مفهوم الإله في الديانة الإبراهيمية

 

مقال ديني
(مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا 
وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾
[سورة آل عمران: 67]

1.  مقدمـــة

يُعد مفهوم الإله في العقيدة الإبراهيمية من الركائز الأساسية التي تشكلت من خلال ترسيخ مبدأ التوحيد والإيمان بوجود إله واحد ذو صفات عالية، هو خالق الكون ومدبره. يتسم هذا المفهوم بالترفُّع عن الصفات البشرية، مع التركيز على كماله المطلق، وعلمه اللامتناهي، وقدرته غير المحدودة. يتفق أبناء الديانة الإبراهيمية بمعتقداتها الثلاثة (الموسوية والعيسوية والمحمدية)، على أن الإله لا يسري عليه زمان ولا يحدّه مكان، وأنه مصدر الوجود، وربَّ كل موجود، لا يُشبهه شيء في صفاته أو أفعاله، وهو بكل شيء محيط.../... 


في الديانة الإبراهيمية، يُنظر إلى الإله على أنه ذو إرادة حرة، يختار ويختص بما يشاء من صفات كالحياة والعلم والقدرة والرحمة والعدل، ويكنّ عبادُه له حبًّا وخشية، مع إدراكهم لعظمته المطلقة التي تستعصي على الفهم البشري. 

يُعد الإيمان بصفاته وأسمائه من دعائم العقيدة، حيث يتم تصويره بأسمائه العليا التي تعبر عن ذاته، وصفاته الحسنى التي تعبر عن أفعاله. تعكس المفاهيم حول الإله في الديانة الإبراهيمية تصورًا إلهيًا متكاملًا يربط بين القداسة والعدل والرحمة، ويؤكد على أن الإله مصدر كل خير، محبُّ للعدل، يمتاز بأنه رحمن رحيم، وعليم حكيم. وبذلك يطمئن المؤمنون إلى أن الإله هو المهيمن على العالم، والعادل في قضائه، اللطيف في قدره، والمحب لعباده. 

على الرغم من الاختلافات في التصورات والمعاني، يظلُّ جوهر مفهوم الإله في الديانة الإبراهيمية موحدًا في الاعتراف بأنه الخالق، المبدع، المصور، وأنه المدبر، وهو المطلق، الهادي، والرحيم، الذي يستحق العبادة والخضوع، ويجب على المؤمنين أن يتوجهوا إليه بكل خشوع وتوكّل، مستجيبين لدعوة آبائهم على مر العصور بتوحيده وعبادته والتوكل عليه دون غيره. 

وقد شهدت مفاهيم الإله عبر التاريخ تطورًا في الأوصاف والصفات، لكنها بقيت متحدة في جوهر التوحيد والإيمان بربوبية الله للعالمين، باستثناء العقيدة اليهودية التي اعتبرت الله ربا خاصا بشعب إسرائيل، والعقيدة المسيحية التي حولت الإله من رب واحد إلى أرباب ثلاثة.


2. تاريخ الديانة الإبراهيمية

نشأةُ الديانة الإبراهيمية بصيغتها التوحيدية النهائية تعود إلى صحف التاريخ القديمة (صحف إبراهيم)كما ذكرت في القرآن، حيث ظهرت الأفكار الدينية التي تجمع بين الإيمان بوحدانية الله واعتقادها في أنبياء الله الأطهار. تتعلق العقيدة الإبراهيمية بترسيخ مفهوم إله واحد وخالق للكون، مع التأكيد على أنه لا شريك له، وهو المعبود الوحيد الذي يختص بالألوهية والربوبية والعبادة. 

تطور المفاهيم الإلهية في إطار هذه العقيدة شهدت نمواً وتعمقاً عبر العصور، حيث استُخدمت نصوص مقدسة لتثبيت وفهم طبيعة الإله، مع استعراض صفاته وأفعاله التي تميزه عن باقي الكائنات. في مرحلة مبكرة، كانت التصورات تتمحور حول إله عادل وذو قوة وجبروت، مع التركيز على علاقته بالخلق وحبه للبشر، وهو ما يتضح في النصوص المقدسة لكل من اليهودية والمسيحية والإسلام. 

ومع تطور الفكر الديني، ازدادت تحسينات المفاهيم الإلهية، حيث سعت كل عقيدة إلى إبراز خصائصه المميزة، سواء من خلال الأسماء أو الصفات أو التفاعل مع الإنسان. وانتقلت مفاهيم الإله من سياقات بدائية كما كانت زمن آدم وأبنائه، إلى رؤى متطورة تتداخل مع فلسفات مختلفة، وغالبًا ما كانت محاولة لتفسير وجوده، ومدى قدرته على التدخل في حياة المؤمنين، إلى أن ترسخت مفاهيم مركبة تتضمن عناصر من التوحيد، والتثنية والتثليث، وصفات فعلية وخلقية تظهر في النصوص التراثية التي ابتعدت عن نقاء التوحيد. وهو المر الذي أسهم في تكوين صور مختلفة غنية ومتنوعة عن الإله في العقيدة الإبراهيمية، مع الحفاظ على مركزية أحادية الله، والتي تعتبر الركيزة الأساسية التي تجمع بين المعتقدات الثلاثة. 

مع مرور الزمن، أصبحت هذه المفاهيم أدوات لتعزيز الهوية الدينية، وكذلك إطارًا للفهم الروحي والفكري، مع مقاومة العديد من التحديات المعاصرة التي تحاول أن تعيد صياغة الصورة الإلهية وتحد من الثوابت المعتمدة على النصوص الدينية، مما يجعل دراسة تطور المفاهيم الإلهية من سياقها التاريخي ضرورة لفهم أصول العقيدة الإبراهيمية وأهميتها المستمرة في الفكر الديني والروحي.


2.1.    نشأة العقيدة الإبراهيمية

نشأةُ العقيدة الإبراهيمية تعد من أبرز المحطات التي أسهمت في تشكيل المفاهيم الدينية حول الإله، حيث ظهرت أولاً في سياق حضارات قديمة وعقائد متعددة تعبر عن تصور الإنسان لقوة عليا غير مرئية تملك القدرة على الخلق والتحكم في العالم. ترجع الجذور التاريخية للعقيدة إلى العصور القديمة، حيث تبلورت مفاهيم وحدة الله في المنطقة الشرق أوسطية، خاصة بين الشعوب التي تؤمن بالعقيدة التوحيدية السماوية التي ظهرت لاحقًا، كاليهودية والمسيحية والإسلام. 

برزت ملامح هذا التصور الجديد في النصوص القديمة، التي تحث على التوحيد والاعتراف بالإله الواحد الذي لا شريك له، عكس العقائد القديمة التي كانت تنظر إلى وجود عدد من الآلهة التي تتصارع وتتنازع فيما بينها. 

مع تطور العقيدة الإبراهيمية، ازدادت مفاهيم وحدانية الإله، وارتبطت بالصفات الذاتية والإلهية التي تبرز استثنائية وقوة الخالق، مثل الحياة، العلم، القدرة، الرحمة، والعدل. نشأت العقيدة الإبراهيمية من خلال تقاليد دينية متقاربة، تتأسس على النصوص المقدسة، والتقاليد الشفهية، والتجارب الروحية، والتي أيدتها الجماعات الدينية في فترات مختلفة من التاريخ.

لعب الإطار الثقافي والسياسي دورًا هامًا في ترسيخ تصور الإله كوحدة ذات صفات مطلقة، مما أدى إلى إرساء وتطوير عقيدة التوحيد التي تعتبر من أركانها الأساسية. عبر العصور، تداخلت التصورات الإلهية في العقيدة الإبراهيمية مع مفاهيم فلسفية ولاهوتية، محققة تفاعلًا عميقًا بين النص المقدس والفكر الفلسفي والوعي الديني، مما زاد من تأثيرها ودورها في تشكيل الهوية الدينية والثقافية للمجتمعات التي تتبناها. وهكذا، فإن نشأة العقيدة الإبراهيمية تمثل نقطة الانطلاق لدراسة المفاهيم الإلهية التي تتفاوت في التعبيرات والتفسيرات، لكنها تتفق في جوهرها على وحدانية الإله وأهميته في حياة الإنسان والكون.


2.2.    تطور المفاهيم الإلهية

شهدت مفاهيم الإله عبر التاريخ تطوراً ملحوظاً، حيث اعتبرت بدايةً كقوى طبيعية أو أرواح مقدسة تتدخل في حياة الإنسان، ثم توسعت لتتشكل مفاهيم أكثر تعقيداً وتوحيداً. في العقائد القديمة، عُبدت آلهة متعددة تظهر في أساطير ومعتقدات مرتبطة بالظواهر الكونية، مع وجود تصور غيبي يربط بين الإنسان والإله من خلال الطقوس والعبادات. 

مع مرور الزمن، بدأت عمليات التوحيد تتبلور تدريجياً، خاصة في المعتقدات التي تفرعت عن العقيدة الإبراهيمية الأساس، حيث ظهرت فكرة الإله الواحد الذي هو خالق الكون ومدبره، والذي يتسم بالكمال والعدل والرحمة. 

في العقيدة اليهودية، برز مفهوم التوحيد بشكل حاسم، حيث ركزت النصوص المقدسة على أن الله واحد لا شريك له، وهو مصدر كل خير، مع اختلاف جوهري يكمن في أن اليهود يعتبرون الله رب شعب إسرائيل المختار دون غيرهم من الشعوب. 

أما في المسيحية، فكان تطور مفهوم الإله مرتبطاً بالتثليث، الذي يمثل تجسد الله في الأقانيم الثلاثة: الآب والابن والروح القدس، مما أضاف أبعاداً جديدة لفهم صفات الإله وعلاقته بالإنسان من وجهة نظر الكنيسة المسيحية. 

فيما تميزت العقيدة الإسلامية بعدة خصائص، حيث أكدت على أن الله واحد أحد، فرد صمد، بلا ولد ولا صاحبة ولا شريك، غني عن العالمين، منزه عن الصفات البشرية، متصف بالكمال والجلال والعظمة والسلطان. 

ومع تقدم الزمن، تطورت المفاهيم الإلهية لتشمل رؤى فلسفية عميقة، حيث حاول الفلاسفة واللاهوتيون تفسير طبيعة الله، مع مناقشة صفاته وأفعاله ضمن إطار عقلاني، الأمر الذي انعكس بقوة على تشكيل المفاهيم الدينية، كما أسهمت هذه التطورات في وضع أسس الفكر الديني، حيث استمرت تفسيراته وتصوراته في التفاعل مع التيارات الفكرية والثقافية، مما أدى إلى تنوع في فهم الإله، مع احتفاظها بجوهر التوحيد المطلق كعقيدة ثابتة.


3.     مفهومي الذات والصفات

تُعدُّ المفاهيم المتعلقة بالإله في العقيدة الإبراهيمية من أبرز عناصر التوحيد والتصورات الروحية التي استمرت عبر العصور، حيث تتكامل وتتفاعل مع بعدين رئيسيين؛ الأول هو بعد الوحدانية، الذي ينص على أن الله واحد لا شريك له، والثاني هو بعد الصفات، التي تعبر عن خصائص الله المشرفة على كافة وجوده، مثل الحياة، العلم، القدرة، العدل، والرحمة. 

إن فهم طبيعة الإله في هذه العقيدة يقتضي التأمل في أسمائه الحسنى، التي تمثل تجليات لصفاته، وتتيح للبشر فهم العلاقة بين الله وخلقه بشكل أكثر قربًا وعمقًا. 

من خلال النصوص المقدسة، يتضح أن الإله في العقيدة الإبراهيمية هو الكائن الأسمى، الذي يمتلك القدرة المطلقة، والمعرفة الشاملة، والذي هو بعيد عن النقص، ومصدر كل خير، لا يُشبه شيئًا من مخلوقاته، وأنه يتصف بالعدل والرحمة بما يحقق التوازن والتناغم في العالم. 

وتبقى أهمية هذا المفهوم في توجيه سلوك الإنسان، وتعزيز قيم العدالة والأخلاق والعمل الصالح الذي ينفع الناس، وبناء علاقة روحية متينة مع الخالق، بعيدًا عن التصورات المادية أو التجسيدية الخاطئة. 

إن استمرار النقاش والبحث في مفهوم الإله يثري الفهم الديني، ويعطي مرونة وعمقًا للمعتقدات، مع المحافظة على جوهرها التوحيدي، باعتبارها الركيزة الأساسية التي تُبنى عليها العقيدة، ويترتب عليها تصور الإنسان لتجربته الدنيوية وللحياة بعد الموت.


4. ملامح الاتفاق والاختلاف بين المعتقدات الإبراهيمية

1) ما الذي يجمع المعتقدات الإبراهيمية؟

المصدر الإلهي والتوحيد أصلًا: تؤكد المعتقدات التوحيدية الثلاث وجود إله واحد خالقٍ للعالم، عليمٍ قديرٍ رحيم، وإن اختلفت الصياغات اللاهوتية لاحقًا (تثنية 6: 4؛ يوحنا 17: 3؛ الإخلاص).

الكرامة والأخلاق: الإنسان مكرّم ومسؤول، والقيم المركزية (العدل، الرحمة، الصدق) واجبة الاتباع.

الوحي والنبوة: الله يُعرّف ذاته ويهدي خلقه عبر وحيٍه إلى أنبياء/رسل، مع تباينٍ في لائحة الأنبياء وسلطتهم.

التوبة والجزاء الأخروي: الإقرار بالحساب والثواب والعقاب، وأن باب التوبة مفتوح، وإن اختلفت آليات الخلاص.

مكانة الشريعة - الهداية العملية: وجود “طريق” عملي للهداية (ناموس/إنجيل/شريعة) يوجّه العبادة والمعاملات.


2) الفروق البنيوية في تصوّر الإله

اليهودية (الموسوية): توحيد صارم ونفيٌ للتجسيم والتماثيل (خروج 20: 4). الله متعالٍ ومتدخل في التاريخ عبر العهد مع شعبٍ مخصوص.

المسيحية (العيسوية): توحيد مشوب بالشرك بصياغة ثالوثية (الآب والابن والروح القدس) عند جمهور الكنائس، مع عقيدة تجسّد الكلمة في يسوع المسيح (يوحنا 1: 1–14).

الإسلام (المحمّدية): توحيد تنزيهي محض: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ (الشورى: 11)، مع نفي الحلول والاتحاد، وإفراد الله بالعبادة بلا وسيط.


3) العهد ومدى العمومية

اليهودية: “عهد سيناء” مع بني إسرائيل هويةً دينية–قومية؛ هناك انفتاح لغير اليهود عبر مفاهيم “الغريب/النزيل” ومسارات اعتناق محدّدة.

المسيحية: “العهد الجديد” بالنعمة في المسيح؛ دعوة أمميّة عبر الكنيسة ورسالتها.

الإسلام: رسالةٌ كونية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ (سبأ: 28)، مع وصف القرآن أنه مُهَيْمِن على ما سبقه (المائدة: 48).


4) الوحي والكتاب والسلطة التفسيرية

اليهودية: “التَّنّاخ” (توراة، أنبياء، كتب) بالعبرية/الآرامية؛ سلطة تفسيرية للحاخامات ومدارس التلمود والمدراش.

المسيحية: العهد القديم + العهد الجديد (اليونانية/لغات قديمة أخرى)؛ سلطة للكنائس والتقليد الرسولي ومجامع مسكونية وآباء.

الإسلام: القرآن بلسانٍ عربي مُبين والسنة الثابتة بمنهج نقدي يأخذ من المرويات ما لا يتعارض مع النص القرآني؛ لا كهنوت هرميّ، بل مدارس أصول، والإجماع والاجتهاد أطرٌ معيارية ونصوص اعتبارية.


5) المسيح: يسوع ومقامه

في اليهودية: تصوّراتٌ متعددة للمسيّا؛ لا اعتراف بيسوع نبيًّا ورسولًا، وغالبًا يُنفى تحقيق وعود المسيحانية.

في المسيحية: يسوع هو الكلمة المتجسدة (ابن الله)؛ محور الخلاص بالصليب والقيامة بحسب جمهور الكنائس. ولا خلاص من خارج الكنيسة.

في الإسلام: عيسى ابن مريم “عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه” (النساء: 171)، مولودٌ بمعجزة، لكن خلقه مثل آدم بأمر "كن"، ما صُلِبَ ولا قُتِلَ بشهادة القرآن بل رفع الله ثم توفاه، أي أنهى تجربته الدنيوية باستيفاء أمدها، ولم يقل إنه أماته. (النساء: 157 وغيرها).


6) الشريعة والعبادة والخلاص

اليهودية: الناموس عمود الهوية الجماعية؛ حفظ السبت، الطهارات، الأطعمة، والأعياد؛ الخلاص بالطاعة والتوبة والرحمة الإلهية.

المسيحية: التأكيد على النعمة والإيمان العامل بالمحبة؛ تفاوت بين الكنائس في علاقة الشريعة الطقسية القديمة بالحياة المسيحية (رومية وغلاطية).

الإسلام: الإيمان والعمل الصالح والتوبة؛ الشريعة بمقاصدها (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال) تنظّم العبادات (صلاة/زكاة/صوم/حج) والأخلاق والمعاملات.


7) العبادة والطقوس والممارسات

اليهودية: السبت، الختان، الكشروت، الأعياد (الفصح، الأسابيع، المظال…) ومعابد/كنس.

المسيحية: الأسرار (المعمودية، الإفخارستيا…) القُدّاسات والاعياد (الميلاد، الفصح) مع تعدّد طقوس شرقية-غربية.

الإسلام: الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، وأعياد الفطر و"الأضحى"؛ مركزية المسجد وجماعية العبادة.


8) السلطة الدينية ومناهج التأويل

اليهودية: فقه ربّاني تراكمي؛ جدل مدرسي (بيت هليل/بيت شماي…)، وتقنين تلمودي.

المسيحية: تقليدٌ كنسيّ، آباء ومجامع؛ تفاوت سلطة: كاثوليكي/أرثوذكسي/إنجيلي).

الإسلام: علوم القرآن والتراث من حديث وأصول الفقه، مع مدارس أصولية ومذاهب فقهية ومنهج نقدي للأسانيد والمتون.


9) محاور عقائدية إضافية تؤثّر في الصورة الكبرى

الخطيئة الأصلية والفطرة: تقرّ المسيحية بالخطيئة الأصلية والحاجة إلى الفداء؛ الإسلام يُقرّر “الفطرة” وأن الإنسان يولد على براءةٍ أصلية ومسؤولية شخصية.

التصوير والتماثيل: اليهودية والإسلام يميلان إلى تضييق تمثيل الإله بصورٍ وتماثيل؛ المسيحية طوّرت تقاليد الأيقونة بضوابط لاهوتية (خصوصًا شرقية).

القانون الديني والمدني: حضور الشريعة كقانون جماعي ظاهر في اليهودية والإسلام؛ في المسيحية تطورت نظم قانون كنسي ومدني في تواشج تاريخي مع الدولة.

عالميّة الدعوة: المسيحية والإسلام صاغتا دعوة أممية واضحة؛ اليهودية ركّزت على شعب العهد مع إمكان انضمام أفراد من الأمم. مع الإشارة إلى أن المسيح رسول بعث حصريا لبني إسرائيل لا للعالمين كما هو حال الرسول الخاتم محمد عليهم السلام جميعا.



5. الصلاة في المعتقدات الإبراهيمية

كانت الصلاة في المعتقدات الإبراهيمية، اليهودية والمسيحية، تتخذ أشكالاً ومعاني مختلفة بحسب سياقها التاريخي ونصوصها المقدسة في العهدين القديم والجديد. وعلى الرغم من اختلاف التفاصيل، إلا أن جوهرها ظل واحداً: التواصل مع الله.


5.1. الصلاة في اليهودية (استنادًا إلى العهد القديم)

معناها: 

كانت الصلاة في العهد القديم بمثابة حوار مباشر وعلاقة عهد بين الإنسان والله. لم تكن مجرد طقس، بل كانت وسيلة للتعبير عن التسبيح، الشكر، الاعتراف بالخطايا، وتقديم الطلبات. كانت تعكس العلاقة الخاصة بين شعب إسرائيل وخالقهم، كما يظهر في صلوات الأنبياء والملوك مثل إبراهيم، موسى، وداود.

طريقة أدائها

الصلوات التلقائية: في الفترات المبكرة، كانت الصلوات غالباً ما تكون تلقائية وفردية. كان الأنبياء والآباء يتوجهون إلى الله في أوقات الحاجة أو الشكر دون طقوس محددة، مثل دعاء إبراهيم من أجل سدوم وعمورية.

الصلوات الرسمية: مع بناء خيمة الاجتماع ثم الهيكل في القدس، أصبحت الصلوات أكثر تنظيماً وارتباطاً بالطقوس كما طورها الحاخامات اليهود. كان الهيكل هو المركز الروحي، وكانت الصلوات الجماعية تُقام بالتوازي مع تقديم الذبائح الصباحية والمسائية.

هيئة الأداء: تشير نصوص العهد القديم كما كتبها رجال الدين، إلى عدة وضعيات جسدية في الصلاة:

- الوقوف: كانت الوضعية الأكثر شيوعاً.

- الركوع والسجود: للتعبير عن التواضع والخضوع الكامل لله، كما فعل إبراهيم وموسى.

- رفع الأيدي: للتعبير عن التضرع والدعاء.

لم تكن الصلاة تقام بتسلسل تنظيمي معيّن ولا في أوقات محددة، بل عند الحاجة، وكل وضعية يتجه فيها العابد إلى الله تعتبر صلاة.


5.2. الصلاة في المسيحية (استنادًا إلى العهد الجديد)

معناها:

في العهد الجديد، أصبحت الصلاة علاقة شخصية مباشرة مع الله "الآب"، مع التركيز على دور المسيح "الابن" كوسيط. علّم يسوع المسيح تلاميذه أن الصلاة هي وسيلة لطلب الغفران، وتحقيق مشيئة الله في حياتهم، والتعبير عن الشكر. لم تعد تكن الصلاة مرتبطة بالضرورة بمكان مقدس محدد، بل أصبحت علاقة قلبية يمكن ممارستها في أي مكان. إلى أن قرر بولس الرسول بناء أول كنيسة.

طريقة أدائها:

تعليم المسيح: المرجع الرئيسي لطريقة الصلاة في المسيحية هو "الصلاة الربانية" (صلاة الأبانا) التي علمها يسوع لتلاميذه في إنجيل متى (الإصحاح 6). هذه الصلاة تقدم نموذجاً للمسيحيين في كيفية التوجه إلى الله، بدءاً من تمجيده، مروراً بطلب احتياجاتهم الروحية والمادية، وانتهاءً بطلب الغفران.

السلوك والنية: ركز المسيح على نية الصلاة بدلاً من الطقس الخارجي. انتقد من كانوا يتظاهرون بالصلاة في الأماكن العامة لإظهار تقواهم، وشجع على الصلاة في الخفاء وبنية صادقة. (إنجيل متى 6: 6: "وَمَتَى صَلَّيْتَ، فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ.").

هيئة الأداء: ورغم التركيز على النية، لم تُلغَ الوضعيات الجسدية. فالعهد الجديد يذكر المصلين وهم:

- يصعدون إلى الهيكل للصلاة (إنجيل لوقا 18: 10: "رَجُلاَنِ صَعِدَا إِلَى الْهَيْكَلِ لِيُصَلِّيَا").

- يركعون على ركبهم (أعمال الرسل 9: 40: "فَجَثَا بُطْرُسُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى").

- يسجدون (إنجيل متى 26: 39: "ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً، وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي").


6. خلاصـــة

تشترك اليهودية والمسيحية في أن الصلاة هي وسيلة للتواصل مع الله. لكن اليهودية في العهد القديم كانت تربط الصلاة بالطقوس والذبيحة في الهيكل، بينما ركزت المسيحية في العهد الجديد على العلاقة مع الله عن طريق رجال الدين، وجعلت من الصلاة فعلاً روحياً لا يتقيد بمكان أو زمان محدد، مع التأكيد على أهمية النية الصادقة والقلب النقي. أما الوضعيات الجسدية مثل الوقوف والركوع والسجود فهي ممارسات مشتركة تعبر عن الخشوع والاحترام في كلتا العقيدتين.


ملحوظة: 

بالنسبة للصلاة في الإسلام فقد خصصنا لها سلسلة مقالات نشرت بعض أجزائها كالفرق بين الغسل والطهارة، والفرق بين الصلاة العمودية (مع الله) والصلاة الأفقية (مع المجتمع)، وأوضحنا معانيها، وبيّنا بالدليل أن الإسراء والمعراج مجرد اسطورة، وأن الله لم يفرض على الرسول الصلاة خلال معراجه إلى السماء بالطريقة التي يقيمها المسلمون، ولا يوجد حديث عزيز واحد منسوب إلى النبي يبيّن للناس طريقة الصلاة. 

ولا يمكن أن تختلف الصلاة في الإسلام عن الصلاة الإبراهيمية والموسوية والعيسوية فيما له علاقة بالاتصال بالله لطلب المغفرة والعون والرحمة، وتلاوة الذكر لاستحضار معانيه العميقة وتطبيق مع جاء فيه خلال الصلاة الأفقية التي تعني صلة العبد بالجماعة، خصوصا ما له علاقة بالأخلاق والعمل الصالح الذي ينفع الناس، والذي على أساسه تتم المحاسبة ساعة الموت قبل يوم العرض، لأن الله سريع الحساب كما يقول عن نفسه. وستكون لنا عودة لتفصيل القول في كل هذا بحول الله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق