(تقرير شامل)
(المفهوم والإطار، الأبعاد السياسية والقانونية، تحديات التنفيذ، والآفاق الاستراتيجية للتنمية)
التمهيــد
يمثل ورش الجهوية المتقدمة في المغرب تحولًا جوهريًا في مسار الحكامة الترابية، وخطوة استراتيجية نحو تعزيز اللامركزية والديمقراطية المحلية. إن هذا الإصلاح العميق لا يقتصر على إعادة هيكلة إدارية للبلاد، بل هو رؤية شاملة تهدف إلى تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتوازنة، وتقليص الفوارق المجالية بين الجهات، وتمكين الفاعلين المحليين من تسيير شؤونهم بأنفسهم. هذا المسار الإصلاحي، الذي يمتد لعقود، يجد تجسيده الأبرز في الترسانة القانونية والمؤسساتية التي وُضعت في دستور 2011، مما يجعله ركيزة أساسية لنموذج تنموي جديد آن الأوان للاشتغال على تفاصيله بهدف تنزيله واقعا عمليا على الأرض ليشمل كافة جهات المغرب بدل الصحراء فحسب، وفق ما تقتضيه مبادىء العدالة المجالية .../...
1. لكن سؤال اليوم هو: عن أي جهوية يتحدثون؟
هناك نوعان من الجهوية: جهوية موسعة وجهوية متقدمة، النظام وإلى وقت قريب كان يتحدث عن جهوية موسعة، لكن دستور 2011 تحدث عن جهوية متقدمة. ولأن الفرق بين الجهوية المتقدمة والجهوية الموسّعة في المغرب ليس مجرد اختلاف لغوي، بل يحمل خلفه تحوّلًا سياسيًا ودستوريًا في طريقة تصور الدولة لتوزيع السلطة. فسيكون من المفيد إلقاء الضوء بعجالة على كلا المفهومية من الناحية السياسية والقانونية:
1.1. الجهوية الموسّعة (Régionalisation élargie)
أ. المفهوم والسياق:
ظهر هذا المفهوم في خطابات الملك الحسن الثاني في تسعينيات القرن الماضي، ثم أعاد الملك محمد السادس طرحه في خطاب 6 نوفمبر 2008، قبل إعداد مشروع الحكم الذاتي في الصحراء.
كانت “الجهوية الموسّعة” تُطرح كآلية سياسية لتسوية ملف الصحراء بالأساس، أي كمنح سلطات أكبر لجهة معينة (الجنوب) دون المساس بوحدة الدولة أو بسيادة الملك.
ب. الطابع القانوني والسياسي للجهوية الموسعة:
• ذات بعد سياسي انتقائي، موجه لجهة محددة (الأقاليم الجنوبية).
• لم تكن مُؤطّرة بعد بدستور، بل كانت مقاربة إدارية مرنة قابلة للتفاوض.
• تقوم على توسيع صلاحيات محددة في مجالات التدبير المحلي، مع بقاء القرار المركزي في الرباط.
• لم تكن تفترض فصلًا حقيقيًا للسلطات، بل تفويضًا مراقبًا من السلطة المركزية.
بكلمة مختصرة، الجهوية الموسعة كانت مشروعًا فوقيًا ذا وظيفة دبلوماسية أكثر منه إصلاحًا داخليًا شاملاً.
1.2. الجهوية المتقدّمة (Régionalisation Avancée)
أ. المفهوم والسياق:
جاء هذا المفهوم مع دستور 2011، بعد “الربيع المغربي” وما رافقه من مطالب ديموقراطية.
الجهوية المتقدمة تحوّلت من أداة سياسية ظرفية إلى خيار دستوري مؤسس، نصّ عليه الباب التاسع من الدستور (الفصول 135–146).
ب. الطابع القانوني والسياسي:
• تهدف إلى نقل تدريجي للسلطة والموارد من المركز إلى الجهات المنتخبة.
ذات بعد دستوري دائم يهمّ جميع جهات المملكة دون استثناء.
• تؤسس لمجالس جهوية منتخبة لها صلاحيات في إعداد البرامج التنموية، الميزانية، والتخطيط المجالي.
• يفترض أن تضمن مبدأ التفريع (subsidiarité) أي أن القرار يُتخذ في أقرب مستوى ممكن من المواطن.
• تُعتبر خطوة نحو لامركزية مؤسساتية قد تمهد مستقبلًا لنظام شبه فدرالي، إن فُعِّلت بشفافية واستقلال مالي.
لكن في الواقع العملي، الجهوية المتقدمة ما زالت محدودة التنفيذ لأن المركز لم يتخلَّ عن أدوات السيطرة المالية والإدارية.
خلاصة الفروق الجوهرية
الجهوية الموسّعة ظهرت كتصوّر سياسي ظرفي مرتبط أساسًا بملف الصحراء؛ كانت آلية انتقائية تمنح جهة بعينها بعض صلاحيات التدبير المحلي تحت رقابة المركز، من دون سند دستوري شامل ولا فصل فعلي للسلطات، وبهدف دبلوماسي أكثر منه إصلاحي. أمّا الجهوية المتقدّمة فجاءت بخيار دستوري مع دستور 2011 يشمل جميع جهات المملكة، ويقوم على نقلٍ مؤسّسي وتدريجي للصلاحيات والموارد، وترسيخ مبدأ التفريع بحيث يُتخذ القرار في أقرب مستوى للمواطن، مع مجال أوسع للتخطيط والميزانية الجهوية.
بعبارة موجزة: الجهوية الموسّعة تكتيك سياسي موجّه لجهة محدّدة وتفويض محدود تحت هيمنة المركز، بينما الجهوية المتقدّمة مبدأ دستوري عام يهدف إلى لا مركزية مؤسّسة تشمل البلاد كلها، لكن تفعيلها الواقعي ما يزال رهينًا بإرادة سياسية تفصل السلطة عن السيادة وتمنح الجهات استقلالًا ماليًا وإداريًا فعليًا.
2. الجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي للمستقبل
على الرغم من الطموح الكبير الذي يكتنف ورش الجهوية المتقدمة باعتبارها خيار استراتيجي للدولة المغربية من الناحية النظرية، إلاّ أنه يواجه تحديات معقدة على مستوى التنفيذ. فالانتقال من الإطار النظري إلى الواقع الميداني يكشف عن مجموعة من العقبات التي تؤثر في فعاليته وقدرته على تحقيق الأهداف المنشودة. وتتطلب هذه التحديات تحليلًا معمقًا لفهم أبعادها المتشابكة، سواء كانت سياسية أو مالية أو إدارية أو حتى ثقافية.
في هذا السياق، من المهم التأكيد على أن مشروع الجهوية المتقدمة يمثل رؤية شاملة لجميع جهات المملكة، بما في ذلك الأقاليم الجنوبية، وليس مجرد حل لقضية واحدة تتعلق بالصحراء الغربية دون غيرها من مناطق المملكة. فالدستور المغربي لعام 2011 كرس الجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي للدولة يرتكز على مبدأ اللاتمركز الواسع في نطاق وحدة الأمة والدولة والوطن والتراب، ويهدف إلى تحقيق التوازن والتضامن الوطني بين جميع الجهات. هذا النهج يضمن أن كل جهة، في إطار وحدة المملكة، تتمتع بالصلاحيات اللازمة لإدارة شؤونها التنموية، مما يعكس إرادة حقيقية لتنزيل نموذج مغربي أصيل يخدم التنمية الشاملة والمتوازنة في كل شبر من التراب الوطني.
غير أن الأسئلة التي يحاول الإجابة عنها هذا التقرير تتمثل في التالي:
- ما نوع الجهوية التي يعتزم المغرب تنزيلها: الموسعة أم المتقدمة؟
- ثم إلى أي مدى يمكن أن ينجح ورش الجهوية في تحقيق أهدافه التنموية المتمثلة في الحد من الفوارق المجالية وتعزيز الحكامة الترابية؟
- وما هي أبرز التحديات التي تعيق مساره؟
3. المنهجيـــة
للإجابة على هذا التساؤل، يعتمد التقرير منهجية تحليلية شاملة. في البداية، سيتم تحليل الإطار القانوني والتاريخي للجهوية، مع استقراء التحديات التي تعترض تطبيقها على أرض الواقع. بعد ذلك، سيتم توظيف البيانات المتاحة لتقييم أثر الجهوية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتقديم دراسة مقارنة للتجارب الدولية الرائدة لاستخلاص الدروس والعبر. وسيُختتم التقرير بتقديم توصيات استراتيجية لتعزيز هذا المسار الإصلاحي الذي أصبح يتوقف عليه مصير المغرب ومستقبل شعبه، خصوصا بعد قرار مجلس الأمن الأخير بشأن الحكم الذاتي في الصحراء المغربية.
4. الإطار التاريخي والأسس القانونية: من اللامركزية التقليدية إلى الجهوية المتقدمة
1.4. المسار التاريخي وتطور المفهوم
لم يكن مسار الجهوية في المغرب مسارًا خطيًا، بل كان عملية تطورية تدريجية بدأت منذ عقود وشهدت مراحل متعددة من الإصلاحات الهادفة إلى تجاوز عيوب المركزية المفرطة. إن المفهوم الحديث للجهوية المتقدمة لم يظهر فجأة، بل هو نتاج تراكم تاريخي طويل.
شهدت السبعينيات أولى المحاولات الرسمية مع نظام الجهات الاقتصادية الذي أُحدث بمقتضى ظهير 16 يونيو 1971. كان الهدف من هذا التقسيم هو جعل الجهات أداة للتنمية، ولكن هذه التجربة ظلت محدودة الفعالية، حيث أدت هيمنة جهتين فقط، الوسطى والشمالية الغربية، إلى تباينات كبيرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. وقد أثر هذا التمركز المكثف على موجات الهجرة ومستوى عيش السكان، مما كشف عن قصور النموذج الأولي. في استجابة لهذا الوضع، جاء خطاب الملك الحسن الثاني في 10 أكتوبر 1984 ليؤكد على الرغبة في إحداث جهوية ذات هياكل تشريعية وتنفيذية.
هذا الاهتمام بالمد الجهوي تواصل عبر التعديلات الدستورية. ففي دستور 1992، تم الارتقاء بالجهة إلى مصاف الجماعات المحلية، وتم تدعيم هذا المقتضى في دستور 1996. وفي عام 1997، أُصدر قانون منح الجهة كيانًا مستقلًا يتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي، ورغم ذلك، ظلت الجماعات المحلية عاجزة عن تحقيق لا مركزية حقيقية بسبب الخصاص المالي من جهة، ونقص الكفاءات المؤهلة في مجال الإدارة (التخطيط، البرمجة، الميزانية، التقارير، الافتحاص، التقييم والتقويم)، لتولي التسيير الجهوي بشفافية وفعالية وفق أرقى نماذج الإدارة الحديثة (النظام الأنجلوساكسوني المرن بدل النظام الفرنكفوني البيروقراطي).
إن نقطة التحول الجوهرية جاءت مع خطاب الملك محمد السادس في 3 يناير 2010، الذي أطلق ورشًا هيكليًا كبيرًا يهدف إلى إيجاد النموذج المغربي المناسب للجهوية المتقدمة. وقد تُوِّج هذا المسار بالإصلاح الدستوري لعام 2011، الذي كرس الجهوية المتقدمة كخيار استراتيجي للدولة.
2.4. المرجعية الدستورية والقانونية لورش الجهوية المتقدمة
يستمد ورش الجهوية المتقدمة قوته من مرجعية دستورية وقانونية متينة. ينص دستور 2011 على مبادئ أساسية لتعزيز الحكامة الترابية، مثل مبدأ التدبير الحر الذي يخول للجهة سلطة التداول بصفة ديمقراطية وتنفيذ قراراتها، مع احترام مبادئ وحدة الدولة والتراب الوطني. كما يتم انتخاب أعضاء مجالس الجهات بشكل مباشر لضمان تمثيلية ديمقراطية، وتحدد اختصاصات الجهات بناءً على مبدأ التفريع، الذي يمنحها صلاحيات ذاتية، وصلاحيات مشتركة مع الدولة، بالإضافة إلى اختصاصات يمكن أن تنقلها إليها الدولة.
لتنزيل هذه المبادئ، صدر القانون التنظيمي رقم 111.14، الذي يستمد مرجعيته من التوجيهات الملكية. وقد أقر هذا القانون آليات مؤسساتية جديدة، مثل إحداث الوكالة الجهوية لتنفيذ المشاريع، وإدارة عامة للمصالح، وفتح المجال أمام الجهات لإحداث مجموعات ترابية لإنجاز مشاريع مشتركة. كما يعزز القانون مقاربة النوع، حيث ينص على إدماجها في برامج التنمية الجهوية وميزانياتها، ويقضي بإحداث "هيئة المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع".
إن المسار التاريخي للجهوية في المغرب لم يكن خطيًا، بل كان استجابة تدريجية لتحديات التمركز الإداري والاقتصادي، كما يتضح من هيمنة جهتين فقط في تقسيم 1971. الأمر الذي يكشف أن الإصلاحات القانونية كانت في كثير من الأحيان مجرد ردة فعل على فشل النماذج السابقة، وليس تطبيقا لرؤية نظرية استراتيجية. وهذا يطرح سؤالًا حول قدرة الإصلاحات الحالية على مواجهة التحديات المتجذرة. فعلى الرغم من إقرار الدستور والقانون التنظيمي لمبادئ متقدمة مثل "التدبير الحر" و" التفريع"، إلا أن النصوص القانونية وحدها غير كافية للتغلب على القضايا التاريخية والاجتماعية والثقافية. وهو ما يفسر جزئيًا التحديات الميدانية التي سيتم تناولها لاحقًا، ويشير إلى أن التغيير يتطلب ليس فقط إصلاحًا قانونيًا، بل تحولًا عميقًا في الإرادة السياسية/ وفي العقليات، والمقاربات الاستراتيجية، والممارسات الإدارية.
5. تحديات التنفيذ والممارسة الميدانية: بين الطموح والواقع
1.5. المعيقات المالية والإدارية
تواجه الجهوية المتقدمة في المغرب مجموعة من المعيقات التي تحول دون تنزيلها الكامل، لا سيما في الأبعاد المالية والإدارية بالإضافة إلى بعض الهواجس السياسية المشروعة. غير أن التحدي الأكبر يكمن في الفجوة بين الأهداف الطموحة والواقع الميداني الذي لم يتمكن بعد من التغلب على بعض الإشكاليات الهيكلية.
على الصعيد السياسي، تحرض الدولة على ألاّ تنزلق الجهوية المتقدمة نحو المطالبة باستفتاء تقرير المصير للانفصال عن الوطن الأم في مرحلة من المراحل، الأمر الذي يتطلب معالجة قانونية دقيقة ومُحكمة.
على الصعيد المالي، تُظهر الدراسات أن الجهات تفتقر إلى الموارد المالية والتقنية الكافية لتنفيذ مهامها، مما يحد من حريتها في اتخاذ القرارات الإدارية. فعلى الرغم من أن الدستور والقوانين التنظيمية جاءت بمبتكرات لضمان المزيد من الحكم الذاتي للجماعات الترابية، إلا أن هذه التغييرات القانونية الموسعة تظل نظرية إلى حد كبير على أرض الواقع لأنها لا تستجيب لمتطلبات الجهوية المتقدمة. إن نظم وآليات مشاركة ميزانية الدولة مع الجهات لا تزال غير مكتملة، مما يحد من فعالية الإصلاحات المالية. يضاف إلى ذلك التفاوت الكبير بين الجهات في القدرة على جمع وتوزيع الموارد المالية، وهو ما يؤدي إلى ضعف في توفير الخدمات الأساسية في بعض المناطق، كالصحة والتعليم والبنية التحتية. وفي هذا السياق، حرصت الحكومة على تفعيل كل من صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات، لسد العجز في التنمية البشرية والبنيات التحتية، والتقليل من التفاوتات عبر اعتماد مراسيم خاصة، لكن ذلك لم يكن كافيا لمعالجة الإشكالات المطروحة.
أما على الصعيد الإداري، فيتمثل التحدي في ضعف التنسيق بين الجهات والحكومة المركزية، مما يؤدي إلى تأخير في تنفيذ المشاريع. كما أن هناك صعوبة في تعزيز الكفاءات المحلية القادرة على إدارة الموارد البشرية والمشاريع بكفاءة. وتشير بعض التحليلات إلى أن ممثلي السلطة المركزية قد يجهلون المشاكل المحلية بسبب طبيعة تعيينهم غير الديمقراطي في كثير من الحالات حيث ترجح الدولة المركزية عامل الولاء على الكفاءة، مما يسبب صعوبة في تسيير الإدارة المحلية. وفي هذا السياق، يُفسر التأخير في تنفيذ الإصلاحات المتعلقة بالسياسات الحزبية، حيث أن أغلب الجهات (7 من أصل 12 جهة) كانت تحت سيطرة المعارضة، وهو ما يؤثر على العلاقة بين المركز والجهة.
2.5. تحديات الحكامة وتنمية القدرات المحلية
إن هناك تناقضًا واضحًا بين مبدأ "التدبير الحر" الممنوح للجهات والواقع الذي تظل فيه البلديات خاضعة لسيطرة السلطات المركزية عن طريق العمال والولاة. هذا الأمر يشير إلى أن الجهوية المتقدمة في المغرب لا تزال في مرحلة "اللامركزية المراقبة" وليس "اللامركزية المستقلة" ، حيث تظل السلطات المركزية، تحتفظ بسلطات رقابية واسعة، مما يحد من فعالية الاستقلالية الممنوحة للجهات. وهذا يمثل عائقًا جوهريًا أمام تحقيق اللامركزية المالية والإدارية بشكل كامل، حيث تتداخل الاختصاصات ويختل التوازن بين الجهات والسلطة المركزية ممثلة في العمال والولاة.
كما أن ضعف الموارد المالية والكفاءات المحلية في الجهات الأقل حظًا يؤدي إلى عدم قدرتها على تحقيق التنمية الاقتصادية المرجوة، مما يعزز الفوارق الجهوية القائمة. وهو ما يخلق دائرة مفرغة حيث تظل الجهات الغنية أكثر جاذبية للاستثمار، بينما تكافح الجهات الفقيرة لكسر هذه الحلقة. فغياب الكفاءات يؤدي إلى ضعف في إدارة المشاريع، مما يقلل من جاذبية الاستثمارات، وبالتالي يحد من الموارد المالية الذاتية للجهة، ما يعيق بشكل مباشر جهود التنمية.
إن ضعف الموارد المالية وندرة الكفاءات المحلية في الجهات الأقل حظًا يجعلها عاجزة عن تحقيق التنمية الاقتصادية المرجوّة، مما يرسّخ الفوارق الجهوية بدل تقليصها. وهكذا تنشأ دائرة مفرغة: الجهات الغنية تستقطب الاستثمارات والمهارات فتصبح أكثر ازدهارًا، بينما تظل الجهات الفقيرة تكافح من أجل كسر حلقة العجز البنيوي. وتُشبه هذه الإشكالية، في جوهرها، منطق التقطيع الانتخابي الذي يُستعمل أساسا للتحكم في الخريطة الحزبية؛ إذ يُستثمر التقطيع الجهوي بدوره لضبط التوازنات السياسية والإدارية أكثر من تحقيق العدالة المجالية.
لكسر هذه الحلقة، يبدو أن الحل الواقعي يكمن في إعادة النظر في عدد الجهات وتقليصها بما يضمن نوعًا من التوازن بين الموارد والاختصاصات، ويُتيح لكل جهة حدًّا أدنى من الإمكانات المالية والبشرية الكافية لتدبير شؤونها بكفاءة واستقلالية حقيقية.
6. الأثر على التنمية الاقتصادية والاجتماعية: تحليل البيانات والمؤشرات
1.6. دينامية الناتج الداخلي الإجمالي الجهوي
يُعد تحليل مؤشرات الناتج الداخلي الإجمالي الجهوي (PIB) أداة حاسمة لتقييم أثر الجهوية المتقدمة على دينامية الاقتصاد الوطني. فوفقًا لبيانات المندوبية السامية للتخطيط لعام 2023، حقق الاقتصاد المغربي نموًا بنسبة 3.7%، ولكن هذا النمو يخفي تباينات كبيرة بين الجهات.
تُظهر البيانات تمركزًا كبيرًا للثروة في عدد محدود من الجهات. على سبيل المثال، ساهمت أربع جهات، وهي فاس – مكناس، والرباط-سلا-القنيطرة، والدار البيضاء-سطات، وسوس-ماسة، بنسبة 59.6% من القيمة المضافة الوطنية للقطاع الأولي في عام 2023. أما في القطاع الثانوي، فتتركز الأنشطة بشكل قوي في جهتي الدار البيضاء-سطات، وطنجة-تطوان-الحسيمة، حيث بلغت مساهمتهما معًا 61.4% من القيمة المضافة الوطنية. وفي القطاع الثالثي، تعود نسبة 66.1% من الثروة المنتجة إلى أربع جهات رئيسية هي: الدار البيضاء-سطات، والرباط-سلا-القنيطرة، ومراكش-آسفي، وطنجة-تطوان-الحسيمة.
إن هذا التمركز الاقتصادي ينعكس بشكل مباشر على نصيب الفرد من الناتج الداخلي الإجمالي، حيث يبلغ المتوسط الوطني 40,508 درهم في عام 2023، لكن هذا المتوسط يخفي تفاوتات كبيرة. وتكشف البيانات أن نصيب الفرد من الثروة في بعض الجهات يفوق المتوسط الوطني، مما يعزز الفجوة الاقتصادية بين الأقاليم.
2.6. أثر الجهوية على التنمية البشرية
ترتبط الجهوية المتقدمة ارتباطًا وثيقًا بمفهوم التنمية البشرية، الذي يُعرَّف بأنه عملية توسيع خيارات الأفراد وتحسين مستوى رفاهيتهم. ووفق الخطاب الرسمي، فقد جعل المغرب التنمية البشرية خيارًا لا رجعة فيه، حيث أطلق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في عام 2005، وواصل جهوده في مجالات الصحة والتعليم والحكامة، غير أن النتائج نعرفها جميعا اليوم، خصوصا مع ظهور حركة ديل زد التي كسرت الصمت وحركت مياة الدولة الراكدة منذ 2011.
إن الجهوية المتقدمة ليست شعارا للترويج الإعلامي بقدر ما هي خيار حقيقي يهدف إلى تعزيز التنمية البشرية من خلال منح الجهات المزيد من الصلاحيات لإدارة شؤونها بما يتناسب مع احتياجات سكانها.
على الرغم من التحسينات الملحوظة في بعض الجهات، لا يزال هناك تفاوت كبير في مؤشرات التنمية البشرية بين مختلف المناطق. فالمناطق الحضرية تتمتع بمستويات ملحوظة في عديد المجالات، بينما تعاني المناطق القروية والنائية من نقص في الخدمات الأساسية، مما يعيق تعزيز رأس المال البشري.
إن التفاوت في التنمية البشرية ليس مجرد نتيجة للفوارق الاقتصادية، بل هو سبب رئيسي لتفاقمها. فالمناطق التي تفتقر إلى خدمات التعليم والصحة تعاني من نقص في رأس المال البشري الكفء، مما يجعلها أقل قدرة على جذب الاستثمارات وتوليد الثروة، وهو ما يعيق جهود التنمية الجهوية بشكل مباشر. فمن دون تعليم جيد، ورعاية صحية كافية، وعدالة مجالية فعالة، وقطاع شغل مهيكل، لا يمكن للسكان المساهمة بفاعلية في الاقتصاد المحلي، مما يؤدي إلى استمرار الفوقية الاقتصادية للمناطق المتميزة، وبالتالي تفاقم الفوارق المجالية.
7. الحكامة والسياسات العمومية: الشفافية، المساءلة، والتقييم
1.7. آليات تقييم السياسات العمومية
تعتبر آليات تقييم السياسات العمومية جزءًا لا يتجزأ من الحكامة الجيدة، حيث تهدف إلى فهم نتائج وتأثيرات السياسات على الفئات المستهدفة والمجتمع ككل. يخصص البرلمان المغربي جلسة سنوية لمناقشة وتقييم السياسات العمومية، وهو ما يمثل إطارًا مؤسساتيًا للمحاسبة، لكن غالبا ما يطرح سؤال الفعّالية على عمل البرلمان نفسه.
نظريا، تتم عملية التقييم من خلال "مجموعات العمل الموضوعاتية المؤقتة" التي تتألف من ممثلين عن الفرق النيابية، بما في ذلك المعارضة، وتضطلع بمهام رئيسية تشمل: صياغة المصطلحات المرجعية، وجمع البيانات، وإطلاق الأبحاث، ووضع التوصيات والاقتراحات، وصياغة تقرير التقييم. إن هذه الآليات تعكس رغبة في بناء "إدارة مبنية على النتائج والأثر على المواطن"، غير أن هذه الرغبة تواجه معوقات حقيقية تتعلق بالإرادة السياسية من جهة وبكفاءة الجهاز التشريعي وصلاحيات اللجان الرقابية، ومحدودية سلطة القضاء.
ذلك، أنه على الرغم من وجود إطار مؤسساتي لتقييم السياسات العامة في البرلمان، إلا أن فعالية هذا التقييم في التأثير على القرارات الجهوية تظل محل تساؤل. فالآليات المذكورة تبدو مركزية بطبيعتها، ويبقى التحدي هو كيفية ترجمة توصياتها إلى إجراءات عملية ومباشرة على مستوى الجهات، مما يربط هذا الجانب مباشرة بميثاق اللاتمركز الإداري. فبدون إطار تنفيذي يضمن التزام الجهات بتوصيات التقييم، قد تظل هذه العملية مجرد إجراء شكلي لا يساهم بشكل فعال في تحسين الأداء على المستوى المحلي.
2.7. تعزيز الشفافية والمساءلة على المستوى المحلي
تُعد الشفافية أحد أبرز مبادئ الحكامة، وهي سلاح فعَّال لمحاربة الفساد والاختلاسات. فالشفافية تعني حرية تدفق المعلومات وإمكانية حصول المواطنين على البيانات الضرورية في الوقت المناسب، مما يتيح لهم حق المساءلة والمحاسبة.
ومع ذلك، تواجه الجماعات الترابية تحديات كبيرة في تحقيق الشفافية الكاملة. من أبرز هذه التحديات صعوبة تحديث المعلومات وضمان دقتها، وبطء المساطر الخاصة بالحق في الحصول على المعلومة، بالإضافة إلى صعوبة وصول المواطنين إلى الخدمات من دون اللجوء إلى الإدارة.
ولمواجهة هذه التحديات، تم اقتراح مجموعة من الحلول، منها: تحسين الإطار القانوني للوصول إلى المعلومة وجعله إلزاميًا، وتنزيل قانون تبسيط المساطر الإدارية، وإنشاء بوابات عبر الإنترنت لتسهيل وصول المواطنين إلى الخدمات الحكومية. كما أن تعزيز استخدام التوقيع الإلكتروني وتطبيق معايير الوصول الرقمي يعتبران خطوتين أساسيتين لتحقيق النزاهة وتعزيز الثقة.
إن عدم الشفافية يفتح الباب أمام الفساد ويؤدي إلى عدم الثقة بين المواطن والإدارة المحلية. والجهوية المتقدمة، لكي تنجح، يجب أن تبني هذه الثقة عبر تفعيل آليات حقيقية للشفافية الرقمية. فالرقمنة ليست مجرد تبسيط للإجراءات، بل هي أداة أساسية لتمكين المواطن من الوصول إلى المعلومات والخدمات، وتوفير بيانات دقيقة لتقييم السياسات، والمساهمة في مكافحة الفساد، مما يربطها بشكل وثيق بأهداف الجهوية المتقدمة.
8. الشراكة والتعاون: دور المجتمع المدني والقطاع الخاص
1.8. دور المجتمع المدني في الديمقراطية التشاركية
تعتبر الجهوية المتقدمة المجتمع المدني فاعلًا رئيسيًا وشريكًا استراتيجيًا في تحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة. ويجد هذا الدور أساسه في الإطار الدستوري والقانوني الذي يدعم انخراط المجتمع المدني في إعداد السياسات العمومية.
وقد أكدت العديد من النقاشات على ضرورة أن ينتقل المجتمع المدني من دوره التقليدي في العمل الخيري إلى موقع أكثر تأثيرًا في اتخاذ القرار على المستوى المحلي. ويتم ذلك من خلال شراكات مثمرة ومشاريع مشتركة، والاستفادة من آليات مثل العرائض والتشاور مع مجالس الجهات.
ومع ذلك، هناك فجوة بين الدعوة القانونية للمشاركة والواقع الميداني. ففي حين أن النصوص القانونية تسمح للجمعيات بإيداع العرائض، إلا أن الممارسة أظهرت محدودية هذا المجال بسبب عدم إدراك بعض الأطراف للأدوار التي أرادها المشرع. هذا يشير إلى أن تفعيل الديمقراطية التشاركية لا يعتمد فقط على وجود النصوص، بل على وجود الإرادة السياسية لدى الإدارات المحلية لتمكين المجتمع المدني بشكل حقيقي، وعلى قدرة هذا المجتمع على تجاوز دوره التقليدي واكتساب المهارات اللازمة. إن المشاركة الفعالة للمجتمع المدني في تحديد الأولويات التنموية، وتوفير التكوين والخبرة اللازمة، تعتبر شرطًا أساسيًا لضمان أن تكون المشاريع والسياسات الجهوية مستجيبة لاحتياجات السكان.
2.8. الشراكة بين القطاعين العام والخاص كرافعة للتمويل
لمواجهة تحديات التمويل في الجهات، برزت الشراكة بين القطاعين العام والخاص كآلية فعَّالة لتمويل البنيات التحتية وتقديم الخدمات العامة. وقد تم تنظيم هذه الشراكة في المغرب بموجب القانون رقم 86.12، الذي يهدف إلى توفير خدمات ذات جودة عالية وتكلفة منخفضة، مع تحديد آليات لتقاسم المخاطر بين الطرفين.
يتم إبرام عقود الشراكة وفق مبادئ أساسية مثل حرية الوصول، والمساواة، والمنافسة، والشفافية. وتحدد هذه العقود التزامات الشريك الخاص، بالإضافة إلى مدة زمنية تتراوح بين 5 و30 سنة، وقد تمتد استثنائيًا إلى 50 سنة في المشاريع المعقدة.
إن الشراكة بين القطاعين العام والخاص لا تقتصر على كونها أداة لتمويل المشاريع، بل هي مؤشر على ثقة القطاع الخاص في البيئة الاستثمارية المحلية. نجاح هذه الشراكات على المستوى الجهوي سيُعزز من استقلالية الجهات المالية، ويخفف من العبء المالي على الدولة المركزية. وهو ما يربط هذا الجانب مباشرة بتحديات التمويل التي تواجهها الجهات، ويُظهر أن إشراك القطاع الخاص يمكن أن يكون حلًا لكسر الدائرة المفرغة التي تعيق التنمية.
9. التجارب الدولية الرائدة والدروس المستفادة: نماذج في اللامركزية والحكم الذاتي
1.9. النموذج الألماني: الفيدرالية التعاونية
تُعد ألمانيا نموذجًا فريدًا للفيدرالية التعاونية، حيث تُقسَّم السلطة بين الحكومة الاتحادية و16 ولاية (Länder) تتمتع كل منها بدستورها وبرلمانها الخاصين. وتتمتع الولايات بصلاحيات واسعة في مجالات مثل التعليم والصحة والشرطة. أحد أبرز ملامح هذا النموذج هو النظام المالي الذي يهدف إلى تحقيق توازن بين الولايات الغنية والفقيرة. فإلى جانب الضرائب التي تفرضها كل ولاية على حدة، هناك "ضرائب مشتركة" تُوزَّع إيراداتها بين الحكومة الاتحادية والولايات. وتُستخدم آلية "المهمة المشتركة لتحسين الهياكل الاقتصادية الإقليمية (GRW)" لتقديم التمويل للمناطق الضعيفة هيكليًا، بهدف تحفيز الاستثمار وخلق فرص عمل مستدامة. هذا التمويل يتم بشكل متساوٍ بين الحكومة الاتحادية والولايات.
إن النموذج الألماني يُظهر أن اللامركزية العميقة لا تؤدي بالضرورة إلى تقسيم الدولة، بل يمكن أن تكون عاملًا لتعزيز الوحدة والاستقرار من خلال إشراك الأقاليم في عملية صنع القرار الوطني عبر هيئات مثل المجلس الاتحادي (Bundesrat).
2.9. النموذج الإسباني: اللامركزية المتعددة الأبعاد
اعتمدت إسبانيا بعد دستور 1978 نموذجًا للامركزية يمنح "مناطق الحكم الذاتي" صلاحيات واسعة. وقد تطور هذا النموذج ليصبح "غير متماثل" في الممارسة، حيث تتمتع مناطق مثل إقليم الباسك ونافارا بصلاحيات مالية كاملة، بينما تتمتع بقية المناطق بصلاحيات محدودة.
تشمل صلاحيات مناطق الحكم الذاتي مجالات حيوية مثل التعليم والصحة والشرطة، حيث تتولى الحكومات المحلية تنظيم هذه القطاعات، مع احتفاظ الحكومة المركزية بمسؤولياتها في وضع الإطار التشريعي العام وضمان المساواة.
يُظهر النموذج الإسباني كيف يمكن للاستقلالية المالية الكاملة أن تمكِّن الجهات من أداء مهامها بشكل أكثر فعالية، خاصة في القطاعات التي تمس الحياة اليومية للمواطنين، مثل التعليم والرعاية الصحية والأمن.
3.9. النموذج السويسري: الفيدرالية الشاملة والديمقراطية المباشرة
تُعد سويسرا رغم صغر جغرافيتها مثالًا رائدًا على اللامركزية المتجذرة، حيث تتكون من 26 كانتونًا شبه مستقل، لكل منها دستوره الخاص ونظامه الحكومي. وتتمتع الكانتونات بصلاحيات واسعة في مجالات حيوية مثل الضرائب، والتعليم، والخدمات الاجتماعية، والشرطة.
إن جوهر النموذج السويسري يكمن في "الفيدرالية الشاملة" التي تضمن تمثيل المصالح المحلية في عملية صنع القرار الوطني. ويُعزَّز هذا النهج بوجود الديمقراطية المباشرة، حيث يشارك المواطنون بفاعلية في الاستفتاءات على المستويين الاتحادي والكانتوني، مما يعزز الشرعية والشفافية ويدعم المساءلة والمحاسبة الصارمة.
إن أحد أبرز الفروقات بين التجارب الدولية والمغرب هو الاستقلالية المالية الواسعة الممنوحة للجهات في ألمانيا وإسبانيا وسويسرا. وهذا يشير إلى أن الإصلاحات الإدارية والقانونية للجهوية المتقدمة في المغرب لن تُؤتي ثمارها الكاملة ما لم يتم إعادة رسم خريطة الجهات لتقليص عددها، وإقرار إصلاح سياسي ومالي جذري يمنحها استقلالية أكبر في اتخاذ القرار، وموارد ذاتية كافية، وحرية في تحصيلها وإنفاقها. إن التجربة الدولية تؤكد أن الاستقلالية المالية هي شرط أساسي لنجاح أي نموذج للامركزية.
10. آفاق الجهوية المتقدمة: رؤية استراتيجية وتوصيات
1.10. أهمية التكنولوجيا في تعزيز الحكامة الجهوية
تُعد التكنولوجيا رافعة أساسية لتحقيق أهداف الجهوية المتقدمة، حيث يمكنها تعزيز الحكامة، وتعميق الديمقراطية التشاركية، وتحسين جودة الخدمات العمومية. خصوصا وأن الحكومة المغربية سبق وأن تبنّت استراتيجية طموحة تحت شعار "Maroc Numérique 2020" والتي تهدف إلى بناء مجتمع واقتصاد رقميين شاملين.
على المستوى الجهوي، بدأت تظهر بعض المبادرات الملموسة، مثل الملتقى الافتراضي للتوجيه الذي نظمه مجلس جهة الرباط-سلا-القنيطرة، والذي يوفر خدمات التوجيه المهني عبر منصة رقمية ثلاثية الأبعاد. كما أن هناك جهودًا لتبسيط ورقمنة المسارات الإدارية، وإنشاء منصات رقمية مشتركة.
لكن التحدي لا يكمن في وجود استراتيجية رقمية وطنية، بل في ترجمتها إلى سياسات جهوية ملموسة. فالعديد من البوابات الإلكترونية المتاحة حاليًا تبدو مجزأة وغير متكاملة بل وبعضها غير عملي. فالرقمنة ليست مجرد تبسيط للإجراءات، بل هي أداة أساسية لتعزيز الشفافية والمساءلة وتقديم الخدمة بالجودة والسرعة المطلوبة. إنها تمكن المواطنين من الوصول إلى المعلومات والخدمات، وتوفر بيانات دقيقة لتقييم السياسات، وتساعد في مكافحة الفساد، مما يربطها بشكل وثيق بأهداف الجهوية. إن التحدي الأكبر يكمن في "الترابط" بين الأنظمة المختلفة و"إدماج" البيانات على المستوى الجهوي، مما يتطلب إطارًا واضحًا للحوكمة الرقمية وتنسيقًا بين جميع الفاعلين لضمان عدم تكرار الجهود، وضمان أن تكون التكنولوجيا أداة لتعزيز التنمية الشاملة وليست مجرد إضافة تجميلية (كوضع العكار على الخنونة) كما يقول المثل المغربي.
2.10. الاستدامة البيئية والتنوع الثقافي كركائز للتنمية
تتجاوز أهداف الجهوية المتقدمة الأبعاد الإدارية والاقتصادية لتشمل الاستدامة البيئية والحفاظ على التنوع الثقافي. إن الجهوية توفر فرصة فريدة لمواجهة التغيرات المناخية، حيث تحتاج المناطق المتضررة من الجفاف أو الفيضانات أو الزلازل، إلى حلول محلية مصممة خصيصًا لواقعها. وهذا يتطلب من الجهات أن يكون لها دور محوري في تنفيذ استراتيجيات التنمية المستدامة التي تشمل الجوانب البيئية، وتعزيز الزراعة المستدامة والحفاظ على الموارد الطبيعية.
كما أن الجهوية المتقدمة توفر بيئة مواتية للحفاظ على الخصائص الإقليمية والثقافية وتطويرها، وهو ما يظهر جليًا في النموذج السويسري والإسباني، حيث أدت اللامركزية إلى تعزيز الهويات المحلية دون المساس بالوحدة الوطنية. وفي المغرب، يُعتبر ورش تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية جزءًا لا يتجزأ من هذه الرؤية، حيث يعزز التنوع الثقافي ويضمن أن تكون الهويات الجهوية جزءًا من النسيج الوطني.
3.10. توصيات لتعزيز مسار الجهوية
انطلاقًا من التحليل الشامل للتحديات والفرص، يمكن تقديم مجموعة من التوصيات الاستراتيجية لتعزيز مسار الجهوية المتقدمة في المغرب:
- ضعف الموارد المالية وندرة الكفاءات المحلية في الجهات الأقل حظًا يجعلها عاجزة عن تحقيق التنمية الاقتصادية المرجوّة، مما يرسّخ الفوارق الجهوية بدل تقليصها. ولكسر هذه الحلقة، يبدو أن الحل الواقعي يكمن في إعادة النظر في عدد الجهات وتقليصها بما يضمن نوعًا من التوازن بين الموارد والاختصاصات، ويُتيح لكل جهة حدًّا أدنى من الإمكانات المالية والبشرية الكافية لتدبير شؤونها بكفاءة واستقلالية حقيقية.
• الإصلاح المالي الجذري: ضرورة تسريع تفعيل آليات التضامن المالي، مثل صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات، وصندوق الزكاة أيضا، مع مراجعة شاملة لمنظومة الموارد الذاتية للجهات، بما يضمن استقلاليتها المالية الحقيقية.
• التأهيل الإداري وبناء القدرات: يجب الاستثمار بشكل مكثف في رأس المال البشري المحلي، وتقديم برامج تكوين متخصصة لأطر الجهات لتمكينهم من إدارة الموارد والمشاريع بكفاءة.
• الحكامة الرقمية المتكاملة: وضع استراتيجية رقمية خاصة بالجهات، مع التركيز على تبسيط المساطر الإدارية وتوحيد البوابات الإلكترونية لضمان الترابط الفعال بين الإدارات.
• تفعيل الديمقراطية التشاركية: تجاوز الدور الشكلي للمجتمع المدني وتفعيله كشريك حقيقي في صنع القرار، عبر تعزيز آليات الحوار والتشاور ورفع العوائق القانونية والمؤسساتية التي تحد من مشاركته.
11. الخاتمة: الجهوية المتقدمة: رهان وطني مستمر
يُظهر هذا التقرير أن الجهوية المتقدمة في المغرب هي عملية إصلاحية معقدة، مستمرة، ومتعددة الأوجه، وأن نجاحها لا يعتمد فقط على إصدار القوانين، بل على قدرة الفاعلين على ترجمة هذه القوانين إلى ممارسة حقيقية على أرض الواقع. فعلى الرغم من وجود إطار قانوني ودستوري متين، فإن تحديات التمويل، وضعف القدرات الإدارية، وعدم تفعيل آليات الشفافية والمساءلة بشكل كافٍ، لا تزال تعيق تحقيق الأهداف التنموية للجهوية.
إن الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الجهات، والتي تظهرها بوضوح بيانات الناتج الداخلي الإجمالي، لم تتقلص بعد بشكل ملموس. وهذا يؤكد أن الجهوية المتقدمة لن تحقق أهدافها في الحد من الفوارق إلا إذا أُقرَّت إصلاحات هيكلية عميقة، لا سيما على المستوى المالي، بما يمنح الجهات الاستقلالية اللازمة لتوليد ثروتها الخاصة.
في الختام، تبقى الجهوية المتقدمة رهانًا وطنيًا مستمرًا، وورشًا مفتوحًا يتطلب إرادة سياسية قوية، وإصلاحات مؤسساتية ومالية عميقة، وانخراطًا فاعلًا من جميع الأطراف. إن نجاح هذا الورش يتوقف على قدرة المغرب على تحويل التحديات إلى فرص، من خلال نهج شامل يجمع بين الأبعاد القانونية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية، بما يخدم تحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة التي يطمح إليها جميع المغاربة، باعتبارها السبيل الوحيد لاستعادة المواطنين لثقتهم في دولتهم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق