حين يصبح الحكم الذاتي اختبارًا لحدود السلطة الملكية

 

(بين الرغبة في استرضاء المنتظم الدولي والخوف من المسّ بجوهر السلطة) 

- «إن الوطنية الحقة لا تعني المزايدة في الخطاب، بل الاستعداد لتحمّل النتائج مهما كانت قاسية» — عبد الرحيم بوعبيد (1981).

- «الملك هو من يحكم، ونحن نساعده فقط على تنفيذ رؤيته» — عبد الإله بنكيران (2016).


1. تمهيد: من قضية ترابية إلى امتحان لنظام الحكم

لم تعد قضية الصحراء مجرّد نزاعٍ جغرافيّ أو إقليميّ، بل تحوّلت اليوم إلى اختبار حقيقيّ لبنية النظام السياسي المغربي وقدرته على التكيّف مع المتغيرات الدولية الجديدة. فبعد عقود من احتكار القرار من طرف القصر، عاد الملف ليتحوّل إلى مرآةٍ تكشف حدود السلطة الملكية ذاتها، في وقتٍ أصبح فيه المنتظم الدولي يطالب بـ«حلّ سياسي واقعي ودائم قائم على التوافق».../...


إنّ ما كان يُدار في الظلّ بات اليوم مطروحًا على طاولة العالم؛ والملك، الذي لطالما احتكر القرار باسم «قدسية الوحدة الترابية»، يجد نفسه أمام لحظةٍ فارقة تُلزمه بإشراك المؤسسات الوطنية في ما لم يُسمح لها من قبل حتى بالتعليق عليه.

لأنه إذا كانت الصحراء قضية وطنية تهم الشعب المغربي قاطبة، فقد آن الأوان لرفع الغطاء عما يعتري هذا الملف من تعتيم وما طاله من أخطاء وتجاوزات؟


2. السياق التاريخي: من “البيعة الترابية” إلى مركزية القرار

منذ استرجاع الأقاليم الجنوبية سنة 1975 عبر “المسيرة الخضراء”، صاغ النظام سردية تقوم على أن الصحراء هي “قضية الملك والشعب”، لكن الوقائع أظهرت أن الملك هو الفاعل الوحيد فيها. فقد ظلّ هذا الملفّ مغلقًا أمام الأحزاب منذ سجن عبد الرحيم بوعبيد سنة 1981، حين عبّر عن رفضه للحكم الذاتي الذي قبله الملك الراحل الحسن الثاني رسميا في مؤتمر للإتحاد الإفريقي .

منذ ذلك التاريخ، صارت الصحراء خطًا أحمر، لا تُذكر في الحملات الانتخابية ولا في البرامج الحزبية، ولا يُسمح للنقاش العمومي أن يتناولها خارج الإطار الملكي الرسمي. بذلك، تحولت “قضية الوطن” إلى “قضية الملك”، وأُقصي الفاعل السياسي والمدني من أي مشاركة حقيقية.


3. دعوة الأحزاب اليوم: تشاور وطني أم مناورة تكتيكية؟

حين دعا القصر مؤخرًا الأحزاب السياسية لتقديم اقتراحاتها بشأن الحكم الذاتي في ظرف لا يتجاوز أسبوعين، بدا أن الهدف مزدوج: 

- من جهة استرضاء المنتظم الدولي الذي يطالب بإشراك أوسع للقوى السياسية في بلورة الحل.

- ومن جهةٍ أخرى الإبقاء على مركزية القرار في يد المؤسسة الملكية.

لكن السؤال الجوهري هو: 

- هل هذه الأحزاب مؤهلة فعلًا لتقديم تصوّر وطني جامع؟ 

نقول هذا لأن معظمها لم يضع ملف الصحراء في أي من برامجه منذ الاستقلال، بل ظلّ يكرّر خطاب الدولة الرسمي دون مساءلة أو بدائل. لذا، تبدو دعوة القصر وكأنها إعادة توزيع للواجهة لا للسلطة.


4. الامتيازات الاقتصادية… السؤال الذي لا يريد أحدٌ الاقتراب منه

  •  الاقتصاد الريعي في الإقليم: أربع عقد كبرى في قلب سؤال الحكم الذاتي...

إن أي حديث عن «حكم ذاتي حقيقي» لا يمكن أن يستقيم دون تفكيك البنية الاقتصادية التي ترسّخت في الصحراء منذ عقود. فالإقليم لم يكن مجرد مجال سياسي ودبلوماسي وعسكري؛ بل كان قبل كل شيء مجالًا للامتيازات: امتيازات الشركات الأجنبية، وامتيازات الرساميل الوطنية، وامتيازات المؤسسة العسكرية، وأخيرًا الامتيازات المرتبطة بالمجموعة الملكية. وهنا تتكثّف أكبر الأسئلة المسكوت عنها:


4.1. الشركات الأجنبية العملاقة العابرة للحدود: 

- هل ستظل الاتفاقيات فوق سلطة الإقليم؟

على مدى عشرين عامًا، دخلت الصحراء ضمن دائرة استثمارات ضخمة لشركات عالمية في مجالات:

– الطاقات المتجددة،

– المعادن البحرية،

– الصيد في أعالي البحار،

– البنيات التحتية من طرق وموانئ وغيرها.

هذه الاتفاقيات تُبرم عادة بين الرباط وهذه الشركات، وليس بين الإقليم والمستثمرين، ما يعني أن الحكم الذاتي قد يجد نفسه أمام شبكة التزامات دولية مسبقة تُقيّد سلطته المالية والتشريعية.

  • السؤال المفصلي:

- هل سيُسمح لسلطة الحكم الذاتي بمراجعة أو إعادة التفاوض حول هذه العقود بما يضمن نصيبًا عادلًا للسكان؟

- أم ستظل الاتفاقيات “مركزية” حتى لو أصبح الحكم “جهويًا”؟


4.2. الشركات المغربية: 

إعفاء ضريبي دام عقودًا… من يعيد التوازن؟

هناك أكثر من ثمانية آلاف شركة مسجّلة في الصحراء (وفق أرقام متداولة) استفادت  لسنوات طويلة  من الإعفاءات الضريبية الكاملة.

لكن المفارقة الأكبر أن أغلب هذه الشركات:

– لا توظّف أبناء الصحراء إلا ما نذر،

– لم تسهم في مالية الدولة بل تهرب أرباحها إلى الملاذات الآمنة،

– لم تستثمر إلا بالقدر الذي يضمن لها الأرباح الهائلة،

– ولم تشارك فعليًا في التنمية التي تَحملها الدولة على عاتقها من أموال دافعي الضرائب من مغاربة الشمال.

والسؤال الذي يقف اليوم بلا جواب:

- هل سيُفرض على هذه الشركات نظامٌ ضريبي جديد يخضع لسلطة الإقليم؟

- أم ستتم المحافظة على “الاستثناء الضريبي” بحجة تشجيع الاستثمار؟

هذا السؤال وحده كافٍ لإثارة مواجهة بين الدولة من جهة، ورجال الأعمال من جهة أخرى، لأن تغيير قواعد اللعبة سيعني إعادة توزيع الثروة من جديد.


4.3. امتيازات كبار ضباط الجيش: 

لقد ضلت الصحراء لعقود خمسة بمثابة البقرة الحلوب لكبار ضباط الجيش.

الصيد البحري، الأرض، المناجم…إلخ 

- هل يمكن التراجع عنها؟

يُعدّ الجيش أحد أكبر المستفيدين تاريخيًا من الامتيازات الاقتصادية في الصحراء:

– رخص الصيد البحري،

– رخص مقالع الرمال والحصى،

– أراضي بأثمان رمزية

– مداخيل وساطة،

– مواقع نفوذ متجذّرة.

امتيازات الجيش ليست مجرد مسألة اقتصادية؛ بل جزء من تماسك النظام السياسي نفسه.

لذلك، فإن أي حكم ذاتي حقيقي يقتضي أن يُعاد النظر في توزيع هذه الامتيازات، وهو أمر بالغ الحساسية:

- هل سيقبل كبار الضباط بالتخلي عن هذه الموارد؟

- وهل تملك الدولة قدرة سياسية على مواجهة هذا الملف من دون اهتزاز؟

إنها واحدة من أعقد العقد التي ستواجه أي نظام جديد للصحراء. كما وأنها تشكل تهديدا خطيرا لاستقرار النظام.


4.4. “الفيل في الغرفة”: الشركات الملكية العملاقة

هنا نصل إلى قلب المعضلة.

فالمغرب ليس فقط دولة بملكية سياسية تنفيذية؛ بل اقتصاد بملكية مركزية أيضًا.

المجموعة الملكية (عبر البنوك، التأمين، المناجم، الاتصالات، الطاقة، الفلاحة، الصناعات الغذائية، الصيد البحري…إلخ) هي أكبر فاعل اقتصادي في البلاد، ولها حضور مباشر وغير مباشر في مشاريع الصحراء.

لذلك يبقى السؤال الأخطر:

- هل ستخضع الشركات الملكية لسلطات الإقليم التشريعية والجبائية؟

- وإذا كانت ستخضع، فإلى أي حد؟

- وإن لم تخضع، فكيف يمكن الحديث عن “حكم ذاتي حقيقي” بينما أكبر فاعل اقتصادي يظل فوق قواعد السوق المحلية؟

- ثم ماذا عن عقود الاستثمار المستقبلية؟

- هل ستُدار بشراكة مع الإقليم؟

- أم يبقى دور الإقليم شكليًا بينما القرار الحقيقي يُتخذ في الرباط؟

الثابت أن أي حكم ذاتي لا يلامس خريطة المصالح الاقتصادية الملكية سيظل ناقصًا، مهما كانت النصوص جميلة، ومهما كان الخطاب السياسي مطمئنًا.

  • خلاصة هذه المحاور:

إن الحديث عن الحكم الذاتي في الصحراء لا يمكن أن يكون نقاشًا سياسيًا فقط.

إنه أولًا وقبل كل شيء نقاش حول الثروة والسلطة:

- من يملكها؟

- من يديرها؟

- ومن يقرر مصيرها؟

ولذلك فإن النجاح أو الفشل لن يحدده حجم “الجرأة القانونية” فقط، بل قدرة الدولة على تفكيك شبكة الامتيازات التي تشكل العمود الفقري للنظام الاقتصادي الحالي.


5. الحكم الذاتي بين الشكل والمضمون

الحكم الذاتي في معناه الدستوري والسياسي لا يُختزل في “تدبير محلي موسّع”، بل يعني توزيعًا حقيقيًا للسلطة بين المركز والإقليم على أساس تعاقدي واضح.

لكن التجربة المغربية تُظهر ميلًا متجذّرًا نحو الشكل دون المضمون: مؤسسات محلية تُنتخب لكنها لا تملك القرار، وبرلمان يصوّت دون أن يراقب الحكومة فعليًا، وحكومة تنفذ توجيهات القصر دون مسؤولية سياسية مقابلة.

من هنا، فإنّ أي “حكم ذاتي” يُصاغ في هذا الإطار سيظلّ شكليًا ما لم يُصَحَّح الخلل البنيوي بين “السلطة والمسؤولية”، وما لم يُدرج في إطار إصلاح دستوري شامل يحدّد صلاحيات الملك بدقة.


6. التحديات البنيوية: الأمن، الضرائب، القضاء، والتمثيل الحزبي

  • تُطرح في أي تجربة حكم ذاتي أسئلة عملية لا يمكن القفز عليها:

- من يملك القرار الأمني في الإقليم؟ 

- هل يبقى بيد الدولة المركزية أم يُفوض جزئيًا؟

- هل للإقليم سلطة جبائية مستقلة جزئيًا عن الضرائب الوطنية؟

  • ثم ماذا عن القضاء: 

- هل يُحدث نظام قضائي خاص أم تبقى النيابة العامة تحت وصاية الرباط؟ - وماذا عن محكمة النقض؟

  • والأحزاب السياسية: 

- هل يُسمح بتأسيس أحزاب جهوية محلية؟ 

- أم تُفتح الأقاليم للأحزاب الوطنية القائمة لتتنافس فيها بهدف إعادة مشهد الديموقراطية الصورية إلى الواجهة؟

تلك الأسئلة هي التي تُحدّد ما إذا كان المشروع حكمًا ذاتيًا حقيقيًا أو مجرد “لامركزية موسّعة” منقوصة وشكلية، وهي أيضًا ما سيجعل المنتظم الدولي يفرّق بين مبادرة جدّية وأخرى تجميلية، ما دامت المبارة اليوم لا تلعب في الملعب الوطني بل في الملعب الدولي.


7. الخوف من الإصلاح واستحالة تأجيله

يعيش النظام الملكي المغربي اليوم تناقضًا حادًا: 

- فهو من جهة يسعى إلى كسب الشرعية الدولية عبر خطاب الإصلاح والانفتاح، 

- ومن جهة أخرى يخشى أن يؤدّي أي تعديل دستوري إلى المسّ بجوهر سلطته التنفيذية.

لكنّ تجربة العقود الأخيرة تُظهر أن تأجيل الإصلاح لم يعد ممكنًا؛ فكل تأجيل يُفاقم هشاشة النظام بدل أن يحميه. 

إنّ الملكية قادرة على البقاء فقط إذا تحولت من “ملكية الرعاية” إلى “ملكية المساءلة”، أي إذا أصبحت شريكًا دستوريًا لا حاكمًا مطلقًا.


8. المقارنة الدولية: كاتالونيا، كردستان، وكيبيك

تُظهر التجارب المقارنة أن أي حكم ذاتي بلا ضمانات دستورية صارمة يتحوّل إلى قنبلةٍ زمنية.

  • في كاتالونيا، أدّى غموض العلاقة بين الإقليم والمركز إلى نزعةٍ انفصالية بلغت ذروتها عام 2017.
  • في كردستان العراق، تحوّل الحكم الذاتي إلى شبه دولة موازية انتهت بمواجهات عسكرية.
  • بالمقابل، في كيبيك الكندية، سمح الإطار الفيدرالي الواضح ببقاء الوحدة رغم الاختلافات الهوياتية.
المغزى: الحكم الذاتي الحقيقي لا يخيف الدول القوية بل يعزّز وحدتها، بينما الشكلاني منه يفتح الباب للانفصال عندما يغيب العدل والتمثيل.


9. الإصلاح الدستوري كشرطٍ للثقة الدولية

المنتظم الدولي لم يعد يكتفي بالشعارات. فقرارات مجلس الأمن الأخيرة تحدثت بوضوح عن “حل سياسي حقيقي”، أي قائم على مؤسسات تمثيلية وسلطات محددة، لا على شعارات وطنية.

وبذلك، لم تعد الكرة في ملعب الجزائر أو البوليساريو، بل في ملعب الرباط نفسها. فإذا أراد المغرب أن يُقنع العالم بجدية مبادرته، فعليه أن يُقنع مواطنيه أولًا بأن الحكم الذاتي مشروع وطني لا قرار فوقي ينزل بشروط الرباط.

وهذا يقتضي تعديل الدستور بحيث يُصبح الملك ضامنًا لوحدة الدولة لا المتحكم في كل مفاصلها، وتُربَطُ المسؤولية بالمحاسبة فعلًا لا قولًا.


10. الإصلاح الدستوري وشرعية الحكم في الفكر السياسي الحديث

منذ أن طرح مونتسكيو في كتابه روح القوانين فكرةَ الفصل بين السلطات، ارتبط مفهوم الشرعية السياسية بمحدودية السلطة لا باتساعها. فالدولة الحديثة لا تُقاس بقوة الحاكم بل بقدرة المؤسسات على تقييد الحاكم باسم القانون. وبهذا المعنى، يصبح الدستور عقدًا لا فرمانًا، وأداةً لتوزيع السلطة لا لتجميعها في يدٍ واحدة.

أما جان جاك روسو، فقد رأى أن السيادة لا تتجزأ ولا تُفوَّض، وأنّ الشعب هو مصدرها الأوحد، ولا يحق لأي مؤسسةٍ أن تدّعيها دونه. وفي هذا الإطار، لا تكون الملكية شرعية إلا إذا أصبحت تجسيدًا للإرادة العامة للأمة، أي ملكيةً خادمةً لا مالكةً للدولة. من هنا تتولد فكرة “الملكية البرلمانية” التي لا تُختزل في الشكل، بل في خضوع الملك نفسه لمقتضيات العقد الاجتماعي الذي أسّس له الشعب.

أما في الفكر العربي الحديث، فقد اشتغل عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري على نقل هذا المفهوم إلى السياق المغربي. رأى العروي أن «الملكية المغربية لا يمكن أن تستمر إلا كملكية دستورية تُمارَس داخل إطار تعاقدي» وفق رأيه، بينما حذّر الجابري من خطر الجمع بين “الشرعية التاريخية” و“الشرعية السياسية”، لأنّ الأولى تُستمدّ من الماضي والثانية من إرادة الحاضر. فحين تتغوّل الأولى، تتجمد الثانية، وتتحول الدولة إلى “سلطة موروثة” لا “مؤسسة مواطنة”.

في ضوء هذه الرؤى، يمكن القول إنّ أي إصلاح دستوري حقيقي في المغرب لا ينبغي أن يُفهم كتنازل من الملك، بل كعودةٍ إلى جوهر الفكرة السياسية الحديثة التي تقول: 

"إن الشرعية لا تُستمد من الشخص، بل من النظام الذي يُقيّد الجميع، بمن فيهم الملك نفسه". 

إنّ دستورًا يعيد التوازن بين السلطة والمسؤولية، بين الرعاية والمساءلة، هو وحده الكفيل بأن يجعل الحكم الذاتي مشروعًا وطنيًا نابعًا من العقد الاجتماعي لا من تعليمات فوقية.


11. من ملكية الرعاية إلى ملكية المساءلة

رفع الربيع المغربي سنة 2011 شعارًا دقيقًا: “لا مسؤولية بلا مساءلة”.

لقد أدّى احتكار القرار إلى تجميد التطور السياسي، بحيث لم تعد الحكومة تحكم، ولا البرلمان يراقب، ولا القضاء مستقلّ. كل شيء يصبّ في “الظلّ الملكي” الذي يصعب محاسبته لأنه فوق المؤسسات.

لكن لا إصلاح اقتصادي أو اجتماعي أو حتى دبلوماسي يمكن أن ينجح دون إصلاح سياسي يحرر المؤسسات من الوصاية المخزنية. فالدستور الحالي ما زال يمنح الملك صلاحيات تنفيذية مطلقة، ويجعل من البرلمان مجرد غرفةٍ استشارية في الواجهة. كما أن الأحزاب مجرد دكاكين سياسية لا تمثل إلا نفسها، ولا تنفذ إلا التعليمات الملكية، لأنها ببساطة لا تملك رؤية سياسية استراتيجية، ولا مخططات أو برامج تنموية حقيقية، وكل همها هو بيع الوهم للشعب والمتاجرة بآماله بهدف الاستحواذ على أكبر عددمن الكراسي في الجهات والبرلمان لما يمثله ذلك من مزايا وامتيازات.

من هنا فإنّ الحكم الذاتي، في جوهره، ليس تحدّيًا ترابيًا بل اختبارًا لمفهوم السلطة نفسه:

 - هل الدولة ملك للجميع أم هي إرث يُدار باسمهم خاصة لا نصيب للشعب فيها؟


12. نحو تحصين الوحدة الوطنية

تَخوَّفَ البعض من أن يقود الحكم الذاتي في المستقبل إلى نزعات استقلالية شبيهة بما حدث في كاتالونيا، لكنّ الحل ليس في تقييد الحقوق بل في توسيع المشاركة.

يمكن تحصين الوحدة الوطنية عبر قاعدة دستورية تنص على أن أي محاولة لاستقلال إقليم لا تُبتّ فيها إلاّ عبر استفتاءٍ وطني عامّ يشمل الشعب المغربي بأسره لا ساكنة المنطقة وحدها، ما دام الوطن وعاء جامع للأمة. بذلك، تُربط القرارات المصيرية بموافقة الشعب لا بمزاج جهة أو مركز.

كما يمكن أن يُربط الحكم الذاتي بمبدأ “العدالة المجالية”، بحيث تستفيد كل الأقاليم من صلاحيات مماثلة، فلا يُنظر إلى الصحراء كمنطقة مميزة، بل كجزء من نموذج وطني شامل للجهوية الديمقراطية الحقيقية.


13. حين يصبح الاقتصاد السياسي قلبَ معادلة الحكم الذاتي

يواجه المغرب اليوم لحظةً دقيقة في تاريخه السياسي، حيث تتقاطع شرعية الدولة مع شرعية المطالبة بالإصلاح. فالملك يدرك أن الحفاظ على العرش لا يمرّ عبر احتكار السلطة، بل عبر إعادة تعريفها بما يجعلها قابلةً للاستمرار في الزمن، في حين يدرك المجتمع الدولي أن استقرار المنطقة لن يتحقق إلا في ظلّ انتقالٍ ديمقراطي حقيقي يوازن بين الشرعية التاريخية والمؤسساتية.

غير أن المقاربة الملكية الحالية لا تزال أسيرة منطق “الإصلاح من فوق”، حيث يظلّ القصر هو المشرّع والمفسّر والمنفّذ في آنٍ واحد. وهي مقاربةٌ تُنتج ما يسميه علماء الاجتماع السياسي بـ “الاحتكار الرمزي للشرعية”: أي أن الحاكم يحتكر تعريف المصلحة الوطنية، فيغدو أي اختلافٍ معه خيانة، وأي نقاشٍ حول سلطاته مسًّا بالثوابت. هكذا يُفرَّغ الإصلاح من مضمونه، ويُستبدل التغيير الحقيقي بتدبيرٍ متدرّج للأزمات.

لكن الأخطر هو أن الاقتصاد السياسي، بما يحمله من شبكات مصالح وامتيازات، يفرض اليوم حدودًا لا يستطيع أي مشروع حكم ذاتي، أو حتى إصلاح دستوري، القفز فوقها. ذلك أن الإقليم ليس مجرد ملف سياسي؛ بل هو مجال تتشابك فيه مصالح شركات أجنبية متعددة الجنسيات، ورساميل مغربية معفاة من الضرائب، وامتيازات الجيش، واستثمارات المجموعة الملكية ذات الوزن المرجّح، وحقوق ساكنة المنطقة التي ستتمتع بالحكم الذاتي، ثم مصالح الشعب المغربي في النهاية.

وبالتالي، فإن أي تعديل دستوري أو نظام جديد للصحراء لن ينجح ما لم يُعِد توزيع الثروة والسلطة بطريقة تُرضي السكان وتعيد الثقة إلى الشعب المغربي الذي يُطْلَبُ منه الرَّقص في المولد لكن دون الحصول على حصّته من "الُحِّمصْ".

  • وهنا تظهر المعضلة الحقيقية:

النظام الملكي المغربي (كما هو مُصمَّم اليوم)، لا يستطيع أن يُصلح نفسه دون أن يُعيد تعريف ذاته.

- فكيف يمكن للمؤسسة الملكية أن تكون في آنٍ واحد “حَكمًا” و“لاعبًا” و“صاحب القرار الاقتصادي النهائي”؟

- وكيف يمكن لحكومةٍ تُحاسَب أمام البرلمان أن تنفّذ سياساتٍ اقتصادية ليس لها فيها قرار ؟

هذه الأسئلة ليست تشكيكًا في النظام، بل محاولة لإنقاذه من الجمود التاريخي. لأن الزمن السياسي لا ينتظر أحدًا، ولأن الصراعات الإقليمية والتحولات الدولية لا ترحم الدول التي تُؤجّل الإصلاح.


14. خاتمة

المغرب اليوم أمام مفترق طرق واضح:

1. إمّا أن يختار إصلاحًا دستوريًا شجاعًا يفتح الباب أمام ملكية برلمانية حقيقية، ويضع حدودًا واضحة بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية، ويخضع الشركات العملاقة، بما فيها الشركات الملكية والعسكرية، لقواعد الشفافية والمحاسبة؛

2. وإمّا أن يستمرّ في الإصلاح التجميلي (العكار فوق الخنونة) الذي يطيل عمر الأزمة، لكنه يزيد كلفة الانفجار الاجتماعي والسياسي مع مرور الزمن.

بقرار مجلس الأمن الأخير (2797)، خرج ملفُّ الصحراء من نطاق “السيادة الملكية المطلقة” إلى نطاق المسؤولية الدولية المشتركة، ولم تعد الكرة في ملعب الخصوم الخارجيين بقدر ما أصبحت في ملعب الداخل المغربي نفسه.

وما لم يتحوّل “الحكم الذاتي” من مشروعٍ إداري إلى رؤيةٍ اقتصاديةٍ عادلة وديمقراطيةٍ مؤسساتية شاملة، فإن كل الحلول الترقيعيّة ستبقى مجرد “هدنة سياسية” تؤجّل السؤال بدل أن تُجيب عنه.

وبعد كل هذا، تبقى الحقيقة البسيطة التي تقول:

  • إن الثروة بلا عدلٍ تُولّد الغضب،
  • والسلطة بلا محاسبة تُنتج الفساد والاستبداد،
  • والتاريخ لا يرحم من يتجاهله، ولا ينتظر من يتردد في الاستفادة من دروسه.

نقول هذا لعلّ الذكرى تنفع المؤمنين بالإصلاح، إن كانت النية إصلاحًا حقّا… لا إدارةَ أزمة كما جرت العادة.


---------------------------------------------

 المراجـــع 

  • بوعبيد، عبد الرحيم. مذكرات سياسية. الدار البيضاء: منشورات تامسنا، 1986.
  • بنكيران، عبد الإله. شهادات في التجربة الحكومية. الرباط: دار الأمان، 2018.
  • تقرير مجلس الأمن رقم 2713 حول الصحراء الغربية، نيويورك، 2025.
  • مونتسكيو، شارل دو سكندا. روح القوانين. ترجمة عادل زعيتر. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1949.
  • روسو، جان جاك. العقد الاجتماعي. ترجمة عادل زعيتر. القاهرة: دار المعارف، 1954.
  • العروي، عبد الله. مفهوم الدولة. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1981.
  • العروي، عبد الله. الأيديولوجيا العربية المعاصرة. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1992.
  • الجابري، محمد عابد. الديمقراطية وحقوق الإنسان. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.
  • الجابري، محمد عابد. الدين والدولة وتطبيق الشريعة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1996.
  • فيبر، ماكس. الاقتصاد والمجتمع: في فهم الشرعية والسلطة. ترجمة فؤاد زكريا. القاهرة: دار النهضة العربية، 1987.
  • بوخوز، عبد السلام. “الملكية البرلمانية وإشكالية الانتقال الديمقراطي في المغرب.” مجلة السياسة والقانون، العدد 12 (جامعة الحسن الأول، 2019): 44–68.
  • المريني، عبد المجيد. فلسفة القانون الدستوري في الفكر الغربي الحديث. الرباط: منشورات كلية الحقوق – أكدال، 2017.
  • Benchemsi, Ahmed. “Morocco: The Illusion of Reform.” Journal of Democracy 23, no. 1 (2012): 57–71.
  • Hibou, Béatrice. Le Maroc contemporain: Entre autoritarisme et libéralisation contrôlée. Paris: CNRS Éditions, 2011.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق