(تحليل سياسي)
(على ضوء التاريخ والجغرافيا والسياسة الدولية)
مدخل: زيارة الوفد البرلماني للناتو
أعادت الزيارة المرتقبة لوفد من الجمعية البرلمانية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى مدينة مليلية المقررة في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر 2025، الجدل حول الوضع القانوني والسياسي لمدينتي سبتة ومليلية الواقعتين في شمال إفريقيا والخاضعتين للسيطرة الإسبانية منذ قرون. فبينما اعتبرت مدريد هذه الزيارة خطوةً رمزية لتأكيد انتماء المدينتين إلى الفضاء الغربي الأمني، رأت الرباط فيها استفزازًا سياسيًا وتكريسًا لواقع الاحتلال. أما واشنطن، الحليف الأكبر داخل الحلف، فقد التزمت الحذر، مؤكدة على التضامن داخل الناتو دون تبنّي موقفٍ قانوني صريح حول السيادة.../...
1. الوضع الجغرافي
• تقع سبتة على الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق بمساحة نحو 18.5 كم²، وتشكل نقطة استراتيجية للتحكم في مدخل البحر المتوسط.
• أما مليلية فتمتد على مساحة 12 كم² تقريبًا شرق الريف المغربي، مطلة على البحر المتوسط وقريبة من الحدود الجزائرية.
• جغرافيًا، كلا المدينتين جزء لا يتجزأ من التراب الإفريقي، ما يجعل موقعهما استثنائيًا ضمن خريطة النفوذ الأوروبي.
2. الخلفية التاريخية
• سبتة: احتلتها البرتغال سنة 1415، ثم آلت إلى إسبانيا سنة 1640 بعد انفصال البرتغال عن التاج الإسباني.
• مليلية: احتلها الإسبان سنة 1497، وظلت قاعدة عسكرية وتجارية متقدمة على الساحل المغربي.
• منذ استقلال المغرب سنة 1956، طالبت الرباط مرارًا باستعادة المدينتين باعتبارهما امتدادًا طبيعيًا لترابها الوطني، لكن مدريد رفضت أي تفاوض حول السيادة.
3. الوضع السياسي والإداري
• تعتبرهما إسبانيا مدينتين تتمتعان بالحكم الذاتي منذ سنة 1995، على غرار الأقاليم الإسبانية الأخرى، مع برلمان محلي وحكومة محلية.
• يخضعان مباشرة للسيادة الإسبانية وفق الدستور، وتشارك مؤسساتهما في الحياة السياسية الإسبانية (الانتخابات الوطنية والبلدية).
• المغرب لا يعترف بهذا الوضع، ويرى فيه تكريسًا لاحتلال استعماري يتعارض مع مبدأ تصفية الاستعمار.
4. البعد الاجتماعي والديموغرافي
• يبلغ عدد سكان سبتة نحو 85 ألف نسمة، ومليلية نحو 87 ألفًا، حسب الإحصاءات الأخيرة.
• يتكوّن المجتمع من خليط:
o الإسبان ذوي الأصول الأوروبية.
o المغاربة المسلمون الذين يشكلون نسبة متنامية (بين 40–50% من السكان في مليلية).
o أقليات يهودية وهندية.
• هذا التعدد يعكس الطابع الحدودي للمدينتين، ويبرز الهوية المزدوجة: أوروبية رسميًا، لكن مغربية اجتماعيًا وديموغرافيًا.
5. الانتماء إلى الفضاء الأوروبي
أ. الوضع القانوني
• المادة 49 من معاهدة الاتحاد الأوروبي تشترط أن تكون الدولة المرشحة للانضمام دولة أوروبية.
• سبتة ومليلية، بصفتهما جزءًا من إسبانيا، تدخلان تلقائيًا في الاتحاد الأوروبي.
• لكنهما تتمتعان بوضع خاص: مشمولتان بالحدود الخارجية للاتحاد، لكنهما خارج النظام الجمركي الموحد.
ب. المفارقة الجغرافية
• جغرافيًا تقعان في إفريقيا، ما يتناقض مع شرط “الأوروبية” للعضوية.
• لو لم تكونا تحت السيادة الإسبانية، لما كان بإمكان المغرب المطالبة بعضويتهما في الاتحاد الأوروبي، لأن المغرب ليس دولة أوروبية.
• هذا التناقض يكشف التوتر بين الجغرافيا الطبيعية (إفريقية) والقانون السياسي (أوروبي بحكم السيادة الإسبانية).
6. المواقف المتعارضة: المغرب وإسبانيا
• المغرب:
o يعتبرهما أراضٍ محتلة.
o يستند إلى القرب الجغرافي والتاريخ المشترك قبل الاحتلال.
o يضع المطالبة بهما في إطار استكمال الوحدة الترابية (إلى جانب الصحراء).
• إسبانيا:
o تؤكد أن السيادة غير قابلة للتفاوض.
o تستند إلى استمرارية الوجود والسيادة منذ قرون.
o تقول إن سكان المدينتين يحملون الجنسية الإسبانية ويتمتعون بحقوق سياسية كاملة، ما يعزز انتماءهما لإسبانيا.
7. الموقف الدولي
• الأمم المتحدة: لا تُدرج المدينتين ضمن لائحة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، وهو ما يُعتبر انتصارًا لموقف مدريد.
• الاتحاد الأوروبي: يتعامل معهما كجزء من إسبانيا، مع استثناءات إدارية محددة.
• المغرب يرى في ذلك ازدواجية في تطبيق مبدأ تصفية الاستعمار، خصوصًا إذا قورن بحالة جبل طارق.
8. موقف الناتو
• المعاهدة المؤسسة (1949): المادة الخامسة تنص على الدفاع الجماعي، لكن المادة السادسة تحدد النطاق الجغرافي ولا تشمل بوضوح الأراضي الإفريقية.
• هذا يعني أن سبتة ومليلية ليستا مشمولتين تلقائيًا بالحماية الجماعية.
• رغم ذلك، تؤكد التصريحات السياسية للناتو (وخاصة الأمين العام في قمة مدريد 2022) أن الحلف “يحمي جميع الحلفاء ضد أي تهديد”، وهو موقف سياسي لا يرقى إلى تعديل قانوني.
• زيارة الجمعية البرلمانية للناتو إلى مليلية هي رمزية سياسية أكثر من كونها التزامًا عسكريًا.
9. الموقف الأمريكي
• الولايات المتحدة، باعتبارها الممول الأكبر للحلف وصاحب الكلمة الفصل، لم تصدر أي موقف رسمي يقر بأن المادة الخامسة تشمل سبتة ومليلية.
• واشنطن تتبنى خطابًا عامًا يقوم على:
o الالتزام بالدفاع عن الحلفاء.
o تجنب الخوض في قضايا السيادة المتنازع عليها مع المغرب.
• عمليًا، تفضّل الإدارة الأمريكية عدم التصعيد بين شريكين استراتيجيين (المغرب وإسبانيا)، خصوصًا في سياق التوترات الإقليمية في شمال إفريقيا والساحل.
خاتمـــة
تجسد سبتة ومليلية معضلة جيوسياسية وقانونية مركبة: جغرافيًا تنتميان إلى إفريقيا، تاريخيًا ارتبطتا بالمغرب، سياسيًا تُداران كجزء من إسبانيا، وديموغرافيًا تحملان هوية مزدوجة. موقف المجتمع الدولي يميل لصالح إسبانيا بحكم الأمر الواقع، لكن مطالب المغرب تظل قائمة في إطار استكمال وحدته الترابية.
أما الناتو، فهو يتعامل مع المدينتين بميزان دقيق: تضامن سياسي دون التزام قانوني صريح، بينما الولايات المتحدة تلتزم الغموض الاستراتيجي لتفادي الإضرار بعلاقاتها مع الطرفين.
وتبقى الزيارة البرلمانية المرتقبة للناتو في مليلية مدخلاً جديدًا لإعادة طرح سؤال السيادة، وإبراز الطابع المعقّد لهذه القضية التي لم يُكتب لها بعد حل تفاوضي أو قانوني نهائي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق