تمهيد
إذا كان التراثيون يقولون إن دليل الاستناد إلى السنّة كمصدر ثاني للتشريع هو الصلاة التي لم يذكر القرآن أوقاتها ولا عدد ركعاتها ناهيك عن طريقة أدائها، وأنه لولا السنة لما عرف المسلمون كيف يصلّون.. فإن خطورة مثل هذا القول، أنه يضع المسلم أمام خيارات تلاثة: 1) خيار يؤدي إلى الكفر بآيات الله. 2) خيار يؤدي إلى الإيمان بما شرّع الله دون سواه. 3) وخيار يضع المسلم المستنير وجها لوجه أمام كتاب الله، ليبحث فيه عن الحقيقة بالعقل، بدل اتباع المتوارث من العبادات بالنقل. وتوضيح ذلك يكون كالتالي:.../...
- الخيار الأول: إن القول بأن القرآن لم ينص على الصلاة الحركية كما يقيمها المسلمون بالتواتر منذ قرون، يؤدي حتما إلى الاعتقاد بأن القرآن نص ناقص. وهو اعتقاد كفر بآيات الله التي تؤكد أن الله تعالى لم يُفرّط في الكتاب من شيء. وأنه جاء تبيانا لكل شيء. وأنه قرآن أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير. وأنه تعالى أكمل للناس دينهم ورضي لهم الإسلام دينا. ولا حاجة لهم لوسطاء يشرعون لهم مع الله ما لم ينزل به من سلطان.
- الخيار الثاني: إذا كان الله تعالى قد تحدث عن مقتضيات العبادة كلها في التنزيل الحكيم، بما في ذلك قواعد الغسل والطهارة، ولم يذكر قواعد الصلاة الحركية ولم يشرّع كفّارة لمن لا يقيمها. فمعنى ذلك بالمختصر المفيد، أنه تعالى لم يشرّع الصلاة الحركة بالطريقة التي يقيمها الناس بالتواتر. وبالتالي، فعدم إقامتها هو كفر بدين الفقهاء ولا علاقة له بدين السماء.
- الخيار الثالث: أن إقامة الصلاة كما ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، لا تعني إقامة الصلاة الحركية، بل تعني حرفيا إقامة الدين الذي ينفع الناس، لأن الغاية من إقامة الدين وفق القرآن، هي إقامة المجتمع الصالح بالعمل الصالح بعد الإيمان بالله واليوم الآخر وفق أركان الإسلام الثلاثة كما حددها القرآن.
الصــلاة حسب شريعة السماء
لقد سبق وأن تحدثنا في الأجزاء السابقة عن مفهوم الصلاة التي جاءت من الجذر "صِلَة"، والتي حدّدها القرآن في إثنتين:
- الأولى، صِلَة عمودية بين العبد وربّه تقام من خلال الذكر والتسبيح وقراءة القرآن بتدبره لفهمه والعمل بما جاء فيه.
- والثانية، صلة أفقية بين العبد والآخر، بما في ذلك اسرته الصغيرة، وعائلته الكبيرة، ومجتمعه، والغير المختلف عنه، تقام من خلال العمل الصالح الذي ينفع الناس تطبيقا لما تعلمه من القرآن في مدرسة الله.
كما قلنا إن الخشوع في الصلاة العمودية ينعكس إيجابا على الثانية، لما يفرضه على المؤمن من التزام بالتقوى ومراعاة أوامر الله ونواهيه في كل أوجه تعاملاته باختلاف مجالات حياته.
والآن لنرى ما الذي يعنيه الله تعالى بالصلاة العمودية التي هي طقوس خاصة بينه وبين عباده: - ما عددها وأوقاتها وطريقة إقامتها؟
على من فرضت الصلاة؟
لعلّه من نافلة القول التأكيد بالمناسبة، أن عدد الصلوات التي فرضها الله على عباده في اليوم لا يمكن بحال من الأحوال أن تختلف حكما عن أوقات الصلوات كما حدّدها في كتابه. ولأن الصلاة ليست من أركان الإسلام كما روج لذلك التراثيون، بل من أركان الإيمان وفق ما تعطيه صيغة الخطاب لقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} النساء: 103. وبالتالي، فـ "المؤمنون" وفق القرآن الكريم ليسوا هم الذين آمنوا برسالة محمد عليه السلام فحسب، بل كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، من نوح صعودا إلى الرسول الخاتم هبوطا، مرورا بكل الأنبياء والرسل مما نعلم ولا نعلم عليهم السلام جميعا. وهذا يعني أن الله تعالى فرض الصلاة على المؤمنين كافة، في كل العصور والدهور بدليل قوله تعالى بشأن أنبيائه الكرام: {وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} الأنبياء: 73.
والحديث في الآية الكريمة، هو عن الأنبياء الذين سبقوا محمد عليه السلام وفق ما يفهم من النص والسياق، مع الإشارة إلى أنهم لم يبتدعوا فريضة من الدين استنادا لحديث من عند أنفسهم، بل استنادا إلى ما أوحى لهم الله تعالى، ذلك أن البشر بما فيهم المُجتبين من الأنبياء وذوي العزم من الرسل، لا يملكون حقّ تشريع العبادات للناس. والصلاة كما هو معلوم تعتبر من العبادات التي شرّعها تعالى لعباده، ولو كان الأمر عكس ذلك لاختلف الرسل والأنبياء في صلاتهم، وهو ما تستبعده الآية الكريمة جملة وتفصيلا، لقوله تعالى في الآية السالفة: {وأوحينا إليهم – جميعا - إقام الصلاة}.
وهذا يعني بالعربي الفصيح، أن كل ما شرّعه الله تعالى لعباده يُؤخذ من وحي كتابه، خصوصا مناسك الدّين التي لا تُورّث من أعمال الناس ولا من أقوالهم، حتّى لو نسبوها إلى رسلهم. ومن يفعلون ذلك، يكونون من الذين خانوا الميثاق مع الله، ولجأوا إلى التلاعب بالدين. لقوله تعالى:
- {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذونه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلاّ الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتّقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيع أجر المصلحين} الأعراف : 169.
لقد بيّن تعالى بوضوح لا لبس فيه من خلال هذه الآية الكريمة، أن الذي يُورَثُ من أمّة إلى أخرى، هو الكتاب المُنزّل من السماء، لا المأثور من اقوال وأفعال البشر من خلال نسبتها زورا وبهتانا لأنبيائه. فالكتاب هو وحده دون سواه الذي يجب التمسّك به ودراسته والعمل بما جاء فيه، وعدم اتباع من ابتدعوا في الدين ما لم ينزل به الله من سلطان، ابتغاء عرض الدنيا ممّا لا ثبات له، ويتغيّر حسب الآراء والأهواء. الأمر الذي يُعتبر نقضا للميثاق، بدليل قوله في آخر الآية {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنّا لا نضيع أجر المصلحين}، ما يعني أن إقامة الصلاة تكون بإقامة الصلة العمودية مع الله والأفقية مع المجتمع من خلال التمسك بما جاء في الكتاب، لا التمسك بما شرعه الكهنوت للناس في تطاول سافر على مجال العبادات الذي هو من اختصاص الله دون سواه.
وبدليل قوله أيضا لرسوله الخاتم عليه السلام ولقومه:
- {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنّك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تُسألون) الزخرف : 44.
وبالتالي، فجميعنا سنُسأل يوم القيامة عن الكتاب وما جاء فيه من تعاليم، لا عن أقوال وأفعال البشر ممّا لم يأتي ذكره في التنزيل الحكيم، ومنه الصلاة التي تعتبر من فرائض الدين التي لا يشرعها إلا ربّ العالمين.
- والسؤال هو : هل حافظ المسلمون على الصلاة كما شرّعها تعالى في كتابه؟
الجواب هو لا بالقطع. ذلك أن المسلمين قد أضاعوها بعد أن تلاعب فقهاء السلاطين زمن الأمويين والعباسيين بمفهومها، وغيّروا في أوقاتها، وابتدعوا لها حركات بهلوانية، وطقوس فلكلورية لم يذكرها تعالى في القرآن الكريم. بدعوى أن القرآن الذي ذكر تفاصيل الغُسل والطهارة والصّوم والحج وغير ذلك من المناسك، قد فرّط في الصلاة فلم يذكرها لا بأوقاتها ولا بطقوسها. ولولا السنّة – كما يدّعون - لما عرف المسلمون طريقة الصلاة. وبذلك أصبح الرسول عليه السلام ومن دون علمه، مُشرّعا مع الله وشريكا له في تأصيل أركان الإيمان وشروط التديّن بفضل ما تركه من سنّة بزعمهم. وهو المُبلّغ الأمين عن ربه، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة دون زيادة أو نقصان بشهادة الله تعالى لقوله:
- {تنزيل من ربّ العالمين * ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين} الحاقة : من 43 إلى 46.
والمعنى واضح ومفاده، أن ما شُرّع للناس في الدين هو تنزيل من رب العالمين وليس للرسول دخل به، لأن مهمّته هي التبليغ عن ربه فقط لا غير. وفق ما يفيد مصطلح "رسول" من معنى (باعتباره مُبلّغ رسالة السماء للمرسلة إليهم لا مُشرّع مع الله). ويؤكّد تعالى في نفس الآية أنه في حال تقوّل الرّسول بعض الأقاويل في الدين ونسبها إلى الله، فإنه سيأخذه من يمينه ويُقطّع نياط قلبه فينهي حياته.
وبالتالي، - كيف للرسول الأمين عليه السلام الذي يعلم أن الله لن يتسامح معه إذا أضاف شيئا إلى الدين من عنده، أن يأتي بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان في كتابه، ويدّعي أنه وحي من السماء كما يزعم زورا وبهتانا القائلين بأن السّنّة هي أيضا وحي مكمّلة للقرآن، بل وتنسخ آيات محكمات منه، والله تعالى يؤكد أنه لا يبدّل القول لديه؟.
عدد الصلوات المفروضة ومواقيتها في شريعة السماء:
أما عدد الصلوات فيُعرف من أوقاتها كما حدّدها صاحب الدين، لقوله تعالى وهو يخاطب المؤمنين من كل أمّة وفي كل مكان وزمان:
- {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء : 103].
وتعتبر هذه الآية من المحكمات. فيما هناك عديد الآيات التفصيلية المشابهة التي تفسّر معنى الآية المحكمة وفق ما سيأتي ذكره، وهنا لا بد من وقفة تأمل لفهم مقصود الله من هذه الآية الكريمة:
تتضمن الآية المذكورة أعلاه أربع مفاتيح للفهم: (الصلاة – المؤمنون – الكتاب – المواقيت):
- "الصلاة": تعني الصِّلَة التي جعلها الله تعالى جوهر العبادة، سواء الصلة العمودية معه أو الصلة الأفقية مع الناس.
- "المؤمنون": هم المُكلّفون بإقامتها بالطريقة التي أوضحها صاحب الدين.
- "الكتاب": يعني ما فرضه الله على عباده بتفصيل بصيغة الواجب بنص قطعيّ الثبوت قطعيّ الدلالة.
- "المواقيت": هي الأوقات التي حدّدها الله تعالى لعبادته لإقامة الصلاة العمودية والأفقية. ويفهم منها حكما عددها وترددها ما دام أن لكل وقت صلاة، منها المحددة ومنا الدائمة، وأوصاهم بالمحافظة عليها.
ويشار بالمناسبة إلى أنّه لا دخل للرسول أو لأحد من البشر كائنا من كان بهذه الآية، لا تشريعا ولا تغييرا ولا تبديلا ولا تحويلا، وكل من تطاول عليها من الفقهاء بالتعديل أو التغيير أو التحوير أو النّسخ، إلاّ ونصّب نفسه شريكا مع الله في التشريع، وكل من تبعه من المسلمين في ذلك يعتبر مشركا ضالا بالاتباع، بدليل قوله تعالى:
- {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} النساء : 116.
فالآية الكريمة 103 من سورة النساء تأمر المؤمنين بعدم التفريط في إقامة الصلاة وفق التوقيت المحدّد الذي شرّعه الله لها، لكن ما حدث وفق ما يخبرنا تعالى، هو أن هناك خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات لقوله:
- {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا} [مريم : 59].
والمقصود بهم، قوم جاؤوا بعد المُنعمين عليهم المذكورين في الآية 58 من سورة مريم. وهم: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيئين من ذريّة آدم وممّن حملنا مع نوح ومن ذرّية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرّحمن خرّوا سجّدا وبكيّا}.
وقد أجمع المفسرون، ومنهم الطبري وغيره، في أمهات التفاسير على أن إضاعة الصلاة لا تعني تركها بل تأخيرها وعدم أدائها في وقتها، لأن من لا يقيمها بالمطلق يدخل في زمرة من يكفرون بها. وبالتالي، فمن لم يُقم الصلاة المكتوبة في الأوقات التي حددها الله تعالى يكون قد أضاعها، وهي بخلاف الأوقات التي ابتدعها الفقهاء كما سيأتي تبيان ذلك، ولا توجد آية واحدة تتحدّث عن قضائها بعد فوات أوانها أو عن كفّارة التفريط بها، وكل ما يقوله الفقهاء في باب القضاء والكفّارة بالنسبة للصلاة هو محض هراء وافتراء، وتشريع بديل ما أنزل به الله من سلطان.
وكمثال على أهمّية عدم تفويت وقت الصلاة، ذكر لنا تعالى في التنزيل الحكيم قصة نبيّه سليمان عليه السلام فقال:
- {إذ عرض عليه بالعشيّ الصافنات الجياد * فقال إنّي أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي حتى توارت بالحجاب * رُدّوها عليّ فطفق مسحا بالسّوق والأعناق} ص :31 – 32 – 33.
والمعنى، أنه عُرض على نبيّ الله سليمان كهديّة بالعشيّ (وقت غروب الشمس)، مجموعة من الخيول الأصيلة والسريعة في الركض، فانشغل بها لأن نفسه أحبت الخير ومالت إليه، إلى أن فاته وقت صلاة المغرب، وهو الوقت الذي كان يقيم فيه الصلاة العمودية من خلال ذكر الله كما توضح الآية لقوله: (أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّي)، حيث غابت الشمس وحجبها الليل (توارت بالحجاب) ما يفيد فوات وقتها، فقال لأصحابه (رُدّوها) أي ردّوا الخيل عنّي لأنها ألهتني عن ذكر ربي في الموعد المحدّد (قبيل غروب الشمس)، وطفق هو وأصحابه يمسحون سوقهم والأعناق من الغبار الذي علق بهم استعدادا للصلاة. لكن الوقت كان قد فات، والزمن نهر يجري في اتجاه واحد، لا يقف ولا يعود إلى الوراء.
- والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو: كم صلاة فرض الله على عباده، وما هي أوقاتها وما هي طريقة أدائها؟
مواقيت ثلاثة لا خمسة
بخلاف ما زعمه الفقهاء من أن الله تعالى لم يبيّن أوقات الصلاة وطريقة أدائها في القرآن الكريم، فإن الآيات التي تتحدث عن إقامة الصلاة تذكر ثلاث مواقيت لإقامتها لا خمسة. وتبيّن بوضوح ما يقال فيها من ذكر وتسبيح ودعاء. ذلك أن الصّلة العمودية مع الله لا تقام إلا من خلال تلاوة الذكر الحكيم بتأنّي وخشوع، لدرجة أن يخرّ المؤمن على الأرض ساجدا، كرمز للتصديق والتسليم بما جاء فيه من حكمة وموعظة. والوقت الذي اختاره الله تعالى لذلك هو الليل لا النهار، لأنه الوقت الذي يكون فيه الإنسان خالي البال متفرّغا من أعباء النهار، لقوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]. ما يعني أن الأوقات الناشئة من الليل هي الأحسن لإقامة الصلة مع الله من خلال الذكر لفراغ البال واستعداد العقل للفهم والقلب للخشوع.
لكن ورغم ذلك، فإنك إذا سألت التراثيين عن عدد الصلوات التي فرضها الله تعالى على عباده أهي خمسة أم ثلاثة ؟.. فسيقولون لك: "إن الله فرض على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة، وهذا هو المعلوم من الدين بالضرورة، فمن أنكر ذلك فهو كافر خارج من ملة الإسلام، يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب، وإلا، قتل ردة من قبل السلطان" (من فتاوى فقهاء السنة والجماعة الواردة في كتب التراث).
وعلى هذا الأساس، فكل من خالف شريعة الفقهاء حتى لو تمسّك بشريعة السماء استنادا إلى كتاب الله، يُعتبر كافرا خارجا عن الملة، يُستتاب، وإن لم يتب عن اتباع دين الله والتمسك بدين الفقهاء بعد ثلاثة أيام فإنه يقتل (هكذا).
أما إذا جادلتهم في الأمر وطالبتهم بالسند القرآني الشرعي الذي يدعم زعمهم للقول بخمس صلوات بدل ثلاثة، فسيقولون لك: "لقد دلّ كتاب الله عز وجل على أوقات الصلوات الخمس، بقوله تعالى:
- {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} الإسراء : 78.
ووفق تفسيرهم المُتعسّف لهذه الآية الكريمة، فقوله تعالى (لدلوك الشمس) يعني زوالها. وقوله (إلى غسق الليل) أي إلى حلول ظلام الليل. وهذا ينص على إقامة الصلاة من الزوال إلى ظلام الليل، وهو دليل بالاستنباط العقلي على شمول التوقيت للظهر والعصر والمغرب والعشاء وفق زعمهم. أما قوله: "وقرآن الفجر" فيعني صلاة الفجر، هذا بالرغم من أن قرآن الفجر يعني تلاوة القرآن فجرا لا صلاة الفجر التي اعتبروها سنة فيما صلاة الصبح فرض بالرغم من أنها غير منصوص عليها في القرآن. فهذه خمسة أوقات للصلوات التي أمر الله عز وجل المسلمين بها حسب ادعائهم.
والحقيقة، أنه إذا لم يكن مثل هذا القول ليُّ واضح لعُنُق الحقيقة وتزوير فاضح لمعاني مفردات اللغة العربية، وتطاول على الله بتغيير معاني آياته، فلا حقيقة يُعتدّ بها في هذه الدنيا لا دينية ولا غيرها.
لأن السؤال الذي يطرح نفسه بالمناسبة هو: - إذا كان دلوك الشمس يعني لغة واصطلاحا زوالها عند نهاية النهار وقت المغرب، فكيف يفسّرون زوال الشمس بوقت الزوال الذي يعني الظهر، وإذا كان الزوال يعني الظهر فرضا فما الدليل على العصر؟
ثم هناك أمر آخر غاية في الأهميّة يتعلّق بأوقات الظهر والعصر، لأنه إذا كان الفجر والمغرب والعشاء لا يحتاجون لدليل من ساعة تدلّ عليهم، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة للظهر والعصر، خصوصا إذا علمنا أن المؤمنين زمن الرسل والأنبياء، وإبّان البعثة المحمديّة أيضا، لم يكونوا يستعملون الساعة، وبالتالي: - هل كان الناس يستدلون على أوقات الظهر والعصر بظل الشمس؟.. لأنه إذا كان الأمر كذلك فكيف يكون الحال عندما تغيّم السماء أو تمطر؟.. هذا علما أن الإسلام فرضه الله على العالمين في كل أصقاع الأرض باختلاف الأوقات والأماكن، وليس في شبه الجزيرة العربية فحسب، وجعله دين يُسر في متناول الجميع.
وواضح أن الآية التي يستندون إليها للقول بخمس صلوات تقول عكس ما ذهبوا إليه، لأن "دلوك الشمس" في اللغة العربية يعني زوالها من السماء لا انحرافها عن قبُّتها، وهو وما أكده الطبري في جامع البيان استنادا لعديد المرويات، منها ما ذكره ابن مسعود من أن دلوك الشمس هو وقت إفطار الصائم، أي غروبها. الأمر الذي يقطع الشك باليقين إن كان الأمر يحتاج أصلا إلى يقين ما دامت الآية واضحة، وتوضيح الواضحات من المُفضحات. ومعلوم أيضا أن الغروب هو الوقت الذي يبتدأ فيه اليوم بالمفهوم القرآني والمُكوّن من ليل ونهار عند المسلمين. و(غسق الليل) هو وقت حلول الظلام أي وقت العشاء، أما الفجر فلا يحتاج لدليل للقول بأنه وقت بزوغ أول خيط ضوء مُعلنا بداية طلوع النهار وفق تعريف القرآن لوقت بداية الصوم في الفجر. وليس الطبري وحده من قال بهذا بل جل المفسرين القدامى، وبالتالي، - فما محل وقت صلاة الظهر وصلاة العصر هنا من الإعراب؟.
مع ذلك، وبرغم أن القرآن الكريم أنزله تعالى بلسان عربي مبين، وبرغم أن ما استند عليه التراثيون من مرويات لتحوير معاني الكلمات القرآنية لا يستقيم مع منطق الدين وقواعد اللسانيات وما يعطيه الواقع، إلا أنّ التراثيين لم يجدوا من سبيل للنيل من القرآن الكريم غير القول بأنه ناقص، لأنه لم يفصّل للناس عدد الصلوات وأوقاتها وطريقة أدائها ممّا يستوجب الاستنجاد بالمرويات التي تعتبر مكمّلة للقرآن، إذ بدونها لن يعرف المسلم كيف يُصلّي. لكن لسوء حظّ هؤلاء المُدلّسين الذين يعرفون الحق ويحيدون عنه انتصارا للباطل، ها هو الرسول عليه السلام يدحض حجتهم ويفضح زيف قولهم بقوله في خطبة الوداع: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"؟. ومعلوم أن هذا القول سبق وأن أكّد صحّته بنفس الصيغة صاحب الدين في الآية 3 من سورة المائدة، وبالتالي، فلا خلاف ولا اختلاف بين قول الله وقول رسوله الأعظم عليه السلام، أما ما عدى ذلك من مرويات فقد وصفها تعالى بالظن الذي لا يغني عن الحق شيئا حتى لو نسبت زورا وبهتانا لرسوله الكريم، لقوله تعالى:
- {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحقّ قل الله يهدي للحقّ أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يُتّبع أمّن لا يهدي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون * وما يتّبع أكثرهم إلا طنّا وإن الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا إن الله عليم بما يفعلون) يونس : 35 – 36.
- والسؤال هو : - هل نتّبع الله الذي يهدي إلى الحقّ أم نتّبع من نصّبوا أنفسهم شركاء له يشرّعون للناس في الدين على هواهم وهوى حكامهم؟
بالرغم من أن الجواب واضح ولا يحتاج لطرح السؤال أصلا، إلا أنك إذا سألت من اتّبعوا شريعة الفقهاء بشأن عدد الصلوات وأوقاتها وطريقتها بدل اتباع ما جاء به القرآن في هذا الشأن، فستفهم من جوابهم الجاهز ما قصده تعالى بقوله:
- {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} المائدة : 104.
ذلك أنهم لا يستوعبون تغيير ما دأبت عليه الأمة في شأن الصلاة لقرون طويلة حتى لو خالف ذلك نصوص القرآن، لأن العادة تمثل بالنسبة لهم المنطقة الرمادية الآمنة بين شريعة الله وشريعة الفقهاء، وهذا لعمري هو حال أغلبيّة المسلمين الذين تلبّس عليهم الشرك بالإيمان فحق عليهم قوله تعالى:
- {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف: 106.
لأن من لا يُفرّق بين نصّ القرآن الذي هو قطعيّ الثبوت وقطعيّ الدلالة وبين نص المرويات الذي هو ظنّيّ الثبوت وظنّيّ الدلالة، فإما أنّه أمّي لا يفقه في الدين إلاّ ما تكرّم به عليه فقهاء القشور، أو أنه يعرف القراءة والكتابة لكنه لا يتدبّره بالعقل والبصيرة كما أمره تعالى، والفئة الثانية هي الغالبية العظمى من المسلمين، للأسف.
ولقطع الشك باليقين فيما له علاقة بعدد الصلوات المفروضة وأوقاتها، ها هي الآيات التفصيلية التالية تبيّن بوضوح ما شرّعه الله تعالى لعباده من الأمم السابقة واللاحقة إلى أن تقوم الساعة:
يقول جل جلاله في شأن طريقة وأوقات صلاة نبيّه داوود عليه السلام:
- {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أوّاب * إنا سخّرنا الجبال معه يُسبّحن بالعشيّ والإشراق} ص : 17 – 18.
فالله تعالى في هذه الآية الكريمة يوصي نبيّه محمد عليه السلام بالصبر على ما يقول المشركون، ويذكّره بنبيّ الله داوود ذا الأيد، أي ذا القوة والبطش الشديد، والذي برغم ذلك كان صبورا على قومه مطيعا لله، فكان إذا سبّح لله بالعشيّ (أي قبل غروب الشمس) وعند الإشراق (عند الفجر) إلا وسبّحت معه الجبال، وهذين هما الوقتين اللذان تقام فيهما الصلاة، أي وقت دخول العبد في صلة عموديّة مع الله تعالى، وأوضح وفق ما يفهم من هذه الآية الكريمة أن الصلة يجب أن تكون من خلال التسبيح، وهي لا تقتصر على نبيّ الله داوود فحسب، بل وتشمل الجبال أيضا، وفي آيات أخرى الطير وكل المخلوقات، وإن كان الإنسان لا يفقه تسبيحها، لكن الله تعالى خصّها من خلال الوحي بلغة لا يفهمها الإنسان، ودليل ذلك أن الله يوحي للنمل والنحل والطّير والشجر والحجر والبشر كلٌّ باللغة التي يفهمها، ومن كان يعتقد أن الجبال من الجماد الذي لا حياة فيه فعليه أن يصحّح فهمه، لأن العلم يؤكد اليوم أن الجماد يتحرك بالطاقة التي بثها تعالى فيه فيحدث ذبذبات لا ترى بالعين المجردة، ويتعلّق الأمر بنشاط الإشعاع النووي الضعيف الذي هو أحد القوى الفيزيائية الأربعة الأساسية التي لا تُرى إلا بالمجهر (Radioactivité)، والتي تُساهم إلى جانب الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية القوية، في التفاعل الكيميائي الذي يؤدّي إلى التّحوّلات الفيزيائية في المادة على المستوى الكوني وفق ما هو مُؤكّدٌ علميا من خلال التجارب التي أجريت على نظريات النسبية العامة والخاصة كما اكتشفها العالم ألفريد أينشتاين قبل أزيد من 90 سنة.
آيات دالة على الأوقات
إن الآيات التي تبيّن أوقات الصلاة التي شرّعها الله تعالى لأنبيائه ورسله من قبل كثيرة، منها:
يقول تعالى في شأن صلاة نبيّه زكريا:
- {قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألاّ تكلّم الناس إلاّ رمزا واذكر ربّك كثيرا وسبح بالعشيّ والإبكار} آل عمران : 41.
ويتعلّق الأمر بنفس الأوقات التي أمر تعالى نبيّه داود بالصلاة فيها، أي قبل مغرب الشمس وقبل الشروق، مع التأكيد على أن الصلاة لا تكون إلا من خلال الذكر أي قراءة القرآن والتسبيح كما في الآية السالفة، ولا وجود لحركات بهلوانية هنا.
ونفس المعنى يستفاد من أمر الله تعالى لرسوله موسى عليه السلام لقوله:
- {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} طه : 13 – 14.
والمعنى واضح، حيث أمر تعالى نبيّه موسى عليه السلام بأن يستمع لما يوحى إليه من ذكر كريم ويقيم الصلاة به، وهذا هو معنى (أقم الصلاة لذكري)، أي أقم الصلاة لتذكرني فيها بما أوحيت إليك من آيات، بدليل ما نصّت عليه الآية 13 من سورة طه التي سبقت الأمر بإقامة الصلاة الوارد في الآية 14 من نفس السورة.
وهذا يعني أن الأنبياء لا يُغيّرون ولا ينقصون ولا يزيدون ولا يذكرون في صلاتهم ما لم يشرّعه الله لهم، بل يتّبعون ما أمر به تعالى بإخلاص وتفاني، ويخضعون له خضوعا تامّا، ويسلّموا له تسليما بما يعنيه ذلك من تصديق وطّاعة. هذا الأمر لم يتغيّر طوال تاريخ الرسل والرسالات وفق القرآن، بل حتى النبي محمد عليه السلام أمره الله تعالى بشكل واضح لا لبس فيه بأن يتبع ملّة جدّه إبراهيم الخليل أبو الرسل والأنبياء وصاحب العهد والوعد فيما يتعلق بطريقة العبادة التي عبّر عنها القرآن بالملّة، أي الطريقة وفق ما ورد في عديد الآيات.
ولم يأمر تعالى رسوله الخاتم بالصلاة في أوقات غير تلك التي شرعها للأنبياء والرسل والأمم من قبله، بدليل قوله تعالى:
- {ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه} الأنعام : 52.
- {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه} الكهف : 28.
والمعنى واضح، إذ يشير إلى أمر الله لرسوله محمد كما فعل مع نبيّه داود وغيره من الأنبياء والرسل عليهم السلام جميعا، بأن يُصبِّر نفسه مع الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي، أي في نفس الأوقات الذي شرّعها تعالى للصلاة بالنسبة للأنبياء والأمم السابقة، ولم يشرّع لرسوله محمد عليه السلام صلاة خاصة به وبقومه في أوقات مختلفة عن تلك التي ذكرها تعالى، وإلا لكان ذكر ذلك في القرآن الكريم الذي لم يفرط في شيىء وجاء تبيان لكل شيىء، اللهم إلا ما ورد في سورة المزمّل في بداية الدعوة بمكة وتم التخفيف منه بعد ذلك، وهي عبادة خاصة بالرسول في بداية نزول الوحي ولا علاقة لها بغيره من المؤمنين كما سنأتي على ذكر ذلك في حينه.
أما ما عدى ذلك، فقد أمر تعالى رسوله الخاتم عليه السلام بإقامة الصلاة مع تبيان أوقاتها كما سبق وأن فعل بالنسبة للأنبياء السابقين، لقوله:
- {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفى من الليل} هود 114
ومعلوم أن "طرفي النهار" هما بداية النهار ونهايته، أي الغداة صباحا والعشي مساء، ومثال ذلك طرفي الخيط: أي أوله وآخره، وهو ما يعني وقت الفجر ووقت المغرب، ثم يضيف تعالى وقتا آخر سماه (زلفا من الليل)، أي ساعة يظلم الليل في أوّله، والإشارة هنا إلى صلاة العشاء. فجمع تعالى في هذه الآية الصلوات الثلاثة المفروضة وبيّن أوقاتها بالتحديد، ولم يذكر غيرها كالظهر والعصر التي قال بها التراثيون دون سند من كتاب الله، ونسبوها زورا وبهتانا لنبيّ الله والنبيّ منها براء، لأنه عليه السلام يستحيل أن يشرّع لقومه ما لم يشرّعه لهم الله في قرآنه.
وهناك عديد الآيات التي تتحدث كلها عن نفس أوقات الصلاة، منها قوله تعالى:
- {فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبحه وأطراف النهار لعلك ترضى} طه : 130
في هذه الآية أيضا يؤكد تعالى على أوقات الصلاة، ويطالب رسوله الأعظم عليه السلام بأن يسبّح بحمد ربّه قبل طلوع الشمس، أي في الفجر. وقبل غروبها، أي قبل المغرب بقليل. وهي الأوقات المُعبّر عنها بأطراف النهار، أي بداية النهار ونهايته كما سبق القول.
وقوله تبارك وتعالى:
- {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} الإسراء : 78
ويؤكد تعالى في هذه الآية على نفس أوقات إقامة الصلاة العمودية بين العبد وربّه. ويضيف إلى ذلك التذكير بأهمية قراءة القرآن في الفجر، نظرا لما لهذه القراءة من أجر عظيم، لأن الملائكة تشهد على العبد الذي يُؤدّيها. مع الإشارة إلى أن القراءة ليست هي التلاوة، لأن الأولى تعني الدراسة من خلال التدبّر للفهم والعمل بما فهمه الإنسان من الذكر الحكيم. فيما التلاوة تعني العرض الشفوي للنص بهدف التبرّك دون فهم وتدبر.
وقوله جل جلاله:
- {وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود) ق : 39
وهنا أيضا يؤكد تعالى على نفس أوقات الصلاة، ويضيف إليها صلاة الليل التي هي العشاء، ثم النافلة بعدها. والتي أشار إليها بأدبار السجود، لقوله تعالى لرسوله الكريم:
- {ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك الله مقاما محمودا} الإسراء : 79.
أي أن يُصلّي الرسول بعد العشاء نافلة يتهجّد فيها بالذّكر والتسبيح والدعاء (وفق ما يعطيه معنى التهجّد)، عسى أن يبعثه الله تعالى يوم القيامة المقام المحمود الذي وعده. ولم يأتي تعالى على ذكر الشفع والوثر وخلافه، بل فقط نافلة تُؤدّى بعد العشاء. أما قوله تعالى: (وأدبار السجود) فمعناه أن يُسبّح العابد بحمد ربّه بعد آخر سجدة من النافلة. لأن أدبار السجود هي آخر السجود ولم يذكر الله في الصلاة شيئا عن الركوع.
وقوله سبحانه:
- {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبّحوه بكرة وأصيلا) الأحزاب : 41 – 42.
بعد أن كان تعالى في الآيات السالفة يوجّه أوامره مباشرة لرسوله الكريم، ها هو هنا في هذه الآية الكريمة يتوجّه بالخطاب مباشرة لعباده الذين آمنوا برسالة محمد عليه السلام، ليأمرهم بنفس ما أمر به رسوله الكريم، أي بذكر الله الذي لا يكون إلا من خلال القرآن والتسبيح، والذي يعني التعظيم والتبجيل والحمد والشكر وما إلى ذلك من ذكر لبعض أسماءه الحسنى وصفاته العليا، وذلك في الأوقات المُحدّدة التي عيّنها لهم.، لقوله: {بكرة وأصيلا}.
وقوله تعالى:
- {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار} [غافر : 55].
هذه الآية أيضا تحمل نفس المعنى الذي أكّد عليه تعالى في الآيات السالفة. لا فرق ولا اختلاف في التوقيت.
وتجذر الإشارة من باب التذكير، إلى أن هذه الآيات التي حدّد فيها تعالى مواقيت الصلاة بدقّة تعتبر تفصيلا وتبيانا للآية المحكمة التي انطلقنا منها، لقوله تعالى:
- {ن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء : 103].
وهذا هو معنى أن القرآن يفسّر بعضه بعضا، أي أن فهم المتشابه الذي هو تفصيل للمحكم لا يكون إلا بالتأويل، أي برد معنى المتشابه إلى المعنى الأول الذي يعطيه المحكم لفهم مدلوله الحقيقي، ومن ثم معرفة المراد من خطاب الله تعالى لعباده بسهولة ويسر، وهذا هو معنى قول الرسول الأعظم عليه السلام (إن القرآن يفسّر بعضه بعضا).
ونأتي الآن إلى سرّ الأسرار واللغز الخفيّ الذي فات التراثيين، فأسقط كل مزاعمهم حول مواقيت الصلاة في سلّة الخطأ الجسيم، الأمر الذي يكشف زيف ادعاءاتهم، وزور افتراءاتهم على الله ورسوله. ويتعلّق الأمر بسورة المُزمّل. هذه السورة العظيمة التي تعتبر من أوائل السور المكيّة التي نزلت على الرسول عليه السلام في بداية الدعوة. وسمّيت بالمزمل للدلالة على أهمّية الوحي الذي نزل على محمد، هذا فيما أقوى المخلوقات كانت تخاف وترتعد من وطيء القرآن باعتباره كما وصفه تعالى {قولا ثقيلا} لا قِبل لأحد بحمله، والمزمّل كالمدثّر الذي يُتغطى من شدّة قشعريرة الحمّى. بدليل أنه بعد نزول أول سورة على محمد عليه السلام، ذهب إلى بيته متوترا وهو يرتعد ويقول لزوجته خديجة رضي الله عنها: "زملوني.. زملوني" أو "دثروني.. دثّروني" حسب اختلاف الروايات. أي لفّوني وغطّوني. فناداه تعالى أول مرة من خلال الملاك بقوله {يا أيها المُزمّل}، آمرا إياه بالانقطاع لعبادة الله وهجران قومه. وناداه في الثانية بـ {يا أيها المدثر}، آمرا إياه بالنهوض والبدء بنشر الدعوة لقوله تعالى: {يا أيها المدثّر * قم فأنذر} المدثر: 1 - 2.
وحيث أن ما نحن بصدده في هذا المقام هو قضية الصلاة العموديّة التي تعني الصلة مع الله، فوجب التوضيح أن الله تعالى أمر رسوله الكريم في سورة المُزمّل بما يلي:
- {يا أيّها المُزمّل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا * إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا * إن لك في النهار سبحا طويلا * واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه تبتيلا * ربّ المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتّخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) المزمّل : من 1 إلى 10.
وواضح أن أمر الله تعالى لرسوله الكريم في الشطر الأول من سورة المزمل، وقبل حتى أن يبدأ الجهر بالدعوة، كان بإقامة الصلاة العمودية. وحدد له وقتها ليلا دون النهار. لأنه الوقت الأكثر سكونا وهدوء. ففيه تكون العبادة أكثر صفاء، والنفس أكثر هدوء والقلب أكثر استعدادا للخشوع. ومعلوم أن الليل هو الوقت الذي تنتهي فيه مشاغل الإنسان وسعيه لضمان معيشته، فيركن لنفسه ويكون فارغ البال.
كما أمر تعالى رسوله الكريم في نفس الاية، بالصبر على ما يقول المكذّبون، وأن يستعين بالصلاة والتوكّل على الله، وأن يهجر قومه هجرانا جميلا إلى أن يتشبّع قلبه بالإيمان بفضل قيام الليل، فيكون أكثر استعدادا للجهر بالدعوة. ولهذا السبب انقطع الوحي على الرسول الكريم عليه السلام سنة كاملة بعد نزول الشطر الأول من سورة المُزمّل، تحضيرا له نفسيّا لما هو آت من متطلبات الدعوة.
وإذا كانت هذه الآية تدلّ على أن الرسول عليه السلام قد بدأ الصلاة باكرا جدا في مكة مع بداية نزول الوحي، وبالطريقة التي كان يصلّي بها أقرانه من الرسل والأنبياء من قبل. مع التفرّغ أكثر والانقطاع بشكل تام لعبادة الله ليلا وترك كل شيء سواها، فلأن معنى التبتّل هو الانقطاع التّام لعبادة الله، ولذلك سمّيت مريم بـ "البتول" لانقطاعها إلى الله وليس لعذريتها كما فسّر ذلك بعض فقهاء القشور.
وبالتالي، فالسؤال الذي يُطرح بالمناسبة هو: - إذا كانت سورة المزمّل تفيد في شطرها الأول تخصيص الليل للصلاة، فماذا عن النهار؟.
وهنا المفاجأة الكبرى، ذلك أن الله تعالى يقول لرسوله الكريم من خلال الآية 7 من نفس السورة: {إنّ لك في النّهار سَبْحًا طويلا}.
ومعنى ذلك بالعربي الفصيح والكلام الواضح الصريح، أن النهار جعله تعالى مُخصّصا لمهمّات العيش والسّعي من وراء الكسب الحلال. والسّبح الطّويل هو غير التّسبيح، ذلك أن التسبيح هو ذكر لله من قبيل التّعظيم والتّبجيل والتّمجيد والتّنزيه والتّحميد والشكر، أما السّبح فمعناه لغة المشي السّريع فوق الماء (سباحة)، أمّا اصطلاحا فمعناه السّعي للكسب، والسبح الطويل في النهار كما ورد في الآية الكريمة هو كناية عن السباحة والغور في بحار الدنيا للكسب باستعمال الأيادي والأرجل. لأنه بسبب هذه الضرورات المعيشية الملحّة، والمسؤوليات الحياتية الكثيرة، لا يستطيع الإنسان التفرّغ لربه والخشوع في عبادته نهارا، هذا مستحيل، وهذا هو السبب الذي خصّ تعالى الليل للصلاة لأنه الوقت الذي يفرغ فيه الإنسان من عمله حيث يكون التبتّل والخشوع ممكنين. وجعل النهار مُخصّصا للسعي ليتيح للإنسان فرصة كسب معيشته وتنمية إمكاناته والمساهمة في عمار الأرض والإكثار من العمل الصالح الذي ينفع الناس من خلال الصلة الأفقية مع المجتمع والتي تحدثنا عنها في الجزء الثاني من هذا البحث. لأن العبادة من خلال الصلاة العمودية لا تنفع إلا صاحبها، لذلك لا يعتبرها القرآن من العمل الصالح الذي ينفع الناس كالصلاة الأفقية كما سيأتي تبيان ذلك من القرآن عند الحديث عن مفهوم الإيمان في بحث آخر بحول الله.
وهذا هو معنى أن الله لم يجعل لنا في الدين من حرج، وهو ما يؤيّده بقوة قوله تعالى: {وإذا فرغت فانصب وإلى ربّك فارغب} الشرح: 7 – 8.
أي إذا فرغت من عملك في النهار، فانتصب عابدا في الليل، وارغب إلى ربّك دون سواه، وليس كما فسرها البعض بقولهم إذا فرغت من الصلاة فارغب في ذكر الله وتسبيحه، هذا تفسير لا يستقيم مع المبنى ولا يحتمله المعنى الذي يعطيه السياق.
وهنا يلتقي معنى الآية 7 من سورة المزمل مع معنى الآيتين [7 - 8] من سورة الشرح بشكل واضح وجميل، ليكمّل بعضهما بعضا قطعا للشك باليقين.
والغريب، فهو نفس المعنى الذي قال به كبار الفقهاء في أمّهات التفاسير بشأن تفسيرهم لكلمة "السّبح الطويل". فها هو الطبري أشار في تفسير الآية 7 من سورة المزمّل في (جامع البيان)، إلى أن أهل التأويل قالوا بنفس قوله، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم، بحيث لم يخالف أحد من الرواة والمفسّرين القدامى ذلك، وأجمعوا على ان المقصود بـ "السَّبْحِ الطويل" في النهار هو السعي الكامل والتفرّغ للعمل والكسب.
وإلى نفس المعنى ذهب ابن حجر الهيثمي في كتابه "تحفة المحتاج لشرح المنهاج" في شرحه للآيتين [6 - 7] من سورة المزمل حيث قال: "إنه لم يكلّف الناس في البداية إلا بالتوحيد فقط، ثم فرض الله عليهم من الصلاة ما نزل في سورة المزمل". أي ما كان يقوم به النبي محمد فقط من صلوات قيام الليل والذي خفّفه تعالى بعد حين بقيام نصف الليل، وتخصيص النهار للسعي والكسب.
وذكر الفقيه الظاهري الرّازي في "مفاتيح الغيب" عند شرحه للآية 7 من سورة المزمل: "أن سبحا تعني تقلبا فيما يجب ولهذا سمّي السابح سابحا لتقلُّبه بيديه ورجليه، ويعني ذلك أن لك في النهار تصرّفا وتقلّبا في مهماتك المعيشية فلا تتفرّغ لخدمة الله إلاّ باللّيل، لهذا السبب أمرتك بالصلاة في اللّيل".
وإلى نفس المعنى ذهب كل من الزمخشري في "الكشّاف"، والقرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"، والبيضاوي في "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، والمحلى والسيوطي في "تفسير الجلالين"، والشوكاني في "فتح القدير".
أمّا ابن كثير شيخ المفسرين السنة، فقال في تفسير الآية 7 من سورة المزمل حسب ما ذكر في مؤّلّفه "تفسير القرآن العظيم" ما مفاده: "إن الله تعالى أمر رسوله بالإكثار من ذكره، والانقطاع إليه، والتّفرغ لعبادته، فإذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب * وإلى ربّك فارغب} الشرح: 7 – 8. أي إذا فرغت من أشغالك في النهار، فانصب لطاعته وعبادته ليلا حين تكون هادئا فارغ البال". واستشهد بالمناسبة بنفس المعنى أو قريب منه الذي قال به ابن زيد، وابن عباس، ومجاهد، وأبو صالح، وعطية، والضحاك، والسدي، لأن الإخلاص في العبادة (يقصد به الخشوع) لا يكون إلا في الليل لقوله تعالى: (واذكر اسم ربّك وتبتّل إليه تبتيلا) المزمّل: 8، أي أخلص له وتوكّل عليه وانقطع إليه في العبادة بخشوع.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: - كيف يمكن لله سبحانه وتعالى عمّا يصف الجاهلون علوّا كبيرا، أن يناقض نفسه بحيث يُخصّص الليل للعبادة والنهار للسعي والعمل كما أكد في الآيتين 6 و7 من سورة المزمّل والآيتين 7 و8 من سورة الشرح، وفي نفس الوقت يفرض على عباده صلاة الظهر وصلاة العصر، في حين أن هاتين الصلاتين لا وجود لذكرهما في القرآن الكريم؟.
لأنه إذا كان كبار فقهاء التفسير من أهل السنة والجماعة، قد قطعوا الشك باليقين حين أوضحوا أن الله خص النهار للعمل والليل للعبادة كما سبق القول: - فمن أين جاءت صلاة الظهر وصلاة العصر إذن؟.
بالعودة إلى القرآن الكريم، نجده تعالى يقول في الآية 58 من سورة النور:
- {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} النور : 58.
وحسب ما جاء في أمهات التفاسير أيضا، وخاصة عند الطبري الذي يعد الأقرب إلى مرحلة النبوة والأكثر موضوعية في تفسيره للقرآن وتأويله للحادثات التاريخية، فإن الله تعالى خصص للمؤمنين عورات ثلاثة موجبة للاستئذان قبل الدخول، لأنه خلال هذه العورات يخلع المؤمن ثيابه، ويمكن أن يجامع زوجته، وبالتالي، فمن غير اللائق أن يدخل عليه في حرَمِه أحد من الخدم أو أحد ممّن لم يبلغ الحلم من أهله، وهذه الأوقات التي حددها الله تعالى هي: بعد صلاة العشاء، وقبل صلاة الفجر وعند الظهيرة حين يضع المسلم ثيابه بعد انتهاء عمله ليخلد للراحة)، خصوصا في جو شبه الجزيرة العربية شديد الحرارة حيث كان الناس ينامون ساعة القيلولة. وبالتالي، فالوقت بين صلاة العشاء وصلاة الفجر يعتبر عورة، وكذلك وقت الظهيرة، ذلك أن الله تعالى لم يقل بعد الظهيرة بل قال {حين تضعون ثيابكم من الظهيرة}، والتي هي وقت راحة من التعب يوافق نهاية يوم عمل عند العرب في المشرق، لا وقت صلاة كما هو معلوم تاريخيا واجتماعيا ودينيا أيضا.
- والسؤال الذي يطرح بالمناسبة هو : - لماذا شرع التراثيون لأمة محمد خمس صلوات بطقوس غريبة بدل ثلاثة يقرأ فيها القرآن ويذكر فيها الله بالتسبيح، وهي نفس الصلاة والأوقات التي شرّعها الله تعالى لعباده كافة باختلاف الرسل والأمم عبر العصور والدهور وفق ما يؤكد القرآن؟
الجواب يكمن في السياسة لا في الدين، لأن الحقيقة التاريخية تقول، أن الفقهاء ولأسباب سياسية زمن بنو أميّة وبنو العبّاس.. أرادوا أن يشغلوا الناس بالصلاة في المساجد في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، لأنها الوسيلة الوحيدة التي كان الحكام من خلالها يعرفون من يُؤيدهم فيأتي للصلاة في المسجد، ومن لم يكن يأتي إلى صلاة الجماعة في المسجد كان يُعتبر من المعارضين للسلطة القائمة، فيتم اعتقاله وقتله، وخصوصا ظهر الجمعة، وهي الصلاة التي سنأتي على ذكرها للوقوف على شرعيتها ومشروعيتها من عدمهما.
وبسبب هذا الوضع الذي خلقه الفقهاء بالافتراء على الله ورسوله، تحوّل المسلم إلى كائن غير منتج يعيش تجربته الدنيوية بوجهين: وجه لله ووجه للسلطان، لأنه يقضي الليل في النوم والنهار في الصلاة بالمسجد، في حين أن الله خص له النهار للعمل والإنتاج والعطاء، أي للعمل الصالح ليزدهر ويتقدم، فيتحوّل إلى مؤمن قوي وغنيّ بدل أن يتحوّل إلى مسلم ضعيف وفقير، لا ينتج سوى الجهل والتفاهة، ويستجدي حاجاته من الغير، خصوصا الأمم التي لا تدين بعقيدته، متسائلا في بلاهة: "عن سبب تقدّم الأمم وتأخّر أمّته.."
وهذا معناه بالمحصلة، أن المسلم الذي يدين بدين الفقهاء بدل دين السماء، لا يمكن أن يفهم لا الدين ولا الدنيا للأسف، بسبب سيطرة التراثيين على عقله، وتنصيب أنفسهم حراسا لعقيدته، وتخويفهم له بعذاب القبر، والحرق في النار إذا ترك الصلاة التي يعتبرونها عماد الدين، فيما يعتبر الله تعالى في قرآنه، الإيمان بالله، واليوم الاخر، والعمل الصالح الذي ينفع الناس، هو جوهر الدين وعماده، وهي الأركان الثلاثة التي على أساسها سيحاسب العبد يوم الدين باختلاف أمته أو الرسول الذي يتبعه وفق ما يؤكد تعالى في الاية 62 من سورة البقرة لقوله:
- {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
يتبـــع...

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق