بحث داخل هذه المدونة الإلكترونية

الإسراء والمعراج.. بين الحقيقة والأسطورة (02)

 


بعد أن أكّدنا بالدليل القاطع، والحاسم، والنهائي، استنادا إلى معطيات التاريخ، وقواعد اللغة، وآيات الذكر الحكيم.. أن حادثة الإسراء لم تحدث لنبي الله محمد عليه السلام كما روّج لذلك التراثيون. سنتناول في هذا الجزء قضية المعراج، لنكتشف معا ما الذي يقوله التنزيل الحكيم في هذا الشأن. ما دمنا كمؤمنين لا نستطيع تكذيب آيات الله وتصديق ما لم ينزل به الله من سلطان، وإلا كفرنا بالقرآن.../...

ذلك، أنه إذا كان الأمر يتعلّق بمعجزة وفق ما يقول التراثيون. فإن الله تعالى قد أفصح في التنزيل الحكيم عن كل المعجزات التي وقعت للرسل عليهم السلام جميعا. كمعجزة إبراهيم مع النار. ومعجزة يونس مع الحوت. ومعجزة يعقوب الذي وهبه الله تعالى القدرة على التحكم في الريح. ومعجزة سليمان مع الجن. ومعجزة موسى مع العصا. ومعجزة عيسى مع الكلام في المهد وإحياء الموتى وشفاء المرضى. ناهيك عن معجزة مريم مع مائدة السماء. ومعجزة أهل الكهف.. وغيرها من الخوارق التي تخرج عن سنن وقوانين الكون. أما الرسول الخاتم عليه السلام. فلم يذكر الله تعالى في التنزيل الحكيم أنه أيّده بمعجزة غير القرآن. وكل ما قيل خلاف ذلك هو محض هراء وافتراء على الله، وكفر بآياته، نعوذ بالله من أن نكون من الكافرين.

ومعلوم أن الله تعالى، ما أرسل من رسول إلى قومه إلا وأيّده بمعجزة من النّوع الذي يتناسب مع ثقافة مجتمعه. فموسى على سبيل المثال أيّده الله بالعصا. لأن ظاهرة السّحر كانت منتشرة في عهده. وعيسى بعثه الله بمعجزة إحياء الموتى وشفاء المرضى. لأن ظاهرة الأمراض كانت سائدة في وقته. أما محمد عليه السلام، فقد بعثه الله بالقرآن الكريم، لأن ظاهرة الشعر والبلاغة هي التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي أثناء بعثته. ومعلوم أن هذه المعجزات جعلها الله تعالى بمثابة مؤيدات لرسله حتى يصدّقهم أقوامهم فيؤمنون بأن ما جاؤوا به هو الحق من عند الله.

ويلاحظ في هذا الصدد، أن كل المعجزات التي أيد بها الله تعالى رسله الكرام عليهم السلام كانت معجزات مادّيّة ووقتيّة. أي أنها كانت من النوع الذي يشاهد بالعين المجرّدة ولا يتكرر في الزمان لافتقار المعجزة الظرفيّة لطابع الاستمرارية. باستثناء معجزة الرسول الخاتم عليه السلاّم، التي كانت معجزة حسّيّة دائمة في الزمان ومستمرة في كل مكان. بدليل أن الله تعالى قال عنه أنه بعثه رحمة للعالمين. ولا شيء يمكن أن يحقّق عالمية هذه الرحمة كما هو معلوم، سوى القرآن الكريم. الذي جعله الله تعالى صالحا لكل مكان وزمان إلى يوم الدين كما نعتقد كمؤمنين.

أما بالنسبة لغير القرآن. مما ينسب إلي الرسول الخاتم عليه السلام من معجزات: كتفجير الماء، وانشقاق القمر، وغيرهما.. فلا حقيقة لهما على الإطلاق، ما دام الوحي قد نفى عنه ذلك نفيا قاطعا. بدليل قوله تعالى في الآية 59 من سورة الإسراء:

{وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَٰتِ إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلْأَوَّلُونَ ۚ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةًۭ فَظَلَمُواْ بِهَا ۚ وَمَا نُرْسِلُ بِٱلْءَايَٰتِ إِلَّا تَخْوِيفًۭا}.

 بمعنى. ما الفائدة من إعادة إرسال المعجزات إذا كان الناس سيكذبون بها كما فعل الأولون. كما وأن الغاية من بعث الرسل قديما بالمعجزات الماديّة هو تخويف الناس ممّا ينتظرهم من عذاب إن هم كذّبوا الرسل، وما ينتظرهم من نعيم بالمقابل إن هم صدّقوهم. لأن مهمة الرسول – أي رسول – لا تخرج عن كونه مُنذر ومُبشر، أي مبلّغ عن الله رسالاته، ولا يحق له التشريع مع لله ما لم ينزل به من سلطان.

وقوله أيضا في الآيات من 89 إلى 93 من سورة الإسراء: 

- {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍۢ فَأَبَىٰٓ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورًۭا * وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلْأَرْضِ يَنۢبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌۭ مِّن نَّخِيلٍۢ وَعِنَبٍۢ فَتُفَجِّرَ ٱلْأَنْهَٰرَ خِلَٰلَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلَٰٓئِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌۭ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِى ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَٰبًۭا نَّقْرَؤُهُۥ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًۭا رَّسُولًۭا}.

وبالتالي، فإذا كان ما سبق يعتبر نفي قاطع، حاسم، ونهائي، من قبل الحق تعالى على لسان رسوله الصّادق الأمين. يفيد بعدم تأييده بأيّ من المعجزات التي طلبها القوم بما في ذلك المعراج إلى السماء. فهل يجب أن نكذّب الله سبحانه وتعالى ونصدّق التراثيين الذي روّجوا لعكس ذلك؟.

ولأن الله تعالى، وبخلاف المعجزات الماديّة والظّرفيّة التي أيّد بها رسله الكرام من قبل. فقد أراد أن يكون لرسوله الخاتم معجزة حسّية لا ماديّة ولا ظرفيّة. بل دائمة إلى أن تبدّل السّماوات غير السماوات والأرض. وها هم علماء الكون وعلماء الأحياء يكتشفون بين الفينة والأخرى معجزة علميّة لم تكن معروفة من قبل. تؤكّد ان القرآن من عند الله. وأن محمدا رسوله. وهذا لعمري قمّة الإعجاز الدائم المستمر في كل زمان ومكان. لعلم الله تعالى، أن البشرية ابتداء من عهد محمد وما بعده. لن تحتاج لشيء غير القرآن. لقوله تعالى في الآية 82 من سورة الإسراء. أنه نزّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للذين يؤمنون به. بمعنى أنه يشفي غليل العلماء إلى المعرفة، وينزل رحمة على الذين يتعاملون معه بالتدبّر العقلي والعقلاني. أما الظالمون الذي يلحدون في الحق، ويستهزؤون بآيات الله، ويفترون عليه وعلى رسوله الكذب، فلن يزيدهم موقفهم هذا إلا خسارا. 

ولعلّ الدليل على أن القرآن معجزة حسّيّة قائمة بذاتها ومستمرة في كل زمان ومكان إلى أن تقوم السّاعة، هو تحدّي الله للإنس والجن بأن يأتوا بسورة من مثله. لقوله تعالى في الآية 88 من سورة الإسراء:

- {قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلْإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِۦ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍۢ ظَهِيرًۭا}.

وبعد أن نفى الله تعالى في الآيات من 89 إلى 93 من سورة الإسراء المذكورة أعلاه، أن يكون قد أيّد رسوله الخاتم عليه السلام بالعروج إلى السماء كما زعم الفقهاء. أمره بأن يؤكد هذا النفي على لسانه أيضا، لقوله في الآية 93 من نفس السورة:

- {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًۭا رَّسُولًۭا}.

 ومعنى المعنى. أن البشر حتى لو كان رسولا، لا يرقى إلى السماء، أو يأتي بأيّة معجزة خارقة لقوانين الكون وسنن الطبيعة إلا بمشيئة الله وقدرته. وما دام تعالى قد نفى أن يكون ذلك قد حصل مع رسوله الخاتم. فإن تأكيد عكس ذلك من قبل كائن من كان. هو افتراء على الله ورسوله. وتكذيب بآيات التنزيل الحكيم كما سبق القول. نعوذ بالله أن نكون من الكافرين بآياته.    

والحقيقة، أن الله تعالى لم يكتفي بالنفي الذي أشرنا إليه في الآيات من 89 إلى 93 من سورة الإسراء، بل أكده مرّة تلو أخرى في سياقات مختلفة. منها قوله في الآية 37 من سورة الأنعام:

- {وَقَالُواْ لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌۭ مِّن رَّبِّهِۦ ۚ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰٓ أَن يُنَزِّلَ ءَايَةًۭ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

ومعنى الآية، العلامة الدّالّة على القدرة الفائقة التي تتحدّى قوانين الطبيعة. وليس الغرض منها إعجاز الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ويُبيّن تعالى سبب رفضه وفق ما يفهم من كيمياء الخطاب، حجم البلاء الذي سيصيب من يطالبون بالآية إذا أنزلها الله. وتوضيح ذلك يكون كالتالي: أن امتحان الدنيا يقتضي الإيمان بالله عن غيب. أما إذا أنزل الله آية كالمائدة مثلا. فلن يكون لهذا الإيمان من معنى. وسيبتلي الله من أنزل لهم آية بما لا يعلمون من عذاب ولا طاقة لهم بتحمّله. بل ولن يرحمهم إن هم أخطأوا. بل سيعذبهم عذابا لن يعذّبه لأحد من العالمين إن هم كفروا. لأن لا عذر لهم بعد أن رءوا الآيات بأم العين. بخلاف الذين آمنوا من دون أن يستفيدوا من هكذا فرصة. وهذا هو ما يفهم من قوله تعالى من الآية 112 إلى 115 من سورة المائدة بشأن الحواريين الذي طالبوا بمائدة من السماء. فأنزلها الله تعالى عليهم. لكن هدّدهم بما لم يهدد به أحد من العالمين، في حال كفروا بعد أن رأوا قدرة الله تتجسّد واقعا على الأرض رؤية العين. يقول تعالى في هذا الشأن:

- {إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يَٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةًۭ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ۖ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّٰهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةًۭ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًۭا لِّأَوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَةًۭ مِّنكَ ۖ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّٰزِقِينَ * قَالَ ٱللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّىٓ أُعَذِّبُهُۥ عَذَابًۭا لَّآ أُعَذِّبُهُۥٓ أَحَدًۭا مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ}.

وقطعا للشّكّ باليقين. قال تعالى في الآية 109 من سورة الأنعام:

- {وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌۭ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا ٱلْءَايَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}.

في هذه الآية الكريمة، يقسم المشركون للرسول الخاتم عليه السلام، أنهم وبخلاف من سبقوهم من الأقوام، سوف يؤمنون بالله ويصدقون بأنه رسوله بمجرّد أن يأتيهم بآية. لكن الله الذي يعلم ما يختلج في صدورهم، يرفض ذلك، ويقول لرسوله: {وما يدريكم أنهم إذا جاءتهم آية لا يؤمنون}.

ولا أدل على ذلك من قوله تعالى في الآية 124 من سورة الأنعام:

- {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌۭ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ ۘ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُۥ ۗ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌۭ شَدِيدٌۢ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ}.

ويوضّح الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه كلّما جاء الرسول الخاتم عليه السلام المشركين بحجّة من كتاب الله، إلا واقلوا: "لن نؤمن لك حتّى تأتي بمثل ما أتوي رسل الله من مقبل من معجزات". في إشارة إلى المعجزات المادية التي أيّد بها الله تعالى رسله موسى وعيسى وغيرهما. وهو ما نفاه الله عن محمد عليه السلام بقوله: "أنه أعلم حيث يجعل رسالاته". 

وبالتالي، فأمام هذا العدد المعتبر من الآيات البيّنات التي تنفي أن يكون الله تعالى قد ايّد رسوله الخاتم بمعجزة غير القرآن. لا يسعنا إلا القول: أنه إذا كان المسلم الذي يتلو كتاب الله لا يعلم هذه الحقيقة من القرآن، فتلك مصيبة. أما إذا كان يعلمها ويصرّ على تجاهلها، ويفضّل تصديق الفقهاء فيما زعموا، فالمصيبة أعظم. ولا حول ولا قوة إلا بالله، نعود بالله أن نكون من الجاهلين.

وعلى هذا الأساس. فالقول بأن ظاهرة الإسراء والمعارج كانت معجزة ربّانيّة. هو افتراء على الله. وتكذيب بآياته، يرقى لمستوى الكفر الفاضح إن كان عن جهل ولم يتداركه صاحبه. ويعتبر قمة ظلم النفس الذي لا يقع فيه إلا من يشرك بالله ويفتري عليه ما ليس له به من علم. خصوصا إذا كان من يروّج لمثل هذا الهراء رجل دين يدّعي أنه فقيه في الشريعة، متمكّن من اللّغة، مفسّر لكتاب الله، مُطّلع على السّيرة، عالم بظواهر الأمور وبواطنها.. وهو يعلم علم اليقين أن الله تعالى قد نفى نفيا قاطعا في الآيات التي استشهدنا بها أن يكون قد حصل للرسول الخاتم شيء اسمه الإسراء أو المعراج. 

فأين يذهب من هنا؟ ..

أما الذين يحتجّون بما ورد في سورة النجم من آيات تدلّ على وقوع المعراج ووصول الرسول الخاتم عليه السلام إلى سدرة المنتهى ورؤية ربّه، وما إلى ذلك من مزاعم يكذّبها الوحي ويرفضها العقل. فسنعمل على توضيح هذه المسألة استنادا إلى كتاب الله دون سواه من المراجع. نظرا لأن مثل هذه الحوادث الاستثنائية الغير عادية. لا يمكن أن يخبر عن صحّة وقوعها من عدمه سوى الحقّ تعالى. 

وهذا ما ستعمل على توضيحه من القرآن الكريم في الجزء الثالث من هذا الموضوع إن شاء الله.

يتبـــع...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق