الصخرة معا، هو الملك الأموي عبد الملك بن مروان كما هو موثّق تاريخيا. وذلك سنة 73 هجرية. أمّا لماذا. فيعود السبب الحقيقي وفق ما تؤكده عديد المصادر التاريخيّة. بما في ذلك ما ذكره ابن كثير في مؤلفه (البداية والنهاية). إلى سيطرة الصّحابي عبد الله بن الزبير على مكة. وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناشب. فيهاجم عبد الملك بن مروان، ويذكر مساوئ أسرته ويقول: "إن النبي عليه السلام لعن الحَكَمْ والد عبد الملك وما نسل من سلالة جدّه أميّة بن عبد شمس القرشي". لأن الحَكَمْ كان طريد رسول الله ولعينه. وكان يدعو إلى نفسه.
وقد عُرف عن عبد الله بن الزبير الفصاحة في الخَطابة. فمال معظم أهل الشام إليه. وبلغ ذلك عبد الملك. فمنع الناس من الحج. ولمّا استنكروا عليه ذلك. بنى لهم القبة على الصخرة والجامع الأقصى الذي يعرف اليوم بالمسجد الأقصى. ليشغلهم بذلك عن الحج. ويستعطف قلوبهم. وكانوا يقفون عند الصخرة. ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة. وينحرون يوم العيد. ويحلقون رؤوسهم. ففتح بذلك على نفسه باب تشنيع ابن الزبير عليه. فكان ينتقده بمكة ويقول: "إن عبد الملك ابن مروان اتبع بذلك سنّة الأكاسرة في إيوان كسرى والخضراء كما فعل معاوية. ونقل الطواف من بيت الله إلى قبلة بني إسرائيل في المقدس".
السبب الثاني:
ويكمن في أن المسلمين لم يكونوا قد فتحوا بلاد الشام زمن الرسول عليه السلام، والتي كانت تضم سوريا والأردن ولبنان وفلسطين قبل التقسيم بموجب اتفاق سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي. ومعلوم أن زمن ما يسمّى بالفتوحات الإسلامية لم يبدأ إلا في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وليس قبل ذلك. ودليل ذلك العهدة العمريّة الشهيرة التي أوصى بموجبها الخليفة الثاني المسلمين الفاتحين بأهل الكتاب من سكان القدس خيرا.
هذان سببان تاريخيان يدحضان بالدليل القاطع القول بإسراء الرسول عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. الأمر الذي يكشف زيف ادعاء التراثيين وكذبهم على الله ورسوله وأمة المسلمين.
- من وجهة نظر اللّغة العربيّة:
أما من الناحية اللّغويّة، فكلمة أسرى الواردة في الآية الأولى من سورة الإسراء لقوله تعالى:
- {سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًۭا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ}.
فمصدرها لغة من "الإسراء". وتقال عن القافلة إلى أسْرت ليلا. أي خرجت وسارت مشيا. والإسراء لا يكون إلاّ بالسير على الأقدام لا بالطيران. أما "الأقصى" فمعناها البعيد. ولا تعني بالضرورة المسجد الذي في القدس ما دام لم يكم موجودا أصلا.
- من وجهة نظر القرآن:
أما من وجهة نظر القرآن، فالله تعالى في سورة الإسراء لم يقصد رسوله الخاتم محمد عله السلام، بل قصد رسوله موسى عليه السلام. بدليل أن سورة الإسراء تُسمّى أيضا سورة "بنو إسرائيل". لأن الآيات العشر التي تلت الآية الأولى التي تتحدث عن الإسراء، كلها خصّ بها تعالى رسوله موسى عليه السلام. لقوله في الآية الثانية:
- {وَءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَٰبَ وَجَعَلْنَٰهُ هُدًۭى لِّبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلًۭا}.
وبالتالي، فليس من طبيعة الخطاب القرآني كما هو معلوم، أن يتحدث في الآية الأولى عن رسول، ثم ينتقل في بقية الآيات للحديث عن رسول آخر دون ربط موضوعي. ذلك أن الآية الأولى وفق ما يفرضه السياق، تعتبر مقدمة لما سيأتي الحديث عنه. وهذا هو طبيعة الأسلوب الفنّي في القرآن الكريم.
كما وأنه بتطبيق قاعدة القرآن يفسر بعضه بعضا التي قال بها الرسول عليه السلام، نجد أن كلمة "أسرى" وردت في الايات التالية:
- {سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا انه هو السميع البصير} الإسراء: 1.
- {ولقد اوحينا الى موسى ان اسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى} طه: 77.
- {واوحينا الى موسى ان اسر بعبادي انكم متبعون} الشعراء: 52.
- {فاسر بعبادي ليلا انكم متبعون} الدخان: 23.
وواضح أن كل هذه الآيات التي وردت فيها ملكة أسرى تخص نبي الله موسى عليه السلام.
كما أن ما ذكره التراث عن صلاة الرسول الخاتم ببقية الرسل والأنبياء عليهم السلام في باحة المسجد الأقصى. لا يستقيم عقلا ولا دينا. لأن الصلاة كما تُجمع على ذلك كتب التراث، لم تكن قد فُرضت قبل المعراج كما يزعمون. ولك أن تتصوّر خطورة هذا التناقض. الذي لا يمكن أن يكون مصدره الجهل.
هذه الشواهد الثلاثة: التاريخية، واللغويّة، والقرآنية. تؤكد جميعها استحالة وقوع حادثة الإسراء زمن الرسول الخاتم عليه السلام. إلا في حالة واحدة فقد لا غير. وتتمثل في إلغاء العقل. وتكذيب السياق القرآني. والمعطيات التاريخية. والمنطق اللغوي. وهذا ما حدث مع الأسف.
يتبـــع...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق