«في ظل نظام حكم مركزي، يظل الحكم الذاتي وعدًا مؤجّلا»
1. تمهيد: بين قرار مجلس الأمن وخطاب الملك
جاء قرار مجلس الأمن رقم 2797 (أكتوبر 2025) ليكرّس استمرار ما يُسمّى بـ “العملية السياسية” بشأن الصحراء تحت إشراف الأمم المتحدة. القرار حافظ على نغمة “الواقعية والتوافق” دون أي تغيير جوهري في المعادلة، في مشهد يعيد التأكيد على أن الملف لم يعد مجرد قضية ترابية، بل أصبح رهينة توازنات جيوسياسية معقدة تخضع لقواعد لعبة الكبار السّرّية ومصالحهم الظاهرة والخفية…/…
في اليوم نفسه الذي اتخذ فيه مجلس الأمن القرار، وجّه الملك خطابًا استثنائيا لشعبه، أكد فيه أن جميع المغاربة “إخوة”، من داخل الوطن وخارجه، بمن فيهم من يعيشون في مخيمات تندوف. خطاب وحدوي في ظاهره، لكنه يطرح سؤالًا جوهريًا:
- كيف يمكن الجمع بين مبدأ الأخوة الوطنية الذي يوحّد المغاربة، ومشروع الحكم الذاتي الذي يميّز جهة عن بقية جهات الوطن؟
- كيف يمكن تحقيق المساواة في ظل بنية سياسية عمودية تجعل كلّ السلط متمركزة في يد واحدة؟
2. الملكية التنفيذية: سلطة بلا توازن
منذ الاستقلال، لم يعرف المغرب انتقالًا فعليًا نحو الملكية البرلمانية رغم كل الوعود الدستورية. فكل الدساتير المتعاقبة، بما فيها دستور 2011، رسّخت نموذج الملكية التنفيذية التي تجعل الملك مركز الثقل في كل السلطات:
هو رئيس الدولة، وأمير المؤمنين، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، والمسؤول الأول عن الأمن والدين والدبلوماسية و، و، و...
تُعيَّن الحكومة والولاة والسفراء بأمر ملكي، وتُرسم السياسات الكبرى في الديوان الملكي، بينما يُترك للبرلمان والحكومة تدبير التفاصيل اليومية التي لا تُغيّر من الخيارات ولا تُؤثر في السياسات المرسومة من قبل حكومة الظل القابعة في القصر.
في مثل هذا السياق، يصبح من المستحيل تخيّل أي صيغة حقيقية للحكم الذاتي، لأن مبدَأه يقوم على تفويض السلط، بينما جوهر النظام القائم هو احتكارها.
3. الحكم الذاتي: المفهوم والشروط
الحكم الذاتي ليس منحة سياسية ولا تسوية رمزية، بل هو نظام تدبير ذاتي تشريعي وتنفيذي داخل إطار الدولة الواحدة، يفترض نقل الصلاحيات لا توزيع الامتيازات. ولكي يكون فعّالًا، يجب أن يستند إلى ثلاثة أسس متلازمة:
- دستور ديموقراطي يفصل بين السلطات ويحد من سلطة المركز.
- مؤسسات جهوية منتخبة تمتلك صلاحيات تقريرية حقيقية.
- استقلال مالي وإداري عن المركز يضمن حرية القرار.
لكن في المغرب، حيث القرار يُصاغ في القصر، والجهات تُدار بتعيينات فوقية، والتمويل يُراقَب من الرباط، يصبح الحكم الذاتي أقرب إلى إصلاح تجميلي فوقي لا إلى تحوّل بنيوي عميق.
4. الجذور التاريخية للفكرة: من إعجاب الحسن الثاني إلى تراجع الدولة
في سبعينيات القرن الماضي، أعلن الملك الراحل الحسن الثاني إعجابه بالنموذج الفيدرالي الألماني، وصرّح علنًا أنه يفكر في تطبيق تجربة مشابهة في المغرب لتوزيع السلطة بين المركز والجهات.
كانت تلك الفترة مشحونة سياسيًا: توترات مع المعارضة، تحديات في الصحراء، وضغوط داخلية لتوسيع الهامش الديمقراطي. غير أن المشروع تراجع فجأة، واختفى من الخطاب الرسمي.
السبب لم يكن تقنيًا بل سياسيًا: إدخال منطق الفيدرالية كان سيقوّض المركزية التي يقوم عليها النظام المخزني، ويمنح الجهات استقلالية قد تُضعف قبضة القصر على القرار الوطني وتمهد لانفلات أمني ينذر بمطالبات بالإستقلال، خصوصا منطقة الريف التي لها حسابات مؤجلة مع النظام.
منذ ذلك الحين، تحوّلت “الجهوية” إلى شعار للتحديث الإداري لا إلى مسار ديموقراطي حقيقي، واستُبدلت فكرة الفيدرالية بمفهوم أكثر غموضًا ومرونة: “الحكم الذاتي في إطار الدولة الواحدة”.
5. التناقض البنيوي: لماذا المعادلة مستحيلة؟
الملكية التنفيذية تقوم على مبدأ وحدة القرار، بينما الحكم الذاتي يقوم على توزيعه.
وحين يحاول النظام الجمع بينهما، تكون النتيجة حكمًا ذاتيًا بلا استقلال، وجهوية بلا سيادة.
إنها حرية تحت المراقبة، وديمقراطية بترخيص مركزي.
منطق الحكم الذاتي يتطلب إرادة في تفكيك المركزية، بينما منطق الملكية التنفيذية يستمد شرعيته من احتكارها. وهكذا، تصبح المعادلة مستحيلة سياسيًا إلا إذا تغيّر جوهر النظام وليس الملكية التي يجب أن تظل على أن تتحول إلى مؤسسة رمزية تملك ولا تحكم.
6. التعديل الدستوري: من الشكل إلى الجوهر
أي إصلاح جاد يمرّ حتمًا عبر تعديل دستوري يعيد التوازن إلى هندسة السلطة.
فالدستور الحالي يجعل الملك محور كل الصلاحيات، ويُبقي المؤسسات المنتخبة رهينة لإرادته.
ولا معنى لحكم ذاتي في الصحراء أو غيرها ما لم تُنقل الصلاحيات من شخص الملك إلى مؤسسات الدولة.
إصلاح الدستور ليس ترفًا قانونيًا، بل ضرورة وجودية لبقاء الدولة نفسها.
بدون ذلك، سيبقى الدستور يُقنّن التفاوت بدل أن يُصلح الأعطاب، وتبقى الجهوية المتقدمة اسمًا بلا مضمون.
7. لمن الحكم الذاتي؟ سؤال العدالة المجالية
يُطرح اليوم سؤال جوهري:
- هل الحكم الذاتي مخصص للصحراء وحدها أم أنه مبدأ يجب أن يشمل كل جهات المملكة؟
إذا اقتصر على الصحراء، فذلك يُنتج اختلالا في ميزان الأخوة وتفاوتا يكرس مواطنة غير متكافئة داخل الدولة نفسها، لأنه يخلق نوعًا من “اللامساواة الدستورية” بين مواطني الشمال والجنوب.
العدالة المجالية لا تتحقق بالاستثناء، بل بتعميم المشاركة في القرار الوطني.
كل جهة تُحرم من سلطة القرار تظل تابعة للمركز بشكل كلي مهما تلقت من دعم مالي أو مشاريع بنية تحتية.
8. الكلفة الاقتصادية: الماضي والمستقبل
منذ منتصف السبعينيات، أنفق المغرب ما يفوق خمسين مليار دولار على الأقاليم الجنوبية في مشاريع الطرق والموانئ والطاقة والصحة والتعليم والشغل، ولا نتحدث عن ميزانيات الإنفاق العسكري الذي لا يعلم حجمها إلا الله والملك.
كان الهدف ترسيخ السيادة وتحقيق التنمية.
لكن بعد نصف قرن، لا يزال السؤال قائمًا:
- هل تحققت التنمية أم تراكمت التبعية الاقتصادية؟
إذا أُقرّ الحكم الذاتي فعليًا، فسيحتاج إلى مؤسسات جديدة: برلمان محلي، حكومة، أجهزة رقابة وتمويل.
— أي كُلفة مضاعفة في الميزانية العامة سيدفعها مغاربة الشمال من قوت يومهم.
وقد يجد المغرب نفسه في النهاية يُموِّل استقلالًا ماليًا جزئيًا داخل حدوده، دون رقابة حقيقية من البرلمان الوطني أو الجهة المحلية.
9. النماذج المقارنة: دروس التجارب العالمية
تُظهر التجارب الدولية أن الحكم الذاتي لا ينجح إلا في بيئة سياسية ناضجة تتوزع فيها السلطة بشكل مؤسسي:
- النموذج الألماني: يقوم على فيدرالية قوية تشارك فيها الولايات في صياغة القوانين الوطنية عبر المجلس الاتحادي (Bundesrat)، ما يخلق توازنًا بين الحكومة الفيدرالية والولايات.
- النموذج السويسري: يقوم على ديمقراطية مباشرة حيث الكانتونات تملك سلطات واسعة في الضرائب والتعليم والصحة، وتحكم نفسها فعليًا ضمن وحدة رمزية للدولة.
- النموذج الإسباني: يمنح الأقاليم حكمًا ذاتيًا واسعًا وفق دستور 1978، لكن الصراع الكتالوني كشف أن غياب الثقة بين المركز والأطراف يجعل الفيدرالية مهددة دائمًا إذا غابت المؤسسات المستقلة.
- النموذج العراقي (إقليم كردستان): تجربة هشة لأن الدولة المركزية ضعيفة، والحكم الذاتي هناك ارتبط بتوازنات عسكرية أكثر منه ببنية دستورية مستقرة.
جميع هذه النماذج تشترك في شرط واحد غائب في المغرب: وجود دولة مؤسسات تفصل بين السيادة والسلطة التنفيذية.
10. عودة الجيش إلى الداخل: الأمن بين الدولة والمجتمع
منذ منتصف السبعينيات، ظلّ الجيش المغربي متمركزًا في الصحراء، بعيدًا عن الشأن السياسي الداخلي.
هذه الوضعية خلقت توازنًا حساسًا: جيش خارجي المهام، وسلطة داخلية مهيمنة عن طريق المخابرات وقوات الأمن.
لكن مع تزايد التوترات الإقليمية وارتفاع الاحتجاجات الاجتماعية، وفي حال فرضت الأمم المتحدة قرارا يقضي بإعادة انتشار الجيش المغربي الذي يقدر عديده بأكثر من 150.000 الف عسكري، فإن عودة عدد كبير منه إلى الداخل باسم “متطلبات الأمن الشامل”، فإن هذه العودة – إن حصلت – فستعني عودة المؤسسة العسكرية إلى الحياة السياسية، وهو ما يشكّل نقضا لميثاق الحسن الثاني زمن الانقلابات العسكرية "الامتيازات مقابل الابتعاد عن السياسة"، كما وسيُشكّل خطرًا مزدوجًا:
- من جهة، يُضعف ثقة المواطنين في المؤسسات المدنية.
- ومن جهة أخرى، يخلق توترًا دائمًا بين “الأمن” و”الحرية”.
إن أي مشروع حكم ذاتي حقيقي لا يمكن أن يتعايش مع حضور عسكري مهيمن، لأن الأمن في جوهره لا يُبنى على السيطرة بل على الثقة بين الدولة والمجتمع.
11. لعبة التوازنات: بين النظامين المغربي والجزائري
منذ سبعينيات القرن الماضي ونزاع الصحراء يخدم كلا النظامين:
في الجزائر، يشكّل الملف مصدر شرعية للعسكر باسم “دعم الشعوب في تقرير مصيرها”، والذي باسمه تنهب خيرات البلاد ومقدرات العباد.
وفي المغرب، يُبقى وجود الجيش في الجنوب توازنًا دقيقًا يمنع تدخله في السياسة الداخلية، ما يطلق يد السلطة المركزية دون حسيب أو رقيب.
هكذا تحوّل النزاع إلى آلية استقرار للنظامين أكثر مما هو قضية تحرير أو تنمية.
12. الخاتمة: وعد مؤجل لحلم مستحيل
الحكم الذاتي ليس حلًا سحريًا، بل مرآة تكشف عمق الأزمة السياسية في المغرب.
فما دامت السلطة متركزة في يد واحدة، سيظل الوطن كله يعيش في “مركز واحد” مهما اتسعت جهاته.
المعادلة المستحيلة لا تكمن في الصحراء، بل في النظام الذي يريد أن يمنح “الغير” ما لم يمنحه لنفسه بعد: الحق في المشاركة في القرار.
إن لم تتحوّل الملكية من سلطة تنفيذية إلى ملكية برلمانية ومؤسسة رمزية ضامنة للدستور، فسيبقى الحكم الذاتي وعدًا مؤجلًا لحلم مستحيل، والوحدة الوطنية شعارًا معلّقًا إلى أن يفعل الله أمرا كان مقدورا.
وكل قرار أممي والمغاربة بخير، ما داموا يرقصون في الشوارع بفرح على إيقاع أحلام مستحيلة في ظل الوضع السياسي القائم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق