الأحزاب السياسية المغربية: أكبر عائق أمام الديموقراطية



(تحليل سياسي) 

تمهيـــد:

   في سياق التحولات السياسية العالمية، غالبًا ما يُوصف المشهد السياسي المغربي بـ "الديمقراطية الصورية" أو "ديمقراطية الواجهة". يشير هذا المفهوم إلى وجود مؤسسات ديمقراطية شكلية مثل البرلمان، والحكومة، والأحزاب السياسية، لكنها لا تمتلك سلطات حقيقية فعالة في صنع القرار. وبدلاً من ذلك، تظل السلطة الفعلية متركزة في يد المؤسسة الملكية (الصندوق الأسود). تُعدّ هذه الديمقراطية مجرد واجهة يستخدمها النظام لضمان الشرعية الداخلية والخارجية، وإظهار التزامه بالإصلاحات السياسية دون المساس بجوهر البنية السلطوية التي يمثلها أو بمواقع القوى الاقتصادية التي يدعمها.../...


ففي حين تتيح الانتخابات للمواطنين فرصة المشاركة، يظل نطاق سيطرة المؤسسات المنتخبة محدودًا، خاصة فيما يتعلق بالقرارات الاستراتيجية الكبرى التي تتعلق بالسياسة الخارجية، الداخلية، الاقتصادية، الاجتماعية، الدينية، الثقافية، القضائية، الأمنية، والدفاعية. هذه الصورة الديمقراطية الشكلية تهدف إلى امتصاص الغضب الشعبي، وإدارة التوترات الاجتماعية، وتقديم نموذج يبدو حديثًا ومتطورًا من حيث الظاهر، بينما يبقى جوهر النظام السياسي قائمًا على أساس هرمي تقليدي ينتمي لعصر غير العصر.../...


1. مقدمة

   إشكالية الديمقراطية والأحزاب في المغرب: بين الشرعية النظرية والوظيفة الفعلية

يُعَد النظام السياسي المغربي نموذجًا فريدًا في دراسة العلاقة بين المؤسسات التقليدية والحديثة، حيث تجمع بنيته بين نظام ملكي متجذر تاريخيًا ودستوريا، وبين مؤسسات تمثيلية حديثة كالأحزاب والبرلمان والحكومة. ورغم أن وجود الأحزاب السياسية يُعتبر مؤشرًا أساسيًا على التعددية والديمقراطية في أي نظام سياسي، إلا أن تحليل دور هذه الأحزاب في المغرب يكشف عن تناقضات عميقة تحول دون تحقيق "ديمقراطية حقيقية"، تتجاوز مجرد وجود صناديق الاقتراع وتعدد الأحزاب، لتشمل آليات فعالة للتداول على السلطة، ومراكز قرار مستقلة، ونظامًا حقيقيًا للمحاسبة، وتمثيلاً أمينًا لتطلعات الشعب. 


1.1. الديمقراطية الحقيقية: المفهوم والإشكالية في السياق المغربي

يكمن التحدي الأساسي في النظام السياسي المغربي في ازدواجية الشرعية. فالنظام يتبنى شرعية ديمقراطية مستمدة من الانتخابات والتمثيل الشعبي، لكنه يضعها في تراتبية واضحة تحت شرعية ملكية تاريخية ودينية، تتمتع بـ "السمو" و "التعالي"، وتنفرد بـ "سلطات تنفيذية فعلية". يعكس الدستور المغربي هذه التراتبية بوضوح، حيث يُمنح الملك سلطات واسعة في تعيين وإعفاء أعضاء الحكومة، وحل مجلسي البرلمان. هذه الصلاحيات تجعل المؤسسات المنتخبة، رغم شرعيتها الشعبية الشكلية، رهينة لإرادة المؤسسة الملكية، مما يجعل مصيرها خاضعا لها.   

هذا الوضع يفسر لماذا يمكن أن تتحول الأحزاب، التي يُفترض أن تكون فاعلاً محوريًا في الحياة السياسية، إلى مجرد أدوات تابعة للنظام. بدلًا من أن تكون قنوات للتعبير عن مطالب المجتمع، فإنها تصبح، في الواقع، جزءًا من الدائرة الواسعة التي تعمل على "مراقبة الرأي العام ودعم التوجهات الرسمية" وخدمة "الاستقرار القسري للسلطة". هذا التحول الوظيفي يفرغ العملية الديمقراطية من جوهرها، ويُحوّل التعددية إلى مجرد واجهة لا تعكس تداولاً حقيقيًا على السلطة أو استقلالية في القرار.  


1.2. نبذة تاريخية عن الأحزاب السياسية في المغرب: 

من النضال الوطني إلى التشرذم الحزبي

لم تظهر الأحزاب السياسية في المغرب دفعة واحدة، بل مرت بتطورات تاريخية شكلت هويتها ووظيفتها الراهنة. تعود الجذور الأولى للحركة الحزبية إلى فترة الحماية، حيث تشكلت أحزاب وطنية بهدف مقاومة الاستعمار والدفاع عن الشعب المغربي. على الرغم من أن أول تجربة حقيقية لتشكيل حزب سياسي قد أُجهضت من قبل سلطات الحماية، إلا أن المحطة الثانية بدأت بعد مؤتمر أنفا عام 1942، لتُفرز أحزابًا بارزة مثل حزب الاستقلال الذي تأسس فعليا في 11 يناير 1944 بمناسبة تقديم وثيقة المطالبة بالإستقلال، وحزب الشورى والاستقلال الذي أسسه بلحسن الوزاني.

بعد الاستقلال، تغير المشهد الحزبي، ودخلت الأحزاب في مرحلة جديدة من التنافس على السلطة. شهدت هذه الفترة انقسامات وتأسيسات جديدة، كان أبرزها انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال في عام 1959، ثم انقسام الحركة الشعبية إلى حزبين في عام 1966.  

وفي مرحلة لاحقة، برزت ظاهرة "أحزاب الإدارة المصطنعة" التي أنشأتها السلطة الرسمية (زمن الحسن الثاني بفضل هندسة وزير الداخلية القوي آنذاك ادريس البصري). الأمر الذي حدى بالأحزاب الوطنية التاريخية إلى لعب دور المعارضة من داخل البرلمان. كانت هذه الأحزاب الإدارية قريبة من الجهاز الإداري (الداخلية أو "أم الوزارات")، ولا تدعي ارتباطًا بأيديولوجيا عابرة للحدود، بل كانت قريبة من أجندة القصر. وتشمل هذه الأحزاب الاتحاد الدستوري الذي أسسه رئيس الوزراء الراحل المعطي بوعبيد عام 1983 بإيعاز من القصر، والحزب الوطني الديمقراطي الذي انشق عام 1981 عن التجمع الوطني للأحرار الذي أسّسه صهر الملك الحسن الثاني أحمد عصمان سنة 1978، وهو حزب ليبرالي من يمين الوسط، ينعت بأنه حزب «النخبة» (البرجوازية الصناعية والتجارية)، لأن جل كوادره أعيان محليين أو رجال أعمال أو كوادر إدارية صنعتها السلطة لتقوي بها محيطها السياسي والإقتصادي.

هذه "الهندسة الحزبية"، التي هدفت إلى تشجيع تأسيس عدد كبير من الأحزاب تباعا، أدت إلى تفتيت المشهد السياسي ومنعت أي حزب من الحصول على أغلبية مريحة. نتيجة لهذا التشرذم، تتشكل منذئذ الحكومات من ائتلافات ضعيفة ومتعددة الأطراف، يسهل على السلطة العليا التحكم فيها وتوجيهها. هذا المسار يحول الأحزاب من فاعلين مستقلين إلى مجرد "ملحقات سياسية" للنظام، مما يفرغ الديمقراطية من محتواها ويجعلها مجرد أداة لتسويق منتجات السلطة السياسية.


2. العوائق الداخلية للأحزاب: 

أزمة البنية وضعف التمثيل

إن الأزمة التي تعاني منها الأحزاب السياسية في المغرب ليست خارجية فقط، بل تنبع أيضًا من ضعف بنيوي داخلي يمنعها من أداء دورها بفعالية. هذا الضعف يتجلى في غياب الديمقراطية الداخلية وفي فشلها في تأطير المواطنين.


2.1. غياب الديمقراطية الداخلية والنزعة الانقسامية

تتميز الأحزاب السياسية المغربية بنزوعها الدائم نحو الانقسام والانشقاق بدلاً من التكتل والتوحد بسبب الصراع على الزعامة. تعود هذه الظاهرة إلى مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية، أبرزها غياب الديمقراطية الداخلية بالإضافة إلى العقلية الانتهازية التي يتميّز بها قادتها. فالمعطيات التاريخية تشير إلى عدم احترام دورية عقد المؤتمرات الحزبية، وغياب التناوب على القيادة، وضعف آليات اتخاذ القرار داخل الحزب.  

إن الافتقار إلى هذه الآليات الديمقراطية يؤدي إلى تفاقم النزاعات الداخلية، التي غالبًا ما تُحل بالانشقاق وتأسيس أحزاب جديدة، بدلاً من معالجتها بالطرق المؤسساتية. هذا التشرذم المستمر يضعف الأحزاب بشكل كبير، ويحولها إلى "دكاكين سياسية" بدلاً من مؤسسات تخدم قضايا الأمة. 

إن الحزب الذي لا يستطيع تطبيق مبادئ الديمقراطية على نفسه لا يمكنه أن يساهم في إرسائها على المستوى الوطني. 

تُظهر القائمة التالية بعضًا من مظاهر هذه الأزمة الداخلية:  

الانشقاقات المتكررة: ظاهرة مشتركة بين كل الأحزاب السياسية.   

غياب التناوب على القيادة: نفس الوجوه تسيطر على قيادة الحزب لسنوات بل             ولعقود طويلة.   

ضعف الهيئات التقريرية: القرار يُتخذ من قبل الأقلية الحزبية أو "لجان الوجهاء".  

المال الحرام وشراء الذمم: بعض الأحزاب تبني تمثيليتها على أساس المال غير               المشروع، مما يؤثر على نزاهة العمل السياسي.  


2.2. فشل في التأطير السياسي وفقدان ثقة المواطن

من الوظائف الأساسية للأحزاب السياسية تأطير المواطنين، وتمثيلهم في المؤسسات التشريعية، وتوعيتهم بالقضايا العامة. إلا أن الأحزاب المغربية تواجه فشلاً واضحًا في هذا المجال، مما أدى إلى تراجع ملحوظ في ثقة المواطنين بها. يشير تحليل أسباب هذا الفشل إلى عدة عوامل متداخلة:   

- أولاً، هناك فقدان لـ "النزاهة والانضباط" لدى معظم الأحزاب. فالمواطن المغربي يلمس الفارق بين "وعودها الانتخابية السخية" وبين قدرتها الفعلية على تنزيل "رؤيتها الإصلاحية" في أرض الواقع. يظهر هذا العجز بوضوح في مواجهة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، مثل الارتفاع المتنامي لأسعار المواد الغذائية وتراجع القدرة الشرائية على سبيل المثال لا الحصر، ناهيك عن إصلاح قطاع الصحة، والتعليم، والقضاء، ومحاربة الفقر، والبطالة، ومكافحة الفساد. حيث لا يرى المواطن من الأحزاب سوى ظهورًا محتشمًا وبيانات دعائية من باب رفع العتب، مما يؤدي إلى تزايد الاستياء الشعبي وتراجع الثقة بشكل لافت. 

- ثانيًا، إن هذا العجز ليس مجرد فشل في الأداء، بل هو انعكاس لعدم امتلاك الأحزاب للقدرة الحقيقية على اتخاذ القرارات أو التأثير في السياسات الكبرى. عندما يدرك المواطن أن هذه الأحزاب لا تملك نفوذًا فعليًا، فإنه يبتعد عن العملية السياسية ككل، مما يؤدي إلى تراجع المشاركة في الحياة النظامية لشعوره بضعف الانتماء إلى الوطن. هذا الانسحاب الشعبي يمنح الأحزاب الضعيفة أو الفاسدة فرصة للاستمرار، ويُغني النظام عن الحاجة إلى مساءلة حقيقية، مما يؤكد أن الأحزاب في حالتها الراهنة هي عائق رئيسي أمام الديمقراطية الحقيقية. 

  

3. العوائق الهيكلية: 

سيطرة "المخزن" وقمع الاستقلالية

تُعد العلاقة المعقدة بين الأحزاب السياسية ومركز السلطة، أو ما يُعرف بـ "المخزن"، المحدد الأبرز لدور الأحزاب في الحياة السياسية. هذه العلاقة ليست مجرد شراكة، بل هي نظام للسيطرة يُحوّل الأحزاب إلى أدوات تنفيذية.


3.1. هندسة المشهد الحزبي: 

منطق السيطرة والتطويع

"المخزن" هو نظام تقليدي متجذر، معقّد وغير شفاف، يتجاوز كونه مؤسسة رسمية، ليصبح شبكة معقدة من المصالح والولاءات التي تتحكم كأخطبوط في مفاصل الدولة. يمكن فهم هذا النظام من خلال ثلاث دوائر متداخلة للسيطرة، كل واحدة منها تقوم بدور محدد في الحفاظ على النظام وحماية مصالح السلطة العليا.   

تتكون هذه الدوائر على الشكل التالي:

"الدائرة الضيقة"، التي هي العقل المدبر وصانع القرار النهائي، وتضم الديوان الملكي والمقربين من الملك. وهي المسؤولة عن تحديد الأولويات في السياسات الكبرى الداخلية والخارجية، واتخاذ المواقف الاستراتيجية دون أي مساءلة.   

"الدائرة المتوسطة"، التي تضم رؤساء الأجهزة الأمنية والاستخبارات ووزراء السيادة ورجال الأعمال المقربين من القصر، ودورها هو تنفيذ الرؤية العليا وتحويل التوجهات الاستراتيجية إلى سياسات عملية، ولكن دون امتلاك حق اتخاذ قرار مستقل.    

"الدائرة الواسعة"، وتشمل الأحزاب، والنقابات، والجمعيات، ووسائل الإعلام التي فقدت استقلاليتها عمليًا، وأصبحت أدوات في خدمة "الاستقرار القسري للسلطة"، وتعمل على مراقبة الرأي العام، وتدعيم التوجهات الرسمية، كما وأنها تنتج التفاهة بأموال دافعي الضرائب.  

هذه الهندسة الحزبية ليست عفوية، بل هي نتاج منطق يهدف إلى "احتواء أي مشروع من شأنه أن يهدد استقرار الحكم". يُستخدم "الترغيب"، عبر تقديم الامتيازات والمناصب. ويستخدم "الترهيب"، من خلال التضييق والحصار، بالإضافة إلى القانون الذي يُستغل كسيف ديموقليس المسلط على أعناق المعارضين (مثلا: يحاكم الصحافي الذي يتجاوز الحدود المسموح بها في النشر بالقانون الجنائي بدل قانون الصحافة). هذا النهج يضمن تحويل أي معارضة حقيقية، أو تعبير حر عن الرأي، من حركة مقاومة أو معارضة سياسية، أو احتجاج محتمل إلى "صنيعة على عين النظام"، مما يفرغ الأحزاب من قوتها، والأقلام من مدادها، ويمنع نشطاء المجتمع المدني من القيام بأدوارهم الأخلاقية كفاعلين مستقلين. 


3.2. التمويل والتبعية: 

العلاقة الجدلية بين الدعم والتحكم

يُعد التمويل العمومي للأحزاب عاملاً ذا تأثير مزدوج. فمن جهة، هو دعم ضروري لضمان استمراريتها، لكنه من جهة أخرى، يمثل أداة للسيطرة والتبعية. ينص القانون على مصادر تمويل الأحزاب، والتي تشمل واجبات الانخراط والهبات ودعم الدولة. كما يفرض قيودًا على تلقي الدعم من جهات غير وطنية أو من مؤسسات عمومية.

هذه القيود، إلى جانب الاعتماد الكبير على الدعم السنوي للدولة من ضرائب المواطنين، تخلق نوعًا من التبعية المالية التي تضعف استقلالية الأحزاب. علاوة على ذلك، يصف المغاربة الانتخابات بأنها "وسيلة لتوزيع الريع ديال الدولة"، حيث يُغري هذا النظام الأغنياء وكبار الموظفين بدخول العمل السياسي. هذا الأمر يخلط بين السياسة والأعمال، ويجعل من الانتخابات مناسبة للإثراء غير المشروع، ويحول الأحزاب إلى واجهات لمصالح شخصية واقتصادية، بدلاً من أن تكون منصات لخدمة الصالح العام. وقديما قال ابن خلدون ما مفاده: "إذا مارس المسؤولون التجارة، ضاعت الدولة وضاعت التجارة".

  

3.3. احتكار السلطة العليا للقرار الاستراتيجي

يُظهر تحليل العلاقة بين الأحزاب والسلطة المركزية أن هذه العلاقة تتسم بـ "الهيمنة المطلقة". فالمؤسسة الملكية تحتكر المجال الديني ومجال السياسة الخارجية والقضايا الاستراتيجية الكبرى التي تمس سيادة الوطن. الأمر الذي يحد من دور الأحزاب بشكل كبير، ويجعلها تنكفئ على "السياسات العمومية الدنيا" و "الشؤون الداخلية الروتينية".  

إن هذا التقسيم في الأدوار يفقد الأحزاب قدرتها على "الرشد السياسي المطلوب"، ويجعلها عاجزة عن صياغة رؤى استراتيجية وخطط وبرامج حقيقية للتغيير. فبرامج الأحزاب تصبح متشابهة في جوهرها لأنها تلتزم كلها بنفس الفضاء المحدود من القضايا، وتكتفي بتسويق المبادرات الملكية دون اقتراح بدائل. هذا الوضع يبرهن على أن الأحزاب ليست فاعلاً مستقلاً، بل هي "ملحقات سياسية هجينة" أو "دكاكين سياسية صغيرة" مهمتها الترويج للتوجهات الرسمية وليس طرح البديل السياسي الكفيل بتحقيق التنمية المستدامة. 


4. تجليات العوائق في السياسات العمومية: دراسة حالة

لتجسيد هذه العوائق، يمكن تحليل ملف "الجهوية المتقدمة" كدراسة حالة تعكس الفجوة بين الخطاب النظري والممارسة الفعلية للأحزاب.


4.1. الجهوية المتقدمة: 

فجوة بين الطموح الشعبي والعجز الحزبي

يُعد مشروع "الجهوية المتقدمة" أحد المشاريع الاستراتيجية التي انتظرها الشعب طويلا، واعتبرها النظام "مشروعًا ديمقراطيًا جوهريًا" يهدف إلى إفراز نخب سياسية جديدة وتحقيق التنمية المندمجة. لكن رغم هذا الطموح المعلن، أظهرت الممارسة الحزبية عجزًا في تنزيل هذا المشروع.

يكشف التباين بين الأهداف المعلنة للجهوية المتقدمة والتحديات الفعلية في تطبيقها عن فجوة كبيرة. فالهدف المعلن (نظريا) هو تحقيق التنمية المندمجة والحكامة الترابية وإفراز نخب سياسية جديدة. لكن التحدي الفعلي (عمليا) يتمثل في غياب الإرادة والرؤية السياسية لدى الأحزاب لنقل الاختصاصات من المركز إلى الجهات، مما يبقي المجالات المحلية "سجينة اختيارات مفرطة في المركزية"، إضافة إلى الفشل في تحقيق "الالتقائية بين المتدخلين" و "تعدد البرامج القطاعية".

يشير تحليل المواقف الرسمية لبعض الأحزاب التاريخية، إلى أنها "تأسف لإمعان الحكومة في تعطيل مشروع الجهوية المتقدمة" بسبب "غياب الإرادة والرؤية السياسية لديها لنقل اختصاصاتها من المركز إلى الجهات". يكشف الخطاب عن تردد واضح وعدم استعداد الأحزاب نفسها، حتى تلك التي في السلطة، التخلي عن الصلاحيات المركزية لصالح الجهات، بل تفضل الحفاظ على الوضع الراهن الذي تستفيد من ريعه، بدلاً من المخاطرة في مشروع ديمقراطي حقيقي قد يقلص من نفوذها المركزي. هذا العجز في تنفيذ مشروع لامركزي جوهري متقدم، يوضح أن الأحزاب في بنيتها الحالية، لا يمكنها أن تكون المحرك للتغيير الديمقراطي. وكل حديث خلاف ذلك لا يعدو عن كونه مجرد ثرثرة كلامية.


4.2. تراجع الديمقراطية وتفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية

إن ضعف الأحزاب ليس مجرد ظاهرة سياسية معزولة، بل هو عامل مباشر في تراجع الديمقراطية في المغرب وتفاقم الأزمات. ففي ظل الحكومة الحالية، على سبيل المثال، شهد المسار الديمقراطي تراجعًا "مهولاً"، حيث تم فرض قيود على حرية التعبير والتجمع، وتضييق الخناق على الأحزاب المستقلة وناشطي المعارضة، وتم الجمع بشكل فاحش بين السلطة والثروة حيث وصل الأمر حد ضرب مقتضيات دستورية عرض الحائط، الأمر الذي يعتبر تمريغا لإرادة الأمة الأسمى في التراب (دستور 2011).  

يتزامن هذا التراجع مع تفاقم مظاهر الفساد والمحسوبية في المؤسسات الحكومية من الإدارة إلى القضاء، مع فشل الأحزاب في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى. هذا الفشل يؤدي إلى تزايد الاستياء الشعبي، ويؤكد أن الأحزاب، في شكلها الحالي، هي عائق أمام بناء دولة ديمقراطية مستقرة وعادلة، لأنها لا تملك القدرة على حماية الحقوق الأساسية أو تحقيق الوعود التي تتاجر بها في سوق النخاسة السياسية إبّان الحملات الانتخابية.  


5.  الاستنتاجات والتوصيات:

 5.1. خلاصة الأسباب

يُظهر التحليل أن الأحزاب السياسية في المغرب تُشكل عائقًا أمام الديمقراطية الحقيقية، ليس فقط بسبب تبعيتها الهيكلية لمركز السلطة، بل أيضًا بسبب ضعفها البنيوي الداخلي وعجزها الوظيفي. إن هذه العوائق الثلاثة تتكامل لتُنتج نظامًا حزبيًا هشًا وغير فعال يتميز بما يلي:

الضعف الداخلي: غياب الديمقراطية الداخلية، وغياب التناوب على القيادة، والنزعة المستمرة للانشقاق. هذا الضعف يمنعها من أن تكون نموذجًا للديمقراطية أو قادرة على قيادة أي تغيير يذكر.   

التبعية الهيكلية:  تعمل الأحزاب كـ "ملحقات سياسية" لنظام "المخزن" أو "الدولة العميقة" كما يحلو للبعض تسميتها، باعتباره يحتكر القرار الاستراتيجي ويوظف الأحزاب لخدمة استقراره، مستخدمًا أدوات التمويل العمومي والامتيازات التي توفرها سياسة الريع للنظام.  

العجز الوظيفي: يتجلى في فشل الأحزاب في تأطير المواطنين وتمثيل قضاياهم، مما أدى إلى تراجع غير مسبوق في ثقة الشارع المغربي بها، وبالتالي إلى انحسار المشاركة في السياسية إلى أدنى مستوى عرفه تاريخ الانتخابات في المغرب، الأمر الذي دق ناقوس الخطر، ما يستدعي إصلاحات جذرية عاجلة لتدارك الأمر بدل الإصرار على استمرار نفس نهج الترقيع القديم الذي لم يعد يقنع الشباب المغربي (على سبيل المثال: المغرب هو البلد الوحيد في العالم الذي يعيد تحديث قانون الانتخابات ورسم الخرائط عند كل محطة انتخابية بإشراف وزارة الداخلية).

إن هذه العوائق ليست منفصلة، بل تشكل حلقة مفرغة، حيث يؤدي ضعف الأحزاب داخليًا إلى سهولة تطويعها من قبل النظام، مما يقلص من قدرتها على الأداء الفعال، وبالتالي يفقدها ثقة المواطنين، وينعكس ذلك سلبا على المشاركة السياسية وعلى صورة النموذج الديموقراطي المغربي على المستوى الدولي.


5.2. نحو إصلاح حزبي حقيقي

إن أي إصلاح حقيقي يهدف إلى تمكين الأحزاب السياسية من الممارسة الديموقراطية المستقلة يجب أن يتجاوز مجرد التغييرات القانونية الشكلية. يستلزم هذا الإصلاح اتخاذ خطوات جوهرية على عدة مستويات:

1. تعزيز الديمقراطية الداخلية: يجب على الأحزاب أن تحترم أخلاقيات العمل السياسي، وتبدأ بإصلاح نفسها من الداخل، من خلال تطبيق مبادئ الديمقراطية في اختيار قياداتها على المستوى المحلي والجهوي والمركزي، وتفعيل آليات المساءلة، وتجاوز ثقافة الانقسام.

2. تخفيف التبعية المالية: ينبغي إعادة النظر في آليات التمويل، وتقليل الاعتماد على دعم الدولة، وتشجيع مصادر تمويل أخرى قائمة على التمثيلية الفعلية للحزب وقاعدة انخراطه.

3. استعادة الدور التأطيري: يجب على الأحزاب إعادة بناء جسور الثقة مع المواطنين عبر الانفتاح على قضاياهم الحقيقية، والتفاعل مع حركات المجتمع المدني، وتجاوز حالة الانكفاء على الشأن السياسي اليومي. 


خاتمـــة

إن مهمة تحويل الأحزاب من عائق إلى رافعة للديمقراطية في المغرب تتطلب إرادة حقيقية من جميع الأطراف، لضمان أن تصبح هذه الأحزاب مؤسسات قادرة على التعبير عن إرادة الشعب، والمساهمة بفعالية في بناء نظام سياسي يتم فيه التداول على السلطة بشكل حقيقي، وتُحقق فيه التنمية والعدالة الاجتماعية.

غير ذلك، لا أمل في غد أفضل، لأنه لا توجد ديموقراطية في العالم من غير أحزاب، وإذا فسدت هذه الأخيرة فسدت الديموقراطية وفسد النظام، وهذا لعمري هو ما يميز اليوم بين "الدولة الصالحة والدولة الفاسدة" وفق معيار ابن خلدون لتصنيف الدول.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق