(التحوّل القانوني والسياسي في نزاع الصحراء المغربية)
من نزاع الأرض إلى اختبار السيادة الذكية
بعد نصف قرنٍ من المواجهات والمناوشات والخطابات والاصطفافات، لم يعد الرهان في الصحراء على من يربح الأرض، بل على من يملك شجاعة بناء سيادةٍ ذكية توازن بين الشرعية الدولية وكرامة الإنسان.
قرار مجلس الأمن الأخير ليس نهاية النزاع، بل بداية اختبار جديد لذكاء السياسات في منطقة أصبحت مركز الجاذبية الجيواستراتيجية للعالم.
فالمغرب اليوم لم يعد مجرد قضية حدود، بل جسر عبور آمن بين الشمال والجنوب، بين أوروبا وإفريقيا، وبين الشرق والغرب.
وفي سياق سباق القوى العظمى نحو هذا "الدورادو الجديد" الذي تمثله القارة السمراء، لن يربح الرهان سوى من يجمع بين القانون والعمران، بين القوة والرحمة، بين الأرض وكرامة الإنسان.../...
تمهيد: حين تغيّر اللغةُ مسارَ التاريخ
منذ أن أدرجت الأمم المتحدة قضية الصحراء على جدول “تصفية الاستعمار” عام 1963، بدا الاستفتاء كأنه كلمة السرّ التي ستفتح كل الأبواب. نصف قرن مرّ، تغيّرت فيه خرائط النفوذ وتبدّل فيه مزاج العالم، وبقي الاستفتاء فكرة طوباوية تصطدم بالواقع: لوائح متنازَع عليها، مقاطعات متبادلة، وقطار لا يصل إلى محطة التصويت.
في التسعينيات، نشأت بعثة "المينورسو" لتُنظّم الاستفتاء، فوجدت نفسها مع الزمن، بعثة تهدئة ومراقبة أكثر منها “آلة اقتراع”. ثم جاء عام 2007 بمبادرة مغربية قلبت زاوية النظر: حكمٌ ذاتي موسّع تحت السيادة المغربية، تُدير فيه الساكنة الصحراوية شؤونها المحلية، فيما تبقى السيادة والدفاع والدين والعلاقات الخارجية بيد الدولة المركزية. وصفته عواصم مؤثرة بأنه “واقعي ذو مصداقية”، ومن يومها أخذت لغة القرارات تميل تدريجيًا من “استفتاء تقرير المصير” إلى “حلّ سياسي متفاوض عليه يضمن تقرير المصير”، ثم إلى تأكيد الحكم الذاتي كخيار قابل للتنفيذ باعتباره هو أيضا أحد أوجه تقرير المصير.
هذا التحوّل ليس مجرد “تلاعب بالألفاظ”، بل إعلان نضج: تقرير المصير ليس مرادفًا آليًا للانفصال، ويمكن أن يتحقق داخل السيادة عبر مؤسسات حقيقية وتمثيل محلي وحقوق ملموسة يتمتع بها سكان الصحراء.
مقدّمة: قرارٌ لا يمرّ مرور الكرام
القرار الأممي الأخير بشأن الصحراء ليس فقرة عابرة في نشرة الأخبار؛ إنه منعطف في طريقة قراءة العالم للنزاع. فهو يضيف إلى المسار الأممي ثلاث رسائل متزامنة:
1. أن المقاربة الواقعية "الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية"صارت مركز الطاولة.
2. أن الاستفتاء بصيغته “الثنائية” لم يعد أداة ناجعة لحلّ الخلاف.
3. أن الكرة تعود إلى الملعب السياسي: تفاوض، ضمانات، مؤسسات، احترام كرامة المواطن وتنمية شاملة.
في في هذا التحليل السياسي سنمشي على خطّ واضح:
- (1) ماذا يقول القرار؟
- (2) من صوّت وكيف نقرأ الأرقام؟
- (3) ماذا لو رفضت الجزائر والبوليساريو الحوار؟
- (4) كيف نُحيّد العناصر غير المدنية في مخيمات تندوف؟
- (5) لماذا يحتاج المسار إلى جرعة مصداقية داخلية في المغرب؟
- ثم نختم برؤية تُلخّص معنى التحوّل الجديد.
أولاً: مضمون القرار… حين تتغيّر اللغة تتغيّر اللعبة
يدعو القرار الأطراف لاستئناف المفاوضات على أساس خطة الحكم الذاتي المغربية لعام 2007، ويجدد ولاية المينورسو عامًا إضافيًا، ويطلب مراجعةً استراتيجية خلال ستة أشهر تقيس تقدّم المسار. اللافت أن نصّ القرار لا يضع “استقلالًا عبر استفتاء” خيارًا مركزيًا، بل يصف الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية بأنه الأكثر قابلية للتنفيذ.
- سياسيًا، هذه صياغة تقارب الاعتراف الضمني بأن بوصلة المجتمع الدولي اتجهت للحلّ العملي: من سؤال “هل هناك حل؟” إلى سؤالَيْ “كيف؟ ومتى؟”. إنه انتقال من جدل الهوية إلى هندسة المؤسسات.
- قانونيًا، يُعاد تعريف “تقرير المصير” بوصفه ترتيباتٍ داخل السيادة: تمثيل محلي، اختصاصات واضحة، ضمانات حقوقية، وترتيبات انتقالية إذا لزم الأمر. بهذا المعنى، تُصبح مفاهيم السيادة والحكم الذاتي والحقوق المحلية هي مفردات المعادلة، بدل سيناريو “دويلة جديدة” غير قابلة للحياة تسعى الجزائر لإبتلاعها.
ثانيًا: نتائج التصويت… ماذا تقول الأرقام عن مزاج العالم؟
جاءت النتيجة بكتلة دعم معتبرة للقرار، مع امتناع بعض الأعضاء وعدم مشاركة طرف معني. القراءة السياسية البسيطة: ثمة انتقال من “خريطة احتمالات مفتوحة” إلى “مسار مفضّل” يلقى سندًا دوليًا متزايدًا. لم يُلوَّح بحق النقض، ولم يُجهض المسار داخل المجلس؛ وهذا وحده دلالة على أن المجتمع الدولي يرغب في دفع العربة إلى الأمام بدل الدوران في المكان.
الأمر لا يعني أن كل التحفظات قد ذابت؛ الامتناعات تقول إن هناك من يُبقي لنفسه هامش المناورة. لكنه هامش داخل مسار يتقدّم، لا خارجه. والقاعدة الذهبية في مجلس الأمن: حين تمضي العربة دون “لا” قاطعة، يبدأ الحساب من واقع جديد، لا من صفحة بيضاء.
ثالثًا: إذا رفضت الجزائر والبوليساريو الحوار… نهاية طريق أم بداية مسار آخر؟
الرفض وارد. لكن ماذا بعد الرفض؟ هنا تتضح ميزة القرار: أنه يخلق مسارًا لا يتوقف على مزاج طرف واحد.
1) تجميد مع ضغوط ناعمة: قد يتباطأ المسار، وتُستعاد جولات تفاوض على وقع بيانات متبادلة. لكن “التتبّع الأممي” سيواصل رصد الخطوات، وقد تُرفع كلفة الرفض دبلوماسيًا وإعلاميًا وحقوقيًا.
2) دبلوماسية متعددة المسارات: يمكن للمغرب أن يدفع بخيارات مكمّلة: تنميةٌ ملموسة في الأقاليم الجنوبية، تعزيز حقوق الإنسان، تسهيل العودة الطوعية للاجئين، وقبل ذلك انفراجة سياسية وحقوقية في الداخل، ثم بعد ذلك شراكات اقتصادية عابرة للحدود، واستثمار الغطاء الدولي لتحويل “الأفكار” إلى وقائع صغيرة تراكم الثقة وتغير صورة المغرب الذي يتساهل مع الفساد، ويهمل القطاعات الإجتماعية، و يضيق الخناق على الحريات بسيف القانون الجنائي.
3) لماذا ليس الرفض نهاية؟ لأن قرارًا له ظهرٌ دولي لا يتعطل إذا قرر طرف ما أن يترك الكرسي فارغًا. السياسة لا تحب الفراغ؛ وإذا لم يملأه المعارضون يملؤه الواقع: مشاريع ناجحة على الأرض، قصص اندماج بين القاطنين والعائدين من غربة المخيمات، وحوكمة محلية تتقدم، هكذا تنتعش الآمال وتكتمل الأفراح.
- المخاطر؟ توتر منخفض الوتيرة شرق الجدار، قضايا حقوقية تُستثمر إعلاميًا، وإرهاق إنساني في المخيمات إن طال الانتظار.
- الفرص؟ تحسين الصورة الحقوقية، تعريف النزاع عالميًا كقصة “تنمية واندماج بفرح” بدل “استقطاب وجودي بالإكراه”، واستمالة الرأي الدولي عبر الإنجاز لا الخطابة.
رابعًا: عزل غير المدنيين في مخيمات تندوف… من الشعارات إلى الإجرائيات
يبقى ملف المخيمات أحد أعقد أبعاد النزاع:
- مَن هو اللاجئ الحقيقي؟
- وما حجم العسكرة داخل الفضاء المدني؟
وكيف نعيد الاعتبار للإنساني في قلب السياسي؟
القاعدة القانونية: المخيمات فضاء مدني، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين معنية بمنع عسكرة اللجوء. وتسجيلٌ شفافٌ للسكان مطلبٌ تكرر دوليًا، ليس لتصفية حسابات، بل لتكريس الحقوق لمن لهم الحق بالفعل.
الخطة العملية المقترحة:
- اتفاق ثلاثي بين الجزائر وUNHCR والأمم المتحدة ينشئ لجنة تسجيل مستقلة بولاية واضحة وشفافة.
- تسجيل بيومتري يمنح كل شخص بطاقة لاجئ معتمدة؛ خطوة تُنهي جدل “الأرقام المتضاربة” وتقطع الطريق على أي توظيف سياسي للهشاشة.
- نقاط غربلة على مداخل المخيمات لعزل العناصر المسلحة أو الأجانب غير المستوفين لشروط اللجوء، مع إحالة قانونية شفافة.
- مراقبة مدنية داخل المخيم بإشراف أممي وحقوقي يضمن منع حضور السلاح والتجنيد.
- ممرات إنسانية للمساعدات والعودة الطوعية، وربط المساعدات بشرط التسجيل لوقف أي متاجرة بمصائر الناس.
- النتيجة المتوخّاة: تعريفٌ دقيق بمن هو اللاجئ الصحراوي، تحييد العسكرة، تمهيدٌ لأي حلّ إنساني/سياسي مقبل، وإعادة الملف إلى مركزه: كرامة البشر قبل ضجيج الشعارات وقرقعة السلاح.
خامسًا: الانفراج السياسي داخل المغرب… المصداقية تبدأ من الداخل
حتى أفضل القرارات الدولية تحتاج “وجهًا إنسانيًا” على الأرض. الحكم الذاتي لا ينبغي أن يبقى فكرة جميلة في ورقة أممية؛ يجب أن يُترجم إلى شعورٍ وطني أولا، ومحلي ثانيا، بالمشاركة الفعلية، والتمثيل الحقيقي، واحترام كرامة المواطن.
ما المطلوب عمليًا؟
- مبادرة “المواطنون أولاً”: معالجة الملفات المرتبطة بالتعبير السلمي، توسيع فضاء المجتمع المدني، فتح نوافذ للإعلام الوطني والمحلي. ليس تنازلاً، بل انفتاحا على عهد جديد واستثمارًا في الثقة.
- شفافية الاستثمار: بوابة بيانات مفتوحة تُظهر المشاريع في أقاليم المملكة عموما والأقاليم الجنوبية على وجه الخصوص: أين تُصرف الأموال؟ من المستفيد؟ ما أثرها على الشغل والخدمات؟ .. الشفافية لغة عالمية تقنع الداخل والخارج.
- انتخابات جهوية مُراقَبة: حتى كتجربة أولى، بإشراك واسع ومرافقة دولية إن لزم الأمر؛ فصناديق الاقتراع هي من تُحوّل الحكم الذاتي من فكرة إلى مؤسسة.
- حوار جهوي موسَّع: بإشراف هيئة مستقلة أو مجلس حقوقي وطني، بمخرجات محددة زمنياً وقابلة للقياس والمتابعة.
- بعبارة مباشرة: القرار الدولي يفتح الباب، لكن الذي يمرّ منه، ويُحسّن صورة بلده، هو الأداء الداخلي الذي يصنع الثقة.
سادسًا: ماذا لو…؟ أسئلة الحذر وآفاق الأمل
- هل أغلق القرار باب “الدولة المستقلة” نهائيًا؟
ليس من الحكمة إعلان “النهايات” في السياسة، لكن المسار الدولي يميل الآن إلى حلّ داخل السيادة. أي خيارات أخرى تحتاج معادلاتٍ دوليةٍ مختلفة غير متاحة اليوم.
- هل الحكم الذاتي مجرد تغطية سياسية؟
سيبقى كذلك ما لم تُدعمه خطوات ملموسة: تمثيلٌ حقيقي، صلاحياتٌ واضحة، رقابةٌ محلية، تنميةٌ تقودها كفاءات صحراوية، واحترامٌ للحقوق. عندها فقط يتحوّل الشعار إلى عقد اجتماعي.
- هل يمكن للرفض أن يربح الوقت؟
ربما. لكنه غالبًا يخسر الفرص. الزمن يعمل لصالح من يصنع النتائج على الأرض، لا لصالح من يكتفي ببيانات حادة.
خاتمة: السيادة الذكية ومعنى التحوّل
قرار مجلس الأمن الأخير لا يُبدّل فقط ترتيب أدوات الحلّ؛ إنه يُعيد تعريف فكرة السيادة نفسها في زمن التحوّلات. السيادة اليوم ليست صخب الشعارات ولا صلابة الخطاب؛ إنها قدرة على بناء الثقة: ثقة الداخل أولًا، ثم ثقة العالم.
المغرب، وقد ربح جولة القرار، أمامه جولة أهم: جولة القلوب. أن يُقنع الصحراويين بأن الحكم الذاتي شراكةٌ لا وصاية، وأن يُرِيَ العالم نموذجًا يُحوّل الشرعية القانونية إلى شرعية إنسانية وتنموية.
الجزائر والبوليساريو، بدورهما، أمام مفترق: البقاء في خطاب الأمس، أو الدخول في منطق اليوم حيث يُقاس النفوذ بقدرة السياسات على تحويل القانون إلى كرامة، والخرائط إلى حياة.
هكذا تتجاوز الصحراء كونها نزاعًا جغرافيًا لتغدو امتحانًا لعقلانية المنطقة بأسرها:
- من يملك شجاعة الحلّ؟
- من يحوّل السلام من شعار مؤجّل إلى مشروع واقعي؟
إن الطريق طويل، ولكن ملامحه باتت أوضح: حكمٌ ذاتيٌّ ذكيّ تحت السيادة، تنميةٌ شفافة، حقوقٌ مصونة، ومخيماتٌ تُستعاد مدنيتها. وحين تتقدّم الخطوات الصغيرة بثبات، تُصبح العناوين الكبيرة أقلّ رهبة… وأكثر صدقية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق