هذه لست المرّة الأولى، ولن تكون الأخيرة، لأنه في كل مرة تشتعل فيها المواجهة العسكرية بين حركات المقاومة وإسرائيل، إلا وتشحذ الأقلام للدفاع عن فلسطين، وترتفع الأصوات مندّدة بآلة القتل الصهيونية، مطالبة العرب والمسلمين بنصرة إخوانهم المظلومين أمام صمت العالم والحكام العرب، ما يفصح عن شرخ عميق قائم بين الحكام والشعوب، سببه سوء فهم لما حصل ويحصل، في ظل اختلال ميزان القوة بين الأطراف المتصارعة.
والعجيب، أنه وبمجرد أن يتم إعلان وقف إطلاق النار بين المتحاربين، حتى ينصرف كل طرف إلى شأنه. المقاتلون إلى قواعدهم ليحصوا خسائرهم. والمحتجون إلى مواقعهم ليمارسوا حياتهم الطبيعيّة وكأن شيئا لم يكن. لكن لا أحد من المثقفين يجرؤ أن يكشف للدهماء والظلماء والعامة من سواد الأمة بتعبير الشيوخ عن مكمن الخلل، وعن السبب وراء انتصار شرذمة من الصهاينة لا يفوق عدده 13 مليونا (6 مليون في فلسطين، و5 مليون في أمريكا، و2 مليون أو يزيد قليلا في الشتات بين الدول الأوروبية وغيرها).. مقابل أزيد من 2 مليار من أمّة محمد عله السلام.
كلّنا نعلم أن الصراع مع الصهاينة ليس جديدا، بمعنى أنه لم يبدأ مع التنظيمات الجهاديّة اليوم في المنطقة، والتي تدور في الفلك الإيراني، سواء منها تلك التي تنتمي إلى المذهب الشيعي كحزب الله في لبنان، والحشد الشعبي في العراق، والمليشيات الشعبية الرديفة للحرس الثوري في سوريا، وجماعة الحوثي في اليمن، والجهاد الإسلامي في غزة.. أو تلك التي تنتمي إلى المذهب السُّنّي كحماس. بل بدأ الصراع منذ أن احتلت إسرائيل أرض فلسطين سنة 1948 عقب وعد بلفور المشؤوم كما هو معلوم.
فقد خاضت دول عربية حروبا مع الكيان الصهيوني على حين غرّة، ومن دون تخطيط ولا إعداد مُسبق، فكانت حروبا فلكلورية الهدف منها رفع العتب أمام الشعوب، وفي نفس الوقت بعث رسائل مشفّرة إلى القوى العظمى التي تحمي إسرائيل، بأن الأنظمة العربية لا ترى القضية الفلسطينية بعيون شعوبها. لأن الحقّ والحقّانية في قاموسها السياسي مجرد ثرثرة كلامية. وهو الأمر الذي أدى إلى انتكاسات متتالية لا يمكن تفسير أسبابها سوى بمنطق الخيانة التي تحكمه المصالح الأنانية.
فالجيوش العربية لم تكن مستعدة في يوم من الأيام، لخوض حرب مع كيان محتل مدعوم من قبل قوى عالمية متقدمة، لا تنظيما، ولا تسليحا، ولا تدريبا، الأمر الذي أدى ليس إلى الفشل فحسب، بل أحدث في نفوس العرب صدمة نفسية غير مسبوقة، زعزعت إيمانهم بالثوابت التي كانوا يؤمنون بها، وجعلتهم يتساءلون إن كانت السماء لم تعد تنصرهم بالرغم من أنهم مسلمون وأصحاب حق؟
لن يكون مناسبا العودة إلى الماضي البعيد، للتذكير بتفاصيل خيانة الملك فاروق الذي زوّد الجيش المصري بأسلحة فاسدة خلال حرب 1948. ولا عن تآمر رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد الذي غيّر قيادات الجيش العراقي واستبدلها بأخرى مزوّدة بتعليمات التراجع إلى ما أصبح يعرف اليوم بالضّفة الغربيّة. ولا الملك الأردني عميل الاحتلال البريطاني عبد الله الأول الذي ما أن اندلعت الحرب حتى أمر جيشه بالانسحاب إلى مدن اللّدّ والرّملة والقدس الغربية بعيدا عن ساحة المعركة.
وطبعا لن يكون أيضا من المناسب الحديث عن زمن المدّ العروبي والشعارات القومجيّة في عهد جمال عبد الناصر، الذي خاض حرب أكتوبر 1967 مع فيالق من الجيوش العربية المساندة، فكانت النكسة الكبرى، ليتبيّن أن رئيس الأركان المصري المشير عبد السلام عامر، وعلى سنّة الملك فاروق، زوّد هو أيضا جيشه برشاشات فاسدة لا تطلق رصاصة واحدة، فحدثت المجزرة التي على إثرها استقال جمال عبد الناصر. لكن الجماهير المصرية، وبدل محاسبته، خرجت عن بكرة ابيها تطالبه بالعودة عن قراره.
أما ما يقال عن حرب عام 1973، فوفق ما ذكره الجنرال الشاذلي قائد العبور رحمه الله، فلم تكن هذه الحرب من أجل تحرير فلسطين، بل فقط من أجل إزالة آثار عدوان حرب 1967، لكن بالنتيجة، فلا آثار العدوان أزيلت، ولا تم تحرير الأرض، بل كان التفاوض هو الثمن الذي دفعه العرب لتخرج إسرائيل من الأراضي التي احتلتها خلال تلك الحرب.
ثم نشطت بعد ذلك اتفاقيات ما سمّي بالسلام مع إسرائيل، في حين أنه كان استسلاما بكل ما تعني الكلمة من معنى، بدأه الفلسطينيون باتفاقية أوسلو التي فتحت بابا واسعا أمام الأنظمة العربية لتجاوز المحرمات القومية والدينية بغطاء من منظمة التحرير الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. فغرق الفلسطينيون والعرب من أخمص أقدامهم إلى قمّة رؤوسهم التطبيع مع أبناء العم التي أتاهم منه كلّ همّ. فبدأت السّلطة تنسّق أمنيا مع الصهاينة، لمنع أي محاولة لمناهضة الاحتلال من قبل المقاومة الفلسطينية في الضّفة الغربية. حرصا على أمن وطمأنينة وسلامة مواطني الكيان. وذلك، مقابل فوائد مالية واقتصادية جمّة صبّت في جيوب وحسابات رجال السّلطة، التي أسست مخابرات وقوى أمنية مسلّحة ومدرّبة لمواجهة شعبها لا قوات الاحتلال.
بعد ذلك، لم يجد الفلسطينيون الغاضبون بدّا من الدفاع عن قضيّتم بأنفسهم، فشكلوا تنظيمات مسلحة في قطاع غزّة والمهجر أيضا، بدأت بخطف الطائرات كما كانت تفعل الجبهة الشعبية التي فتحت على نفسها تشنيع دول العالم لاتهامها بالإرهاب. إلى جانب بعض الأعمال القتالية في الداخل الفلسطيني. ويذكر التاريخ أن الفلسطينيين زمن الحاج أمين الحسيني شكّلوا حكومة فلسطينية، وأعلنوا الاستقلال الصوري، لكن مصر "العربيّة" قضت على حكومتهم الوهميّة، واعتقلت رئيسها امين الحسيني الذي كان يقود الفلسطينيين في مسارهم السياسي والمقاوم، ووضعته في الحجز لتجهض أي تطلع للشعب الفلسطيني في بناء دولته المستقلة، لأن فلسطين يا سادة كانت ولا تزال وستظل مجرد شنطة، يتاجر بها سماسرة القضيّة السياسة في سوق النخاسة السياسيّة.
شكّل الفلسطينيون بعد ذلك "جيش الجهاد المقدس" ليواصلوا مسيرة التحرير المباركة، لكن الأنظمة العربية لم تقدّم لهم ما طلبوه من أسلحة مناسبة تساعدهم في معارك التحرير المقدّسة، بل ورفعا للعتب، قدّموا لهم بعض الأسلحة التي لا تحدث فارقا في ميزان القوة مع الكيان الصهيوني المحتل، بالإضافة إلى الأموال.
وبسبب المال، نشب الصراع بين الفصائل، ودبّ الفساد في أوساطها، خوصا في تونس والجزائر حي كانت تقام مهرجانات دعم القضية بالويسكي والجنّ واللّحم البيض. وبدأت في فلسطين حركة بيع نشطة لأراضي وبيوت آلاف الفلسطينيين الذي فضلوا الهجرة المعاكسة إلى أمريكا وأوروبا حيث أقاموا مشاريع مربحة واستقروا هناك للأبد.
اليوم، هناك من يعتقد أنه يمتلك الرؤية الناجعة لحل معضلة فلسطين وشعبها، في محاولة بليدة لإعادة اختراع العجلة. فيطالبنا بنصرة القضية من خلال المقترحات التالية:
- الدعاء للفلسطينيين بالنصر وهزيمة الصهاينة. لأن الفلسطينيين وفق زعمهم، يدافعون عن ثالث أقدس مكان للمسلمين في العالم، (يقصدون المسجد اقصى الذي بناه عبد الملك بن مروان سنة 73 هجرية ولم تطأ قدم الرسول باحته بشهادة التاريخ والقرآن معا). غير أن مثل هذه المبادرة قد جرّبها المسلمون منذ حرب 1948، حيث كانت الأمة جمعاء، من المغرب إلى ماليزيا، تدعوا الله أثناء صلاة كل جمعة، وفي صلاة التهجد بالليل، بأن يهزم الصهاينة، ويحرق زرعهم، ويقطع نسلهم، وينصر المجاهدين المسلمين عليهم. لكن الله تعالى لم يستجب لدعائهم. فصدرت أوامر بالكف عن هذا الدعاء.
لماذا؟ ...
- مقاطعة بضائع الشركات الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية والفرنسية التي تدعم إسرائيل. وقد تمت المقاطعة بالفعل في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي وبشكل كبير، لكن الشركات التي تمت مقاطعتها أصبحت الأقوى عالميا. فمثلا، شركة كوكاكولا أصبحت اليوم أغنى وأقوى شركة مشروبات حلال في العالم أجمع، سواء من حيث رقم المعاملات أو الأرباح.
لماذا؟ ...
- التظاهر في شوارع العواصم العربية والإسلامية لمطالبة المنتظم الدولي في الأمم المتحدة وشعوب العالم بنصرة القضية الفلسطينية العادلة. وقد خرجت عديد المظاهرات المليونيّة على امتداد تاريخ احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين، وفي مختلف عواصم العالم العربي والإسلامي والغربي أيضا، لكن لم يغر ذلك من الواقع شيئا.
لماذا؟ ...
- فضح الجرائم التي يرتكبها الكيان الصهيوني المجرم في حق الشعب الفلسطيني الأعزل. وقد تجنّد لهذه الدعوة منذ فجر القضيّة عديد الكتاب والصحفيين أصحاب الضمير من العرب والمسلمين، كما وتجنّد لفضح جرائم الكيان ملايين الشرفاء المدافعين عن الحق والمطالبين بإقامة العدل من كل شعوب الأرض في الزمن الحديث عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لكن شيئا على الأرض لم يتغيّر.
لماذا؟ ...
- رفع دعاوى قضائية ضد المجرمين الصهاينة لارتكابهم جرائم حرب ضد الإنسانية. وقد رفعت عديد الدعاوى في المحاكم الأوروبية التي تدّعى أنها تقدس مبدأ الدفاع عن حقوق الإنسان، لكن لم يتم اعتقال صهيوني واحد من قبل أية دولة حتّى الآن. بل وحتى الدعوى التي رفعت في محكمة العدل الدولية لم تنفع، لأن أحدا لا يستطيع تنفيذ الحكم، كما وأننا قد نسمع قريبا عن اغتيال قضاتها بعد ان هددتهم واشنطن وتل ابيب بما لا تحمد عقباه.
لماذا؟ ...
- مطالبة الدول المطبّعة بغلق سفارات الكيان الصهيوني في عواصمها. والحقيقة أن مثل هذا المطلب تعتبره الحكومات مطلبا شعبويّا، لأن منطق المصالح بين الدول تستند إلى القانون الدولي والاعتراف الأممي، وبالتالي، فغلق سفارة هنا أو مكتب تنسيق هناك لن يفضي إلى قطع العلاقات مع تل أبيب بشكل نهائي، لأنها ملتزمة باحترام قرارات المنتظم الدولي الذي يعترف بإسرائيل كدولة ذات سيادة، لذلك، ستستمر العلاقات معها بشكل سرّي وربّما بحجم أكبر ووثيرة أسرع، ما دامت مشروعية استمرار الأنظمة العربية اللاشرعية، تظلّ في عرف الغرب معلّقة على موقفها السّرّي من إسرائيل، وليس العلني بالضرورة. فكل حاكم مسموح له شتم إسرائيل في النهار، لكنه مطالب بالاعتذار لها في الليل.
لماذا؟ ...
- إنهاء التعامل تجاريا مع المؤسسات والشركات الإسرائيلية. هذه الدعوة لم تنل حظها من التنفيذ، لأن منطق الدولة ومصالحها يتعارض جملة وتفصيلا مع هكذا مبادرة. كما أن إسرائيل وبفضل تحالفها مع الدول الغربية تصنّع منتجاتها في دول خارجية، وتضع عليها علامات لا تفيد أنها صنّعت في إسرائيل، لتصنيفها ضمن المنتجات الواجب مقاطعتها.
لماذا؟ ...
- عدم شراء الأسلحة من إسرائيل. والحقيقة أن أصحاب هذه الدعوة إما أغبياء أو أنهم يستغبون الشعوب، ذلك أن الدول العربية لا تنتج أسلحة نوعيّة تمكنها من مواجهة مؤامرات جيرانها الذين يتربصون بها شرا، وهؤلاء هم عرب وإخوة مسلمين كما يزعمون. لكن همّهم ليس تحرير فلسطين، بل خدمة أجندة القوى الاستعمارية لإبقاء التوتر والتصعيد في العلاقات البينية العربية حتى لا تكون هناك أة إمكانية لتشكيل وحدة قد تهدد مصالح الغرب ووجود إسرائيل. والأمثلة أكثر من تحصى على هذا النوع من العداوات البينيّة، العربية والإسلامية. ناهيك عن أن الدول الكبرة المنتجة للسلاح لا تبيع أسلحتها للدول العربية إلا بشروط مجحفة، وأولها عدم استعمال هذه الأسلحة ضد إسرائيل، وإلاّ فمصيرها الخراب، وهو ما شاهدناه في كل من العراق وسورية وليبيا واليمن ولبنان خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
لماذا؟ ...
والآن لنأتي للجواب على سؤال لماذا؟ ...
لأننا أيها السادة، قد نكون أي شيء خطر على البال، لكننا حتما لسنا مسلمين إلا بالتّسمية، لا كما أمرنا الله أن نكون.
لأننا لو كنا مسلمين حقّا، لآمنّا بدين السماء بدل دين الفقهاء. ولنفّذنا أول أمر إلهي طالبنا فيه تعالى بالاعتصام بحبله جميعا. ومعلوم أن حبله هو القرآن الكريم. ولأصبحنا أحسن أمّة أخرجت للناس كما كنا في الماضي السحيق.
لكن ما فعلناه في الحقيقة، هو أننا تركنا القرآن وراء ظهورنا واعتنقنا سنّة الفقهاء، الذين ابتدعوا لنا دينا موازيا بديلا عن دين السماء. وأصبح كل من يريد تحقيق مآربه السياسية، يلبس جلباب الدين، ويدخل سوق النخاسة السياسية ليتاجر بالقضية. من إيران الشيعيّة إلى جماعات الإسلام السياسي التي اختزلت الإسلام الذي ارتضاه الله دينا للعالمين في سجن المذهب ومعتقل الحزب. فتحوّل الدين إلى إيديولوجيا.
لهذا السبب فشلنا، ولهذا السبب لم يستجب الله لدعائنا، خصوصا بعد أن تفرّقنا إلى طوائف ومذاهب وملل ونحل كل بما لديهم فرحون. برغم تحذير الله لنا من ذلك، ووصم من يفعله بالكفر حينا والشرك أحيانا. لكن دون جدوى، فصوت الفقهاء كان دائما أقوى من صوت السماء بسبب الجهل والأمية.
لأنه إذا كان الاختلاف في الرأي رحمة كما يقول المناطقة، فإنه في الدين ينتهي بأصحابه إلى الجحيم. وهذا هو الجحيم الذي نعاني منه اليوم في انتظار أن يرحمنا اله بالموت أو التخلّف العقلي.
ولا أدل على ذلك مما سبّبه هذا الاختلاف للأمة من مذابح ومجازر عبر تاريخها الدّمويّ البشع ولا يزال.
والاعتصام بحبل الله لا يكون بالخطاب، ولا بتلاوة القرآن أو حتى بحفظه كالببغاوات دون تدبّره لفهمه والعمل بما جاء فيه. بل بثورة معرفية تبدأ بإعادة النظر في كل المفاهيم الدينية من داخل القرآن لا من خارجه، ما دام القرآن يفسّر بعضه بعضا، وما دام فهم المتشابه يكون بردّه إلى مُحكمه. وهذا هو طريق الخلاص الوحيد. وإلا فليست فلسطين هي من ضاعت، بل والمواطن العربي أيضا. لأنه لن يكون فاعلا في التاريخ، بل مفعول به وفيه كما يحدق اليوم.
واعلموا يا محترمين، أن التاريخ يقول: الثورة الفرنسيّة لم تنجح بالدعوات الشعبوية والغوغائية، بل نجحت بعد أن سبقتها ثورة ثقافية عرفت بعصر الأنوار، حرّرت العقول من ثقافة القبور، والنفوس من ظلمات الكهنوت وظلم الطغاة، فاستبدل الناس أفكارهم البالية الخاطئة عن الدين والدنيا، بأفكار عقلانية جديدة، طبعت حياتهم، فغيّرت مجرى التاريخ.
وتذكّروا أيها السادة الأفاضل: أن الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيروا ما أنفسهم.
وكل عام وفلسطين تناديكم..
فهل من مجيب؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق