(بحث سياسي)
تمهيد: أزمة ما بعد "الجمعة السوداء"
يتمثل التحدي الأكبر الذي تواجهه "حركة جيل زد" في أعقاب خطاب الجمعة السوداء في تحويل الغضب العفوي إلى مسار سياسي هيكلي. بعد أن تجاهل الملك المطالب الاجتماعية المباشرة للحركة في رسالة ضمنية مفادها أن "الملكية لا تحاور من خارج المؤسسات"، الأمر الذي أصبح معه جيل Z أمام خيار حتمي: إما الاستمرار في الاحتجاجات السلمية بنفس المطالب (ومصيرها التلاشي)، أو رفع السقف بتحويل المطالب إلى سياسية، لأن دون هذا التغيير الهيكلي في المسار والإستراتيجية يستحيل تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في "محاسبة الفاسدين وفتح الصندوق الأسود".../...
هذا الموقف الملكي وضع الحركة غير المؤطرة أمام سؤال مركزي:
- هل تنجح في إحداث تغيير هيكلي دون التحالف مع قوى وطنية منظمة تملك الثقل والتجربة؟
1. الفجوة الاستراتيجية: لماذا يخشى "جيل Z" التحالف؟
إن رفض "جيل Z" للتحالف مع القوى التقليدية (مثل "العدل والإحسان" أو "اليسار الجذري") لا ينبع من مجرد التعالي، بل من تجربة تاريخية مؤلمة، حيث تم استخدام المعارضة التقليدية كـ "وسيط مسروق" لامتصاص غضب الشارع وتوظيفه لمكاسب تنظيمية، دون تحقيق تغيير هيكلي.
• مبررات الخوف وجوهر التنافر
يكمن التنافر بين "جيل Z" والقوى التقليدية في جوهر البنية والأهداف:
- البنية التنظيمية: يتميز "جيل Z" بـاللامركزية والسيولة، فهو حركة شبحية وغير مؤطرة ترفض القيادة والأيديولوجيا الصارمة. في المقابل، تقوم المعارضة المنظمة على المركزية والانضباط، حيث تمتلك هياكل صارمة وخطاباً عقائدياً وإيديولوجياً جاهزاً.
- لغة الخطاب: يتبنى "جيل Z" لغة الصدق والشفافية الرقمية عبر منصات مثل تيك توك وإنستغرام، وهو خطاب شارع مباشر يرفض لغة السياسة التقليدية. أما المعارضة التقليدية، فتستخدم لغة المؤسسات والخطاب السياسي-الأيديولوجي الذي يتحدث عن "المطالب التاريخية" و"المنهجية الديمقراطية".
- مطلب الحكم: يشدد "جيل Z" على أنه غير معني بالحكم، فشعاره هو "نحن نُحاسب، لا نحكم"، وهدفه الأساسي هو تطهير الدولة. بينما تسعى المعارضة المنظمة للحكم، إذ أن هدفها النهائي هو تغيير طبيعة النظام والوصول إلى السلطة.
o خلاصة التحدي التنظيمي: يمكن لـ"جيل Z" أن ينجح في إحداث صدمة وإجبار النظام على تغيير الأشخاص (البيادق)، لكنه لن ينجح في تغيير المنظومة (قواعد اللعبة) دون تحالف تكتيكي يوفر له الغطاء التنظيمي والاستمرارية المادية للاحتجاجات).
- لأنه إذا كان شعار "حراك زد" يتمل في الدفاع عن مصالح الشعب المغربي المستضعف، فكيف يمكنه إلغاء مكونات أساسية من مكونات الشعب من ماشركته هذا الهدف النبيل؟
2. صدمة 20 فبراير: "العدالة والتنمية" كـ "صندوق أسود" مضاد
تُفسر الخلفية التاريخية لتجربة حزب العدالة والتنمية (PJD) كل تحركات "جيل Z" اليوم. لقد أثبتت تجربة حركة 20 فبراير 2011 أن أخطر ما يهدد حركات الشارع هو "الاختطاف السياسي" لأهدافها.
• تحليل "الصدمة السياسية العميقة" (Trauma)
- اغتصاب الشرعية: نجح حزب العدالة والتنمية، بخطابه الشعبوي والديني، في الركوب على الاحتجاجات وتوجيه زخمها نحو صناديق الاقتراع، ليتمكن من سرقة السلطة وتحقيق مكاسب تنظيمية على حساب الهدف الأصلي للحراك.
- خيانة الأهداف الاقتصادية: الحزب الذي رفع شعارات محاربة الفساد، نفّذ بأمانة شروط المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي)، بدءاً من تحرير أسعار المحروقات وصولاً إلى سياسات التقشف التي أفقرت شرائح واسعة من الشعب المستضعف. وبذلك، كان PJD بمثابة "البيدق التنفيذي" الذي نُفذت عبره أجندة المخزن الاقتصادية.
- الأمية السياسية ونقطة الضعف: ما سمح لحزب العدالة والتنمية بهذا الاختطاف هو "الأمية السياسية" و"الانقياد الديني الأعمى" للعامة. هذا الانقياد هو التربة الخصبة التي تسمح للقوى المنظمة (ذات الأيديولوجيا الجاهزة) بملء الفراغ التنظيمي والركوب على الغضب الشعبي.
3. الخيار الوجودي: الملكية البرلمانية كأداة لشراء الزمن
الهاجس الأكبر الذي يواجه الإصلاحيين هو الصراع بين زمن الثقافة وزمن السياسة. المجتمع المغربي المتجذر دينياً وثقافياً يتطلب ثورة مفاهيمية عميقة على غرار عصر الأنوار (تغيير ما بالأنفس: العقول والقلوب)، وهو ما يحتاج إلى عقود طويلة. لكن الجوع والفساد لا ينتظران التنوير.
- صراع الزمن: الثورة المفاهيمية مقابل الإصلاح السياسي
إن الهاجس الأكبر الذي يواجه الإصلاحيون اليوم هو الصراع بين زمن الثقافة وزمن السياسة، وهو ما يمكن تحليله بناءً على الأداة والمدى الزمني:
- الثورة المفاهيمية: تتطلب عقوداً (ما بين جيل وثلاثة أجيال)، وهدفها الجوهري هو تغيير "ما بالأنفس"، أي تفكيك الفقه السلطوي والولاية المطلقة المستندة إلى نسخة مشوهة من الفهم الديني التراثي.
- الإصلاح البرلماني: يمكن تحقيقه بمدة سريعة نسبياً (5-10 سنوات)، وهدفه الجوهري هو تغيير "ما بالواقع" عبر تحويل الملكية من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية رمزية، تملك ولا تحكم، على غرار الملكيات البلمانية في أوروبا.
الخيار الاستراتيجي لـ"جيل Z": يجب تبني الملكية البرلمانية كهدف سياسي مرحلي وواضح. هذا التغيير الهيكلي يضمن:
- كسر الصندوق الأسود: صلاحيات التنفيذ (الحكومة، القرارات الاستراتيجية) تنتقل إلى مؤسسات منتخبة تخضع للمساءلة.
- تحييد العامل الديني (جزئياً): فصل السلطة الدينية (إمارة المؤمنين) عن السلطة التنفيذية والتشريعية، مما يكسر حلقة "الطاعة السياسية المبررة دينياً" (استغلال الدين في السياسة).
- توفير الزمن لثورة المفاهيمية: الديمقراطية البرلمانية تخلق مساحة آمنة للمفكرين والمجددين للقيام بـ ثورتهم المفاهيمية دون خوف من القمع الرسمي.
باختصار: الملكية البرلمانية هي الأداة التي تشتري الزمن للثورة المفاهيمية. بمعنى أن "التغيير السياسي يجب أن يسبق التنوير الثقافي".
4. شرط النجاح: التحالف التكتيكي المشروط بثلاث مراحل
للنجاح في تفكيك المنظومة المخزنية (الصندوق الأسود) دون تكرار "صدمة PJD"، يتحتم على "جيل Z" أن يفرض "العقد المدني المرحلي" على القوى المنظمة، والالتزام بـ "الخروج من السلطة" فور نجاح التغيير.
يتشكل هذا التحالف التكتيكي من ثلاثة شروط صارمة يتم فرضها عبر المراحل التالية:
- المرحلة التأسيسية (الضغط): هدفها الضغط لتغيير البنية الهيكلية للنظام (فتح الصندوق الأسود ومحاسبة الفاسدين). يشترط "جيل Z" في هذه المرحلة التحالف حول هدف واحد غير أيديولوجي، والتركيز فقط على تفكيك المنظومة القائمة (منظومة الريع والفساد).
- المرحلة الانتقالية (الإدارة): هدفها إدارة الفراغ السياسي وضمان حيادية الدولة. الشرط الأساسي هنا هو الحياد التنظيمي المُعلن، حيث يُعلن "جيل Z" أنه لن يشارك في الحكم أو الترشح، ويكتفي بدور "المراقب الأعلى" للعملية الانتقالية.
- المرحلة الدائمة (البناء): هدفها تحديد طبيعة الدولة وتقرير النظام المستقبلي. الشرط هو تأجيل الحسم الأيديولوجي، وإلزام المتحالفين بتمرير مسألة طبيعة الدولة (مدنية/ملكية برلمانية) عبر استفتاء شعبي واسع أو جمعية تأسيسية جديدة، ليقرر فيها الشعب لا النخب.
مفتاح النجاح: يكمن في فرض المعادلة التالية: "نحن نتحالف معكم لتسقط المنظومة المخزنية العتيقة، ولكننا لن نتحالف معك لتركبوا على السلطة وتستبدلوها بمنظومة استبدادية أخرى".
5. التحدي الأيديولوجي: كسر حلقة "الولاية" الدينية
إن تحصين "الصندوق الأسود" السياسي مرتبط بتحصين "الصندوق الديني" الذي يضمن أن الملك هو الحكم الأعلى في قضايا الشرعية (إمارة المؤمنين). تاريخياً، تحول أي صراع سياسي إلى صراع شرعية دينية-فقهية، حيث يقوم الفقه السلطوي بتحويل أي معارضة سياسية إلى "فتنة" تستوجب المحاربة لفرض طاعة ولي الأمر بالقهر والقوة.
لذلك، يصبح التحالف مع قوى منظمة تملك ثقلاً دينياً (كـ"العدل والإحسان") ضرورة تكتيكية لكسر هذه الحلقة المفرغة، شرط أن يتم تحييد خوف "جيل Z" الأيديولوجي عبر:
• قبول الشريك بالدولة المدنية المرحلية: يجب أن يوافق الشريك علناً على أن الهدف المرحلي هو الدولة المدنية التعددية التي تضمن الحريات، مع إلزامهم بـتأجيل الحسم الأيديولوجي النهائي إلى التصويت الشعبي.
• تسييس الوعي الشعبي: يجب على "جيل Z" أن يركز على استخدام الآيات القرآنية التي تضع "العدل والأمانة" كـشرط للطاعة (الآيتين 58 و 59 من سورة النساء)، لمواجهة الفقه السلطوي الذي يركز على المرويات المزورة لفرض "الطاعة العمياء للولاية"، وبذلك يتم تفكيك الأساس الفقهي الذي يحصّن النظام.
6. الحصانة الأمنية: حراس "الصندوق الأسود" في الداخل والخارج
إن معضلة التغيير لا تكتمل دون إدراج القيود الأمنية التي تحمي النظام، وهي قيود تعمل على مستويين:
أ. الرهان الأمني الداخلي (عقد الحسن الثاني):
المعادلة التاريخية بين القصر والجيش هي مفتاح الاستقرار السلطوي: "المال والامتيازات مقابل ترك السياسة".
• الرفض المطلق للملكية البرلمانية العميقة: إذا كانت الملكية البرلمانية تعني المساءلة البرلمانية للميزانيات العسكرية وخضوع وزير الدفاع لرئيس الحكومة المنتخب، فسيُعتبر هذا تهديداً وجودياً للامتيازات التاريخية، وسيكون رد فعل الجيش هو إفشال العملية الانتقالية بذريعة "حماية الأمن القومي".
• القبول المشروط للملكية البرلمانية الشكلية: قد يقبل الجيش التغيير إذا بقي الملك هو القائد الأعلى للجيش، وظلت الميزانيات العسكرية "سيادية" وغير قابلة للمساءلة الكاملة. في هذه الحالة، يتحول الجيش إلى ضامن وحارس لهذا التغيير.
• خلاصة التحدي الأمني الداخلي: على "جيل Z" أن يقنع المؤسسة العسكرية والأمنية بأن الملكية البرلمانية لن تهدد امتيازاتها، وعليه توجيه الضغط والمحاسبة بشكل كامل نحو الفساد المدني والاقتصادي، وتجنب الهجوم المباشر على ميزانيات أو هياكل المؤسسة العسكرية في الخطاب العام.
ب. الرهان الأمني الخارجي (الصندوق الأسود الأجنبي)
إن ارتباط كبار الضباط وأجهزة المخابرات بالقوى الخارجية (أمريكا، فرنسا، إسرائيل) يمثل الغطاء الاستراتيجي الذي يضمن الحصانة المطلقة للنظام.
• الضمانة الخارجية: ترى القوى الغربية في النظام المغربي "بؤرة استقرار" أساسية في المنطقة، وتجدد دعمها له كلما اهتز وضعه. وبالمقابل، يضمن النظام الولاء الجيوسياسي ومكافحة الإرهاب والهجرة السرية والجريمة المنظمة العابرة للحدود، ويسمح للشركات المتعددة الجنسيات بـابتزاز مقدرات المغرب اقتصادياً.
• تحصين النظام ضد التغيير: بمجرد أن يرفع "جيل Z" سقف مطالبه، يُصنف الحراك دولياً (على المستوى الرسمي) على أنه "مصدر تهديد للاستقرار الإقليمي"، مما يبرر أي مقاربة أمنية قاسية ويمنح النظام حصانة شبه كاملة ضد الضغط الخارجي. الأمر الذي يتطلب مقاربة سياسية تكتيكية تطمئن القوى الإقليمية والدولية بأن التغيير لن يؤثر على مصالحها ولن يغير من تحالفات المغرب الإستراتيجية ولا من الاتفاقيات الدولية.
الخلاصة: معركة "جيل Z" في هذا السياق هي معركة تحديد من هو الضامن الفعلي للاستقرار: هل هو الخارج الأمني أم الشعب المدني؟
خاتمـــة
يواجه "جيل Z" في مسعاه نحو التغيير معضلة معقدة تتجاوز احتجاجات الشارع؛ إنها معركة بين زمنين وبين هياكل سلطة تاريخية.
يمكن لـ"جيل Z" أن ينجح في إحداث تغيير هيكلي (فتح الصندوق الأسود) فقط إذا استطاع أن يفرض "العقد المدني المرحلي" على القوى المنظمة. هذا التحالف التكتيكي هو السبيل الوحيد لتوفير الثقل التنظيمي اللازم للهدم، بينما يضمن البقاء في دور "الرقيب الأعلى" الحفاظ على الطهر السياسي وتأجيل الحسم الأيديولوجي إلى مرحلة الاستفتاء الشعبي.
هذا هو الدرس الأعمق المستخلص لتجاوز مصير 20 فبراير.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق