(تحليل سياسي)
تمهيـــد
يُعدّ موضوع العلاقة بين الديمقراطية والتنمية من أكثر القضايا إلحاحًا في حقل الدراسات السياسية والتنموية. فمنذ ستينيات القرن الماضي، انقسم الباحثون بين اتجاهين متعارضين:
• الاتجاه الأول، ويتزعمه باحثون مثل "سيمور ليبست" (Seymour Lipset)، الذي يرى أن التنمية الاقتصادية شرط ضروري لترسيخ الديمقراطية. فكلما ارتفع مستوى الدخل والتعليم وتطورت الطبقة الوسطى، ازدادت فرص التحول الديمقراطي واستمراره.
• الاتجاه الثاني، ويمثله مفكرون في الاقتصاد السياسي المعاصر مثل "أمارتيا سن" (Amartya Sen)، الذي يعتبر أن الديمقراطية نفسها عامل محفّز للتنمية، لأنها تضمن الشفافية، المحاسبة، وحماية حقوق الإنسان، وبالتالي تمنع الانحرافات السلطوية التي تعطل النمو.../...
وقد تعزز هذا الجدل بدراسات مقارنة بين آسيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا، حيث أظهرت تجارب كوريا الجنوبية، سنغافورة، ماليزيا، والصين، أن التنمية قد تتحقق في غياب الديمقراطية، بينما أظهرت تجارب غانا، وبوتسوانا، أن الديمقراطية يمكن أن تتعايش مع نسب نمو مقبولة واستقرار سياسي.
في السياق الإفريقي، يتضاعف الاهتمام الأكاديمي بهذا الموضوع نظرًا لخصوصيات القارة، والمتمثلة في:
- هشاشة البنى المؤسسية بعد الاستقلال.
- التعدد الإثني واللغوي والثقافي الذي يجعل الديمقراطية أحيانًا أكثر تعقيدًا.
- غنى الموارد الطبيعية الذي قد يتحول إلى “لعنة” في غياب الحكامة الرشيدة.
ومن ثم، فإن سؤال: «أيهما أولاً – الديمقراطية أم التنمية؟» لا يمثل مجرد إشكالية نظرية، بل هو سؤال استراتيجي ينعكس على سياسات الدول الإفريقية، وعلاقاتها بالقوى الكبرى، ومسار تحولها نحو الاستقرار والازدهار.
1) مقدمة
تواجه الدول الإفريقية منذ استقلالها معضلة بنيوية معقدة تتمثل في سؤال جوهري: أيهما أولاً – الديمقراطية أم التنمية؟. فبينما يرى تيار واسع أن التنمية الاقتصادية السريعة شرط سابق لكل استقرار سياسي، يؤكد آخرون أن غياب الديمقراطية والشفافية والمساءلة يجعل أي إنجاز اقتصادي هشًّا وقابلاً للانهيار.
تنبع أهمية هذا السؤال من خصوصية القارة الإفريقية، حيث يعيش أكثر من 1.4 مليار نسمة في دول ذات تفاوتات حادة: بعض البلدان تشهد نسب نمو عالية، فيما لا يزال الفقر والبطالة والأمية عاهات متفشّية في أخرى. وبحسب بيانات البنك الدولي لسنة 2023، لا يزال حوالي 40٪ من سكان إفريقيا جنوب الصحراء يعيشون تحت خط الفقر العالمي (2.15 دولار يوميًا)، في حين تحقق بعض الدول مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا والمغرب معدلات نمو جعلتها ضمن الاقتصادات الصاعدة.
إفريقيا كذلك ساحة تنافس دولي محتدم: الصين تطرح نموذج “التنمية أولاً” عبر مبادرة الحزام والطريق، فيما يشترط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الديمقراطية وحقوق الإنسان كشروط لا مناص منها للشراكة. وهو ما يجعل النقاش بين التنمية والديمقراطية أكثر من مجرد جدل نظري، بل خيارًا إستراتيجيًا سيحدد موقع القارة ألإفريقية في النظام العالمي خلال العقود المقبلة.
من هنا، يسعى هذا البحث إلى تقديم مقاربة تحليلية مقارنة، بين النموذج الآسيوي الذي منح الأولوية للتنمية الاقتصادية قبل الانتقال السياسي، وبين التجارب الإفريقية التي حاولت التوفيق بين الديمقراطية والتنمية. كما سيتناول البحث نموذج المغرب بوصفه حالة خاصة جمعت بين إقلاع اقتصادي وديمقراطية صورية.
2) الإطار النظري والمفاهيمي
1.2 مفهوم التنمية الاقتصادية
تُعرَّف التنمية الاقتصادية بأنها العملية التي تهدف إلى رفع مستويات المعيشة وتحقيق النمو المستدام عبر التوسع في الإنتاج، تحسين البنية التحتية، وتوزيع الثروة بشكل عادل.
• مؤشرات قياسها:
- الناتج المحلي الإجمالي (GDP) ومعدل نموه.
- نصيب الفرد من الدخل القومي.
- معدل البطالة والفقر.
- مؤشر التنمية البشرية (HDI) الذي يجمع بين التعليم، الصحة، والدخل.
بحسب البنك الدولي (2023)، يبلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي في إفريقيا جنوب الصحراء نحو 1.700 دولار سنويًا، مقابل أكثر من 12 ألف دولار في شرق آسيا والمحيط الهادي، ما يعكس فجوة هائلة في التنمية.
2.2 مفهوم الديمقراطية
الديمقراطية في التعريف السياسي تعني نظام حكم يقوم على المشاركة الشعبية والتعددية والشفافية والمساءلة.
• مؤشراتها:
- انتخابات حرة ونزيهة.
- فصل السلطات واستقلال القضاء.
- حرية الصحافة والتعبير.
- حماية حقوق الأقليات.
وفق مؤشر الديمقراطية (The Economist Intelligence Unit, 2023)، فإن غالبية الدول الإفريقية تقع في فئة “النظم الهجينة” أو “السلطوية”، باستثناء حالات محدودة مثل بوتسوانا، غانا، جنوب إفريقيا.
3) النموذج الآسيوي (التنمية أولاً)
يقوم النموذج الأسيوي على فرضية أن الاستقرار السياسي والقيادة القوية أهم من الديمقراطية في المراحل الأولى.
• أمثلة:
- سنغافورة: انضباط سياسي + مكافحة فساد + جذب استثمارات = قفزة اقتصادية.
- كوريا الجنوبية: حكم عسكري في الستينيات والسبعينيات + تصنيع سريع = انتقال إلى الديمقراطية لاحقًا (نفس مسار إسبانيا زمن ديكتاتورية فرانكو والانتقال الديموقراطي إلى الملكية البرلمانية بعد وفاته).
- الصين: انفتاح اقتصادي مع بقاء نظام الحزب الواحد (تنمية من دون ديموقراطية).
4) النموذج الغربي (الديمقراطية شرط للتنمية)
- يضع هذا النموذج الديمقراطية وحقوق الإنسان كمدخل أساسي للتنمية.
- يرى أن غياب الشفافية والمحاسبة يؤدي إلى فساد يعطل التنمية.
- يشترط كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في سياساتهما تجاه إفريقيا، القيام بإصلاحات سياسية مقابل مساعدات اقتصادية.
5) التجارب الآسيوية: التنمية كأولوية
1.5 سنغافورة: الدولة-المؤسسة
عند استقلالها عام 1965، كانت سنغافورة دولة صغيرة بلا موارد طبيعية تقريبًا، ومعدل بطالة يفوق 14٪.
قاد "لي كوان يو" سياسة صارمة: الانضباط الإداري، مكافحة الفساد، جذب الاستثمارات الأجنبية.
- النتيجة: معدل نمو سنوي بلغ في المتوسط 8٪ بين 1965 و 1990، وتحول نصيب الفرد من الناتج المحلي من أقل من 500 دولار إلى أكثر من 12 ألف دولار.
الديمقراطية بقيت محدودة، وحزب العمل الشعبي هيمن على الحياة السياسية، لكن ذلك لم يمنع نشوء نموذج “الدولة-المؤسسة” التي تدير اقتصادها بكفاءة عالية.
2.5 ماليزيا: التنمية بقيادة النخبة السياسية
تحت قيادة "مهاتير محمد" (1981–2003)، تبنّت ماليزيا استراتيجية “الرؤية 2020” التي استهدفت جعل البلاد دولة صناعية متقدمة.
خلال عقدين، تضاعف الناتج المحلي أربع مرات تقريبًا، وارتفع نصيب الفرد من حوالي 1800 دولار عام 1980 إلى أكثر من 7200 دولار عام 2000.
اعتمدت الحكومة سياسة التصنيع والتكنولوجيا، مع انفتاح على الاستثمارات الأجنبية.
الديمقراطية موجودة شكليًا عبر تعدد الأحزاب، لكنها ظلت محدودة بسلطة النخبة السياسية والتحالف الحاكم.
3.5 كوريا الجنوبية: التصنيع قبل الديمقراطية
في الستينيات والسبعينيات، قاد الجنرال "بارك تشونغ هي" سياسة صناعية صارمة ركزت على دعم “التشايبول” (المجموعات الصناعية الكبرى مثل سامسونغ وهيونداي).
بين 1960 و 1990، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي من أقل من 100 دولار إلى أكثر من 6000 دولار.
التحول الديمقراطي لم يبدأ إلا في أواخر الثمانينيات، بعد أن حققت البلاد مستوى من الثراء والتعليم سمح للمجتمع المدني بالضغط نحو الإصلاح.
4.5 الصين: الإصلاح الاقتصادي بدون إصلاح سياسي
منذ إصلاحات "دنغ شياو بينغ" (1978)، اعتمدت الصين سياسة “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”: اقتصاد سوق منفتح + حكم الحزب الواحد.
بين 1980 و 2020، حققت الصين معدل نمو سنوي يقارب 9٪، وأخرجت أكثر من 800 مليون شخص من الفقر (حسب البنك الدولي).
اليوم تعتبر الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، لكن مؤشر الديمقراطية يضعها ضمن الأنظمة السلطوية.
التجربة الصينية تُظهر بوضوح أن التنمية الاقتصادية يمكن أن تزدهر حتى في غياب الديمقراطية، إذا توافرت قيادة مركزية قوية ورؤية طويلة الأمد.
6.5 خلاصة التجارب الأسيوية
تشترك هذه التجارب الآسيوية في ثلاث سمات أساسية:
أ. قيادة قوية مركزية لم تولِ الديمقراطية أولوية في المراحل الأولى.
ب. تركيز على التصنيع وجذب الاستثمارات بدلًا من الاعتماد على الموارد الطبيعية.
ج. إرساء الانضباط ومكافحة الفساد باعتبارهما شرطًا أساسيًا لنجاح النموذج التنموي.
6) النموذج الأوروبي: الديمقراطية شرط للتنمية
• الجذور التاريخية:
بعد الاستقلال، ورثت معظم الدول الإفريقية أنظمة سياسية ودساتير مستوحاة من فرنسا وبريطانيا، ما جعل الديمقراطية الليبرالية الغربية النموذج “المفترض” للتحديث.
• الفكرة الأساسية:
الديمقراطية (انتخابات، تعددية، فصل السلطات) شرط مسبق لتحقيق التنمية الاقتصادية، إذ بدونها تنتشر المحسوبية والفساد، ويغيب الاستقرار طويل الأمد.
هذا ما ركز عليه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في برامج “التكييف الهيكلي” منذ الثمانينيات.
كما أن الاتحاد الأوروبي يربط المساعدات والشراكات مع إفريقيا بمعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان.
6.1 جاذبية النموذج الإفريقي تجاه أوروبا:
بالنسبة للشعوب الإفريقية، كان النموذج الأوروبي بمثابة “القدوة” لزمن طويل، وذلك للاعتبارات التالية:
- الإرث الاستعماري الثقيل الذي جعل الثقافة السياسية الإفريقية أقرب إلى أوروبا.
- الانبهار بالرفاهية الاقتصادية الأوروبية، حيث بلغ نصيب الفرد في الناتج المحلي بأوروبا الغربية أكثر من 30 ألف دولار، مقابل أقل من 1000 دولار في أغلب الدول الإفريقية خلال الستينيات والسبعينيات.
- غياب الاطلاع على الثقافة السياسية الآسيوية، خاصة قبل بروز “المعجزة الصينية” وصعود “النمور الآسيوية”، ما جعل البديل الوحيد المتصور هو “الطريق الغربي”.
6.2 النتيجة:
تبنّت العديد من الدول الإفريقية دساتير وانتخابات تعددية شكلية، لكنها لم تتحول إلى دول ديموقراطية لتحقق التنمية المرجوة، مما أدى إلى خيبة أمل واسعة، وإلى البحث لاحقًا عن “طرق بديلة” مثل النموذج الآسيوي الذي لم يكن حاضرًا في الوعي السياسي الإفريقي إلا في تسعينيات القرن الماضي.
7) المقارنة بين النموذجين الأوروبي والآسيوي
1.7 المدخل الأساسي
في النموذج الأوروبي، تُعتبر الديمقراطية شرطًا للتنمية. أي أن بناء مؤسسات سياسية قوية وشفافة، مع انتخابات حرة وتعددية حزبية، ومحاسبة صارمة، هو الطريق الوحيد لضمان نمو اقتصادي مستدام.
بينما في النموذج الآسيوي، تُقدَّم التنمية على الديمقراطية. الأولوية تُعطى للنمو الاقتصادي السريع، حتى لو تم ذلك في ظل أنظمة سلطوية أو مركزية، على أن يأتي الانفتاح السياسي لاحقًا بعد تحقيق قاعدة تنموية صلبة.
2.7 التجربة التاريخية
أوروبا الغربية حققت نموها الصناعي والاقتصادي بعد قرون من التدرج السياسي والفكري، حيث تلازمت الثورة الصناعية مع ترسيخ الديمقراطية البرلمانية.
آسيا، خاصة شرقها وجنوب شرقها، عكست المسار: انطلقت من أنظمة سلطوية مركزية، لكنها ركزت على التصنيع، الانضباط، الشفافية والمحاسبة، وجذب الاستثمارات، ثم انتقلت تدريجيًا إلى الديمقراطية بعد تحقيق مستويات عالية من التنمية.
3.7 آليات الضبط والمساءلة
في أوروبا، آليات المساءلة تأتي عبر المؤسسات الديمقراطية: برلمان، قضاء مستقل، صحافة حرة، مجتمع مدني نشط.
في آسيا، المساءلة تأتي عبر فعالية الدولة في تحقيق نتائج ملموسة: خفض الفقر، تحسين التعليم، بناء البنية التحتية، وهو ما يمنح الشرعية للنظام السياسي حتى في غياب انتخابات حقيقية.
4.7 النظرة الإفريقية
بالنسبة للشعوب الإفريقية، ظل النموذج الأوروبي هو القدوة التقليدية بحكم الإرث الاستعماري والانبهار بالرفاهية الغربية.
لكن مع بروز التجربة الصينية والنمور الآسيوية، بدأ يُطرح سؤال بديل: - هل يمكن للقارة السمراء أن تسلك طريق التنمية أولًا، حتى في غياب ديمقراطية حقيقية؟
8) التحديات أمام تطبيق النموذج الآسيوي في إفريقيا
1.8 الفساد المؤسسي
من أبرز العوائق أمام أي نموذج تنموي إفريقي هو استفحال الفساد.
في حين تمكنت دول آسيوية مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية من تقييد النخب الحاكمة عبر انضباط إداري صارم، تفتقر العديد من الدول الإفريقية إلى مؤسسات قادرة على الرقابة والمساءلة، وتلك التي تتوفر على بعضها تبقى الأخيرة مشلولة وغير فعّالة.
وفق مؤشر مدركات الفساد (Transparency International 2023)، تحتل أكثر من 40 دولة إفريقية مواقع ضمن الثلث الأسفل عالميًا، مع دول مثل جنوب السودان، الصومال، وتشاد في المراتب الأخيرة.
2.8 التنوع العرقي والاجتماعي
إفريقيا قارة غنية بالتعدد الإثني واللغوي والديني، وهو ما يجعل فرض نموذج سلطوي مركزي على الطريقة الآسيوية محفوفًا بالمخاطر.
في دول مثل نيجيريا (أكثر من 250 مجموعة إثنية) أو إثيوبيا (انقسامات بين الأمهرة، التيغراي، الأورومو)، أدى تركيز السلطة إلى توترات وصراعات مسلحة.
بخلاف ذلك، استفادت دول آسيوية مثل كوريا الجنوبية أو الصين من درجة عالية من التجانس القومي، ما سهّل عملية فرض الانضباط السياسي دون انفجارات أهلية كبيرة.
3.8 لعنة الموارد الطبيعية
إفريقيا تُعتبر أغنى قارات العالم بالموارد الطبيعية (نفط، غاز، معادن، ماس، ذهب، نحاس، وخلافه).
بدل أن تكون هذه الموارد محرّكًا للتنمية، تحولت في كثير من الحالات إلى لعنة بسبب أطماع الدول الصناعية واعتماد الحكومات الفاسدة على الريع بدل التصنيع.
على سبيل المثال، نيجيريا رغم كونها من أكبر مصدّري الطاقة ولها أكبر احتياطي غاز في إفريقيا، لا تزال تعاني من نسب فقر تفوق 40٪. بينما دول مثل كوريا الجنوبية واليابان التي تفتقر للموارد الطبيعية بنت اقتصادات صناعية قوية.
4.8 ضعف المؤسسات وبنية الدولة
غياب مؤسسات قوية ومستقرة يجعل أي مشروع “تنمية سلطوية” معرضًا للانحراف إلى دولة فاسدة أو ريعية بدل “دولة تنموية”.
في حالات مثل زيمبابوي أو السودان، أدت الأنظمة السلطوية إلى انهيار اقتصادي بدل إقلاع تنموي.
5.8 مقارنة بين تجارب آسيا وإفريقيا
التجارب الآسيوية أظهرت أن التنمية ممكنة في ظل أنظمة سلطوية منضبطة، لكن السياق الإفريقي يطرح تحديات مغايرة:
- ضعف المؤسسات.
- تنوع عرقي قد يتحول إلى نزاع.
- الإعتماد على الموارد بدل التصنيع.
وبالتالي، فإن نقل النموذج الآسيوي إلى إفريقيا بشكل آلي قد يكون محفوفًا بالمخاطر، بل وربما يقود إلى نتائج عكسية.
6.8 فقرة انتقالية
إن التحديات التي تواجه الدول الإفريقية في استلهام النموذج الآسيوي – من فساد مؤسسي وتنوع اجتماعي ولعنة الموارد – تبرز حقيقة أساسية مفادها أن التنمية لا يمكن أن تُستورد جاهزة من الخارج، مثلها مثل الديموقراطية. فلكل قارة خصوصياتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي تفرض حلولًا محلية مناسبة.
ولهذا، فإن التركيز على النماذج الإفريقية الداخلية يكتسي أهمية بالغة، لأنها تعكس تفاعلاً أصيلاً بين متطلبات التنمية وبناء الدولة في بيئة إفريقية صرفة، بعيدًا عن الإسقاطات الميكانيكية للنموذج الغربي أو الآسيوي.
لقد شهدت القارة بالفعل تجارب متنوعة، بعضها نجح في التوفيق بين الديمقراطية والتنمية مثل بوتسوانا وغانا، وبعضها حاول السير في مسار “التنمية أولًا” مع ديمقراطية شكلية كما في المغرب. هذه النماذج تمثل مختبرًا واقعيًا لفهم إمكانية صياغة طريق إفريقي خاص يجمع بين القيادة الرشيدة والمؤسسات القوية والمساءلة التدريجية.
7. التجارب الإفريقية البديلة
1.7 بوتسوانا: الاستثناء الإفريقي
منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966، اعتُبرت بوتسوانا حالة نادرة من الاستقرار السياسي في إفريقيا.
اعتمدت نموذجًا يقوم على ديمقراطية برلمانية مستقرة، تداول سلمي على السلطة، واحترام المؤسسات.
• اقتصاديًا:
حققت بوتسوانا واحدًا من أسرع معدلات النمو في العالم خلال العقود الماضية (بمتوسط 5٪ سنويًا منذ 1970).
نصيب الفرد من الناتج المحلي ارتفع من أقل من 100 دولار عام 1966 إلى أكثر من 7500 دولار عام 2022.
سر النجاح: إدارة رشيدة للموارد الطبيعية (الماس خصوصًا)، وغياب الفساد النسبي بفضل مؤسسات قوية وشفافية في توزيع العائدات، وقضاء مستقل يحاسب الفاسدين بناء على التقارير الرسمية التي تصدرها مؤسسات الافتحاص الرسمية والخاصة.
2.7 غانا: الديمقراطية التوافقية والتنمية التدريجية
بعد سلسلة انقلابات عسكرية في السبعينيات والثمانينيات، تبنت غانا دستورًا جديدًا عام 1992 فتح الباب أمام التعددية السياسية.
منذ ذلك التاريخ، شهدت البلاد عدة انتخابات حرة وتداولًا سلميًا على السلطة، لتصبح من أبرز الديمقراطيات الناشئة في إفريقيا.
• اقتصاديًا:
متوسط معدل النمو بلغ حوالي 6٪ خلال العقد الأخير، رغم التحديات في قطاع النفط والديون.
مؤشر التنمية البشرية ارتفع من 0.48 عام 1990 إلى 0.63 عام 2022.
النموذج الغاني يبرهن أن الديمقراطية ليست بالضرورة عائقًا أمام التنمية، بل يمكن أن تتعايش معها في ظل مؤسسات قوية وحوار وطني شامل.
3.7 المغرب: الديمقراطية الصورية والإقلاع الاقتصادي
• سياسيًا:
دستور 2011 عزز بعض صلاحيات البرلمان والحكومة، لكنه أبقى على مركزية القرار في المؤسسة الملكية.
مؤشر الديمقراطية (2023) يضع المغرب في المرتبة 95 عالميًا ضمن خانة “النظم الهجينة”.
تُوصف تجربته بأنها ديمقراطية صورية: انتخابات تُنظم بانتظام من قبل وزارة الداخلية، لكن النفوذ الفعلي يظل محدودًا بيد السلطة المركزية.
• اقتصاديًا:
نمو اقتصادي متوسط (3–4٪ سنويًا خلال العقدين الأخيرين).
استثمارات استراتيجية في البنية التحتية:
- ميناء طنجة المتوسط (الأكبر في إفريقيا والمتوسط).
- القطار فائق السرعة (TGV) الأول في القارة.
- ريادة في الطاقات المتجددة: مركب “نور ورززات”، أحد أكبر مشاريع الطاقة الشمسية عالميًا.
- بنى تحتية عصرية في معظم مناطق البلاد.
- تحول هيكلي إلى الصناعة: قطاع السيارات أصبح أول مصدر وطني متجاوزًا الفوسفات. بالإضافة إلى توطين تكنولوجيا قطاعات صناعية متطورة ومتنوعة.
- انفتاح تجاري واستراتيجي على أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء.
• المفارقة:
- المغرب حقق إقلاعًا اقتصاديًا يجعله قريبًا من بعض الاقتصادات الأوروبية من حيث البنية التحتية والتصنيع.
- لكنه لم ينجز تحولًا ديمقراطيًا عميقًا، ولا هو نجح في تنزيل الدولة الإجتماعية التي وعد بها، ما يضعه في خانة “النموذج الهجين” بين التنمية الاقتصادية التي لا يستفيد منها إلا الأغنياء، والديمقراطية الشكلية التي يسوق بها صورته الخارجية.
4.7 مقارنة التجارب الإفريقية الثلاثة
تكشف هذه النماذج الثلاثة أن التجربة الإفريقية ليست موحدة:
• بوتسوانا نجحت في الجمع بين الديمقراطية والتنمية بفضل الحوكمة الجيدة.
• غانا أثبتت أن الديمقراطية التوافقية قادرة على توفير أرضية لنمو اقتصادي تدريجي.
• المغرب يقدم نموذجًا مختلفًا: إقلاع اقتصادي قوي ظاهريا رغم غياب الديمقراطية، ما يجعله أقرب إلى النماذج الآسيوية الإقتصادية من حيث الأولويات، والنماذج السياسية السلطوية من حيث التحكم وفرض الأولويات والخيارات بشكل أحادي بعيدا عن المشاركة الشعبية.
8. نقاط التشابه والاختلاف بين النماذج (الأوروبي، الأسيوي، الإفريقي)
1.8 النموذج الأوروبي (الديمقراطية أولاً):
يقوم النموذج الأوروبي على قاعدة أن الديمقراطية شرط مسبق لأي تنمية مستدامة.
يعتمد على مؤسسات قوية، انتخابات نزيهة، وحقوق الإنسان.
نقطة ضعفه في السياق الإفريقي: استنساخه بشكل شكلي أدى إلى “ديمقراطيات ورقية” بلا تنمية حقيقية (أمثلة: مالي، النيجر، المغرب).
2.8 النموذج الآسيوي (التنمية أولاً):
يضع النموذج الأسيوي الأولوية للنمو الاقتصادي، حتى في ظل حكم سلطوي.
يرى أن الشرعية السياسية تُبنى على الإنجازات الاقتصادية لا على التعددية الانتخابية.
نقطة قوته: تجارب ملموسة ناجحة (سنغافورا، ماليزيا، كوريا الجنوبية، الصين).
نقطة ضعفه في إفريقيا: اختلاف السياق (تعدد إثني، فساد، لعنة الموارد) يجعل نقله صعبًا.
3.8 النماذج الإفريقية (الهجينة والمتنوعة):
• بوتسوانا: نموذج متوازن (ديمقراطية + تنمية) بفضل إدارة رشيدة للموارد.
• غانا: ديمقراطية توافقية مع نمو متوسط، رغم هشاشة الاقتصاد.
• المغرب: إقلاع اقتصادي نسبي مع ديمقراطية صورية، نظام هجين يجمع بين النموذج الديني التراثي والسلطوي التقليدي والنموذج الديموقراطي الشكلي، الأمر الذي يجسد مفهوم الرعية بدل مفهوم المواطنة.
4.8 العلاقة التكاملية لا التنافسية
- التجارب المقارنة تظهر أن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية ليست علاقة “إما/أو”، بل علاقة تكامل:
- التنمية تحتاج إلى مؤسسات قوية لضمان الاستدامة.
- الديمقراطية تحتاج إلى قاعدة اقتصادية لتترسخ وتبقى فعّالة.
- الاقتصادات الناجحة في آسيا وأوروبا لم تبنَ على عنصر واحد، بل على تفاعل تدريجي بين النمو الاقتصادي والإصلاح السياسي.
5.8 المخاطر في غياب التوازن
- تنمية بلا ديمقراطية: تؤدي إلى هشاشة سياسية قابلة للانفجار عند الأزمات الاقتصادية (مثال: الصين تواجه ضغوطًا داخلية رغم قوتها الاقتصادية).
- ديمقراطية بلا تنمية: تتحول إلى حالة من الإحباط الشعبي والفوضى السياسية (مثال: مالي، حيث الانتخابات لم تمنع الانهيار الاقتصادي والأمني).
- الهجينة غير المستقرة: دول تجمع بين بعض المظاهر الديمقراطية والتنمية المحدودة لكنها تبقى عُرضة للتعثر (المغرب نموذجا: إذا لم يرافق الإقلاع الاقتصادي إصلاح سياسي تدريجي فإن الوضع مرشح للإنفجار).
6.8 خلاصة جزئية
إن مقارنة النماذج تكشف أن إفريقيا لا يمكنها أن تستنسخ المسارات الأوروبية أو الآسيوية كما هي. فالتجربة الإفريقية تفرض طريقًا خاصًا يقوم على:
- قيادة رشيدة تضع التنمية كأولوية.
- بناء مؤسسات قوية تدريجيًا لضمان الشفافية والمساءلة.
- توظيف الموارد الطبيعية بحوكمة رشيدة بدل الوقوع في فخ الريع.
7.8 نقد التجربة المغربية
المغرب يقدم نموذجًا “هجينًا” لكنه محاط بالمفارقات:
• مفارقة التمثيلية:
- هناك حكومة منتخبة بسلطات محدودة، بينما القرارات الاستراتيجية تُتخذ من طرف المؤسسة الملكية عبر ما يسمى بــ ”حكومة الظل” (المستشارون، المؤسسات الموازية، المبادرات الملكية).
- هذا الوضع يُضعف الثقة الشعبية في العملية الانتخابية، ويجعلها في نظر كثيرين مجرد واجهة شكلية.
• كلفة الديمقراطية الصورية:
- تنظيم انتخابات دورية وتمويل أحزاب وبرلمان وحكومة بسلطات مقيدة يُشكّل عبئًا ماليًا على الدولة، دون أن يقابله تأثير فعلي في صناعة القرار.
- هذه “الازدواجية” تفتح المجال لمظاهر الفساد السياسي (شراء ولاءات، ريع حزبي، تضخم مؤسسات بلا فاعلية).
• إمكانية بديل تكنوقراطي:
يمكن نظريًا أن يُطرح خيار حكومة تكنوقراط، أي فريق وزاري مُعين على أساس الكفاءة لا الولاء الحزبي، بما يتماشى مع واقع الملكية التنفيذية تمهيدا لعملية إنتقال الديموقراطي حقيقي وعقلاني.
- هذا البديل قد يؤدي إلى:
- تقليص النفقات المرتبطة بالمشهد الحزبي والحكومي الشكلي بما في ذلك الإقتصاد في الأموال الهائلة التي تصرف على الأجور والتقاعد مدى الحياة لأشخاص لم يقدموا للوطن خدمة تستحق ذلك.
- تركيز السياسات على الكفاءة والنتائج بدل المحاصصة الحزبية.
- تعزيز الشفافية عبر ربط المسؤولية بالخبرة والكفاءة لا بالشرعية الانتخابية الشكلية القائمة على الولاء، الأمر الذي يؤدي إلى تزوير نتائج الإنتخابات.
• حدود هذا الاقتراح:
- حكومة التكنوقراط قد تزيد من القطيعة بين الدولة والمجتمع، إذ ستقضي على ما تبقى من تمثيلية سياسية شكلية.
- الديمقراطية الصورية، رغم محدوديتها، توفر متنفسًا سياسيًا وتؤطر المعارضة داخل قواعد اللعبة، بينما إلغاؤها قد يفتح الباب أمام احتجاجات منفلتة من عقال التأطير.
- التجربة الدولية تُظهر أن حكومات التكنوقراط تنجح عادة في أوضاع انتقالية أو أزمات مالية حادة، لكنها لا تصلح كنموذج دائم لأنها تفتقد إلى قاعدة شرعية شعبية.
• نقد ختامي للنموذج المغربي
يمكن القول إن المغرب يقف أمام خيار استراتيجي:
- إما تطوير ديمقراطي تدريجي يعطي معنى للمؤسسات المنتخبة في إطار تنزيل مشروع الجهوية المتقدمة التي تشمل كافة المناطق لتكون مدرسة لديموقراطية حقيقية، ويقلص من ازدواجية السلطة بين المركز والجهات.
- أو تقنين الوضع القائم عبر حكومة تكنوقراط صريحة بدل الشكلية، مع ما يحمله ذلك من مخاطر سياسية على المدى الطويل في حال لم يقم المغرب بتنزيل الجهوية المتقدة أو اكتفت الدولة بتنزيلها في الصحراء المغربية دون غيرها من المناطق.
9. الخاتمـــة
تكشف المقارنة بين النماذج الأوروبية والآسيوية والإفريقية أن العلاقة بين الديمقراطية والتنمية ليست علاقة خطية أو وصفة جاهزة. فالتجربة الأوروبية جعلت من الديمقراطية شرطًا مسبقًا للتنمية، بينما التجربة الآسيوية أثبتت أن التنمية يمكن أن تتحقق أولاً في ظل أنظمة سلطوية قوية. أما إفريقيا، فقد خاضت مسارات متعددة أفرزت بدورها نماذج هجينة، تتراوح بين نجاحات محدودة وإخفاقات كبيرة.
من خلال التجارب الإفريقية:
• بوتسوانا أظهرت أن الديمقراطية قد تتعايش مع تنمية قوية، شريطة وجود مؤسسات رشيدة وشفافية في إدارة الموارد.
• غانا برهنت أن التداول السلمي على السلطة يمكن أن يمنح الاستقرار الضروري لنمو اقتصادي تدريجي.
• المغرب جسّد مفارقة “الإقلاع الاقتصادي الصوري والديمقراطية الشكلية”، حيث البنية التحتية والتصنيع المتطور لا يخدم إلا الأغنياء، يقابله نظام سياسي يحد من الفعالية التمثيلية للمؤسسات المنتخبة شعبيا.
النموذج المغربي، رغم بعض نجاحاته الاقتصادية النسبية، يثير إشكالية جوهرية:
- هل تحتاج البلاد فعلًا إلى حكومة حزبية منتخبة بسلطات شكلية بينما القرار الاستراتيجي بيد الملكية التنفيذية؟
- أم أن البديل الأكثر انسجامًا مع الواقع هو حكومة تكنوقراط، تُعيّن على أساس الكفاءة وتوفر النفقات وتحد من الفساد الناتج عن المحاصصة الحزبية؟
هذا السؤال النقدي يبرز حدود النموذج المغربي، إذ يكشف أن الاستثمار في الاستقرار الاقتصادي وحده لا يكفي، وأن التنمية المستدامة تحتاج إلى مؤسسات سياسية قوية ذات شرعية حقيقية، سواء عبر إصلاح تدريجي للديمقراطية أو عبر صياغة نموذج مؤسساتي أكثر وضوحًا وشفافية.
الاستنتاج الأوسع هو أن إفريقيا لا يمكنها استنساخ التجربة الأوروبية أو الآسيوية كما هي، بل تحتاج إلى طريق إفريقي خاص، يقوم على:
- أولوية التنمية لمواجهة الفقر والتخلف.
- بناء مؤسسات ديموقراطية بشكل تدريجي، مع تعزيز مبدأ المساءلة والشفافية.
- حكامة رشيدة للموارد الطبيعية كشرط لقطع الطريق على الفساد والريع.
- توازن بين القيادة القوية والمشاركة السياسية، بحيث لا تتحول الأولى إلى استبداد ولا الثانية إلى فوضى.
وهكذا يتضح أن السؤال:
«أيهما أولاً – الديمقراطية أم التنمية؟»
لا يجد جوابًا قطعيًا. بل إن المسار الناجح هو الذي يدمج بينهما في علاقة تكاملية، وفق خصوصيات كل بلد وسياقه التاريخي والاجتماعي، مع مراعاة أن التنمية بلا مؤسسات ديمقراطية قد تنهار، وأن الديمقراطية بلا قاعدة تنموية قد تتحول إلى عبء سياسي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق