هل تتحمل الملكية "تكلفة التطهير" وتفتح "الصندوق الأسود"؟

 


(تحليل استراتيجي)

بعد أن أرسل "جيل زد 212" للعاهل المغربي مباشرة "ورقة التصعيد القصوى" المتمثلة في رسالة المطالب الثمانية الشهيرة. وبعد أن ناقشنا في مقالة سابقة السيناريوهات الخمسة للاستجابة الملكية، تقودنا تطورات الأحداث الأخيرة إلى استباق الخطاب الملكي المرتقب، وذلك للحديث عما يمكن أن تشكله محاسبة كبار المسؤولين عن الفساد من تكلفة لن تقتصر على التطهير فحسب، بل وستصل حتماً إلى المطالبة بفتح "الصندوق الأسود" السياسي.../...


الزيارة السعودية: توقيت حساس وهاجس إقليمي

ما أثار الشكوك حول الموقف الملكي من مطالب الحراك قبيل الخطاب المرتقب، هي الزيارة التي قام بها موفد القيادة السعودية إلى القصر الملكي بالدار البيضاء. بالرغم من عدم توفر أي معلومات مسربة حول المضمون الحرفي للمباحثات الخاصة، إلا أن التوقيت الحساس للغاية (اندلاع احتجاجات "جيل Z" والأزمة الاقتصادية) يرجح أن النقاش دار حول ثلاثة محاور أساسية:

1. المحور الأمني والسياسي: استقرار الأنظمة الملكية

يظل هذا هو الهاجس الأبرز للقيادة السعودية، التي تنظر إلى أي اضطرابات سياسية في الدول الملكية العربية باعتبارها تهديداً استراتيجياً للمنطقة بأسرها. وحيث أن الرسالة التي نقلها المبعوث السعودي كانت شفوية، فمن المرجح أنها تضمنت تقييماً للأزمة وطلباً سعودياً استفسارياً حول موقف العاهل المغربي من الحراك وطريقة التجاوب مع المطالب الاجتماعية، مع التأكيد على عدم فتح "الصندوق الأسود" السياسي، خوفاً من تكرار سابقة 20 فبراير 2011 حين تنازل الملك عن بعض صلاحياته الدستورية ولو بطريقة صورية، ما خلف امتعاضاً لدى النظام السعودي والملكيات الخليجية.

تركز المباحثات الأمنية على:

-         تقييم الأزمة المغربية: هل هي مطالب اجتماعية أم أزمة ثقة سياسية عميقة؟

- الدعم المعنوي مقابل الثبات: وعد بتقديم دعم سياسي ومعنوي مطلق للمغرب في مواجهة التحديات الداخلية، شريطة عدم التنازل للحراك عن أي مطلب سياسي يمس بنية النظام الملكي.

- خبرات التعامل الرقمي: تبادل وجهات النظر حول كيفية التعامل مع الحركات الاحتجاجية الجديدة غير المؤطرة تنظيمياً والتي تستخدم الفضاء الرقمي (التيك توك) كأداة تعبئة رئيسية، الأمر الذي قد يسفر عن حظر هذه المنصة الرقمية في الفضاء العربي بذرائع أخلاقية. àوقد رأينا كيف ان النظام السعودي أصدر حكما بالإعدام مؤخرا على شاب لا اشيئ سوى أنه تجرأ وانتقد النظام على منصة الفيسبوك).

2. المحور الاقتصادي: الدعم مقابل الاستقرار

احتجاجات "جيل Z" نبعت مباشرة من أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة. ولأن الحل الأمني وحده لا يكفي، فإن الحل المالي مطلوب لتخفيف حدة الأزمة. شمل النقاش على الأغلب:

-     ضخ استثمارات سريعة: تسريع حزمة من الاستثمارات السعودية المباشرة في قطاعات مغربية حيوية (مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية) لتمكين الحكومة من تنفيذ مشاريع تخفف وطأة البطالة وتحسن الخدمات العامة.

-      تسهيلات مالية: تفاهمات حول تسهيل القروض أو زيادة الدعم للميزانية العامة لمساعدة المغرب في تجاوز أزمة القدرة الشرائية التي هي الوقود الرئيسي للاحتجاجات.

3. المحور الإقليمي: التنسيق في الملفات الكبرى

تأتي الزيارة لتؤكد الموقف السعودي الثابت والداعم للوحدة الترابية للمغرب ولحل الحكم الذاتي في قضية الصحراء، بالإضافة إلى التنسيق حول القضايا الإقليمية المشتركة مثل العلاقة مع إيران ومستقبل التطبيع الإسرائيلي.

القلق الأعمق: تحدي الصندوق الأسود

القلق الأساسي لدى القيادة السعودية، ومعه المخزن، لا يكمن في إقالة رئيس الحكومة (فهو ثمن تقني مقبول)، بل في التداعيات المحتملة لأي تنازل سيادي للملك تجاه حركة غير مؤطرة. هذا القلق يتجسد في ثلاثة محاور:

1. الخوف من تآكل الصلاحيات السيادية (الصندوق الأسود)

الخط الأحمر لكتلة الاستقرار هو الصلاحيات السيادية غير القابلة للمساومة والتي تضمن استمرارية الدولة. هذه الصلاحيات هي ما نُطلق عليها "الصندوق الأسود": مجموع الصلاحيات الملكية (رئاسة مجلس الوزراء، المجلس الأعلى للأمن، الجيش، مجلس القضاء...) التي تجعل منصب رئيس الحكومة مجرد "بيدق" في لعبة أكبر، وتضمن أن القرارات الاستراتيجية (الأمنية، الاقتصادية، الإقليمية) تتم بعيداً عن أي مساءلة برلمانية.

- سابقة تقنين التدخل: إذا استجاب الملك لمطلب "جيل Z" المتعلق بـمساءلة الحكومة علناً برئاسة الملك (المطلب 8)، أو بإلزام الملك بتطهير القضاء والأحزاب، فإنه يمنح شرعية للشارع (الرقمي) ليتجاوز المؤسسات ويؤثر مباشرة على كيفية ممارسة الصلاحيات العليا.

- التكلفة الجيوسياسية: يُنظر إلى هذا التنازل على أنه تفكيك تدريجي للمخزن من الداخل. السعودية تضغط ليكون الحل تنفيذياً واقتصادياً، وليس سيادياً ودستورياً (تغيير قواعد اللعبة).

- مبرر القلق: القلق لا يكمن في إقالة وزير فاشل، بل في منح الشارع الرقمي "حق الفيتو" على القرارات السيادية العليا، مما يُنشئ سابقة للتفاوض المباشر بين القصر والشارع، ويُلغي قيمة المؤسسات التقليدية.

2. خطر "شرعنة العنف الرقمي"

أي تنازل كبير لحركة شبحية مثل "جيل Z" يُعتبر تكريساً لثقافة الاحتجاج اللامركزي في المنطقة. هذا يؤكد أن الأحزاب أصبحت عديمة الجدوى كوسيط سياسي، ويسحب البساط من تحت أقدام جميع المؤسسات التقليدية، ويرفع سقف المطالب لجميع الحركات الشبابية في المنطقة.

3. سيناريو الخلط بين القضاء والسياسة (تناقض الحلول)

السيناريو الذي يشمل استخدام القضاء لإقالة رئيس الحكومة المتورط في الفساد هو حل عبقري، لكنه يضع النظام في تناقض حاد:

-      تناقض الإجبار على التطهير: النظام يُجبر على محاسبة رأس السلطة التنفيذية لتلبية مطالب الشارع، وهذا يعرضه لخطر أن يفتح التحقيق الباب على مصراعيه لكشف شبكات فساد أكبر (متورطة أيضاً مع "قدر الحديد" القديم).

-     الخيار الصعب: النظام أمام خيارين كلاهما مر: إما الحفاظ على رئيس حكومة متهم بالفساد وتحمل مسؤولية انهيار الثقة (تكلفة الاستقرار)، أو التضحية به عبر القضاء وتحمل مسؤولية فتح الصندوق الأسود للتحقيق في كل ملفات الفساد الأخرى (تكلفة التطهير).

"الصندوق الأسود": تحدي المنظومة لا الأشخاص

إن إثارة مسألة فتح "الصندوق الأسود" من قبل "جيل زد المغربي" يُعطي للحراك عمقاً فكرياً ثورياً هائلاً، لأنه سيحول احتجاجهم من مجرد رفض اقتصادي إلى نقد هيكلي للنظام السياسي الأساسي:

- إعادة تعريف نجاح الحل: إن الإقالة المقنعة لرئيس الحكومة عبر تفعيل التحقيق القضائي هي انتصار تكتيكي لـ"جيل Z" على الفساد، وتمنح الملك الشرعية المطلوبة. لكن هذه الخطوة لا تعالج المشكلة الجذرية. فحتى لو غادر رئيس الحكومة منصبه، تبقى مفاتيح "الصندوق الأسود" السياسي في مكانها.

- خلاصة التحدي: إن تغيير البيدق (رئيس الوزراء) لن يُغير من قواعد اللعبة التي يديرها الملك كـ "رئيس للدولة" و"رئيس للحكومة الفعلية" والمسؤول الأول والأخير عن كل السياسات الاستراتيجية والقطاعية في آن واحد. التحدي الأكبر لـ "جيل Z" ليس في إقالة رئيس حكومة انتهت صلاحيته، بل في مطالبة النظام بـ "فتح الصندوق الأسود" وإخضاع تلك الصلاحيات السيادية للمساءلة والشفافية. هذا التحول من المطالبة بـ "محاسبة المنفذ" إلى "تغيير منظومة اتخاذ القرار" هو الذي يمثل الصدام الحقيقي بين قوة الدستور المُغلَق وطموح الجيل الرقمي للشفافية المطلقة.

خاتمـــة:

إن السؤال الجوهري الذي يواجه الملكية اليوم لم يعد يتعلق فقط بقدرتها على امتصاص الغضب الشعبي عبر تنازلات جزئية أو حلول اقتصادية مؤقتة، بل بمدى استعدادها لتحمل تكلفة “التطهير” الحقيقي، أي مساءلة شبكات الفساد وإعادة تعريف حدود السلطة السيادية. فإما أن تُبقي على “الصندوق الأسود” مغلقًا فتؤجل الانفجار وتعمّق أزمة الثقة، أو تفتحه لتؤسس لشرعية جديدة قائمة على الشفافية والمحاسبة. 

بين هذين الخيارين تتحدد ملامح العقد الاجتماعي المقبل، وما إذا كانت المؤسسة الملكية ستظل مركز الاستقرار أو تتحول إلى عنوان الأزمة المقبلة التي ستضع البلاد والعباد على باب المجهول.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق