خطاب الجمعة السوداء: استراتيجية التجاهل والإخضاع


 

(تحليل سياسي)

تمهيد: تجاهل مطالب الحراك حماية لمنظومة الفساد

بعد أن أرسل "جيل زد 212" للعاهل المغربي مباشرة "ورقة التصعيد القصوى" المتمثلة في رسالة المطالب الثمانية الشهيرة، وبعد أن تقاطرت الرسائل والتحذيرات الإقليمية محذرة من خطر النسخة الجديدة من الحراك، كان الخطاب الملكي أمام البرلمان يوم الجمعة الماضي هو اللحظة المفصلية المنتظرة. لم يختر العاهل المغربي الانحياز إلى شعبه لما تمثله "تكلفة التطهير" من تنازلات مؤلمة، بل اختار حماية المنظومة السياسية الفاسدة التي تحافظ على بنية حكمه، معلنا قطع الأمل في أي مسار سياسي، والتجاهل التام لمطالب الشارع. مؤكداً بلغة الرمز والإشارة بدل صريح العبارة أن "الصندوق الأسود" سيبقى محصناً عن كل محاولة اختراق، خصوصا من قبل من يعتبرهم النظام يتحركون من خارج المؤسسات الدستورية التي تشكل الإطار العام لديموقراطيته الصورية.../...


مدخل يؤسس لشرعية الحكم في القرآن

افتتح العاهل المغربي الدورة التشريعية الخريفية بآية قرآنية تتحدث عن ملّة إبراهيم (الحج: 78)، في إشارة إلى أن إمارة المؤمنين تشمل المؤمنين من أتباع الديانات التوحيدية الثلاثة. لكن المفارقة أن الخطاب، وهو يستحضر الإرث الإبراهيمي، تجاهل تمامًا الحراك الشعبي بقيادة حركة زد، وصوت الشباب المطالب بالعدل والكرامة، في حين أن القرآن الكريم جعل شرعية الحاكم وطاعته مشروطة بركنين أساسيين: تأدية الأمانة وإقامة العدل، لقوله تعالى:

- {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].

وهي الآية التي تؤسس للطاعة الواردة في الآية التي تليها مباشرة، لقوله تعالى: 

- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ…} [النساء: 59].

 وهذا يعني أن العدل والأمانة هما جوهر العقد الاجتماعي بين الشعب والحاكم. فإذا غاب العدل وحُصِّن الفساد، ساد الظلم وضاعت الأمانة، وتحول الخطاب بالتالي إلى مجرد غطاء لفظي لا يعني ما يقول بقدر ما يُكَرِّسُ الفساد ويُؤَبِّدُ الاستبداد.


الخلفية الإقليمية: ثمن التضامن السعودي هو "تحصين الصندوق"

ما يؤكد أن الخطاب جاء نتيجة قرار استراتيجي عالٍ هو ما نبهنا إليه بشأن الزيارة التي قام بها المبعوث السعودي قبيل الخطاب. وبالرغم من عدم توفر معلومات مسربة، فإن التحليل امنطقي واستنادا لخلفيات تاريخية أيضا، يرجح أن الرسالة السعودية كانت واضحة: "الدعم المالي مقابل الثبات على السيادة وعدم التنازل لمطالب الحراك (قِدْرُ الطِّين)، حتى تحافظ الملكية على هيبتها وسلطتها المعنوية وقوتها الفعلية (قَدْرُ الحديد)".

ومعلوم أن الهاجس الأبرز للقيادة السعودية خصوصا والقيادات الخليجية عموما هو الخوف من تكرار "سابقة 2011"؛ لذلك، كان الضغط يتمحور حول: توفير دعم مالي واقتصادي سريع (لتخفيف الضغط الاجتماعي) مقابل عدم التنازل للحراك عن أي مطلب سياسي يمس بنية النظام الملكي. هذا التنسيق يهدف إلى حماية كتلة الأنظمة الملكية من خطر "شرعنة العنف الرقمي" أو منح الشارع "حق الفيتو" على القرارات السيادية.


خطاب خشبي بارد: إهانة وتجاهل

لقد كان أمل المغاربة معلقاً على الخطاب، منتظرين بفارغ الصبر رسائل واضحة تفيد تفاعله الإيجابي مع مطالب الشارع. لكن ما حصل هو العكس تماماً: خطاب خشبي بارد، مليء بالكلمات التقنية عن الاستثمار والمشاريع الكبرى، خالٍ من أي إشارة مباشرة للاحتجاجات أو للمطالب الاجتماعية التي يهتف بها الناس منذ أسابيع، الأمر الذي خيب آمال المغاربة في أي تغيير سلمي يؤسس لمستقبل أفضل.

هذا التجاهل لا يمكن قراءته إلا كإهانة مباشرة للشعب، وكأن الحركة لم تخرج للاحتجاج في المدن. وتتجسد الرسالة بوضوح في الإعلان التالي: "إن المؤسسة الملكية لا تريد الاعتراف بالحراك ولا بوجود أزمة سياسية واجتماعية حقيقية في البلاد، وأن النظام يحكم البلاد ويسوس العباد بالعرف لا بالدستور".


الحكومة رأس الفساد لا الحل

الملك لم يعلن عن حل البرلمان، ولم يؤشر لتعديل حكومي، بل خاطب حكومة المفسدين وشكر برلمان الفاسدين بلغة هادئة تثير امتعاض الشعب. وهنا يُطرح السؤال الجوهري: هل يُعقل أن يُطلب من الطغمة الفاسدة التي دمّرت الثقة في السياسة أن تُصلح ما أفسده النظام في عقود؟

الواقع أن ما جرى هو محاولة جديدة لـ "حماية المفسدين وتحصينهم من المحاسبة" ضد "جيل زد" والشعب. فحين يُحال ملف الإصلاح إلى نفس الوجوه التي أفقرت الشعب، فإن المعنى الوحيد هو أن الفساد ليس عرضاً طارئاً بل سياسة ممنهجة محمية من الأعلى.


الصندوق الأسود: حقيقة تحصين منظومة القرار

إن المغزى الأعمق من تجاهل المطالب السياسية، هو تحصين "الصندوق الأسود". هذا الصندوق هو مجموع الصلاحيات الملكية التي تمنح الملك السيطرة المباشرة على:

- رئاسة مجلس الوزراء (رئيس الحكومة لا يترأس اجتماعاته الكبرى).

- المجلس الأعلى للأمن والقوات المسلحة الملكية.

- المجلس الأعلى للسلطة القضائية.

- القرارات الاستثمارية الاستراتيجية الكبرى وتحديد الأولويات.

-      بالإضافة إلى اختصاصات أخرى لا مجال لسردها في هذه العجالة.

من هنا، فإن تغيير الكراكوز (رئيس الوزراء) مع بضعة بيادق لا يُغير شيئا من قواعد اللعبة التي يديرها الملك كـ"رئيس للدولة" و"رئيس للحكومة الفعلية" باعتبار الملكية في المغرب ملكية تنفيذية لا برلمانية ولا حتى دستورية. الخوف الحقيقي هو من أن تؤدي احتجاجات "جيل Z" إلى مطالبة بتوسيع الشفافية لتشمل هذه الدوائر المحصنة، وهو ما ترفضه كل الأنظمة الملكية في المنطقة.


من التجاهل إلى الإخضاع: نهاية المسار السياسي

بتجاهله لمطالب الحراك وقراره الاستمرار في الوثوق بنخب سياسية فقدت شرعيتها، فتح العاهل المغربي الباب واسعاً أمام سيناريو أوحد عنوانه: "الإدارة الأمنية الباردة".

لأنه حين يُسحب الاعتراف السياسي من حركة سلمية وشرعية، ولا تُطرح أي مبادرة للتهدئة أو المحاسبة، فإن الرسالة الضمنية تقول: إن الاحتجاج لن يُجابَه بالحوار، بل بالمقاربة الأمنية التي تعني "القمع من أجل الإخضاع". هذا الانتقال يعني أن السلطة تعتبر الشارع مجرّد "مشكلة أمنية" لا أكثر، وأنها مستعدة لإعادة إنتاج نفس المعادلة القديمة. لكن مثل هذه المعادلة لم تُنتج في أي مرحلة من تاريخ المغرب سوى مزيد من الغضب، وتراكم الاحتقان، ومفاجآت الشارع غير المتوقعة.

الملكية بخطابها هذا، كشت أنها لا تستطيع تحمل "تكلفة التَّطهير"، وأنها من ضعفها اختارت تحصين "الصندوق الأسود" بالكامل، مما يضع مستقبل البلاد على حافة المواجهة المباشرة بين الثبات السيادي وطموح الجيل الرقمي للعدالة المطلقة.


الخاتمـــة

إن خطاب “الجمعة السوداء” يُمثّل لحظة فارقة في تطور العلاقة بين المؤسسة الملكية والمجتمع المغربي، إذ كشف بجلاء عن استمرار منطق التحصين بدل التنازل، وعن تغليب المقاربة الأمنية على الاعتراف السياسي. هذا الموقف لا يمكن فهمه إلا في سياق توازنات إقليمية حريصة على حماية أنماط الحكم الوراثي، خصوصا في ظل مخاوف من انتقال عدوى الحراك الرقمي إلى باقي الملكيات العربية، بالإضافة إلى مخاوف دولية حريصة على تأمين استثماراتها الضخمة في المغرب وما يعنيه ذلك من نهب لمقدرات البلاد وخيرات العباد.

من منظور ديني وسوسيولوجي، يشي الخطاب بانفصال متزايد بين الشرعية الرمزية المستندة إلى الدين والتاريخ، وبين الشرعية الاجتماعية والدستورية التي يطالب بها الجيل الجديد على أساس العدالة والكرامة. 

أما من الناحية السياسية، فإن تجاهل مطالب الاحتجاج يفتح الباب أمام أزمة ثقة عميقة قد تتجاوز المطلب الإصلاحي إلى مراجعة جوهر العقد الاجتماعي الذي لم يُنزَّل عن طريق قوانين تنظيمية بشكل كامل وسليم منذ اعتماده من قبل المغاربة سنة 2011، وظل حتى الآن حبرا على ورق.

وبذلك، لا يُقرأ خطاب “الجمعة السوداء” كنص رسمي عابر، بل كعتبة مفصلية تؤشر إلى دخول المغرب طوراً جديداً من الصراع بين ثبات البنية السلطوية من جهة، وتنامي وعي رقمي جماعي يرفض استمرار الفساد والاستبداد من جهة أخرى. وهنا تكمن خطورة اللحظة:

"أن يُدفع جيل بأكمله إلى الإيمان بأن الإصلاح من داخل المنظومة مستحيل، وأن الطريق الوحيد المتبقي هو المواجهة المفتوحة، بين الصندوق الأسود المحصّن، والجيل الرقمي المُتوثّب، الأمر الذي يُشكل خط الصدع القادم، ويحدّد لا محالة أيهما سينتصر لمستقبل المغرب والمغاربة: ثبات الاستبداد، أم اندفاعة الحرية؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق