تمهيـــد:
بما أن العاهل المغربي محمد السادس، بصفته أميرا للمؤمنين، أصدر بمناسبة المولد النبوي الشريف أمرا لــ "المجلس العلمي الأعلى" لإخراج فتوى شاملة تُبيّن للناس أحكام الشرع في موضوع الزكاة، موضحا أن المقصد الأسمى من إصدار هذه الفتوى هو مقصد علمي توضيحي بالأساس، ما دام هدفه هو الإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي يطرحها الناس في هذا الموضوع بسبب الخلط القائم في أذهانهم بشأن هذه الفريضة الدينية، لاسيما ما يتعلق بالزكاة على الأموال المكتسبة من الأنشطة المستجدة في الحياة الاقتصادية الحديثة كالأجور والخدمات ومختلف الاستثمارات والمعاملات، وذلك بخصوص النصاب والمقادير وأوقات الإخراج.../...
ووحيث أن الله لم يجعل بين الإنسان وربه وسطاء، بل خاطبه مباشرة بالعقل والبيان، وطلب منه التدبر والفهم والعمل بما جاء في التنزيل الحكيم لقوله تعالى:
- {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29].
وحيث أن القرآن هو النص الوحيد المؤسس للعقيدة والتشريع وفق ما يقتضيه مفهوم التوحيد الخالص، فيحق للمواطنين، بوصفهم مؤمنين مخاطَبين مباشرة بالوحي، أن يشاركوا في هذا النقاش الديني والمجتمعي المصيري من منطلق قرآني بحت، يُعيد الزكاة إلى أصلها الرباني، ويحررها من التأويلات الفقهية الموروثة التي تجاوزها الواقع، ومن التوظيف السياسي الذي حولها في لحظات مبكرة من التاريخ الإسلامي زمن الخليفة الأول إلى سيف مسلط على رقاب المخالفين.
من هذا المنطلق، نسعى إلى تقديم قراءة قرآنية خالصة للزكاة، من حيث حقيقتها، أنواعها، وظيفتها، وغايتها الأسمى، بالإضافة إلى مقاصدها الاقتصادية والاجتماعية، مع دراسة حالة، لربطها بتحديات الواقع المعاصر، بعيدًا عن فقه العصور الغابرة، ودون الاستناد إلى أي رواية من خارج النص القرآني.
1. مقدمة
الزكاة ركن أساسي من أركان الإيمان لا الإسلام لأنها تدخل في مجال العمل لا القول. كما وأن الخطاب القرآني يتوجه بشأنها للذين آمنوا وليس للذين أسلموا، ما دام مفهوم الإسلام يشمل المعتقدات الإبراهيمية كافة (الموسوية والعيسوية والمحمدية)، فيما الشرائع والمناهج تختلف من أمة إلى أخرى بشهادة القرآن.
وبالتالي، فالزكاة هي أحد أسمى وأعمق المفاهيم الدينية التي تجمع بين الأصل الشرعي القرآني ومتطلبات التنظيم في المجتمع المدني الإسلامي، حيث تتجلى فلسفتها في تطهير النفس وتنمية المال، وتقوي الروابط الاجتماعية من خلال توزيع جزء من الموارد لصالح الفقراء والمحتاجين.
فمن ناحية، تعبر الزكاة عن عبادة روحية تتعلق بتنقية النفس من الأدران المادية والمعنوية، وتزكية القلب من الأغراض الذاتية، عبر دفعها لله تعالى بقلوب خاشعة ونية صادقة، وذلك لتحقيق السكينة والتوازن النفسي.
ومن ناحية أخرى، تؤكد النصوص القرآنية على أن الزكاة ضرورة اجتماعية واقتصادية تعزز التلاحم بين أفراد المجتمع، وتساهم في الحد من الفقر والبؤس، وتسهم في استقرار ورفاهية الأمة، وينال صاحبها رضى الله وعظيم أجره يوم لقائه، فيما ينال الممتنع عن أدائها العذاب الأليم بشهادة القرآن.
لذلك، ارتأينا - في إطار تجديد المفاهيم القرآنية التي يقوم هذا الموقع بتوضيحها - أن نقدم وجهة نظرنا المتواضعة للمسألة - من منظور قرآني بحث، مع التركيز على فهم أسسها وتحدياتها المعاصرة، بالإضافة إلى استعراض تطبيقاتها الممكنة، ودراسة حالة بعض البلدان التي نجحت في تحويلها إلى رافعة اقتصادية وعامل من عوامل التنمية.
2. تعريف الزكاة: لغةً واصطلاحًا
• لغويًا: كلمة "الزكاة" تأتي من الجذر "زَكَا"، والذي يعني النمو والزيادة والبركة، كما يعني التطهير والتنقية. فإخراج الزكاة يطهر المال ويزيد في بركته، ويطهر النفس فيرفع من حظوظها لنيل رضى الله ورحمته.
• اصطلاحًا: هي حصة معينة من المال يفرضها القرآن على المؤمن دون تحديد نسبتها، تدفع لمستحقيها الذين سيأتي ذكرهم في سياق هذا المبحث.
• عمليا: يتساءل العديد من الشباب إن كان بإمكان الزكاة حل مشكلة الفقر والبطالة في المغرب؟ والحقيقة أن الزكاة برغم أهميتها، يمكنها التخفيف من معاناة المحتاجين وتوفير بعض الدعم المادّي لهم، لكنها لا تستطيع حل مشكلة الفقر بشكل جذري. لأن الفقر ليس مجرد نقص مالي، بل له أبعاد اجتماعية واقتصادية أخرى مترابطة. ولأن الزكاة بحكم طبيعتها الخاصة وحجمها المحدود، لا يمكنها معالجة كل هذه الأبعاد، ما دامت لا تخرج عن كونها مجرد معونة فردية في شريعة الفقهاء، بينما الفقر والبطالة والعنوسة والتعليم والصحة والبنية التحتية، مشكلات كبرى تحتاج إلى حلول جماعية تتحملها الدولة بكل مكوناتها. من هنا تأتي الحاجة لتحويل الزكاة من مجرد معونة فردية محدودة إلى رافد من روافد التنمية المستدامة.
3. الزكاة في القرآن
لقد جاء في سورة الشمس توضيح محكم وجامع لمعنى الزكاة وعلاقتها بالنفس البشرية. حيث يقول تعالى:
- {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7 – 10].
أهمية الآية:
تُبيّن الآية عظمة الله في خلق الإنسان وكمال صورته، حيث إن كل مولود يولد بفطرة تساعده على التمييز بين الخير والشر وبين الهدى والضلال. كما توضح أن النفس البشرية لديها قدرة على معرفة طريق الفجور والتقوى، وأن الهداية الإلهية من خلال الوحي المكمل للفطرة هي منحة للإنسان تساعده على سلوك دروب الخير والنجاح. وبذلك لم يترك الله الإنسان وحيدا يتخبط في عتمات جهله أثناء تجربته الأرضية.
4. شرعية فريضة الزكاة
وردت الزكاة في القرآن الكريم في مواضع عديدة، اقترنت في معظمها بـالصلاة. هذا الاقتران لم يكن مجرد صدفة، بل له هدف واضح يحمله دلالات عملية، منها:
• كمال العبادة: لأن الصلاة بمعناها القرآني لا علاقة لها بالصلاة الحركية، ما دامت العبادة التي أمر الله بها عباده تعني إقامة مستويين من الصلة وفق ما يعطيه جذر مصطلح "صلاة" من دلالة:
- المستوى الأول: إقامة الصّلة الدائمة والمستمرة العمودية المباشرة مع الله من خلال قراءة الذكر وتدبره لفهم المراد من خطاب الله به حتى تكون عبادته وفق المنهج الذي حدده لعباده، بدليل قوله تعالى:
- {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]،
والذكر هنا يعني القرآن تحديدا، بدليل قوله:
- {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
- المستوى الثاني: إقامة الصلة الدائمة والمستمرة الأفقية مع المجتمع باختلاف مكوناته، وذلك لتطبيق وتنزيل ما تعلمه الإنسان في مدرسة القرآن واقعا على الأرض، والمتمثل في العمل الصالح الذي ينفع الناس، باعتباره العملة الوحيدة المقبولة يوم العرض، لا الصلاة الحركية كما زعم التراثيون ولا غيرها من مناسك وطقوس العبادة. بدليل أن الله جعل للإسلام أركان ثلاثة لا غير: (الإيمان بالله، الإيمان باليوم الآخر، العمل الصالح الذي ينفع الناس) بغض النظر عن الأمة أو الرسول الذي يتبعه القوم، لقوله تعالى:
- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
• الترابط الروحي-المادي: هنا يبرز مدى الترابط الذي يقيمه القرآن بين الوحي والواقع، بين الروح والمادة، بين الإيمان والعمل.. فالصلة العمودية بالله تمثل أرقى مستويات الخضوع الروحي والخشوع الإيماني. أما الزكاة فتمثل المصداق الواقعي والتطبيق العملي لهذا الخضوع والإيمان من خلال بذل المال في سبيل الله، ما دام أحب شيء لنفس الإنسان هو المال، وإنفاقه في سبيل الله يعد قمة الاختبار النفسي والامتحان الدنيوي.
• العبادة بشقيها العمودي والأفقي: هذا الربط القرآني بين الصلة العمودية مع الله والصلة الأفقية مع المجتمع يؤكد بما لا يده مجالا للتأويل أن الدين لا يكتمل بالعبادة الفردية وحدها، بل يجب أن يمتد إلى الجانب الاجتماعي والاقتصادي (إيمان حقيقي مقترن بعمل فعلي). ذلك، لأن الصلاة العمودية من خلال قراءة وفهم وتدبر الذكر الكريم تطهر النفس، وتغذي الفهم، وتقوي العلاقة بين العبد وربه، بينما الصلاة الأفقية التي تعني الصلة مع المجتمع تعتبر تطبيقا عمليا يختبر به إيمان العبد وفهمه لدينه، لأنها تنمي المعرفة، وتزكي المال فتضاعفه أضعافا مضاعفة ببركة الله، وفي نفس الوقت تخدم المجتمع وتلبي حاجاته. هذا الاقتران يربط بين صلاح الفرد وصلاح المجتمع، وهذا هو معنى الإسلام: أي الصلاح والإصلاح الذي هو ضد الفساد والإفساد.
5. شواهد قرآنية
وردت كلمة "الزكاة" في القرآن الكريم 32 مرة.، وقد جاءت في معظم الآيات مقترنة بكلمة "الصلاة"، ومثال ذلك:
- {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}. [البقرة: 43]
- {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاة}. [البقرة: 83]
- {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّه}. [البقرة: 110]
- {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}. [البقرة: 177]
- {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}. [البقرة: 277]
- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. [النساء: 77]
- {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا}. [النساء: 162]
- {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}. [المائدة: 12].
• والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو:
- لماذا جعل الله تعالى الزكاة مقترنة بالصلاة في عديد الآيات فيما فرق بينهما الفقهاء بحيث جعلوا للزكاة موعدا سنويا لا علاقة له بالصلاة الدائمة والمستمرة كل يوم؟
- ثم هل يمكن للفقراء والمُعدمين الذين تتوجب لهم الزكاة انتظار عام بكامله حتى يحصلوا على بعض من إحسان المؤمنين؟ لأنه بهذه الطريقة سيقضى عليهم جوعا قبل أن يحل الموعد السنوي لإخراج الزكاة.
• من حيث المعنى:
- نقول هذا لأن المعنى القرآني الذي تعطيه الآيات التي استشهدنا بها، يفيد إتيان المال المفروض على الأغنياء للفقراء بشكل دائم ومستمر كلما حصل الإنسان على دخل كما هو حال ديمومة الصلاة واستمرار أدائها. هذا علما أن الصلاة تنفع صاحبها فيما الزكاة تنفع الناس، ولا خير في عبادة لا تجمع بين الإثنين.
• من حيث الدلالة:
هذا الاقتران بين الزكاة والصلاة يشير إلى عظمة وأهمية الزكاة في النظام الإسلامي، وأنها أحد أركان الإيمان الأساسية، لأن فضلها على المجتمع وأجرها عند الله أعظم من كل عبادة بما في ذلك الصلاة التي لا قيمة لها إذا لم تقترن بالعمل الصالح الذي ينفع الناس.
6. أنواع الزكاة
القرآن الكريم يميز بين نوعين أساسيين من الزكاة كما سبقت الإشارة:
• زكاة النفس: وتعتبر تطهيرا للنفس من الشح والبخل، وهي شرط أساسي لتقوية الإيمان الذي يساعد الإنسان على النجاح في حياته.
• زكاة المال: وهي الفريضة التي تُخرج من المال المكتسب بشكل دائم سواء أكان هذا المال أجرا، أم ربحا من تجارة، أم من حصاد موسمي، أو من غلة سنوية، أو من معاملات مالية ظرفية مشروعة يحقق الإنسان الربح الحلال منها، لأن الله طيّب لا يقبل إلا المال طيّب.
• أما الفرق بين زكاة النفس وزكاة المال فيكمن في أن زكاة النفس هي تزكية أخلاقية للعقل والقلب والفؤاد، بينما زكاة المال هي تطهير للملكية المكتسبة وتوزيع عادل للثروة.
7. الفرق بين الزكاة والصدقة
- بالرغم من أن القرآن اعتبر الزكاة فريضة وحق معلوم لمستحقيها في مال الأغنياء، إلا أنه لم يحدد مقدارها، بل تركه لجود المؤمن وكرمه، يحدده باعتدال حسب مصادر دخله ومبالغ كسبه وأوقات تحصيلها، ما دام المال الذي يزكيه الإنسان أو يتصدق به يعتبره الله قرضا حسنا يضاعفه لمن يقدمه أضعافا مضاعفة، لذلك سماه القرآن "زكاة"، أي أن المال يزيد ولا ينقص. وقد فرضها الله على الأغنياء دون الفقراء.
في حين نجد الفقهاء مثلا فرضوا نوعا غريبا من الزكاة لم يشرعها تعالى لعباده، ويتعلق الأمر بزكاة الفطر التي تأتي بعض صيام شهر رمضان. والمفارقة أنهم فرضوها على الناس كافة – أغنياء وفقراء على حد سواء - بل حتى على الأجنة في أرحام أمهاتهم. والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: - من يجب أن يدفع لمن ؟.. لأنه إذا لم يكن هذا هو الغباء فلا غباء في هذه الدنيا ولا من يحزنون.
أما الصدقة، فليست فريضة واجبة مثلها مثل الزكاة، ولا مشروطة بكسب ولا بنصاب معيّن، بل يستطيع كل إنسان أن يتصدق بما أفاء الله عليه كثيرا كان أم قليلا. لأنها في الأصل عمل تطوعي يدخل في باب الإحسان غير المحدود لا الفريضة المفروضة، لقوله تعالى:
- {إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعٗا (20) وَإِذَا مَسَّهُ ٱلۡخَيۡرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا ٱلۡمُصَلِّينَ (22) ٱلَّذِينَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَاتِهِمۡ دَآئِمُونَ (23) وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ مَّعۡلُومٞ (24) لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ} [المعارج: 24].
هذه الآية الكريمة توضح بشكل جميل طبيعة النفس البشرية، بحيث كلما مسّها الشّرّ شعرت بالرّعب والفزع، وكلما رزقت خيرا انتابها الشح والبخل والرغبة في الامتناع عن العطاء. وبذلك يكون المال هو المحك الذي يدور حوله الامتحان الدنيوي. وقد استثنى الله تعالى المصلّين من ذلك، والمصلّين هنا لا تعني الذين يقيمون الصلاة الحركية، بل تعني وفق ما يعطيه السياق، الذين يقيمون الصلة الأفقية مع مجتمعهم بشكل دائم ويخصصون في أموالهم المكتسبة حق معلوم وبشكل دائم مستمر للسائل الذي يطلب العون، والمحروم المحتاج المتعفف الذي لا يسأل أحدا من حيائه وخجله برغم حاجته. وكون الآية تتحدث عن حق معلوم، أي نصيب محدد من المال، فلأن الحديث هنا هو عن الزكاة المفروضة لا الصدقة الطوعية، ما يؤكد ديمومتها في كل وقت وحين، بخلاف الموعد السنوي الذي ابتدعه الفقهاء استنادا إلى طبيعة الحياة البدوية البسيطة والزراعية الموسمية القديمة.
8. من حيث الاستحقاق
ساوى القرآن من حيث الاستحقاق بين الزكاة والصدقة، بدليل نص الآية 60 من سورة التوبة التي حدد فيها من يستحقون العطاء، ويشمل ذلك كل سائل ومحروم، سواء أكان مصدر المال زكاة أم غيرها، لقوله تعالى:
- {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
والفريضة هنا قد تعني ما فرضه الله على عباده كالزكاة، أو ما فرضه العبد على نفسه كالصدقة يتقرب بها من خالقه لينال رضاه.
والاية الكريمة تحدد ثمانية أصناف من مصارف الزكاة وتوضح من يستحقها، وهم:
- الفقراء والمساكين: من لا يملكون شيئًا أو يملكون شيئًا قليلًا يكفي لسد حاجتهم الأساسية، مع وجوب التفريق بين الفقير الذي لا يتوفر على مصدر رزق قار، والمسكين الذي لا يستطيع العمل لعذر جسدي أو نفسي حل به.
- العاملون عليها: هم الأشخاص الذين يقوم المجتمع أو الدولة بجمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها من خلالهم، وهو ما يفيد بوضوح، ضرورة تدخل الدولة في تنظيم عملية جمع الزكاة وصرفها بمعرفتها نظرا لما تتوفر عليه من معلومات دقيقة عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها.
- المؤلفة قلوبهم: وهم أشخاص تُعطى لهم الزكاة لتأليف قلوبهم وتطييب أنفسهم نحو الإسلام والمسلمين.
- في الرقاب: وتُطلق على تحرير العبيد من الرق (وقد أدى هذا الإجراء الغرض منه بعد أن اندثرت ظاهرة الرق في المجتمعات المعاصرة)، ويمكن أن يحل مشكلة بعض المسجونين الفقراء الذين لا يستطيعون دفع البديل المالي لعقوبتهم الحبسية، خصوصا الفقراء من أصحاب المخالفات والجنح المرتكبة لأول مرة.
- الغارمين: وهم الأشخاص الذين عليهم ديون لا يستطيعون سدادها، فيُعطون من الزكاة ليتمكنوا من سداد ديونهم.
- في سبيل الله: ويشمل ذلك كل ما فيه منفعة للدين والمجتمع الإسلامي، مثل دعم طلبة العلم، وإقامة بعض المشاريع الاستثمارية الصغيرة لتنمية الأسر الفقيرة في المجال القروي، بالإضافة إلى بعض البنى التحتية كالآبار والطرق، والجهاد في سبيل الله دفاعا عن الأرض والعرض والمال ضد المعتدي المغتصب عند الضرورة. فكل عمل صالح ينفع العباد ويحمي البلاد يكون في سبيل الله.
- ابن السبيل: وهو المسافر الذي انقطع به الطريق أو انتهى ماله وهو بعيد عن وأهله وأرضه.
8.1. الهدف من تحديد مستحقيها
توضح الآية 60 من سورة التوبة بدقة مستحقي الزكاة، مما يضمن وصولها لمن هم أحق بها من غيرهم. والهدف من ذلك كما يتبين من السياق هو:
- تطبيق مبادأ التكافل: تُجسد الآية مبدأ التكافل الاجتماعي في الإسلام، من خلال دعم فئات المجتمع الفقيرة والمحتاجة وتعزيز الوحدة بين المسلمين.
- تزكية النفس والأموال: أهمية الزكاة في الإسلام تكمن في أنها تُطهر أموال الأغنياء وتزكي نفوسهم وتضاعف من أموالهم ببركة من الله.
- الحكمة من الزكاة: يشير ختم الآية بـ "والله عليم حكيم" إلى أن الله سبحانه وتعالى على علم تام بكل شيء، وأنه حكيم في تشريعاته التي سنّها لتكون في خدمة عباده ومصلحة مجتمع المؤمنين به.
9. الفرق بين الزكاة والضريبة
الزكاة هي فريضة دينية تُخرج بقناعة شخصية طوعية دون ضغط أو إكراه، وتهدف للتطهير والبركة والأجر، لذلك جعلها الله دائمة لاقترانها بالصلاة، ما يعني أنها توجب في كل وقت وحين عند كل دخل أو كسب. بينما الضريبة هي واجب مدني تفرضه الدولة على مواطنيها لتمويل الخدمات العامة. وتختلف نسبتها ومصارفها من دولة إلى أخرى كما تتغير حسب السياسات الاقتصادية المعتمدة في كل بلد.
10. الزكاة واجب فردي، لكن جمعها وتوزيعها مسؤولية الدولة؟
الزكاة واجب فردي على كل مؤمن توفرت فيه الشروط، وقد حدد القرآن الجهات التي تتوجب لهم كما سبق القول، وعدم دفعها لا يفرض على الممتنع عقوبة دنيوية، بل يُترك أمره إلى الله يوم القيامة. لكن ذكر الآية لـ "العاملين عليها" يفيد بما لا يدع مجالا للشك أن تنظيم جمع الزكاة وتوزيعها على مستحقيها يجب أن يكون عملا من أعمال الدولة. ففي المجتمعات غير الإسلامية، يمكن أن يقوم المؤمن بإخراجها طوعا ويعطيها لمن يستحقها، أو يبعثها لبلده كي يستفيد منها مواطنوه.
لكن في المجتمعات الإسلامية، يفهم من نص الآية الكريمة أن الدولة هي الجهة الرسمية المكلفة بتنظيمها والمتمثل في جمعها وتوزيعها، نظرا لما تتوفر عليه من معطيات إحصائية دقيقة حول أحوال مواطنيها الاجتماعية واحتياجاتهم الاقتصادية الأساسية من جهة، وحتى لا تذهب أموال الزكاة لجهات متطرفة تسعى في الأرض فسادا كما يحصل في بعص البلدان الغربية حيث يقوم بعض المغفلين بتمويل منظمات إرهابية اعتقادا منهم أنهم يمولون الجهاد في سبيل الله.
وفي الحالة التي تتولى الدولة تنظيم الزكاة، يمكنها أن تفوض عملية تنظيمها لهيئة معينة تحت إشرافها، بعد أن تحدد نسبها حسب أنواع ومصادر الكسب، والتي يجب أن تقتطع من مبلغ الدخل العام قبل أن يخضع للضريبة، في حال رغب المصرح بإخراجها. وهنا يتحول الأمر إلى قرار سياسي يترجم إلى قانون مالي منظم يصب في مصلحة المجتمع، مثل ما هو الأمر بالنسبة للضريبة على الدخل وغيرها.
11. أجرها وعقوبة عدم إخراجها
- أجرها: يتمثل أجرها في الوعد الإلهي لمن يخرجها، والمتمثل في البركة التي تصيب المال فينمو بإذن الله، والأجر العظيم الذي يصيب صاحبه في الآخرة.
- عقوبتها: عدم إخراج الزكاة يُعد جريمة في حق الله والمجتمع. في الآخرة، توعّد الله الممتنعين عن دفعها بعقاب أليم. وهو ما يؤكد وجوبها كفريضة، بحيث لا يكتمل إيمان الإنسان إلا بإتيانها. وهو الأمر الذي يفرض على الدولة التي تقول أن دينها هو الإسلام، أن تحول الزكاة من فريضة دينية طوعية إلى قانون مدني ينظم عملية تحصيل الزكاة من المواطنيها الراغبين في إخراجها وطرق توزيعها أو استثمارها بما يعود بالمنفعة الدائمة على مستحقيها.
12. هل يمكن للزكاة أن تقضي على الفقر؟
الزكاة وحدها قد لا تقضي على الفقر بشكل كامل في بداية التجربة، ولكنها نظام تكافل اجتماعي فعال يساهم في تقليص الفجوة الطبقية. إنها "تكافل اجتماعي نسبي" يضمن الحد الأدنى من الكرامة للفقراء، ويمنعهم من التسول. لكن كلما ازدهر المجتمع المسلم إلا وقلت نسبة الفقر فيه وتقلصت الفوارق الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء.
13. الزكاة والنمو الاقتصادي
الزكاة ليست مجرد أداة لتغطية الحاجات الأساسية للفقراء كما اعتقد قديما الفقهاء، بل يمكنها أن تكون عاملا من عوامل التنمية ومحركًا للنمو الاقتصادي إذا تم توجيهها بذكاء. فبدلاً من إعطاء الأموال مباشرة للفقراء، يمكن استخدامها في تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة تملكها وتديرها الأسر الفقيرة. خصوصا في المناطق القروية المحرومة وأحزمة العار المحيطة بالمدن الأكثر هشاشة. هذا الاستثمار الاجتماعي يحول الفقير من مستهلك إلى منتج يساهم بدوره في التنمية.
14. التحديات المعاصرة للزكاة في المجتمعات المسلمة
تطرح قضية الزكاة على المجتمعات الحديثة تحديات من نوع جديد. منها:
- تحديد النصاب: صعوبة تحديد نصاب الزكاة على الأموال الحديثة، مثل المداخيل المتأتية من الأرباح الظرفية والاستثنائية، كالأسهم، والسندات، والأصول الرقمية (العملات المشفرة). وهو الأمر الذي يتطلب تدخل الدولة بخبرائها لتحديد النسب الواجبة، وهذا أمر يتجاوز اختصاص الفقهاء.
- الإدارة والتحصيل: ضُعف آليات جمع الزكاة وتوزيعها في معظم الدول الإسلامية، بحيث ظلت هذه الدول حبيسة الاجتهادات الفقهية العتيقة التي لم تعد تواكب ظروف العصر الحديث ومتطلباته. ناهيك عن أن المستجدات التي طرأت في حياة المجتمعات المسلمة تتجاوز بسنوات ضوئية مستوى وثقافة الفقهاء.
- الوعي بأهميتها: نقص الوعي لدى المجتمعات المسلمة بأهمية الزكاة في التنمية الاجتماعية، بسبب تشبث الغالبية بإسلام الوراثة السطحي، بدل إسلام القناعة الذي يقوم على الوعي بمسؤولية المسلم تجاه ربه ونفسه وتجاه مجتمعه، خصوصا إذا توفر له الفهم الصحيح لدينه، وفَهمَ أهمية العلاقة بين الصلاة العمودية (الصلة مع الله) والصلاة الأفقية (الصلة مع المجتمع)، والرابط الذي يجمع بينهما، فيجعل الثانية تنزيلا عمليا لمقتضيات الأولى كما أوضحنا أعلاه.
15. دراسة حالة: تجارب ناجحة يمكن الاستئناس بها
بعض الدول والمؤسسات الإسلامية قامت بتجارب ناجحة لإدارة الزكاة. على سبيل المثال، ماليزيا وإندونيسيا لديهما هيئات زكوية حكومية فعالة، تجمع الزكاة وتستثمرها في مشاريع تنموية، مثل التعليم المهني، والصحة، وتمويل المشاريع الصغيرة التي تعود بالربح على الفقراء والمحتاجين الشباب من ذوي الكفاءات. وقد بدأت مؤخرا عدد الدول العربية تنحو هذا المنحى بعد أن أدركت أهمية الزكاة الاقتصادية.
كما وأن بعض الدول الغربية، وخصوصا الجارة الشمالية إسبانيا، وضعت نظاما عمليا منذ سنة 2005، يسمح للمواطنين من أتباع الكنيسة المعمدانية بأن يتبرعوا لها من خلال التصريح بالدخل السنوي بنسبة لا تتجاوز 10% كحد أقصى من دخلهم، بحيث يتم فرض الضريبة على المبلغ المتبقي بعد خصم مقدار التبرع منه. وبذلك، تضمن الدولة تحصيل واجب الضريبة، وفي نفس الوقت تصمن الكنيسة الحصول مباشرة من خزينة الدولة على تبرعات المؤمنين التابعين لها، في حين يمكن لغير المؤمنين بالكنيسة أن يتبرعوا لفائدة جمعيات محلية خيرية، أو لفائدة منظمات تعنى بالأطفال المشردين وضحايا الحروب والأمراض في الدول الفقيرة.
وللإشارة فقد بلغت التبرعات التي تحصل عليها الكنيسة من المؤمنين في إسبانيا مبلغا يفوق 7 مليار دولار سنويا – وفق تصريح بعض أعضاء الحزب الاشتراكي الذي سن هذا القانون في عهد الرئيس سباطيرو (2005). لهذا السبب لا يوجد فقراء يتسولون الناس في إسبانيا، وهي الدولة التي يعتبرها فقهاء الرسوم دولة كافرة.. فيا للغرابة؟.
16. استنتاجات وتوصيات
يستفاد مما سلف، أن حكمة الله من تشريع الزكاة تؤكد لمن يفهمها، أن الزكاة هي أكثر من فريضة دينية، إنها نظام اقتصادي واجتماعي شامل ومتكامل. لذلك، آن الأوان للمطالبة بتفعيل دور الدولة في جمع الزكاة وتوزيعها بشكل عادل وفعال يعود بالخير على مستحقيها.، خصوصا في المغرب الذي يحتضن مؤسسة إمارة المؤمنين بخلاف بقية الدول الإسلامية، والذي يجب أن يكون القدوة في هذا المجال.
وفي هذا الصدد، يمكن القول إن دعوة أمير المؤمنين محمد السادس المجلس العلمي الأعلى لإصدار فتوى تفيد الناس بشأن الزكاة، قد تكون في جوهرها دعوة لتحديث فقه الزكاة ليشمل الأصول المالية الحديثة. لكن، ولأن التحديات التي تواجه المجتمع المغربي على وجه الخصوص، تتطلب ما هو أكثر من ذلك، فالمطلوب اليوم هو تحويل الزكاة من مجرد إعانة يستهلكها الفقراء وفق أنصبة عتيقة يحددها الفقهاء وتفرض سنويا، إلى أداة تنموية واستثمارية مستدامة تساهم في التنمية وتقلص من الفوارق الاجتماعية بين الطبقات.
17. خاتمـــة
لأن الزكاة هي جوهر التكافل في الإسلام، ومفتاح العدالة الاجتماعية. فقد قدمت شريعة السماء من خلال القرآن الكريم نظامًا مرنًا يجمع بين البعد الروحي والاقتصادي. وبالتالي، فإن تفعيل هذا النظام في العصر الحديث يتطلب جهودًا مشتركة من الأفراد والدولة، لتتحول الزكاة إلى قوة حقيقية تساهم في بناء مجتمع أكثر عدلاً وازدهارًا.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق