تحليل استراتيجي شامل لتحولات المشهد الإقليمي
تمهيـــد
في منطقة اعتادت على الصراعات وتأجج التوترات، كانت الضربة العسكرية الإسرائيلية على الأراضي القطرية حدثاً فارقاً بقدر ما كان عملا خطيرا ومفاجأ. لم تكن هذه الضربة مجرد استهداف لقيادات سياسية فلسطينية، بل كانت اختراقاً غير مسبوق لدولة حليفة ذات سيادة، تحظى بغطاء المظلة الأمنية الأمريكية، وتستضيف على أراضيها أكبر قاعدة عسكرية. لذلك يعدُّ ما حصل تحطيمًا لقواعد الاشتباك غير المعلنة التي كانت تحكم المنطقة، وإعلان صريح بالدم والنار عن بداية الفصل الأخير لنهاية العرب.../...
إن هذا الفعل الجريء لم يزعزع الأمن الإقليمي فحسب، بل كشف أيضاً عن تآكل كبير في اللحمة الخليجية والعربية، وبداية نهاية التحالفات التاريخية لمشيخات الزيت والرمال مع إمبراطورية روما الجديدة، مما يضع المنطقة بأسرها على مفترق طرق خطير حيث تتغير خرائط الولاء وتتبدل قواعد اللعبة إلى الأبد.
1. مقدمة
يشهد الشرق الأوسط مرحلة تحول غير مسبوقة، تتميز بتآكل التحالفات التقليدية وظهور قوى جديدة، مما يعيد تشكيل خريطة النفوذ الجيوسياسي. وإذا كانت الأحداث الأخيرة، بدءاً من التوترات الدبلوماسية بشأن قيادات حماس، مرورا باستهداف قيادات الحركة الذين تستضيفهم الدوحة بطلب من واشنطن وموافقة من تل ابيب بهدف الوساطة قد بدت كأحداث معزولة، فإنها في حقيقة الأمر تكشف عن تحولات أعمق وأكثر خطورة في نسيج المنطقة، والتي كانت منذ فجر التاريخ ساحة للحروب وحلبة للصراعات، منذ ان اختارتها السماء لتكون مهد الديانات ومنبع الحضارات، فتحولت بالتالي إلى مفتاح للسلم والحرب، إذا انفجرت الأوضاع فيها فستنتشر كبقعة زيت على امتداد جغرافية المعمور.
2. كيف تناولت وسائل الإعلام الحدث؟
التقارير من وكالات أنباء عالمية مثل أسوشيتد برس (AP)، رويترز، ذا غارديان، والتايمز أوف إسرائيل وغيرها، تؤكد أن إسرائيل شنت ضربة عسكرية استهدفت قادة من حماس في الدوحة، قطر.
3. الحقائق كما وردت في المصادر الرسمية والإعلامية
الضربة العسكرية: أكدت المصادر الرسمية القطرية أن إسرائيل نفذت بالفعل ضربة عسكرية في الدوحة استهدفت مقراً لقادة من المكتب السياسي لحماس. وعلى غير العادة، أعلنت إسرائيل مسؤوليتها عن العملية في تحد سافر للقانون الدولي، وأخلاق الحرب التي يجب أن لا تستهدف المدنيين، وأعراف العلاقات بين الأصدقاء والحلفاء باعتبار قطر حليفة لأمريكا وصديقة لإسرائيل.
4. تصريحات المسؤولين:
• أكد رئيس وزراء ووزير خارجية قطر، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، وقوع "هجوم إسرائيلي سافر" على الأراضي القطرية، ووصفه بـ "إرهاب دولة".
• بناءً على التقارير الإخبارية الرسمية، لم يطلب وزير الخارجية القطري بشكل رسمي من الولايات المتحدة إخلاء قاعدة العيديد، ولم يلوح بذلك بشكل مباشر كما روجت لذلك بعض القنوات الإعلامية غير الرسمية.
ومع ذلك، فإن هناك بعض النقاط التي يجب توضيحها بشأن ما أثير حول هذه المسألة من إشاعات:
- مراجعة الشراكة الأمنية: نفت قطر بشكل قاطع التقارير التي أشارت إلى أنها "تعيد تقييم" شراكتها الأمنية مع الولايات المتحدة بعد الهجوم الذي استهدف قيادات حماس في الدوحة. وأكدت أن الشراكة بين البلدين متينة واستراتيجية و"أقوى من أي وقت مضى وتستمر في النمو".
- تصريحات حول الهجوم: اعتبرت قطر الهجوم "انتهاكاً سافراً" لسيادتها، وذكرت أن مثل هذه الأفعال تقوض الأمن والاستقرار في المنطقة. لكن هذه التصريحات لم ترقى إلى مستوى الرد العسكري أو التهديد بطرد القوات الأمريكية.
- التهديدات الإسرائيلية: في المقابل، توجد تقارير تشير إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، النتن-ياهو، هدد بمواصلة الهجمات على قادة حماس في قطر إذا لم يتم طردهم أو سجنهم، وهو ما أثار قلقاً كبيراً.
- موقف الولايات المتحدة: عبرت الولايات المتحدة عن استيائها من الهجوم، حيث صرح البيت الأبيض أن مثل هذه الأعمال "لا تخدم أهداف إسرائيل أو أمريكا" وأنها "لا تتقدم بالسلام".
- موقف تل أبيب: أعلن النتن-ياهو أن إسرائيل تصرفت بشكل "مستقل تمامًا" في هذه العملية. وهي محاولة لتبرئة واشنطن من شبهة التواطؤ.
• تحذيرات استباقية:
- أفادت تقارير إعلامية ذات مصداقية، نقلاً عن مصادر أمريكية وإقليمية، أن مصر وتركيا كانتا قد حذرتا حماس من ضرورة تعزيز الإجراءات الأمنية في الفترة التي سبقت الضربة.
- وأفادت مصادر تركية مقربة من المخابرات، أن أنقرة حذرت قيادات حماس في الدوحة من الضربة الإسرائيلية ما مكنهم من مغادرة المكان دقائق فقط قبل وقوعها، حيث نجوا بأعجوبة.
- كما أفادت مصادر قطرية أن الولايات المتحدة أبلغتها بالهجوم بعد لحظات قليلة من وقوعه وليس قبل ذلك، خصوصا وأن القاعدة العسكرية الأمريكية في قطر كانت قادرة على رصد الهجوم قبل وقوعه في حال قامت به إسرائيل دون موافقة أمريكية كما أوحى بذلك البيت الأبيض. الأمر الذي يعزز شبهة التواطؤ.
• النتائج: أعلنت حماس أن كبار قادتها لم يصابوا بأذى في الضربة، لكن تقارير أكدت مقتل عدد من الأشخاص، من بينهم مسؤولون من الصفوف الأدنى في الحركة. كما أعلنت قطر عن مقتل أحد أفراد أجهزتها الأمنية.
• في المحصلة: تمثل هذه الضربات تصعيداً خطيراً وتطوراً جديداً في الصراع، حيث إنها تطال أراضي دولة ذات سيادة، وتستهدف قيادات كانت جزءاً من مفاوضات الهدنة والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وتضرب عرض الحائط بالقانون الدولي.
5. فرضية تباين المصالح بين إسرائيل والولايات المتحدة
• مصالح إسرائيل: عمليا، يرى رئيس الوزراء الإسرائيلي أن تصفية قادة حماس هي أولوية قصوى، حتى لو كان ذلك على حساب جهود الوساطة الأمريكية.
• مصالح أمريكا: نظريا، ترى واشنطن أن دور قطر في الوساطة بالغ الأهمية لإطلاق سراح الرهائن وتهدئة الصراع. وأن أي عمل يهدد هذا الدور، يضر بشكل مباشر بالجهود الدبلوماسية الأمريكية ويزيد من حالة عدم الاستقرار في المنطقة، وهو ما يتعارض مع استراتيجيتها الأوسع.
ومهما يكن من أمر، فإن الضربة كشفت – ظاهريا - عن تباعد كبير في الأهداف بين حليفين. فبينما كانت الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على المسار الدبلوماسي عبر قطر، كانت إسرائيل تتخذ قراراً عسكرياً أحادياً ينسف هذا المسار، مما يضع البيت الأبيض في موقف محرج.
6. التداعيات المحتملة للضربة الإسرائيلية:
إن التداعيات المحتملة للضربة الإسرائيلية على الأراضي القطرية معقدة وواسعة النطاق، وهي تمس جوهر التحالفات في الشرق الأوسط حيث يمكن فهم هذه التطورات من خلال تحليل عدة جوانب رئيسية:
6.1. المظلة الأمنية الأمريكية: شرخ في التحالفات
لطالما اعتمدت دول الخليج على الولايات المتحدة كضامن رئيسي لأمنها مقابل تحويلات مالية ضخمة للخزينة الأمريكية واستثمارات عملاقة في الاقتصاد الأمريكي، لكن هذا الاعتماد بدأ يتزعزع برغم التصريحات الديبلوماسية التي تؤكد عكس ذلك. إن التباين في المصالح بين واشنطن وحليفتها إسرائيل، والذي تجلى في ضرب الأخيرة لعلاقات الوساطة القطرية، يضعف من الثقة في الالتزام الأمريكي. في ظل هذا الوضع، تتجه دول الخليج بشكل متسارع نحو تنويع شركائها الاستراتيجيين بهدوء. تتعمق العلاقة مع الصين، التي أصبحت أكبر شريك تجاري مهم، وتتزايد أواصر التعاون مع روسيا في مجالات الطاقة والدبلوماسية، مما يعكس رغبة خليجية في امتلاك سياسة خارجية أكثر استقلالية ومرونة.
6.2. تراجع الثقة
قد تنظر الدول الخليجية إلى الضربة كدليل على أن الولايات المتحدة، إما غير قادرة على منع حليفها من التصرف بشكل أحادي، أو أنها لم تكن راغبة في ذلك لنية في نفس يعقوب. وهذا يضعف الثقة في الالتزام الأمريكي بحماية شركائها ويستوجب من دول الخليج اتخاذ الحيطة والحذر مما يمكن أن يكون قد طبخ للمنطقة في الكواليس.
6.3. تسريع تنويع التحالفات
هذا التطور يعزز من توجه دول الخليج نحو تنويع شركائها الأمنيين والاقتصاديين. فبينما تبقى الولايات المتحدة شريكاً رئيسياً إلى أجل غير مسمى، فإن العلاقة مع روسيا والصين قد تتعمق في مجالات مثل التجارة والتكنولوجيا، وربما حتى التعاون العسكري، لضمان مصالحها في ظل التحولات القائمة التي تحضر لميلاد عالم جديد متعدد الأقطاب.
6.3.1. دور مصر وتركيا ومخاوف التصعيد
• مصر وتركيا: برغم العلاقات المتوترة بين القوتين الإقليميتين الأكبر في المنطقة بسبب الصراع على النفوذ، فإن تحذيراتهما لحماس تؤكد وجود شبكة معقدة من القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية الإقليمية. فرغم اختلاف مصالحهما مع قطر وحماس، إلا أن الجميع يدرك خطورة التصعيد. تحذيراتهما تعكس قلقهما من أن أي عمل عسكري في قطر قد يؤدي إلى توسيع نطاق الصراع، وربما يجعلهما جزءاً منه بشكل مباشر أو غير مباشر.
• دور الأردن والسعودية: مرور طائرات F35 الأمريكية الصنع التي قامت بالهجوم على مقر قيادات حماس في الدوحة من فوق الأراضي الأردنية والسعودية دون أن تقوم الدولتان بمنعهما أو على الأقل إخطار قطر بذلك، يشتم منه رائحة المؤامرة. وإذا كان التعاون الأمني الأردني الإسرائيلي معروف تاريخيا، فإن دور السعودية الأخير يضع التعاون الأمني في إطار مجلس التعاون الخليجي موضع تساؤل.
فالسعودية لم تكن مرتاحة لدور قطر في الوساطة بين حماس وتل أبيب التي تعطيها حجما أكبر من حجمها، كما أنها لم تكن راضية أيضا على دور الدوحة في الحروب بالوكالة التي خاضتها أمريكا وإسرائيل في كل من العراق وسوريا ولبنان حيث نزعت منها الريادة.
هذه خلافات قديمة، لكنها تشكل مدخلا أساسيا لفهم خلفيات الصراع الصامت بين السعودية وقطر، وتتعلق في جوهرها بما قامت به الجزيرة من تحريض ضد الأنظمة العربية زمن الربيع العربي، بالإضافة إلى التوترات الخفية المتعلق بالصراع على الزعامة الدينية في العالم الإسلامي بين السعودية وتكريا من جهة، وبين السعودية وإيران من جهة ثانية. فقطر كانت على الدوام حليفة إيران وتركيا ضد مساعي الرياض، وداعمة للحركات الجهادية وعلى رأسها الإخوان المسلمين الذين تعتبرهم السعودية يشكلون تهديدا وجوديا لها ولإسرائيل في المنطقة.
6.3.2. تهديد الوساطة ومخاطر الحرب:
• استهدفت الضربة الإسرائيلية بشكل غير مباشر أيضا، عملية الوساطة التي كانت قائمة بموافقة أمريكية وإسرائيلية. وهذا يقلل بشكل كبير من رغبة قطر تحديداً في استضافة مفاوضات التسوية مستقبلاً، ويفتح شهية مصر على القيام بذلك. كما وأن هناك احتمال لأن يؤدي ما وقع إلى:
- تصلب المواقف: كل من حماس وإسرائيل قد يتصلبان في مواقفهما، مما يجعل من الصعب الوصول إلى أي اتفاقات مستقبلية.
- تغيير قواعد الاشتباك: الهجوم على أراضٍ ذات سيادة يمثل سابقة خطيرة، ويوسع من نطاق الحرب من غزة إلى المنطقة بأكملها، مما يرفع من احتمالية وقوع مواجهة إقليمية.
عموما، لم تكن الضربة مجرد عملية عسكرية، بل كانت رسالة واضحة من إسرائيل بأنها مستعدة لتجاوز الخطوط الحمراء الدبلوماسية والأمنية حتى لو كان ذلك على حساب علاقتها مع حليفها الأمريكي ومصالحه في المنطقة، وهذا يعني أن "لا شيء يعلو فوق مصالح إسرائيل أولا"، الأمر الذي يضع المنطقة على حافة مرحلة جديدة من التصعيد.
7. الموقف الدولي من الضربة
إن موقف كل من موسكو، وبكين، والاتحاد الأوروبي من الضربة الإسرائيلية في قطر يعكس مصالحهم الاستراتيجية وطريقة مقاربتهم للصراعات في منطقة ملتهبة وذات مخاطر عالية كمنطقة الشرق الأوسط، باعتبارها خزان الطاقة العالمية، ومحركة الأسواق المالية والتجارية الدولية.
7.1. موقف روسيا
تتبع روسيا سياسة براغماتية معقدة في المنطقة. فقد رأينا ذلك خلال الحرب الإسرائيلية الإيرانية حيث التزمت روسيا الحياد برغم تحالفها العسكري الإستراتيجي مع إيران. وبالتالي، من المرجح أن تدين موسكو الضربة علناً، وتعتبرها تصرفاً أحادي الجانب يزعزع الاستقرار الإقليمي. كما قد تستغل روسيا هذا الحدث لتسليط الضوء دبلوماسيا على فشل الولايات المتحدة في السيطرة على حلفائها، مما قد يعزز من موقفها كشريك أمني وعسكري أكثر موثوقية بالنسبة للدول الخليجية.
7.2. موقف الصين
تتبنى الصين موقفاً قائماً على مبدأ عدم التدخل والدفع نحو الاستقرار، خاصة وأنها تعتمد على المنطقة بشكل كبير في إمدادات الطاقة. من المرجح أن تدعو بكين إلى الهدوء وضبط النفس، وتحث جميع الأطراف على حل خلافاتهم عبر الحوار. ستُقدم الصين نفسها كقوة عظمى مسؤولة تسعى للسلام، في مقابل ما قد تعتبره سلوكاً غربياً غير مستقر من قبل حليفة واشنطن المدلّلة.
7.3. موقف الاتحاد الأوروبي
يعتبر الاتحاد الأوروبي من أكثر الأطراف قلقاً إزاء التصعيد، نظراً لقربه الجغرافي وحاجته لاستقرار إمدادات الطاقة. من المرجح أن يصدر الاتحاد الأوروبي بياناً مشتركاً يعرب فيه عن قلقه العميق إزاء الضربة، ويدعو إلى احترام سيادة الدول. كما سيؤكد على أن هذه الأعمال تقوض جهود الوساطة والدبلوماسية، مما يزيد من صعوبة الوصول إلى حل سلمي للصراع.
8. الأهداف المعلنة والرسائل المشفرة
إن فهم الأهداف الحقيقية وراء أي عمل عسكري يتجاوز الأهداف المعلنة، وغالباً ما يكون موضعاً للتفسير والتحليل. في حالة الضربة الإسرائيلية، كل المعطيات تؤكد أنها قد تكون بمثابة رسائل مشفرة ومتعددة الأوجه، موجهة لأطراف مختلفة لتحقيق عدة أهداف متزامنة.
8.1. الهدف المعلن: استهداف حماس
وفقاً للموقف الإسرائيلي الرسمي، فإن الهدف الأساسي من هذه الضربة هو استهداف قيادات حماس ومقراتها أينما وجدت، كجزء من الحملة العسكرية الشاملة التي تهدف إلى ضرب قدرات الحركة العسكرية وتفكيك بنياتها السياسية.
8.2. الرسالة لكل دول الشرق الأوسط
صرح رئيس الكنيست الإسرائيلي، أمير أوحانا، بأن الهجوم على الدوحة كان "رسالة لكل الشرق الأوسط". وهو ما اعتبره بعض الإعلاميين الإسرائيليين بمثابة إعلان يفضح نوايا إسرائيل السياسية والعسكرية المستقبلية في المنطقة. وقد شارك أوحانا مقطع فيديو للهجوم على صفحته الرسمية على منصة "إكس" وكتب هذه العبارة باللغة العربية، مما أثار جدلاً واسعاً. وتعد هذه التصريحات بمثابة تأكيد على أن الهجوم لم يكن مجرد عملية عسكرية موضعية، بل كان يحمل دلالات استراتيجية أوسع.
يفهم من تصريح أوحانا أنه يعكس عقيدة إسرائيل الجديدة في الردع، والتي تتجاوز الخطوط الحمراء الجغرافية والدبلوماسية. وتُفسر الرسالة بأن إسرائيل مستعدة لاستهداف أي جهة أو دولة تؤوي قيادات معادية لها أو تدعمها، بغض النظر عن موقعها أو علاقاتها مع القوى الدولية العظمى.
8.3. الرسالة للعالم: القوة والاستقلالية
من يعرف طبيعة إسرائيل يدرك أن الضربة في قطر لم تكن مجرد عملية عسكرية ضد هدف محدد أو رسالة للعرب فحسب، بل تضمنت مجموعة رسائل واضحة للمجتمع الدولي ككل، لعل أبرزها:
- تأكيد السيادة: إسرائيل ترسل رسالة إلى العالم بأنها مستعدة للعمل بشكل أحادي، متجاوزة الاعتبارات القانونية والدبلوماسية، لتنفيذ أهدافها الأمنية.
- استعراض القوة: العملية هي استعراض للقوة العسكرية خارج حدودها، مما يؤكد قدرتها على الوصول إلى أهداف في أي مكان، حتى في الدول التي لها علاقات قوية مع الولايات المتحدة.
8.4. الرسالة إعلان عن هيمنة إسرائيل الإقليمية
- القوة الإقليمية العظمى: تُفسر الضربة أيضاً على أنها رسالة موجهة إلى دول المنطقة كافة، وخصوصا تركيا ومصر بعد إيران، ومفادها أن إسرائيل هي القوة العظمى الوحيدة المهيمنة على المنطقة، ولا يمكن لأي طرف إقليمي أن ينافسها على الزعامة أو أن يعيق عملياتها الحربية ضد أعدائها.
- تجاوز الوساطة: الهجوم على دولة وسيطة رئيسية مثل قطر يُعتبر تحدياً مباشراً لدورها، مما قد يقلل من ثقة الدول العربية في قدرتها على التوسط أو حماية أمنها.
- إنهاء النقاش: إن إسرائيل بهذا الفعل تقول للعرب الواهمين والحالمين بحل تفاوضي مع هذا الكيان الغاصب، إنها لن تتفاوض إلا من موقع قوة مطلقة، وإن الحوار حول أي حل سياسي يجب أن يتم وفق شروطها، ومن أهمها التخلي عن وهم "حل الدولتين"، وعلى الجميع الاستسلام لهذا الواقع الجديد شاء من شاء وأبى من أبى.
8.5. مشروع "إسرائيل الكبرى" وربط الضربة بالحرب
هذه الضربة قد تُفهم أيضاً في سياق الأهداف الإسرائيلية الأوسع التي يخشاها الكثيرون. والمتمثلة في:
- التهيئة السياسية: قد يُنظر إلى هذه العملية كجزء من استراتيجية أكبر لإنهاء وجود حماس كقوة سياسية، مما يمهد الطريق لسيناريوهات مستقبلية تتعلق بقطاع غزة.
• بالنتيجة: إن ربط الأهداف المعلنة للقضاء على حماس ليست منفصلة عن الأهداف السياسية الأوسع مثل تهجير الفلسطينيين من غزة أو ضم أجزاء من الضفة الغربية، وأن هذه العملية العسكرية في قطر هي مجرد حلقة في سلسلة من الإجراءات التي تخدم رؤية استراتيجية بعيدة المدى لوهم "إسرائيل الكبرى" الذي ورد في التلمود.
باختصار، يمكن اعتبار أن الضربة تخدم أهدافاً متعددة في آن واحد: فهي تهدف إلى تحقيق هدف عسكري معلن، وفي نفس الوقت ترسل رسائل سياسية ودبلوماسية متعددة وواضحة حول مفهوم القوة، والسيادة، والاتجاه المستقبلي للصراع في المنطقة، وثمن السلام وفق الشروط الإسرائيلية الغير قابلة للنقاش.
9. التطبيع تحت الضغط: مستقبل معاهدات السلام
في ظل التطورات الأخيرة، فإن مصير اتفاقيات التطبيع والسلام التي أبرمتها كل من الأردن، ومصر، والمغرب مع إسرائيل يُعد واحداً من أكثر القضايا تعقيداً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هذه الاتفاقيات، التي كانت أساساً علاقات "سلام بارد" قائمة على المصالح الاستراتيجية، تواجه الآن اختباراً حقيقياً.
9.1. الأردن: الضغط على السلام البارد
- الأصل المشترك: يُعد الأردن الدولة العربية الثانية التي وقعت اتفاقية سلام مع إسرائيل عام 1994. العلاقة بين البلدين تاريخياً كانت هشة، وتتأثر بشكل كبير بالسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، خصوصا وأن كل الأردنيين هم فلسطينيون في الأصل.
- قضم الأراضي: مخاوف الأردن من "قضم" أراضيه ليست مرتبطة مباشرة بحدود عام 1994، بل هي مرتبطة بشكل أكبر بالتهديدات الإسرائيلية بضم أجزاء من الضفة الغربية لتوسعة جغرافية المستوطنات، والتي ستؤثر بشكل مباشر على أمن الأردن واستقراره، بالإضافة إلى تقويض حل الدولتين الذي يدعمه الأردن بقوة.
- الوصاية الهاشمية: تعتبر الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس ركيزة أساسية في سياسة الأردن. أي تغيير في وضع القدس يضع الأردن في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، ويزيد من الضغط الشعبي والدبلوماسي على المملكة لتعليق أو حتى إلغاء معاهدة السلام.
9.2. مصر: سيناء خط أحمر
- نهاية الدور العربي: بتوقيع السادات أول اتفاقية سلام مع إسرائيل عام 1978، انتهى المد العروبي والقومية العربية وشعار "إلقاء إسرائيل في البحر" الذي رفعه جمال عبد الناصر حينها، بالإضافة إلى "اللاءات الثلاثة" التي رفعت عقب مؤتمر الخرطوم سنة 1967 والمتمثلة في: (لا صلح مع إسرائيل، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا تفاوض مع إسرائيل).
- مصر حارسة أمن إسرائيل: شكلت علاقة مصر بإسرائيل بعد اتفاقية "كامب ديفيد" المشؤومة، حجر الزاوية في الأمن الإقليمي، بحيث لعبت مصر منذئذ، مقابل المساعدات الأمريكية (مليار دولار سنويا)، دور الحارس الأمين لأمن وسلامة الكيان المغتصب.
- التهديد الوجودي: غير أن سعي إسرائيل لترحيل سكان غزة إلى سيناء غيّر المعادلة الأمنية القائمة، وأصبحت ترى مصر أن هذا التهجير ليس فقط مسألة إنسانية، بل هو تهديد مباشر لأمنها القومي واستقرارها. وقد أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صراحة رفضه القاطع لهذا السيناريو، محذراً من أن ذلك قد يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، لكنه لم يعلن ما الذي سيقوم به لمنع ذلك في حال أقدمت على تنفيذه تل أبيب؟
- العلاقة الهشة: وحتى نكون منصفين، فبرغم استمرار اتفاقية السلام، فقد شهدت العلاقة بين البلدين توترات غير مسبوقة، حيث كثفت مصر من الإجراءات الأمنية على حدودها مع غزة. إن استمرار الضغط الإسرائيلي على غزة قد يضعف بشكل كبير "السلام البارد" الذي دام لعقود تحت الضغط الشعبي ويؤدي إلى انفجار الأوضاع بحجم يصعب التحكم فيه.
9.3. المغرب: معادلة دبلوماسية معقدة
وقع المغرب اتفاقية تطبيع مع إسرائيل في إطار اتفاقيات أبراهام عام 2020، والتي كانت مرتبطة باعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية.
- المصالح الاستراتيجية: الموقف المغربي يُدار بعناية فائقة، حيث يوازن بين مصالحه الاستراتيجية التي تتضمن دعم الولايات المتحدة لقضيته، وبين التزامه التاريخي بدعم القضية الفلسطينية.
- الضغوط الشعبية: في ظل الأحداث الأخيرة، شهد المغرب ولا يزال احتجاجات شعبية كبيرة ضد التطبيع هي الأكبر في الوطن العربي، مما أجبر الحكومة على اتخاذ مواقف دبلوماسية أكثر حذراً. ورغم أن الرباط لم تتخل عن اتفاقية التطبيع بشكل رسمي، إلا أن التوترات الحالية قد أدت إلى تجميد بعض جوانب التعاون المعلنة. كما وأن المستقبل لا يبشر بإمكانية استمرارها في ظل التغول الإسرائيلي الذي فاق كل الحدود.
باختصار، جميع اتفاقيات التطبيع والسلام مع الأردن، ومصر، والمغرب تواجه تحديات غير مسبوقة. وفي حين أن هذه الدول لم تتخل رسمياً عن اتفاقياتها، إلا أن ضغوط السياسة الداخلية والتحولات الإقليمية تضع مستقبل هذه العلاقات على المحك، وتؤكد أنها كانت ولا تزال قائمة على المصالح المتبادلة في إطار القانون الدولي، وليس على أسس شعبية أو عاطفية.
10. الديناميكيات الداخلية: محرك الصراع القادم
إن الأهداف الحقيقية للصراع تتجاوز الأهداف العسكرية المعلنة، حيث أن الإجراءات الإسرائيلية قد تكون بمثابة رسالة إقليمية ودولية بامتلاكها القوة. لكن مستقبل الصراع يعتمد بشكل كبير على العوامل الداخلية في كل من إسرائيل وفلسطين:
10.1. الوضع داخل إسرائيل
- هاجس الخوف من العدو الخارجي: تأتي الكثير من المواقف الإسرائيلية من منطلق "هاجس الخوف". هذا الشعور ليس مجرد عاطفة، بل هو نتاج لتاريخ طويل من الصراعات والحروب والأحداث التي رسخت فكرة أن وجود إسرائيل مهدد باستمرار. هذا الخوف يدفع نسبة كبيرة من الإسرائيليين إلى النظر لأي تنازلات إقليمية على أنها تهديد مباشر لأمنهم القومي.
- مواقف المجتمع الإسرائيلي تجاه حل الدولتين: بسبب هذا الهاجس، لا يوجد إجماع داخل المجتمع الإسرائيلي على حل الدولتين، ويمكن تقسيم مواقف الإسرائيليين إلى عدة اتجاهات رئيسية:
- المؤيدون للحل (المعسكر اليساري والوسطي): هذه المجموعة، التي تراجعت شعبيتها، تعتقد أن حل الدولتين هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية. يجادلون بأن استمرار السيطرة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سيهدد الهوية الديمقراطية لإسرائيل على المدى الطويل، وأن السلام الحقيقي لن يأتي إلا بإنهاء الاحتلال.
- الرافضون للحل (المعسكر اليميني): هذه المجموعة، وهي الأكثر نفوذاً الآن، ترفض حل الدولتين بشكل قاطع. يعتبرون أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 ستكون تهديداً وجودياً لإسرائيل، وأنها ستتحول إلى قاعدة لانطلاق الهجمات. كما أن بعضهم يؤمن بالحق الديني في الأراضي الواقعة في الضفة الغربية، مما يتوجب ضمها لأرض "إسرائيل الكبرى".
- معسكر الوضع الراهن (الجمهور الأوسع): غالبية الإسرائيليين لا يرفضون الحل أو يدعمونه بشكل قاطع، بل يعيشون حالة من اللامبالاة أو الشك المشوب بالقلق. يركزون بشكل أكبر على الأمن الفوري والحياة اليومية، ولا يؤمنون بأن هناك شريكاً فلسطينياً يمكن الوثوق به لإقامة دولة مسالمة، مما يجعلهم يفضلون "السلام البارد" الذي تحميه القوة على المغامرة بحل قد يؤدي إلى مزيد من العنف.
- النتيجة: بسبب هذا الانقسام، والتحول السياسي في إسرائيل نحو اليمين، لا يوجد حالياً في الحكومة الإسرائيلية من هو مستعد للقبول بحل الدولتين بالصيغة التي تطالب بها الأطراف الدولية والفلسطينية. هذا التشدد السياسي يعكس بشكل كبير مخاوف الجمهور، مما يجعل من الصعب جداً على أي زعيم إسرائيلي أن يتقدم نحو هذا الحل في ظل الأجواء السياسية الحالية.
- بالمحصلة النهائية: إن هاجس الخوف من العدو الخارجي بالنسبة للإسرائيل يمثل عائقاً رئيسياً أمام القبول بحل الدولتين. كما أن الانقسام بين من يرى أن السلام ضروري لبقاء إسرائيل كدولة ديمقراطية، ومن يرى أن أي تنازل هو تهديد وجودي، يجعل من الصعب على أي حكومة إسرائيلية التقدم نحو حل سياسي.
لا شك أن استمرار الصراع دون أفق للحل السياسي يؤثر بشكل مباشر على مستقبل الحكومة الإسرائيلية الحالية وائتلافها اليميني المتطرف. حيث يواجه رئيس الوزراء "بنيامين النتن-ياهو" ضغوطاً هائلة من الداخل، سواء من عائلات الرهائن أو من المعارضة السياسية التي تطالب بانتخابات مبكرة. ومعلوم أن أي هزيمة انتخابية قد تؤدي إلى تشكيل حكومة جديدة ذات توجهات مختلفة، ربما تكون أكثر استعداداً للقبول بحلول سياسية وفق ما يأمل بعض المتفائلين الإسرائيليين.
كما وأن السياسات المتشددة في المقابل، قد تدفع الأهداف المعلنة للبعض الآخر من الصهاينة المتشددين في الحكومة نحو سياسات أكثر تطرفاً، مثل محاولة ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية أو بناء مستوطنات جديدة، مما قد يزيد من التوتر ويجعل من المستحيل التوصل إلى حل سلمي.
10.2. الوضع داخل الفصائل الفلسطينية
إن الحرب الحالية قد تُغير المشهد السياسي الفلسطيني بشكل جذري:
- قيادة ما بعد حماس: لا توجد حتى الآن رؤية واضحة حول من سيحكم قطاع غزة في حال إزاحة حماس. إن أي فراغ في السلطة قد يؤدي إلى فوضى، أو صراع داخلي، أو ظهور قوى أكثر تطرفاً.
- دور السلطة الفلسطينية: هناك نقاش مستمر حول ما إذا كانت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية قادرة أو راغبة في إدارة غزة. إن فشل خطط ما بعد الحرب قد يطيل أمد الصراع ويجعل أي حل سياسي بعيد المنال.
باختصار، بالإضافة إلى التفاعلات بين الدول، فإن مستقبل الصراع سيعتمد بشكل حاسم على ما إذا كانت إسرائيل ستنتقل إلى قيادة أكثر اعتدالاً، وما إذا كان يمكن إيجاد حل سياسي مقبول لإدارة غزة يمنع الفوضى أو ظهور قوى أكثر تطرفاً.
11. سيناريوهات المستقبل: من العصيان إلى المواجهة الشاملة
في ظل فشل الحلول السياسية، قد تتجه المنطقة نحو سيناريوهات أكثر خطورة، لعل أبرزها:
أولا، عودة الحركات الجهادية: قد يؤدي الشعور بالإحباط من عجز الأنظمة العربية إلى عودة حركات الإسلام الجهادي التي تجد في الوضع فرصة لتجنيد الأفراد، وقد يتم تمويلها من جهات رسمية إقليمية في حروب بالوكالة.
جماعة الإخوام المسلمين نموذجا:
بعد تأسيسها لمقاومة الاستعمار البريطاني، ووقف التدهور الأخلاقي في مصر زمن الملكية، وسعيا لسد الفراغ الذي خلفه سقوط الخلافة العثمانية، تبنت حركة الإخوان المسلمين القضية الفلسطينية بقوة سنة 1948، وأصبحت قضية مركزية في خطابها. وقد ساعدها ذلك على:
أ. كسب الشرعية الشعبية: من خلال تبني قضية عادلة ومحورية للعالم العربي، تمكنت الحركة من كسب تعاطف ودعم شعبي واسع.
ب. التعبئة والتجنيد: استخدمت الحركة القضية الفلسطينية كأداة قوية لتجنيد المتطوعين، حيث أرسلتهم للقتال ضد العصابات الصهيونية في فلسطين في عام 1948.
ج. التميّز عن الأنظمة الحاكمة: قدمت الحركة نفسها كبديل للأنظمة الحاكمة التي رأت أنها غير فعالة في مواجهة التهديدات الخارجية.
ثانيا، العصيان المدني: قد تلجأ القوى الشعبية في العالم، من منطلق التضامن الإنساني مع ما يحدث في غزة من مجازر فاقت هول الهولوكوست وما صيغ حوله من أدبيات، إلى أشكال احتجاج غير عنيفة، لكنها أكثر من مجرد مقاطعة البضائع، مثل تنظيم حملات لمنع السفن التجارية من الإبحار في اتجاه الكيان الصهيوني، كوسيلة للضغط الاقتصادي على الحكومة الإسرائيلية المتطرفة وداعميها.
12. استخدام السلاح النووي
يخشى المراقبون في حال التصعيد العسكري من إقدام إسرائيل على استخدام سلاحها النووي ضد دول المنطقة. ورغم أن هذا السيناريو مستبعد، إلا أن وجوده يذكر الجميع بأن المنطقة تقف على حافة الهاوية.
إن احتمالية استخدام السلاح النووي، حتى في حال اندلاع حرب إقليمية واسعة، تُعتبر أمراً ذا عواقب كارثية للغاية، ولذلك فهي تُصنف ضمن السيناريوهات الأشد خطورة واستبعاداً.
تتبع إسرائيل ما يُعرف بـ "سياسة الغموض النووي"، حيث لا تؤكد ولا تنفي امتلاكها أسلحة نووية. هذه السياسة تخدم هدفين أساسيين:
- الردع: إبقاء الخصوم في حالة من عدم اليقين بشأن القدرات الحقيقية لإسرائيل، مما يمنعهم من التفكير في شن هجوم شامل.
- تجنب سباق تسلح نووي: عدم الإعلان رسمياً يمنع سباق تسلح نووي مكشوف في المنطقة.
• عقيدة "خيار شمشون"
يمثل "خيار "شمشون" السيناريو الأكثر رعبا؛ حيث تلوح إسرائيل باللجوء إليه "إذا شعرت بأنها ستهزم". هذا الخيار يرتبط بشكل مباشر بعقيدة استراتيجية مستوحاة من قصة شمشون التوراتية، وتعني أن إسرائيل ستلجأ إلى استخدام سلاحها النووي كحل أخير وملاذ أخير، في حال شعرت بتهديد وجودي وشيك وانهيار تام لقواتها التقليدية.
تاريخيا، في الأيام الأولى من حرب العبور سنة 1973 التي قادها الفريق سعد الدين الشاذلي، ومع الانهيار الذي شهدته إسرائيل على الجبهتان المصرية والسورية، ساد شعور باليأس لدى بعض القادة الإسرائيليين. في تلك اللحظة، اقترح وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك موشيه دايان على رئيسة الوزراء غولدا مائير وعدد من القادة العسكريين المقربين تفعيل "خيار شمشون"، الذي يعني استخدام الأسلحة النووية في حالة انهيار إسرائيل الكامل.
ومع ذلك، رفضت مائير هذا الاقتراح. وبدلاً من ذلك، قررت التركيز على طلب الدعم العسكري التقليدي العاجل من الولايات المتحدة، وهو ما استجاب له الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عبر جسر جوي ضخم من الإمدادات العسكرية، مما ساهم في قلب موازين القوى في الحرب.
بشكل عام، تشير التحليلات للحرب آنذاك، إلى أن التهديد النووي الإسرائيلي كان يهدف بشكل أساسي إلى "ابتزاز" الولايات المتحدة لتقديم المساعدات العسكرية السريعة، وليس استخدامه الفعلي على الأرض.
وبالتالي، فهذا الخيار ليس مخصصاً للهزيمة في معركة عسكرية، بل هو رد على احتمال الزوال الكامل للدولة.
- لماذا يُعد استخدام السلاح النووي أمراً مستبعداً؟
رغم وجود هذه العقيدة كما سبق القول، إلا أن استخدامها يبقى غير مرجح للغاية لأسباب عديدة أبرزها:
- الدمار الذاتي: إن استخدام سلاح نووي في منطقة الشرق الأوسط، حيث المسافات قصيرة، سيؤدي إلى تداعيات كارثية على إسرائيل نفسها، من تلوث إشعاعي وغيره.
- الرد العنيف: قد يدفع أي استخدام لهذا السلاح إلى رد نووي مضاد من قبل دول أخرى في المنطقة، مما قد يؤدي إلى حرب نووية إقليمية أو عالمية.
- الإدانة والعزلة الدولية: إن استخدام سلاح نووي للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية سيؤدي إلى إدانة فورية وشاملة من المجتمع الدولي، وعزل إسرائيل بشكل كامل عن العالم.
باختصار، إن السلاح النووي هو أداة ردع وليست أداة هجوم. قد تلجأ إسرائيل إلى التلويح بهذا الخيار في الحالات القصوى، لكن استخدامه الفعلي سيعني تدمير المنطقة بأكملها، بما فيها إسرائيل نفسها.
13. خاتمـــة:
إن ما يشهده الشرق الأوسط هو عملية إعادة تشكيل شاملة، حيث تتفكك تحالفاته التقليدية وتظهر قوى جديدة. إن مصير المنطقة سيتحدد ليس فقط من خلال قرارات الحكومات التي تظل سرية وبعيدة عن التصريحات الرسمية، بل أيضاً من خلال ردود فعل الشعوب والديناميكيات الداخلية المعقدة التي تحرك هذا الصراع المستمر وتؤثر في مواقف الحكومات التي في حال لم تأخذ بالاعتبار مواقف شعوبها فإن السحر سينقلب عليها لا على إسرائيل.
وقد يكون هذا هو المخطط السرّي الذي تسعى إليه إسرائيل من خلال توسيع فجوة عدم الثقة بين الحكومات وشعوبها، بهدف تفجير شوارع العواصم بالاحتجاجات العنيفة تنتهي بإسقاط الأنظمة وتفتيت دول المنطقة وإضعافها ومن ثم إعادة تشكيلها وإخضاعها لنفوذها.
وهو ما قد يؤشر لوجود تفاهم سرّي تدرك واشنطن أبعاده الخفية، لذلك لم تمنع إسرائيل من القيام بما قامت به من تصعيد غير مسبوق ضد أهم حليف لواشنطن في المنطقة، سبق وأن استخدمته إدارة أوباما في تأجيج الشارع العربي من خلال قناة الجزيرة زمن الربيع العربي.
لذلك، قد لا يكون هذا النوع من الاستهداف الأول ولا الأخير ضد حلفاء أمريكا في المنطقة، وقد يكون الدور القادم على تركيا بعد إيران وأدرعها القتالية، ثم مصر في النهاية، لأن الهدف في آخر المطاف هو تقويض الدول القوية أولا، ليسهل بعد ذلك إخضاع المنطقة برمتها لسيطرة الكيان، بهدف استنزاف خيراتها واستعباد شعوبها، فيتحقق بذلك حلم إسرائيل الكبرى.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق