«بين خطاب الموت وخطاب المؤامرة: جيل يقف وحده على شرفة مدينة نائمة، يحدِّق في شاشة هاتفه بينما تتنازعُه ساعاتٌ كثيرة: ساعةُ الترند، وساعةُ المراقبة، وساعةُ الدولة… وفي الأعلى تدور ساعةٌ كونية تذكّره أن التاريخ أطول بكثير من ضجّة هذه الليلة».
تمهيد:
منذ خريف 2025 شكّلت حركة جيل زد 212 أكبر مفاجأة في المشهد السياسي المغربي بعد حراك الريف. خرج آلاف الشباب إلى الشارع بدعوات صادرة من تيك توك وإنستغرام وديسكورد، بلا أحزاب ولا نقابات ولا قيادات تقليدية. ثم فجأة خفتت المظاهرات، وبدأت روايتان متناقضتان في التداول: رواية تقول إن الحركة ماتت سريريًا وفشلت وانتهت، ورواية مضادة تتحدث عن تنظيم سرّي يستعد لـ«فوضى عارمة» بتنسيق مع شبكات عالمية وخبرات تقنية غامضة.../...
وبين خطاب الموت وخطاب المؤامرة، تضيع الأسئلة الحقيقية:
- لماذا توقفت الاحتجاجات فعليًا؟
- هل فشلت جيل زد 212 أم نجحت جزئيًا؟
- وما السيناريوهات الواقعية لمستقبل هذا الجيل الاحتجاجي الجديد؟
هذه المقالة تحاول تقديم قراءة هادئة للحظة التوقف، بعيدًا عن التهليل والتخويف معًا.
أولًا: ماذا نعني بتوقّف الحركة؟
ينبغي التمييز بين أمرين:
1. تراجع الحضور في الشارع:
بعد ذروة المظاهرات الأولى، تقلّص عدد المشاركين، وتباعدت الدعوات للخروج، ثم انحصر الحضور في وقفات محدودة أو أشكال رمزية.
2. استمرار الحركة كفكرة وشبكات:
الحسابات الرقمية، مجموعات ديسكورد، القنوات التي بلورت خطاب جيل زد… كل هذا لم يختفِ، وإن خفّ نشاطه. كثير من الوجوه المؤثرة ما زالت حاضرة، حتى لو غيّرت من أسلوب خطابها أو وتيرة ظهورها.
إذن نحن أمام توقّف لحظة الشارع أكثر مما نحن أمام موت كامل للبنية الشبكية والثقافة الاحتجاجية التي أطلقتها الحركة.
ثانيًا: بين خطاب الموت وخطاب المؤامرة
1. «جيل زد ماتت وانتهت»
هذا الخطاب يتغذّى من:
• خفوت مشاهد الحشود في الشوارع.
• غياب قيادة تعلن موقفًا واضحًا أو خطة عمل مرحلية.
• حاجة جزء من الرأي العام إلى إغلاق القوس سريعًا والعودة لـ«الحياة العادية».
لكنّ إعلان الموت النهائي يبدو متسرّعًا لسبب بسيط: الشروط التي أفرزت الحركة لم تتغيّر؛ بطالة الشباب، هشاشة الخدمات العمومية، الإحساس باللاعدالة، الفساد البنيوي، واتساع الفجوة بين وعود الدولة وواقع الناس… كلّها ما زالت قائمة، بل تتفاقم.
2. «جيل زد تنظيم سرّي يُحضّر للفوضى»
في المقابل، ينتشر خطاب آخر يتحدّث عن:
• اختراقات أجنبية.
• كوادر تقنية تعمل في الخفاء.
• ارتباطات مفترضة بـ«تنظيم عالمي» يستهدف استقرار المنطقة.
هذا الخطاب يُوظَّف غالبًا لتبرير تشديد القبضة الأمنية، وتحويل حركة احتجاج اجتماعي إلى تهديد أمني مطلق.
المشكلة أنه لا يستند إلى معطيات علنية قابلة للتحقق؛ فالحركة من الأصل لا تعمل بمنطق تنظيم هرمي سرّي، بل بمنطق شبكات مفتوحة وأسماء معروفة على المنصّات. والقول بوجود «قيادة خفية» تحرّك الجميع من وراء الستار يُسقط جوهر التجربة: شباب بلا وساطة حزبية، يكتشفون السياسة من نافذة الهاتف الذكي.
ثالثًا: الأسباب الفعلية لتوقّف الاحتجاج
بعيدًا عن المبالغات، يمكن تلخيص أهم الأسباب في أربعة محاور متداخلة:
1. هشاشة البنية التنظيمية
غياب قيادة منتخبة أو إطار تمثيلي جعل من الصعب:
• إدارة الخلافات الداخلية.
• اتخاذ قرارات استراتيجية (تهدئة، تصعيد، تفاوض…).
• الأفقية قوة في التعبئة، لكنها تتحوّل إلى ضعف حين نصل إلى لحظة: من يفاوض؟ ومن يوقّع؟ وباسم من؟
2. غموض البرنامج والمطالب
• الشعارات الكبرى (الصحة، التعليم، الشغل، الكرامة، محاربة الفساد) صحيحة ومشروعة، لكنّها:
• عامة وفضفاضة جدًّا.
• غير محددة بأجندة زمنية أو إجراءات قابلة للقياس.
• غياب «دفتر مطالب» واضح سهّل على الحكومة إدارة الأزمة بالتطويل: استيعاب الغضب بخطابات ووعود، من دون التزام محدّد يُحاسَب عليه المسؤولون.
3. الضغط الأمني والإعلامي
• الاعتقالات، المتابعات القضائية، والتحقيقات المطوّلة أرسلت رسالة واضحة للشباب: "الكلفة الشخصية للمشاركة في الاحتجاجات عالية".
• جزء من الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي اشتغل على شيطنة الحركة وربطها بالفوضى، ما أثّر على تردّد بعض الفئات في الاستمرار.
4. العوامل النفسية والاجتماعية
• الانخراط في الاحتجاج المتواصل يستنزف طاقة الأفراد؛ كثيرون عادوا إلى همومهم اليومية: الدراسة، الشغل، العائلة، التفكير في الهجرة…
• الإحباط الناتج عن عدم تحقيق مكاسب سريعة، في سياق ثقافة رقمية تعوّدت على النتائج الفورية، لعب دورًا مهمًّا في خفوت الحماسة الأولى.
بهذا المعنى، توقّف الاحتجاج نتيجة تفاعل موضوعي بين هشاشة داخلية وضغط خارجي، لا دليل قاطع على أنه «قرار نهائي» بدفن الحركة، ولا أنه «خطة سرية» للإعداد لشيء أكبر.
رابعًا: هل فشلت جيل زد 212؟
لفهم السؤال يجب أولًا أن نحدّد معيار النجاح والفشل.
1. على مستوى المكاسب السياسية المباشرة
• لم يتحقّق تغيير مؤسسي واضح يمكن نسبته للحركة:
• لا تعديل دستوري.
• لا إصلاح جوهري في نظام الحكم.
• ولا حتى تعاقد اجتماعي جديد مُعلن.
• في هذا المستوى، يمكن القول إن الحركة لم تنجح في ترجمة زخم الشارع إلى نتائج سياسية ملموسة؛ وهذا له علاقة مباشرة بغياب البرنامج، واستبعاد التحالف مع قوى وطنية وازنة، وطبيعة النظام، وحدود الفعل الاحتجاجي غير المؤطر تنظيميا.
2. على مستوى التحوّل الرمزي والثقافي
هنا الصورة مختلفة تمامًا:
• كسر حاجز الخوف لدى جيل نشأ بعد 2011، ولم يعرف الشارع إلا من خلال الذكريات أو كتب التاريخ.
• إنتاج لغة احتجاج جديدة:
• ميمات، فيديوهات قصيرة، بودكاستات سياسية، مزج بين السخرية السوداء والتحليل.
• كشف هشاشة الخطاب الرسمي حول «الاستقرار مقابل الصمت»، وإظهار أن الاستقرار الحقيقي يحتاج إلى عدالة وشفافية.
إذا اعتبرنا النجاح فقط هو إسقاط حكومة أو تغيير نظام، فالحركة فشلت.
أما إذا اعتبرناه تحولًا في وعي جيل كامل، فجيل زد 212 حققت قفزة نوعية ستؤثّر في السياسة المغربية لسنوات قادمة، حتى لو اختفى الاسم نفسه.
خامسًا: سيناريوهات المستقبل المحتملة
1. ذوبان الاسم وبقاء الأثر
في هذا السيناريو، يتراجع استعمال شعار «جيل زد 212»، لكن:
• يستمرّ الوعي الاحتجاجي الذي ولّدته الحركة.
• تظهر مبادرات جديدة، محلية أو قطاعية، تستلهم التجربة، ولكن بأسماء أخرى وأدوات تنظيم أكثر نضجًا.
سيبدو كأن الحركة انتهت، بينما الحقيقة أن روحها تذوب في مجرى المجتمع، تماما كما حدث مع روح 20 فبراير 2011 وروح احتجاجات الريف بعدها.
2. موجة ثانية أكثر تنظيمًا
إذا تراكمت عوامل جديدة (أزمة اقتصادية أعمق، فضيحة قطاعية مدوية، أو صدمة وطنية سياسية أو اقتصادية أو تتعلق بملف الصحراء)، مع:
• استخلاص الدروس من التجربة الأولى،
• وبلورة وثيقة مطالب واضحة في إطار تنظيم جديد قويّ،
• وفتح قنوات تفاوض مع فاعلين مدنيين وسياسيين،
فليس مستبعدًا أن نشهد موجة ثانية، قد تحمل الاسم نفسه أو اسمًا قريبًا، لكن هذه المرة بمستوى أعلى من التنظيم والوضوح والفعّالية.
3. إعادة تدوير الكوادر في أطر أخرى
جزء من الشباب الذين صقلتهم تجربة جيل زد قد:
• ينضمّ إلى أحزاب أو نقابات أو جمعيات، محاولًا تغييرها من الداخل.
• يؤسّس مبادرات جديدة: منصات رقابية، مشاريع إعلامية، حملات مقاطعة، تنسيقيات مهنية…الخ.
في هذه الحالة لن نرى «حركة واحدة كبيرة»، بل فسيفساء من المبادرات تحمل بصمة جيل زد من حيث اللغة والخيال السياسي.
4. سيناريو الانغلاق: تضييق الفضاء الرقمي
هناك أيضًا احتمال سلبي:
• أن تتجه الدولة إلى تشديد السيطرة على الفضاء الرقمي، وتوسيع قوانين جرائم النشر، وتجريم أشكال التعبير الاحتجاجي على الشبكات.
• مع استمرار الأزمة الاجتماعية دون أفق حقيقي.
هذا السيناريو لا يُنهي الاحتجاج؛ بل يدفعه إلى مزيد من الراديكالية والسرّية، وهو أسوأ الاحتمالات لجميع الأطراف.
خاتمة: ما بين الخوف والأمل
ما حدث مع جيل زد 212 ليس «فشلًا تامًا» ولا «مؤامرة عالمية»، بل هو تجربة أولى لجيل رقمي يختبر لغته وأدواته في السياسة. توقّف الاحتجاج في الشارع محطة طبيعية لأن التغيير لا يتم بين عشية وضحاها، بل يندرج في مسار أطول، يستدعي:
• من الدولة: أن تفهم الرسالة العميقة خلف الصراخ والغضب، وأن تنتقل من إدارة الأزمات إلى إصلاحات بنيوية تعيد بناء الثقة.
• ومن الشباب: أن يمرّوا من لحظة الانفجار العفوي إلى لحظة التنظيم الواعي:
• برنامج مطالب قابل للقياس،
• آليات تمثيل شفافة،
• وتحالفات مع فاعلين مجتمعيين آخرين.
في النهاية، الحركات الاجتماعية لا تُقاس بعدد الأسابيع التي ملأت فيها الشوارع، بل بما تُحدِثه من تغيّر في وعي الناس ومسار التاريخ.
من هذه الزاوية، قد يكون ما نراه اليوم مجرّد استراحة على حافة طريق طويل، جيلٌ يتعلّم قواعد اللعبة، ويعيد كتابة العلاقة بين المواطن والدولة في زمن الشاشة والاتصال الدائم.
وكل احتجاج إلا ويقرّب الشباب من تحقيق الحلم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق