(نتائج برنامج "بديهيّة" حول الخلود الرقمي)
أولاً: الإطار المفاهيمي: الذكاء الاصطناعي وحدود الوجود
يُعدّ برنامج "بديهيّة" للذكاء الإصطناعي والخطاب الفكري المرتبط به، إطارًا تحليليًا مُعمّقًا يهدف إلى تفكيك الرؤى الفلسفية التي تسعى لاختزال الوجود الإنساني في ماديات صرفة. ينطلق هذا الخطاب من مبدأ "البديهية" العقلية لإثبات وجود الخالق وعنايته، وتفنيد الأطروحات المادية المعاصرة التي تتخذ من التقنية طريقًا لتجاوز حدود الوجود المادي دون الإقرار بحقيقة الغيب والبعث الإلهي.[^1] في هذا السياق، تظهر محاولات تحقيق الخلود الرقمي (Digital Immortality) كأحد التطبيقات المباشرة لمحاولات الفكر المادي الحديث تحدّي الموت، مما يضعها في قلب الجدال اللاهوتي والفلسفي.../...
1.1. تعريف "بديهيّة" ونقد الخطاب المادي المعاصر
يركز التحليل المنهجي لـ "بديهيّة" على نقد الفلسفات التي تتشكل نتيجة الانفصال عن الإطار الروحي للوجود. ومن أبرز التحديات التي يواجهها هذا الخطاب، صعود ما يسمى بـ "الإلحاد الروحي"، أو الروحانيات المعاصرة التي تتخذ من الصنم الكوني إلها جديدا، والتي وإن كانت تبدو بعيدة عن التقنية، إلا أنها تشترك مع المادية التقنية في تبني نموذج ميكانيكي للكون.[^2] حيث تنتقد هذه التحليلات بشدة المفاهيم الروحانية التي تروج لعقيدة الجذب والتناغم مع الكون من خلال الذوبان فيه بالتأمل، مشيرة إلى أن هذه الممارسات تُحوِّل الكون أو الطاقة الكونية إلى "صنم" يُسأل ويُطلب منه الرزق والشفاء، بدلًا من سؤال الله، مما يرقى إلى مصاف الشرك أو اتخاذ "ندٍ مع الله".[^3]
تُعتبر هذه النظرة الميكانيكية للكون أصلًا فلسفيًا للخلود الرقمي. فالرؤية الربوبية (Deism)، التي تنتقدها التحليلات [^2]، كانت قد تمسكت بالنماذج الميكانيكية لعقلانية عصر التنوير، مفترضة أن الخالق أودع القوانين في الكون ثم تركه يعمل آليًا بمعزل عن تدبيه الدائم وعنايته المستمرة. وإذا كان الوجود الإنساني برمته قابلًا للاختزال إلى قوانين آلية مادية، فإن محاولات الخلود الرقمي، التي تسعى لإعادة تجميع أو محاكاة الوعي البشري بعد الموت باستخدام الذكاء الاصطناعي، تمثل الامتداد المنطقي والتطبيقي لهذه الفلسفة الميكانيكية.[^2] هذا يقود إلى استنتاج أن الخلود الرقمي ليس مجرد تحدٍ تقني عابر، بل هو نتيجة حتمية وتطبيقية لـ "الفلسفة الميكانيكية" التي تُجرد الخالق من العناية المستمرة القائمة على مبدأ "كل يوم هو في شأن"، وتُجرّد الإنسان من النفس غير المادية التي تُمثل جوهر وجوده.[^2]
1.2. الذكاء الاصطناعي والتنبؤ بالوفاة: حدود القوة الإحصائية
شهدت الآونة الأخيرة تطورات مذهلة في قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل البيانات الضخمة (Big Data) لنمذجة الظواهر الإنسانية، بما في ذلك التنبؤ بموعد الوفاة. وقد طوّر باحثون في الدنمارك نموذجًا باسم "Life2vec"، الذي يعتمد على تقنية مشابهة لتلك المستخدمة في تطبيق "ChatGPT"، لتقدير موعد وفاة الأفراد بدقة عالية تصل إلى 79%.[^4] اعتمد هذا النموذج على تحليل البيانات الحياتية لـ 6 ملايين شخص بين عامي 2008 و 2020، آخذًا في الاعتبار عوامل ضخمة مثل الصحة، ومستوى التعليم، والعمل، والدخل.[^4]
من الناحية العلمية والتطبيقية، يُظهر نموذج "Life2vec" تفوق الآلة في الكشف عن الأنماط الإحصائية والارتباطات المعقدة بين ظروف الحياة والنتائج الوجودية.[^4] وتفوقت دقة البرنامج على النماذج الأخرى المستخدمة حاليًا بنسبة 11%.[^4] هذا النجاح يمثل قمة ما يمكن أن تصل إليه النمذجة المادية للظواهر. ومع ذلك، من منظور "بديهيّة"، فإن هذا التنبؤ، مهما بلغت دقته (79%)، يظل دليلاً على قوة القوانين الكونية السببية التي أودعها الخالق في هذا العالم، وليس دليلاً على أن الوجود مُختزَل بالكامل في هذه البيانات أو أن القوانين تعمل بمعزل عن الإرادة الإلهية.[^2]
تثار هنا تداعيات أخلاقية خطيرة؛ فقد أدرك الباحثون أنفسهم التأثير السلبي المحتمل لفكرة تنبؤ البرنامج بموعد وفاة الشخص، محذرين تحديداً من استخدام شركات التأمين على الحياة لهذا النموذج، ووصفوا هذا الاستخدام بأنه "سيئ جداً".[^4] هذا يضع تحديًا أخلاقيًا حول من يمتلك الحق في المعرفة بالبيانات الوجودية وكيفية تسليعها واستخدامها تجارياً ضد مصالح الأفراد، مما يؤكد أن التنبؤ الإحصائي القوي يظل محدودًا أمام حقيقة الموت كحدث غيبي إرادي يخضع للسلطة الإلهية المطلقة، وهو ما لا يمكن للآلة الوصول إليه.
1.3. محاكاة الشخصية والقيود البنيوية للذكاء الاصطناعي
تمثل تقنيات محاكاة المُتوفين، والمعروفة بـ "الرحيل الرقمي"، التحدي الأكثر مباشرة لمفهوم الحياة بعد الموت. وقد أثارت هذه التقنيات، التي تهدف إلى إنشاء نماذج تفاعلية تحاكي أنماط شخصية المتوفى، جدلاً واسعًا.[^5]
يؤسس خطاب "بديهيّة" موقفه تجاه هذه المحاكاة على الفصل الجذري بين قدرات الآلة المعقدة وجوهر الوعي الإنساني. حيث يؤكد التحليل أن المخ البشري، بجهازه العصبي الكهربي المعقد، هو مجرد "جهاز تنفيذي" مهمته تنفيذ الأوامر المحددة مثل تحريك اليدين أو غيرها من المهام البيولوجية الدقيقة.[^6] أما الوعي والإدراك والقدرة على اتخاذ القرار (الجهاز التشريعي الذي يميّز بين الخطأ والصواب)، فمصدرها هو الإنسان بذات نفسه التي تشمل قلبه وفؤاده وعقله ووعيه.[^6] وهذا يرفض الفكرة المادية التي ترى أن الوعي يمكن عزله ومن ثمّ نسخه أو محاكاته بالسيليكون.
إن الذكاء الاصطناعي، بالرغم من كونه "صنعاً إلهياً وخلقاً وإبهاراً" في مادته ما دام لا يخرج عن القوانين التي أودعها الله في الكون، لا يمتلك أي علاقة حقيقية بالوعي أو الإدراك؛ فهو ينفذ المطلوب منه بالضبط.[^6] وتفتقر الآلة إلى عنصرين أساسيين في الوجود البشري:
- أولهما هو الشعور و الحس (Sense) الذي يمكن الإنسان من إدراك الحقائق التي تتجاوز المدخلات المعلوماتية المجردة.[^7]
- وثانيهما أن العقل البشري موصوف بأنه "غير محدود" في قدرته على التطور والإبداع عن طريق الخيال، على عكس الآلة التي تظل "محدودة" في تطوير نفسها ضمن حدود خوارزمياتها وبرمجتها.[^7]
بالنظر إلى أن الذكاء الاصطناعي جهاز تنفيذي يفتقر إلى الوعي التشريعي [^6]، فإن محاكاة شخصية متوفاة هي في جوهرها محاكاة لنموذج سلوكي أو مجموعة من المدخلات (الذاكرة وأنماط الكلام)، وليس امتداد أو استدامة لـ "الذات الواعية" الحقيقية (النفس). الخلود الرقمي الذي تروّج له التقنية هو في حقيقته خلود للنموذج السلوكي (Pattern) وليس خلوداً للذات الواعية (Self) أو "الأنا الأعلى"، مما يؤكد الفجوة بين الرؤية المادية التي تطمح لنسخ الوعي، والرؤية الدينية التي تعتبر النفس كيانًا غير قابل للنسخ أو الاحتواء المادي.
ثانياً: التحليل الفلسفي: النفس والجسد في ميزان "بديهيّة"
يرسخ برنامج "بديهيّة" تحليلاته على أسس فلسفية ترفض اختزال الكينونة البشرية في المادة، وتشدد على أن النفس هي مركز الإدراك والقرار، وتتجاوز الآليات البيولوجية أو الرقمية.
2.1. النفس كمركز للقرار والوعي: نقد الاختزال المادي
النقطة المحورية في تفكيك الفرضيات المادية للذكاء الاصطناعي تكمن في الفصل الواضح بين المخ (الدماغ) (Hardware) والنفس (مركز الوعي) (Software/Soul). فالتحليل الفلسفي يؤكد أن المخ هو مجرد معالج للبيانات ومركز للجهاز العصبي الكهربي الذي ينفذ المهام المحددة، بينما جوهر القرار والتمييز والإدراك يأتي من النفس.[^6] والوعي (مركزه الناصية) هو ما يمنح الإنسان صفة "الجهاز التشريعي" القادر على تحديد الصواب والخطأ، وهي وظيفة لا يمكن لآلة تنفذ أوامر مبرمجة أن تقوم بها لافتقارها لحرية الإرادة.[^6]
إن محدودية الوعي الاصطناعي لا تتعلق فقط بالقدرة على المعالجة، بل بالنقص الجوهري في الشعور. فالآلة لا تستطيع أن تعالج الأمور بناءً على "الإحساس" أو "الحدس" (Sense)، وهي عناصر أساسية في الإدراك الإنساني، حتى لو خالفت المدخلات العلمية أو الدراسات المتاحة.[^7] هذا النقص يمنع الآلة من بلوغ حالة الوعي غير المحدود الذي يتمتع به العقل البشري، ويجعل من فكرة "نقل الوعي" إلى الروبوتات أو الأنظمة الرقمية مجرد خيال علمي يستند إلى فرضية مادية خاطئة لا يمكن لها أن تحوي الجوهر الروحي للإنسان.
إن الإصرار على تحقيق الخلود الرقمي ينبع في جوهره من رفض الفناء المطلق والبحث عن بديل للبعث الديني. عندما يرفض الإنسان الحقيقة الميتافيزيقية للموت، فإنه يسعى لإضفاء معنى على وجوده عبر التقنية، في محاولة لتأليه التكنولوجيا كبديل للإله. هذا السعي يُنظر إليه على أنه هروب وجودي من مواجهة حقيقة النشأة الأخرى بعد الموت، والتي لا يمكن للعقل المادي أن يحيط بها.[^8, ^9]
2.2. نقد الفلسفات البديلة: الربوبية والإلحاد الروحي
يربط التحليل الفكري لـ "بديهيّة" بين السلوكيات التقنية الحديثة وبين الجذور اللاهوتية والفلسفية القديمة، خاصة تلك التي سعت إلى فصل الإله عن العالم.
تعرضت الرؤية الربوبية للنقد الشديد لتمسكها بالنماذج الميكانيكية التي تفترض أن الله خلق الكون وتركه ليعمل آلياً.[^2] هذا النموذج الميكانيكي، الذي يستبعد العناية الإلهية المستمرة (الخالق كل يوم هو في شأن)، يؤدي إلى تبريد مشاعر الحب تجاه الخالق وإلى عقيدة مغلوطة ترى المادة والروح [*] منفصلتين بلا اتصال.
على صعيد آخر، يُحذر بشدة من خطورة الإلحاد الروحي، الذي يعيد مفهوم الصنمية في حلة جديدة. حيث يتحول الكون نفسه إلى "أكبر صنم في تاريخ الآلهة المجسّدة".[^3] عند تبني عقيدة التناغم مع الكون أو قانون الجذب، يتحول الكون والطاقة إلى نِدٍّ مع الله يُسأل ويُطلب منه، وهذا يتعارض بشكل جذري مع مبادئ التوحيد والاستعانة بالله وحده.[^3]
تتضح العلاقة بين هذه الأخطاء الفلسفية والذكاء الاصطناعي عبر تحليل المدخلات. الآلة، كما ذكُر، نظام تنفيذي يعتمد على كميات هائلة من البيانات. ولكن هناك تحذيرات من أن هذه البيانات قد تتضمن "بيانات وهمية" (Fake Data) أو "بيانات مزيفة).[^10] فإذا كانت الآلة لا تمتلك وعياً تشريعياً يميز الصدق من الكذب، واعتمدت على مدخلات وهمية، فإن الآثار المترتبة على بناء أنظمة وجودية أو أخلاقية رقمية بناءً على هذه المدخلات ستكون كارثية وقد تقود إلى نتائج مضللة، حتى في مجالات الأمن القومي.[^10]
ثالثاً: التحليل الديني والشرعي: النفس، الغيب، والحكم على المحاكاة
يفرض تزايد قدرات الذكاء الاصطناعي تحديات مباشرة على الشريعة الإسلامية والمفاهيم الدينية الأساسية المتعلقة بالموت، بما يعنيه ذلك من موت للجسد ووفاة للنفس، وما يلي ذلك من حياة وسيطة في البرزخ (الخلود)، وحياة نهائية بعد الحساب يوم القيامة (الأبدية)، وفق الرؤية القرآنية.
3.1. حقيقة النفس ومواجهة عالم الغيب
يؤكد المنظور الديني على أن النفس والنشأة الأخرى تنتميان إلى عالم الغيب، الذي تتجاوز طبيعته القدرة الإدراكية والمادية للإنسان. فطبيعة الملائكة، على سبيل المثال، هي من عالم آخر يختلف عن الطبيعة المادية، ويتطلب التعامل مع الغيب احتراماً لجلاله ووقاره.[^9] بالتالي، فإن النفس بتعقيداتها المركبة ليست مجرد معلومات يمكن ترميزها أو تحميلها في نظام حاسوبي، لأن نشأتها من عالم الأمر، بخلاف الجسد الذي هو من عالم الخلق كما تؤكد ذلك الآية 172 من سورة الأعراف.
كما يشدد الخطاب القرآني على حقيقة البعث، مؤكدًا أن إعادة نشأة الإنسان هي فعل إلهي محض. في حين يستدل الخطاب التراثي على أن هذه الإعادة تقوم انطلاقا من "عجب الذنب" (نهاية العمود الفقري)، الذي يُعتبر نقطة انطلاق الخلق والإعادة وفق الرؤية التراثية التي لا أساس لها من منظور القرآن.[^8]
النشأة الأخرى في عالم ما وراء البرزخ، والنشأة الآخرة يوم القيامة وفق المفهوم القرآني، ترسخ فكرة أن الإعادة هي عملية "إركاب" إلهي جديدة، وليست عملية تجميع بيانات ميكانيكية، بدليل أن النشأة الأخرى في الحياة البرزخية والنشأة الآخرة بعد القيامة تتطلب أجساما تختلف عن أجسام النشأة الأولى في الدنيا، أجسام لا تمرض ولا تتعب ولا تهرم. إن رحلة النفس الإنسانية "ممتدة" من عالم الذر والأنوار العلوية التي أوجد الله فيها النفس (الأعراف: 172)، مرورا بالجسد المادي التي تسكنه النفس بالدور في الحياة الدنيا: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ..} [هود: 6] (المستودع وهو الرحم حيث يتكون الجسم، والمستقر هو الجسم المادي الذي ستخوض به النفس تجربتها الأرضية)~ إلى الخلود في عالم البرزخ ~ ثم بعده الأبدية في جنة النعيم أو عذاب الجحيم، ولا يمكن لـ "حل رقمي مؤقت ومحدود" يقدمه الذكاء الاصطناعي أن يحل محل هذا الوعد الوجودي الأبدي الذي قطع الله في التنزيل الحكيم.[^8]
3.2. الفتاوى التراثية حول محاكاة الأموات بالذكاء الاصطناعي
أثارت تقنيات "الرحيل الرقمي" جدلاً فقهياً انتهى بصدور فتاوى تحرم استخدامها. فقد أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى صريحة تؤكد "غير جائز شرعاً عمل نماذج محاكاة مع الموتى" باستخدام الذكاء الاصطناعي.[^5]
يستند التحريم إلى أساسين فقهيين:
- مضاهاة خلق الله وعلة التصوير:
يحرم فقهاء الرسوم "التصوير" لذوات الأرواح، خاصة إذا كان في صورة مجسمة أو تفاعلية تشابه خلق الله. الاستناد هنا إلى مرويات منسوبة للنبي عليه السلام تتوعد المصورين، وتقول لهم "أحيوا ما خلقتم" يوم القيامة، وهو ما لا أصل ولا فصل له في كتاب الله الحكيم.[^11]. ووفق الموروث التراثي، فإنه إذا تجاوزت المحاكاة الرقمية مجرد الصورة الفوتوغرافية أو التلفزيونية إلى خلق "صورة مجسمة" أو نموذج تفاعلي يحاكي الروح والقرار، فإنها تدخل في علة النهي عن التصوير المحرم ومضاهاة خلق الله.[^11]. لكن ما لم ينتبه إليه التراثيون هو أن الله لم يحرم التماثيل التي كانت العفاريت تصنعها لنبيه سليمان عليه السلام؟ ومردُّ ذلك أن التحريم من وجهة نظر القرآن لا يكون إلا إذا اتخذت هذه التماثيل آلهة تعبد مع الله، أما الزينة فلم يحرمها الله بشهادة القرآن، لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. ولأن القرآن يفهم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن الزينة لا تشمل اللباس فحسب بل والأثاث والديكور أيضا إذا كان الهدف منه تجميل المحيط الذي يعيش فيه الإنسان.
- سد الذرائع ومنع المفاسد:
يتمثل الضابط الأهم بالنسب للتراثيين في أن استخدام الروبوتات والذكاء الاصطناعي يجب أن يكون غرضه مباحًا شرعًا وألا يؤدي إلى مفسدة على الإطلاق.[^12] وهذا صحيح، وبالتالي، ففي حالة محاكاة الموتى، فإن المفاسد تترجح على أي منفعة عاطفية مزعومة. وتشمل هذه المفاسد: التلاعب بقدسية الموت، إمكانية استخدام المحاكاة في السخرية أو الإساءة للميت [^13]، وخلق تعلقات نفسية مرضية وغير صحيحة لدى الأحياء (كما في التحذيرات من علاقات الحب الاصطناعية التي أصبحت تمارس مع روبوتات جنسية) والتي لا زال النقاش الفقهي على أشده بشأن حقيقتها إن كانت زنا أم لا؟[^14]
إن التحريم الشرعي هنا يتجاوز الجانب التقني ليلامس البعد الميتافيزيقي للتقنية، خصوصا وأن قضايا الموت والبعث هي حدود إلهية لا يجوز للبشر رقمياً العبث بها أو محاولة إعادة تعريفها خارج نطاق الإرادة الإلهية.
3.3. الذكاء الاصطناعي وتطوير الإفتاء: حدود الاجتهاد الآلي
مع التطور في تقنيات الذكاء الاصطناعي القادرة على تحليل النصوص القانونية والشرعية، نشأ جدل حول مدى إمكانية استخدامه كأداة للإفتاء.
يُقر التحليل بإمكانية توظيف الذكاء الاصطناعي لـ "الخير العام" [^15]، وفي مجال الفتوى تحديدًا، يمكن للتقنية أن تعزز سرعة ودقة استخراج النصوص الشرعية وتحليل النصوص الضخمة، خاصة في المناطق التي تعاني من نقص في فقهاء الإفتاء.[^16]
ومع ذلك، يظل الذكاء الاصطناعي قاصرًا عن الحلول محل المفتي البشري. فالقضايا الفقهية تتطلب قدراً كبيراً من الاجتهاد الإنساني والمرونة الفكرية التي تمكن المفتي من فهم "روح النصوص الشرعية" والسياقات الاجتماعية والنفسية المحيطة بالمسائل المعقدة، وهي الشروط لا تتوفر للفقهاء التراثيين لعدم فهم معظمهم للدين والدنيا (القرآن وعلوم الحياة والكون) فأحرى أن يفهموا تقنيات الذكاء الإصطناعي.[^16] وإن كانت الآلة، بوصفها نظاماً معرفياً يعتمد على التعليم والتعليل والخوارزميات [^17]، فهي لا تمتلك "الوعي التشريعي" المطلوب لوزن المصالح والمفاسد، ومثال ذلك عمل القضاة، فالذكاء الإصطناعي لا يمتلك ضميرا يمكنه الرجوع إليه قبل صدور الأحكام.
لذلك، فإن الذكاء الاصطناعي يجب أن يظل أداة مساعدة لا بديلًا عن البشر، ويجب أن يكون دوره مقصوراً على التحليل والتصنيف، مع الإبقاء على الإشراف البشري لضمان توافق الفتاوى مع القيم الإسلامية الصحيحة المستمدة من القرآن حصريا واحتياجات المجتمع عموما بعد فهم السياق المؤطّر لها.[^16]
رابعاً: الاستنتاجات الكبرى لـ "بديهيّة" والتوصيات المنهجية
4.1. نتائج برنامج "بديهيّة" لظاهرة الذكاء الاصطناعي والخلود
يتلخص التحليل الفلسفي والديني لبرنامج "بديهيّة" حول الذكاء الاصطناعي والحياة بعد الموت في رفض ثلاثة أوهام كبرى تتجاوز حدود الواقعية المادية والغيبية:
- أولا: وهم الاختزال المادي للوعي: الآلة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي المتقدم، هي في الأساس "جهاز تنفيذي" ينفذ ما يطلب منه بدقة، ويفتقر إلى الروح والوعي التشريعي والشعور البشري غير المحدود. لذا، فإن الوعي غير قابل للنسخ أو النقل رقمياً.[^6, ^7]
- ثانيا: وهم الخلود الوجودي الرقمي: محاكاة الموتى هي محاكاة للنمط السلوكي (Pattern)، وهي لا تمنح الذات الواعية أي خلود حقيقي. وقد تم تحريم هذه الممارسات شرعاً لكونها مضاهاة للخلق وتؤدي إلى مفاسد نفسية واجتماعية.[^5, ^11]
- ثالثا: وهم استقلال الكون عن الإله: بالرغم من قدرة الذكاء الاصطناعي (مثل Life2vec) على النمذجة الإحصائية لقوانين الكون، إلا أن هذا لا ينفي العناية الإلهية المستمرة ولا يختزل الموت في مجرد متغيرات مادية، ويرفض التحليل عقائد الإلحاد الروحي والربوبية التي ترفع المادة أو الكون إلى مرتبة الصنم أو النِدّ الإلهي.[^2, ^3]
4.2. التداعيات الأخلاقية والاجتماعية للذكاء الاصطناعي المادي
يجب النظر إلى التداعيات الأخلاقية لانتشار الذكاء الاصطناعي المادي. التحذير من العلاقات العاطفية الاصطناعية (Artificial Love) [^14] يشير إلى أن تصميم روبوتات أو تطبيقات جنسية بلا أخلاقيات، خاصة في سياق يركز على "البزنس" [^14]، يؤدي إلى خلل كارثي في السلوكيات البشرية والحاجات العاطفية الأساسية ما دام الله تعالى جعل العلاقات الجنسية علاقات مسؤولة مبنية على المودة والرحمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستخدام التجاري لنتائج التنبؤ بالوفاة، مثل نموذج "Life2vec"، من قبل شركات التأمين يمثل استغلالًا اقتصاديًا للمعلومات الوجودية الحساسة.[^4]
4.3. ملخص تحليلات "بديهيّة" لظاهرة الذكاء الاصطناعي والوجود
فيما يلي ملخص نقاط التعارض بين الرؤية المادية لظواهر الذكاء الاصطناعي والتحليل النقدي لـ "بديهيّة" في ثلاثة محاور رئيسية:
- المحور العلمي: يرى التحليل أن نماذج التنبؤ بالوفاة مثل Life2vec" [^4]" تُثبت قوة النمذجة الإحصائية المادية للظواهر الكونية، لكنه لا يتجاوز كونه أداة كمية. وتؤكد "بديهيّة" على ضرورة التحذير من استغلال التنبؤ لأغراض تجارية (كالتأمين)؛ لما يشكله ذلك من خطر أخلاقي.[^4]
- المحور الفلسفي: بالنسبة لتطبيقات الخلود الافتراضي ومحاكاة الموتى [^5]، ترى الرؤية الفلسفية لـ "بديهيّة" أن الآلة هي مجرد جهاز تنفيذي يفتقر للوعي والشعور، بينما الوعي البشري غير محدود وهو الجهاز التشريعي الحقيقي.[^6, ^7] بالتالي، فإن محاولة نقل الوعي هي خرافة مادية؛ لأن النفس من عالم الأمر لا الخلق كما هو حال الجسد، بما يعنيه ذلك من مجال إلهي غيبي لا يمكن احتوائه أو تقليده.[^9]
- المحور الديني/الشرعي: في مواجهة برامج محاكاة المتوفين (Digital Departure) [^5]، ترفض "بديهيّة" عقيدة التناغم مع الكون (صنم الكون) التي تتخذ من المادة ندّاً لله.[^3] كما وأن محاكاة الأموات "غير جائز شرعاً" لكونها مضاهاة للخلق وتؤدي إلى مفاسد نفسية واجتماعية.[^5, ^11]
4.4. المقارنة المنهجية بين العقل البشري والذكاء الاصطناعي (من منظور الوعي)
لتأكيد الفصل المنهجي بين الوعي والآلة، يوضح تحليل "بديهيّة" الفروقات الجوهرية بينهما بناءً على أربعة معايير:
- الطبيعة الأساسية: يمثل العقل البشري (الروح/الوعي) "جهازاً تشريعياً" مسؤولاً عن إصدار القرارات والقيم، في حين أن الذكاء الاصطناعي (الآلة/المخ) هو "جهاز تنفيذي" مهمته تنفيذ الأوامر المحددة.[^6]
- الحدود الوجودية: العقل البشري "غير محدود"، أي قادر بفضل ملكة الخيال الخلاّق على التطور والإدراك خارج المدخلات والمعطيات، بينما الذكاء الاصطناعي "محدود"، ومقيّد بالخوارزميات والمدخلات المبرمجة.[^7]
- الصفات الجوهرية: يتمتع العقل البشري بخاصية الشعور والإحساس (Sense)، وهي صفة يفتقر إليها الذكاء الاصطناعي.[^7]
- العلاقة بالمادة: النفس أنشأها وسواها الله ولا يمكن اختزالها في المادة، بينما الآلة هي نظام عصبي كهربي معقد يعالج بيانات مادية قد تكون مُتضمِّنة لـ (Fake Data) "بيانات وهمية" محتملة.[^2, ^6, ^10]
5. التوصيات المنهجية
بناءً على النتائج التحليلية لبرنامج "بديهيّة"، يوصى بما يلي:
- وضع ضوابط شرعية وأخلاقية للتقنيات الوجودية: يجب على الحكومات والمؤسسات الدينية العمل على وضع أطر أخلاقية واضحة للتعامل مع التقنيات التي تلامس حدود الغيب (مثل محاكاة الموتى ونقل الوعي)، مع التركيز على مبدأ سد الذرائع ومنع المفاسد الروحية والاجتماعية.
- تعميق النقد الفلسفي للمادية الرقمية: يجب على الباحثين تعميق الدراسات التي تفكك الافتراضات المادية لعلوم الذكاء الاصطناعي المعرفي (AI Cognition)، وتوضيح أن الآلة ليست سوى نظام معرفي غير واعٍ لا يملك الصمير ولا الشعور والإحساس، وأن الوعي الحقيقي يظل مرتبطاً بالنفس غير القابلة للاحتواء أو النسخ.
- ترشيد استخدام الذكاء الاصطناعي في العلوم الشرعية: يجب أن يقتصر دور الذكاء الاصطناعي في مجالات الإفتاء والفقه على المساعدة في تحليل وتصنيف المعلومات، مع التأكيد على أن الدور الاجتهادي والتشريعي البشري ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، لضمان فهم السياق الإنساني والروحي للنصوص.[^16]
------------------------------
تدقيق:
[*] استبدل مصطلح "الروح" الذي يستعمل في الثقافة الغربية بمصطلح "النفس" بمفهومه القرآني لوجوب التفريق بينهما، ذلك أن الروح وفق القرآن تعني الوحي الذي هو من أمر الله، ولا علاقة له بجسم الإنسان. في حين أن "النفس" هي الأنا العليا أو الذات الخاصة التي تميز الإنسان، ولا يوجد نظير لهذا المصطلح في الثقافة الغربية.
المراجع (وفق نمط شيكاغو للتوثيق):
. طلعت. "السببية بديهية." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. "العودة إلى الإيمان: تحليل فلسفي لإثبات الخالق وتفنيد المادية." مكتبة المسلم. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. "قانون الجذب يتخذ صنم الكون (عقيدة خطيرة تنتشر)." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. 24.ae. "روبوت الموت.. برنامج ذكاء اصطناعي يتنبأ بموعد الوفاة." 24.ae، تم النشر سبتمبر 2025.
. محمد مخلوف. "الرحيل الرقمي.. ذكاء اصطناعي يحاكي الموتى يثير الجدل." العربية نت، تم النشر 20 سبتمبر 2025.
. هيثم طلعت. "المخ جهاز تنفيذي والإنسان بروحه هو الجهاز التشريعي." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. "الذكاء الاصطناعي و الغباء البشري: الوعي والشعور." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. "لماذا يشغل الإنسان نفسه بما بعد الموت؟" يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. "ضرورة احترام جلال عالم الغيب (طبيعة الملائكة)." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. "نقد التعامل مع البيانات الوهمية (Fake Data) في الذكاء الاصطناعي." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. شاكر المقدم. "حكم الصور المجسمة لذوات الأرواح والنهي عن التصوير." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. "الضابط الشرعي لاستخدام الروبوتات والذكاء الاصطناعي: الغرض منه مباح شرعًا." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. "التحذير من استخدام محاكاة الموتى للسخرية والإساءة." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. هيثم طلعت. "دراسة تحذر من علاقات حب اصطناعية (Artificial Love)." يوتيوب. تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. McKinsey & Company. "الذكاء الاصطناعي من أجل الخير العام: تحسين جودة الحياة وحماية كوكب الأرض." تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. حنان شبانة. "الفتوى والذكاء الاصطناعي: حدود الاجتهاد الآلي." الجمهورية أونلاين، تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.
. OER Commons. "عمليات الذكاء الاصطناعي: التعليم، التعليل، ونظام معالجة البيانات." تم الوصول إليه نوفمبر 6, 2025.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق